مقدمة:

في الوقت الذي ركزت القوى السياسية في داخل المغرب على القضية الوطنية (القطرية)، كانت اتجاهات شعبية أخرى من قواعد الحركة الوطنية وعموم الشرائح الاجتماعية، تواصل الخطى والعمل على درب العمل الوحدوي المغاربي فكراً وتنظيماً ونضالاً، ومثّل هذا التيار الاجتماعي الوجه السياسي الداخلي للجنة تحرير المغرب العربي، فيما كانت عمليات الكفاح المسلح من خلال جيش العزيمة تشكل الجناح العسكري الداخلي للعمل من أجل قضية المغرب على طريق الحرية والاستقلال والوحدة المغاربية ضمن إطارها العربي – الإسلامي.

تطور الاتجاه الشعبي العمالي في المغرب بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وأصبح قوة قيادية في النضال الوطني والمغاربي عموماً‏[1]، وتناغم واندمج مع جهود القوى الشعبية الأخرى، من الطلبة وجمعيتهم (جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين)، الذين كانوا يطمحون إلى وحدة المغرب في إطاره العربي – الإسلامي، فضـلاً عن الاتحادات المهنية العاملة في الساحة الوطنية والمغاربية.

عموماً تؤطر هذا البحثَ إشكاليةٌ مركزية تتعلق بالنضال السياسي المشترك للحركات النقابية المغاربية خلال مرحلة الكفاح الوطني، وتتفرع عنها مجموعة من الأسئلة من قبيل:

– ما هي ظروف تأسيس النقابات العمالية المغاربية خلال تلك الفترة؟

– ما الهدف من تأسيس حركات عمالية في كل من المغرب والجزائر وتونس خلال مرحلة الاستعمار الأجنبي؟

– ما البرامج السياسية والاقتصادية التي طرحها قادة تلك الحركات لحل بعض المشاكل التي تعترض العمل المغاربي المشترك؟

– ما هي القرارات المترتبة عن المؤتمرات التي عقدها قادة الحركات النقابية المغاربية في إطار العمل الوحدوي المشترك؟

– ثم ما هو الواقع الحالي لهاته الحركات النقابية خلال الفترة الحالية؟ وما الدروس المستخلصة من هذه التجربة؟

أولاً: النقابات المغاربية: البدايات والتأسيس

 

1 – الحركة النقابية المغربية

قبل سنوات قليلة من الحرب العالمية الثانية كانت بالمغرب حركة عمالية في حالة تحول تحت ضغط تناقضاتها الداخلية، وعلى الخصوص من جراء الصراع الموجود داخلها بين اتجاه استعماري أو شبه استعماري تقوده الأرستقراطية العمالية، التي كانت، رغم تعاطفها العلني مع الاشتراكية، تعمل موضوعياً على تحريك العمال المغاربة في اتجاه يقبل بالنظام الاستعماري الضروري لاستمرار امتيازات هذه الأرستقراطية، ولكن النضال الخاص بهذه الطبقة العاملة المغربية داخل النضال الوطني خلق اتجاهاً ثانياً يريد أن يجعل من الحركة النقابية عنصراً من العناصر التي تسهم في انعتاق الشعب وتحرره.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية وما واكبها من تحولات سياسية على الصعيدين المغربي والدولي، عرفت الحركة النقابية نفسها تغيرات سياسية وتنظيمية مع بروز الكونفدرالية العامة للشغل (C.G.T) الفرنسية، وفي شكل جديد ابتداءً من سنة 1943 تحت اسم: «الاتحاد العام للتنظيمات النقابية المتحدة بالمغرب»‏[2].

والمعطيات الجديدة التي ظهرت داخل الحركة النقابية لبزوغ هذا التنظيم هي سياسية وتنظيمية ونقابية‏[3]:

فعلى الصعيد السياسي كانت خلافاً لما كان فرع C.G.T قبل الحرب العالمية الثانية تسيِّرها أغلبية من العناصر الشيوعية، وقد حاولت إدخال بعض التغييرات على الخطة السياسية التي كانت قد تبنتها C.G.T بالمغرب سلفاً، ولكنها تغييرات في مجملها شكلية، وبالطبع كانت هذه الخطة السياسية مغلفة بشعارات الأممية والتضامن البروليتاري، وفي الوقت الذي تنظر فيه الاشتراكية العلمية إلى استقلال الشعوب كأساس لكل تضامن أممي‏[4].

