يقترن العدوان الواسع على لبنان، في الوقت الذي تتواصل جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة وتمتد إلى الضفة الغربية، بمحاولة جديدة لتغيير المنطقة العربية، والشرق الأوسط عمومًا، وخلق ما يرجو المعتدون الصهاينة وحلفاؤهم في الغرب أن يكون واقعًا جديدًا. يُقصد بهذا الواقع تكريس هيمنتهم على البلدان العربية التي تتعاون حكوماتها معهم، ويصل تعاون بعضها إلى مستوى قريب من التحالف، من موقع التابع، أو الشريك الأصغر في أفضل تقدير، وتغيير سياسات حكومات الدول التي لا تقبل هذه الهيمنة أيًا تكن طريقة تعبيرها عن عدم القبول.
ترتبط محاولات تغيير المنطقة عادةً بحدث أو تطور كبير عسكري أو تفاوضي، إذ يعمد الصهاينة أو حلفاؤهم، والأمريكيون منهم بصفة خاصة، إلى محاولة استغلال عدوان يشنه هؤلاء أو أولئك أو اتفاق سياسي يُسمى سلميًا، لتحقيق ما يطمحون إليه، أو قل يحلمون به، منذ أن ظهرت البوادر الأولى لما يُطلق عليه شرق أوسط جديد أو كبير بعد توقيع إطاري كامب دايفيد عام 1978 ثم المعاهدة المصرية – الإسرائيلية عام 1979.
ويعبر حديث رئيس الوزراء الصهيوني منذ توسيع نطاق العدوان على لبنان وتعميقه في منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، عن هذا الطموح أو الحلم بتحقيق ما فشل فيه الصهاينة وحلفاؤهم أو تم إحباطه أربع مرات من قبل. ولكن هذا يتوقف على نتيجة العدوان على لبنان وقدرة المقاومة على مواجهة ضربات عسكرية هائلة مقترنة بجرائم إبادة في المناطق الخاصة لهذه المقاومة، وكذلك على مواصلة المقاومة في قطاع غزة صمودها الإعجازي المُلهِم، ومن ثم إحباط الخطة الشيطانية الجديدة.
* * * * *
العدوان الصهيوني الحالي على لبنان هو الرابع في 26 عامًا. فشلت الغزوات الثلاث السابقة أعوام 1978 و1982 و2006، في تحقيق أي نجاح استراتيجي. الخلل الهائل في ميزان القوة لمصلحة قوات الاحتلال وحلفائها الأمريكيين والبريطانيين مكَّنها من تحقيق إنجازات تكتيكية مؤقتة بأشكال مختلفة. ولكنها لم تنجح في إنهاء المقاومة التي سعت في كل غزوة إلى القضاء عليها، بل ازدادت وتوسعت.
عندما نتأمل الآن جيل المقاومة، الذي استُهدف في غزوة 1978، نجد أنه كان الأضعف حين نقارنه بالأجيال التالية. الاعتداء على المقاومة في لبنان لا يضعَّفها بل يُقوَّيها، وكأنها طائر الفينيق الأسطوري الذي تتجدد قواه ويُعاد إنتاج دورة حياته مرة تلو الأخرى.
توغلت قوات الاحتلال في غزوتها الأولى حتى نهر الليطاني. لم تتمكن من البقاء، أو ربما فضلت الاعتماد على عملائها الذين كوَّنت منهم ما سمته «جيش لبنان الجنوبي»، ودعمته لإقامة حزام آمن لمسافة 10 كلم. لم يكن هؤلاء إلا إرهابيين، مثلهم في ذلك مثل من جندوهم؛ فقد هاجموا قوات حفظ السلام «اليونيفيل» التي كانت قد أُنشئت نسختها الأولى للتو بموجب قرار مجلس الأمن 426 الذي أُصدر في بداية الغزوة في آذار/مارس 1978. كان وزير الحرب الصهيوني وقتها عيزرا وايزمان واضحًا عندما قال حرفيًا إن قواته «ستُطهر المنطقة المجاورة للحدود مرةً واحدة وإلى الأبد». ولكن فشل تلك القوات كان ذريعًا في تحقيق ما بدا أنه كان واثقًا منه حين أعلن الهدف من العدوان بوضوحٍ لا لبس فيه. فقد بقيت المقاومة التي أراد «تطهير جنوب لبنان منها»، بل ازدادت قوتها وقدراتها.