وعلى الصعيد النقابي تخلت عن الدفاع عن سياسة التمييز في الأجور بين العمال المغاربة والعمال الفرنسيين، وأصبحت ترفع شعار «أجرة واحدة لنفس العمل»، وفي هذا الإطار قامت في سنة 1944 حتى غاية 1947 بنضالات واسعة أكسبتها موجات تأييد من العمال المغاربة وانخراطهم فيها، نتيجة غلاء المعيشة والمطالبة بزيادة الأجور.

أما على الصعيد التنظيمي فإنها شجعت دخول العمال المغاربة في العمل النقابي، وأعطتهم مسؤولية حتى على مستوى القيادة، ولكنها في الوقت نفسه استمرت تكافح ضد تكوين منظمة نقابية وطنية، وتعتبر هذا العمل تقسيماً للطبقة العاملة.

ورغم هذا النشاط، وكذا النتائج التي أحرزها الاتحاد العام للتنظيمات النقابية المتحدة بالمغرب (UGSCM) فهو كان بمثابة منظمة تسعى إلى إدماج العمال المغاربة في إطار غير وطني‏[5]، وهو بعمله هذا كان موضوعياً يقف في صف مخالف لصف حركة التحرر الوطني التي انبثقت في شكل جديد انطلاقاً من سنة 1944 وهو حزب الاستقلال الذي استمر في عمله وسط الطبقة العاملة من أجل إذكاء وعي وطني وتوسيع نفوذ النقابات الوطنية السرية.

وأمام النجاح الذي كانت تلقاه، وأمام وقوف سلطات الحماية بجانب المنظمة النقابية المؤطرة من طرف الفرنسيين، ومن جراء استمرار الحماية في رفض الحق النقابي المطلق للمغاربة، قرر حزب الاستقلال ابتداء من سنة 1947 دفع نقاباته للانخراط الجماعي داخل C.G.T، ولم تمض سنتان حتى أحرز النقابيون الوطنيون بفضل خطهم الصحيح المبني على إعطاء الأولوية للنضال الوطني والسياسي على الأغلبية داخل C.G.T.

في بداية سنة 1948 ظهرت في الصحف بيانات تعلن عن تأسيس اتحاد عام للنقابات تحت اسم «القوات العمالية»‏[6]، إلا أن هذا الانشقاق لم يهدم البناء النقابي ولم يزحزحه إلا في حدود ضيقة جداً، فبقي UGSCM التنظيم الأكثر تمثيلية رغم الاهتزازات التي رافقت بداية الانشقاق.

وفي سنة 1951 توصل المؤتمرون الوطنيون في المؤتمر الرابع لـ C.G.T إلى فرض المصادقة على ملتمس يقرر فيه المؤتمر تكوين منظمة نقابية مغربية مفتوحة لجميع العمال، ومستقلة تمام الاستقلال عن C.G.T الفرنسية، على أساس أن هذه المنظمة ستكون الأداة المثلى لمساهمة فعالة للطبقة العاملة، بجانب الجماهير المغربية الأخرى في النضال من أجل التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، وكان هذا الملتمس هو اللبنة الأولى التي ستؤدي إلى تكوين الاتحاد المغربي للشغل.

2 – الحركة النقابية التونسية

ابتداءً من سنة 1944 بدأت الحركة النقابية التونسية تتخذ شكـلاً قومياً واضحاً، وقد كان الشهيد فرحات حشّاد‏[7] هو محرك هذه الحركة، بعد أن تبيّن له أن منظمة «الجامعة العامة للعمل الفرنسية»، لم توف العمال العرب في تونس حقهم، في ذلك الوقت بدأ حشاد في إخراج فكرته إلى حيِّز الوجود في مدينة صفاقس عاصمة الجنوب التونسي.

وقد أحس بأن الحركة النقابية يجب أن تكون اجتماعية قومية، أما أن تظل فرعاً لمنظمة فرنسية فذلك مدعاة لخمولها. وهكذا بدأ حشّاد في إنشاء نقابات مستقلة واضعاً نصب عينيه أن مشكلة العامل العربي في شمال أفريقيا تختلف عن مشاكل غيره من العمال، لأنه مستعمر، فعليه إذاً أن يناضل حتى يحرر نفسه ويحرر بلاده.

وانتقل حشاد بعد ذلك من صفاقس إلى تونس فوجد فكرته منتشرة هناك، وهكذا استطاع أن يكوِّن في تونس اتحاد النقابات المستقلة في الشمال إلى جانب جامعة عموم عملة تونس التي بقيت بعد نفي محمد علي ورفاقه‏[8].

كانت الخطوة التي تلت هذه الحركة هي جمع هذه النقابات المستقلة في الشمال والجنوب في منظمة واحدة هي «الاتحاد العام التونسي للشغل»، وقد تم ذلك في سنة 1946 بعد دعوة المؤتمر في المدرسة الخلدونية‏[9] بتونس، حضره جميع قادة النقابات، وبعد انتهاء المؤتمر انتخب الشهيد حشاد أميناً عاماً للمنظمة النقابية الكبرى (الاتحاد العام التونسي للشغل)، وقد أدرك حشّاد أن الحركة العمالية في تونس يجب أن تكون حركة قومية سياسية، وكان إدراكه هذا قائماً على أبسط قواعد المنطق العقلي السليم؛ فهدف الحركة النقابية في تونس هو هدف وطني يرمي إلى مقاومة الاستعمار حتى يتم تحرير البلاد، وعندها يصبح النضال من أجل التغيير الاجتماعي أمراً مثمراً وإيجابياً.

ولم يتوقف عمل الاتحاد العام التونسي للشغل على التنظيم فقط، بل تعدّاه إلى نشر الروح الوطنية الصحيحة في نفوس العمال وتعليمهم أسس الحياة الاجتماعية المتحررة من كل استعباد، استعمارياً كان أو إقطاعياً أو برجوازياً‏[10]، لذلك حطّم الوعي الكامل للمبادئ الوطنية جميع المحاولات التي قامت بها النقابات الأجنبية والاستعمارية، للتغلغل في صفوف العمال التونسيين واستغلالهم لغير الأهداف الوطنية، وقد برهن الاتحاد العام التونسي للشغل أنه كان دائماً في طليعة الكفاح الوطني.

وقد صمم المستعمرون على ضرورة التخلص من فرحات حشاد عقب أحداث 13 آب/أغسطس 1947، عندما أعلن عمال معامل الجلد في مدينة صفاقس إضراباً شامـلاً لمواجهة السلطات الاستعمارية مواجهة دموية أدت إلى استشهاد أربعين من العمال وسقوط مئتي جريح واعتقال مئات العمال ومحاكمتهم‏[11]. فقد قاد هذا الكفاح فرحات حشاد الذي أثبت للمستعمرين والرأي العام في العالم أن الحركة العمالية في تونس قادرة على الوقوف في وجه المستعمرين. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1950 قرر عمال شركة الفلاحين الفرنسية بمنطقة النفيضة الإضراب العام مطالبين بحقوقهم النقابية كعمال زراعيين، فما كان من هذه الشركة الاستعمارية إلا أن رفضت الاستجابة لمطالبهم، واستنجدت بالشرطة والجيش الفرنسي ضد هذا الإضراب الشرعي، ووقع صدام عنيف دامٍ، حصدت فيه القوات الاستعمارية عشرات العمال، وعندما بدأت القوات الاستعمارية في تقتيل العمال في النفيضة أعلن الشعب العربي في تونس تضامنه الكامل مع العمال والإضراب العام في القطر التونسي كله، ولم تكتفِ السلطات الاستعمارية بحصد العمال في النفيضة بل امتدت يدها إلى سوق الخميس وزغوان، فواجهت إضرابات العمال هناك بقمع وحشي، وسقط شهداء كثيرون تحت ضربات الاستعماريين‏[12].