ومع ذلك لم يتعلم المُعتدون، ولم يستوعبوا الدرس، ولم يعوا أنه ما دامت فلسطين محتلة فلا يمكن إلا أن توجد مقاومة. فقد بقيت وتطورت المقاومة الفلسطينية المدعومة من الحركة الوطنية اللبنانية، فكانت الغزوة الثانية التي بدأت جويًا في نيسان/أبريل 1982، ثم بريًا في حزيران/يونيو من العام نفسه، إذ اجتاحت قوات الاحتلال جنوب لبنان على متن أكثر من ألف دبابة، وتقدمت نحو الطريق الرئيسي بين بيروت ودمشق واخترقت منطقة الشوف خلال ثلاثة أيام، ووصلت إلى بيروت بعد ثمانية أيام، واحتلت قسمها الشرقي وحاصرت الغربي، فاضطرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى قبول اتفاقٍ نصَّ على مغادرة ما يقرب من 15 ألف مقاتل فلسطيني بضمان أمريكي من الرئيس ريغان شخصيًا.
وظن الصهاينة، الذين لا يتعلمون، مرةً أخرى أنهم أنهوا المقاومة في لبنان، وآن لهم أن يواصلوا مع حلفائهم سعيهم إلى الهيمنة على المنطقة. ولكن ظنهم كان آثمًا، إذ تجددت المقاومة وصارت لبنانيةً متجذرةً في أعماق وطنها، وأعلنت عن وجودها عبر ضربات كبرى شملت قوات المارينز الأمريكية الموجودة حينذاك لدعم العدوان، لا قوات الاحتلال التي انسحبت إلى الجنوب فقط. وحاول الصهاينة في أيار/مايو 1983 عقد اتفاق يتيح لهم تمركز عملائهم في حزام آمن مستغلين الانقسام الناتج من الحرب الأهلية. ولكنهم فشلوا، إذ تصاعدت المقاومة مجددًا وفَرضَت عليهم الانسحاب عام 2000 من الجنوب عدا مزارع شبعا وبضع مناطق صغيرة، ولكنها جزء عزيز من أرض لبنان، فاستمرت المقاومة وصولاً إلى حرب عام 2006 التي انتهت بأكبر فشل لهم في هذا المشهد الممتد، ثم العدوان الحالي الذي يتوقع أن يفشل استراتيجيًا مرةً رابعة، حتى إذا نجح تكتيكيًا، وأن يُحبط معه حلم تكريس الهيمنة الكاملة على الشرق الأوسط وإعادة صياغته على مقاسات هذه الهيمنة.
* * * * *
لم يفارق حلم الهيمنة الكاملة الشاملة هذا خيالَ الصهاينة وحلفائهم في الغرب طوال أكثر من ثلاثة عقود. وقد عبَّر عددٌ من حكام الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة عن هذا الحلم مراتٍ تحت مسميات متقاربة، مثل تغيير الشرق الأوسط، أو إعادة ترتيبه، أو إعادة صوغه أو بناء شرق أوسط جديد أو كبير.
ليس جديدًا حديث رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو المتكرر منذ منتصف أيلول/سبتمبر عن «خطة منهجية لتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط». والمثير للانتباه أنه يربط هذا التغيير بضرب قدرات حزب الله واغتيال قادته، وكأنه العائق الوحيد أمام الخطة المزعومة. فالتاريخ القريب يفيد أن محاولات تغيير الشرق الأوسط سبقت وجود حزب الله، وبدأت قبل أن يزداد دور إيران الإقليمي ويتوسع محور المقاومة. ويعني هذا أن الحديث عن تغيير الشرق الأوسط الآن ليس إلا جزءًا من حالة نشوة لدى قادة الكيان الإسرائيلي بعد قصف قسم من قدرات حزب الله العسكرية والمالية واغتيال كثير من قادة الصفوف الأولى فيه بطريقة الجبناء الذين يضربون من بُعد مستغلين عربدة طائراتهم في سماء مفتوحة ويخشون الالتحام والقتال من قُرب.