3 – الحركة النقابية الجزائرية

مقابل تجربة تونس النقابية تطورت الحركة العمالية الجزائرية على نحوٍ مطابق للخصائص العامة المشتركة لنظيرتها بتونس، لكنها مختلفة عنها نسبياً، سواء على مستوى تاريخ الظهور وحجم ثقل الاستعمار، أو على صعيد الاستقلالية وحدود الارتباط بالنضال الوطني‏[13].

ففي الجزائر لم يسمح الاقتصاد الاستعماري بتكوُّن طبقة عاملة فعلية كمياً وعلى المستوى النوعي، كما حظرت تشريعات الاحتلال على الجزائريين الحق في تأسيس نقابات خاصة بهم، مبيحة حق الاستفادة من ذلك لعمال الجوالي الفرنسية والأجنبية، لذلك فإن التطور الفعلي للحركة العمالية هو الذي ستفرزه الموجات المتتالية لهجرة الجزائريين نحو فرنسا، وانضمامهم إلى نجم الشمال الأفريقي، الذي كان إطاراً عمالياً من حيث تركيبته، مشتركاً بالنظر إلى توجهاته وأبعاده العامة، التي لم تعتمد المطالب الاقتصادية – الاجتماعية العمالية قاعدة لنضالاتها وحسب، بل استهدفت أيضاً الدفاع عن البلدان المغاربية والدعوة إلى الاستقلال، وفي ذلك ربط جدلي بين النضال النقابي والتحرر الوطني.

لقد اشتركت التجربة الجزائرية مع نظيرتها التونسية في إصرار الاستعمار على منع تأسيس نقابات محلية، وعزل العمال عن الاندماج بحركية النضال الوطني. وحتى مع تأسيس «اللجنة العامة للعمال» سنة 1936، فإن الارتباط لم يحصل، وذلك بالرغم من انعكاساتها الإيجابية على صعيد تعبئة العمال وتوعيتهم أوضاعهم‏[14]، الواقع الذي ستتداركه نسبياً اللجنة العامة للعمال المتحدين، التي شكل تأسيسها خطوة نحو إقامة تنظيم نقابي وطني مستقل (اللجنة العامة للعمال الجزائريين).

ولقد أثّرت ظروف الحرب العالمية الثانية في واقع الحركة العمالية الجزائرية ونضالية تنظيماتها النقابية‏[15]. وشكلت انتفاضة قسنطينة (1945) حدثاً قل نظيره منذ ثورة المقراني (1871)، من حيث العنف والقوة وحجم الخسائر، قد أذكت حيوية هذه التنظيمات، وأدخلت الطبقة العاملة دائرة النضال الوطني من جديد.

كما أن أحداث قسنطينة وما أعقبها من تطورات، قد غيَّرت من نظرة الحزب الشيوعي الجزائري للظاهرة الاستعمارية والاستراتيجيات الممكنة لتجاوزها‏[16]، لذلك فاستحضار مسار الحزب، وتأكيد الانعطافات التي شهدها مع أواسط الأربعينيات، تبوِّئه المكانة التي حظي بها الشيوعيون داخل فروع الكونفدرالية العامة للشغل بمختلف دول المغرب ومنها الجزائر، وبالتالي تستوجبه الأدوار التي أنيطت بالشيوعيين في إغناء النضال النقابي وتطوير مفاهيمه وأدواته.

ومع ظهور حركة الانتصار والحريات الديمقراطية في عام 1947، بادرت هذه الحركة إلى تأليف لجنة عمالية تحت رئاسة «عيسات إيدير»، وذلك من أجل تأسيس نقابة وطنية حرة، غير أنها عرفت الكثير من العراقيل، وبخاصة بعد تشكيل مركزية نقابية خاصة بالعمال الجزائريين نابعة من السياسة الفرنسية.

ثانياً: النضال السياسي المشترك ومحاولات التوحيد

كان من بين أهم التنظيمات الوطنية التي ظهرت بمنطقة المغرب في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن العشرين النقابات العمالية، وفي ظروف دولية في غاية التعقيد، فالحرب الباردة أصبحت سمة للعلاقات الدولية بعد انقسام العالم إلى كتلتين متصارعتين أيديولوجياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، شرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي والدول السائرة في فلكه، وغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها من أوروبا الغربية.

مثّل عام 1948 بداية انقسام الحركة العمالية الدولية المتمثلة بالاتحاد العالمي لنقابات العمال ببراغ على يد الاتحاد العام للنقابات البريطانية ومؤتمر منظمة الصناعة الأمريكية، من خلال قطع علاقاتهما بالاتحاد العالمي المذكور، وبتأييد من الاتحاد الأمريكي لنقابات العمال، انطلاقاً من أن النقابات العمالية يجب أن تكون بعيدة من سيطرة الحكومات لا خاضعة لها، وبذلك تم الإعلان عن تأسيس الاتحاد الحر لنقابات العمال في بروكسل عام 1949‏[17].

وما لا شك فيه أن السعي إلى تأسيس حركات عمالية في البلاد المستعمرة لم يكن الهدف منه مصلحة العمال والرفع من شأنهم وتحسين أحوالهم المعيشية، بقدر ما كان الغرض تقوية الاتحاد الحر. لكن النتائج من وراء هذا النشاط الغربي جاء على عكس ما توقعته تلك الدول، ذلك أن المنظمات العمالية التي قامت في المستعمرات حملت على عاتقها مسؤولية الكفاح الوطني من أجل التخلص من الاستعمار والهيمنة الأجنبية، وأسهمت مساهمة فعالة في البناء الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها‏[18].

لم تكن منطقة المغرب العربي بعيدة من التطورات السابقة الذكر، إذ إنها كانت تعيش مرحلة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، وكان العمال من بين أهم الشرائح الاجتماعية التي أدّت دوراً هاماً في ذلك النضال‏[19]، رافضة الواقع الذي تعيشه شعوب المنطقة تحت السيطرة الاستعمارية وسعياً للتحرر.

كان الاتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه فرحات حشاد يعدُّ بحق القوة القائدة للاتجاه العمالي المغاربي، بفعل عراقة التنظيم النقابي في تونس، وأصالة دعواته الوحدوية المغاربية التي شكلت الاتجاه الأبرز في العمل من أجل وحدة المغرب من الداخل بعد الحرب العالمية الثانية.

عقد المؤتمر التأسيسي للحركة العمالية التونسية في 30 كانون الثاني/يناير 1946، وظهر الاتحاد العام التونسي للشغل، وانتخب فرحات حشاد أميناً عاماً، وقد ربط الاتحاد منذ البداية القضية الاقتصادية والاجتماعية بالقضية الوطنية عموماً، وبقضايا المغرب‏[20].

أخذ البعد المغاربي في فكر وعمل الاتحاد يبرز ويتدعم مع النضال الوطني، ففي محاضرة لفرحات حشاد يوم 20 كانون الثاني/يناير 1947 في مقر جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين في باريس، صرح عن رغبته في توحيد الحركة النقابية في المغارب، وبعد ذلك بدأ يعمل بجد من أجل وضع دعوته في توحيد هاته الحركة العمالية موضع التطبيق، موظفاً أفكار وجهود الاتحاد العام التونسي للشغل لخدمة القضية الوطنية ذات الأفق المغاربي.

ومن هذا المنطلق جاءت أفكار ودعوات المؤتمر الأول للاتحاد المنعقد في 20 – 21 شباط/فبراير 1947، حيث أكد الزعيم النقابي ضرورة أن يمتد نشاط الاتحاد إلى جميع أجزاء بلدان المغرب، وإلا سيكون نشاطه قاصراً‏[21].

وفي هذا الاتجاه الوحدوي نفسه أكد حشاد في اجتماع فرع جمعية طلبة شمال أفريقيا في تونس (آذار/مارس 1947) دعوته إلى تأسيس النقابات والاتحادات العمالية المستقلة في كل من الجزائر والمغرب مثلما هو الحال في تونس، وإلى تجميع اتحادات الأقطار الثلاثة في مؤتمر تاريخي يوحدها ويعرفها كيف تقود شعوبها نحو الوحدة، والعمل على بذل كل ما لديهم في سبيل انتصار قضيتهم المشتركة، وتأسيس الجامعة النقابية لشمال أفريقيا.