وليس جديدًا ارتباط وهم إخضاع الشرق الأوسط لهيمنة إسرائيلية – أمريكية شاملة بحالة نشوة في كل مرة طُرح فيها موضوع تغييره منذ أن تحدث عنه ألكسندر هيغ في نيسان/أبريل 1981 حين كان وزيرًا للخارجية الأمريكية خلال زيارته عددًا من دول المنطقة. فقد دعا إلى إبرام اتفاقات سلام بين هذه الدول والكيان الإسرائيلي يتبعها تعاون كامل على أسس جديدة. تصور هيغ وقتها، أو فهم خطأ، أن توقيع معاهدة سلام بين مصر وهذا الكيان يفتح الباب أمام خطة الهيمنة الشاملة على المنطقة تحت شعار تغييرها، وتخيَّل أن الوضع بات مواتيًا للتحرك باتجاه هذا التغيير، وكانت مبادرة ولي العهد السعودي في آب/أغسطس 1981 ردًا ضمنيًا على تلك الدعوة التي قوبلت برفض واضح وشديد من جانب القوى الحية في الشعوب العربية، وبعض حكومات دول المنطقة، وبنفور من جانب حكومات أخرى.
ومع ذلك بقي حلم الهيمنة كامنًا لأكثر من عقد من الزمن، وإن تجلى جزئيًا في مشاريع غربية مثل عملية برشلونة للتعاون المتوسطي التي كان دمج الكيان الإسرائيلي في المنطقة أحد أهدافها، إلى أن ظهر في صورته الجلية مرة ثانية عقب اتفاق أوسلو عام 1993؛ فقد طرح شيمون بيريز المُنتشي حينها بفضل ذلك الاتفاق تصوره العنصري لشرق أوسط جديد يقوم على «العقل الإسرائيلي ورأس المال والعمل العربيين». تصور بيريز وغيره من الصهاينة وحلفائهم في الغرب أن الوضع بات مواتيًا لمشروع الهيمنة، بعد أن وقَّعت قيادة منظمة التحرير اتفاقًا معيبًا سلمت فيه أوراقها كلها، ولم تحصل إلّا على سلطة شكلية أو قل وهمية تحولت إلى عبء على المقاومة ورصيد للاحتلال الذي بقي وتحرر في الوقت نفسه من التزامات السلطة المحتلة قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، بعد أن صار في إمكانه الزعم بأن قواته انسحبت من مناطق ظلت تحتلها فعليًا. وازدادت قوة الدفع لمشروع الهيمنة على المنطقة بعد توقيع معاهدة «السلام» الأردنية-الإسرائيلية (اتفاق وادي عُربة) في تشرين الأول/أكتوبر 1994.
غير أن هذا المشروع وُوجِه بقوةٍ أكبر، فأُحبِط مجددًا بسبب تحفظات حكومات عربية كانت إحداها قد وقّعت معاهدة «سلام» مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما كان واضحًا في موقف الخارجية المصرية في ذلك الوقت ودعوتها إلى عدم الهرولة، فلم تحقق اجتماعات دول المنطقة التي أُطلق عليها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا «مينا» (MENA)، واللقاءات غير الرسمية التي عقدها نفر من المثقفين والسياسيين العرب والصهاينة، أملاً في خلق شبكات لتطبيع العلاقات، ما أُريدَ منها في ذلك الوقت. وكتب الراحل الكبير نزار قباني قصيدته الرائعة «المهرولون» التي قال فيها: «سقطت آخر جدران الحياء وفرحنا ورقصنا/وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء…، وختمها بقوله «ليس هذا الثوب ثوبي/ليس هذا العار عاري/أبدًا.. يا أميركا».