واصل الاتحاد العام التونسي للشغل دعواته الوحدوية عبر مؤتمراته اللاحقة، الثاني (1948)، الثالث (1949)، والرابع (1951)‏[22]، وجميعها تؤشر إلى أن الحركة العمالية بدأت تضغط باتجاه العمل الوطني المقترن بالعمل المغاربي على طريق الوحدة، في آذار/مارس 1951 دعا الاتحاد التونسي إلى التضامن مع الشعب المغربي في كفاحه ضد الاحتلال وسياسة الإقامة العامة الفرنسية.

كان الاتجاه العمالي وبزخم شعبي عام يضغط بتحركاته الوطنية ودعواته المغاربية على الحضور الاستعماري في كل المجالات، ونتيجة لذلك شعرت السلطات الفرنسية بفاعلية وتأثير هذا الاتجاه الشعبي الحاد، فشنت حملات من الاضطهاد والملاحقة والاعتقال وحتى التصفيات الجسدية منذ عام 1951 والفترات اللاحقة‏[23]. ورغم تلك السياسة القمعية استطاع هذا الاتجاه أن يثبت حضوره في الخريطة الوطنية تياراً اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً، وبدأ يفرض نفسه اتجاهاً لا يمكن تجاهل دوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغارب.

وعموماً فقد عقد قادة النقابات المغاربية عدداً من المؤتمرات من أجل توحيد النضال النقابي المغاربي في إطار وحدوي، بهدف التصدي لكل المؤامرات والسياسات الاستعمارية بالمنطقة، وفي ما يلي بيان لبعض هذه المؤتمرات:

1 – مؤتمر تونس (1947 – 1951)

تعود أولى خطوات النشاط السياسي للحركات النقابية المغاربية إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، من خلال مؤتمره التأسيسي الأول الذي انعقد سنة 1947، حيث أكد في بيانه التأسيسي ضرورة توحيد أقطار المغرب العربي بإضافة ليبيا إلى الخارطة السياسية للمنطقة‏[24]، بعدما كان مصطلح المغرب العربي قبل هذا التاريخ يقتصر على تونس والجزائر والمغرب الأقصى، وهو ما نرى فيه دلالة على أن شعوب المنطقة نجحت في العودة إلى هويتها الوطنية والقومية رغم كل الجهود التي بذلها الاستعمار لطمس تلك الهوية. ولعل من بين العوامل المساعدة على هذه العودة إنشاء الجامعة العربية في القاهرة سنة 1945، التي بالرغم من كل ما قيل في أسباب إنشائها ودور بريطانيا في ذلك ولتكون أداة بديلة عن الوحدة العربية الشاملة، فإن ظهور هذه الجامعة وما قامت به من دور فعال في نشر الوعي والحس الوطني والقومي لا شك في أنه وراء هذا المد القومي والوطني في المغرب العربي، وبخاصةٍ بعدما أصبحت القاهرة قبلة المناضلين العرب، فتم تأسيس مكتب المغرب العربي سنة 1948 آخذاً على عاتقه تحرير هذا الجزء من الوطن العربي من السيطرة الاستعمارية.