ومع وصول المحافظين الجُدد إلى الحكم في واشنطن في إدارة بوش الابن، حاولوا تطبيق تصور برنارد لويس لتغيير المنطقة عبر استبدال بعض نظم الحكم العربية على أن تكون البداية من العراق. وبرغم أن إسقاط نظام صدام حسين لم يُحقق الحلم، فقد ظل تصور لويس مرشدًا لواشنطن فتبنت مفهومه في شأن «الفوضى الخلاًقة»، فحدثت اضطرابات داخلية متفاوتة في عدة بلدان عربية منذ عام 2010 – 2011، ولكنها لم تفتح الطريق أمام التغيير المُستهدف. وها هو نتنياهو يحلم مجددًا بأن يُحقَّق بواسطة الإبادة ما فشل سابقوه في إسرائيل وأمريكا في تحقيقه بدعاوي سلام كاذبة تارةً، وبحروب إجرامية تارةً أخرى.
* * * * *
لا يُخفى أن محاولة تحقيق الخطة التي أُحبطت أربع مرات من قبل تُجرى في ظروف مختلفة عن سابقاتها إقليميًا ودوليًا. على المستوى الإقليمي صارت بعض العرب مستعدين لقبول تكريس الهيمنة الصهيونية-الغربية بسبب كراهيتهم للمقاومة في فلسطين ولبنان ورغبتهم في إضعاف القوى الأساسية فيها أو الخلاص منها مهما يكن الثمن. كما أُضعفت بدرجات متفاوتة القوى الشعبية العربية التي كانت قد وقفت سدًا منيعًا في مواجهة المشاريع الصهيونية الغربية منذ أن بدأت حركة مقاومة التطبيع في مصر بقيادة «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» التي أُعلن تأسيسها في نيسان/أبريل 1979، ودعمتها معظم أحزاب المعارضة حينذاك.
غير أن إضعاف القوى الشعبية الرافضة لمشاريع الهيمنة الصهيونية الغربية لا يعبِّر عن الاتجاه السائد في أوساط معظم الشعوب العربية، لأنه ناتج في أغلبه من القيود الرسمية المفروضة عليها، بعد تضييق هامش حرية التعبير الذي كان متاحًا من قبل أو غلق المجال العام في مجمله. كما أن الدعاية المذهبية السوداء التي تقوم بها جماعات متطرِّفة ضد حزب الله، والشيعة عمومًا، تخلق حالة بلبلة وتستنفد جزءًا مهمًا من طاقات القوى الوطنية والقومية المؤيدة للمقاومة والرافضة للتصنيفات الطائفية في سعيها إلى نشر الوعي بقيمة هذه المقاومة التي تجمع ولا تُفرَّق.
وعلى المستوى الدولي كُبِّلت الأمم المتحدة ومُزِّق ميثاقها ومعه كثير من المواثيق والمعاهدات التي كانت تمنع أن تضع سقفًا لجرائم إبادة بشعة يرتكبها الكيان الإسرئيلي منذ أكثر من عام.
ومع ذلك يظل الإيمان بقدرة المقاومة في لبنان وفلسطين على الصمود دافعًا للتفاؤل بإحباط الخطة الصهيونية الغربية مجددًا، وببقى الأمل كبيرًا في أن يقوم الحكماء في لبنان بسد المنافذ أمام محاولة خلق فتنة مذهبية – سياسية، بل يزداد الرجاء في أن يقترن فشل المعتدين وزوال الغمة بإعادة بناء النظام الإقليمي العربي ومراجعة السياسات التي ينتهجها بعض أعضائه.
كتب ذات صلة:
في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية
مشاريع الطاقة الإسرائيلية في شرق المتوسط وتحديات الأمن القومي العربي
المصادر:
هذه هي افتتاحية العدد 549 لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024 من مجلة المستقبل العربي.
وحيد عبد المجيد: باحث وكاتب عربي، ومستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
وحيد عبد المجيد
باحث وكاتب عربي، ومستشار في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.