وتأكيداً لهذا النشاط السياسي للاتحاد العام التونسي للشغل بحكم المرحلة التي يعيشها كمرحلة كفاح وطني ضد الاستعمار بكل صوره وتلاحمه النضالي مع الأشقاء في منطقة المغرب العربي، وجه الاتحاد الدعوة إلى قادة الحركات النقابية في كل من ليبيا والجزائر والمغرب – وهي لم تكتسب الشرعية القانونية من السلطات الاستعمارية في بلدانها بعد – إلى حضور المؤتمر الرابع للاتحاد المذكور المنعقد في الأول من أيار/مايو 1951 بمناسبة عيد العمال العالمي، حيث جاء على لسان أمينه العام فرحات حشاد ما نصه: «إن لقاء قادة الحركات النقابية في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب هو بمثابة عيد للوحدة المغربية والتحرير، فبهذا العيد يحتفل الشعب الجزائري وشعب مراكش وشعب طرابلس لإقامة الدليل على أنها شعوب متحدة المرمى والأهداف ومستعدة للقضاء على الاستعمار المشترك»‏[25]. إن هذا الحديث عن الوحدة المغاربية وفي تلك الفترة المبكرة من تاريخنا المعاصر، يعطي الدليل على مدى النضج السياسي والحس الوطني والقومي الذي كانت عليه قيادات الحركات النقابية في بلدان المغرب العربي في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وتعطي الدليل أيضاً على إدراكها الحقيقة التاريخية لشعوب هذه المنطقة من حيث وحدة التاريخ والهدف والمصير.

 

2 – مؤتمر طنجة (تشرين الأول/أكتوبر 1957)

ازداد التلاحم السياسي وتطابق الآراء بين الحركات النقابية الأربع حول العديد من القضايا الهامة التي كانت تعيشها المنطقة آنذاك، ولعل أهمها قضية الاستقلال الكامل عن السيطرة الغربية، وتُوِّج هذا التلاحم بعقد العديد من المؤتمرات واللقاءات بين قادة الحركات النقابية المغاربية: «سالم شيته» عن الحركة العمالية الليبية، «أحمد التليلي» عن الحركة العمالية التونسية، «المحجوب بن الصديق» عن الحركة العمالية المغربية، «عبد القادر معاشو» عن الحركة العمالية الجزائرية، كان أولها مؤتمر طنجة بالمغرب الذي انعقد أيام 20 – 23 تشرين الأول/أكتوبر 1957 والذي تناول فيه المؤتمرون العديد من القضايا المهمة التي تهم شعوب المنطقة، ومن أهمها قضية تحرير أقطار المغرب العربي تحريراً كامـلاً من جميع القيود التي تربطها بالاستعمار، ومن ثم الدعوة إلى أن التضامن بين الأقطار الأربعة لم يعد مرتكزاً على العاطفة فقط بل أصبح أساسه الواقعية والفاعلية.

احتل هذا المؤتمر مكانة بارزة في تاريخ الحركة النقابية في المغرب العربي نظراً إلى الموضوعات التي بحثها المجتمعون، والتي شكلت نهجاً سياسياً واضحاً للحركة النقابية المغاربية آنذاك، حيث أكد المجتمعون في الجانب السياسي الآتي‏[26]:

– عزم الطبقة العاملة في المغرب العربي على مواصلة عملها وتوحيد جهودها لتحقيق وحدة أقطار المغرب العربي السياسية.

– تعزيز التضامن والعمل المشترك من أجل تحرير الجزائر من السيطرة الفرنسية. دعوة حكومات ليبيا وتونس والمغرب للعمل على استكمال السيادة الوطنية لتلك الدول، وذلك بإجلاء الجيوش الأجنبية وتصفية القواعد الموجودة على أراضيها.

– دعوة جميع الهيئات والمنظمات الوطنية في الأقطار الأربعة إلى القيام بعمل مشترك من أجل التحرير الكامل والشامل لأقطار المغرب العربي وتوحيدها.

أما في الجانب الاقتصادي فقد أوصى المؤتمرون بما يأتي‏[27]:

– حث حكومات المغرب العربي على الاستقلال من التبعية الأجنبية في المجالات الاقتصادية والمالية.

– ضرورة الإسراع في تحرير التجارة الخارجية للبلدان المغاربية من الاحتكارات الأجنبية، وتوسيع حجم المبادلات التجارية بين الأقطار الأربعة وبين بقية دول العالم.

– العمل على إنشاء وإصدار عملة مغاربية موحدة.

– ضرورة البدء في التنمية الاقتصادية الشاملة في الأقطار الأربعة وتعزيز العلاقات الاقتصادية البينية، ونهج سياسة مشتركة في ما يتعلق بالمواضيع ذات الاهتمام المشترك.

أما على المستوى الاجتماعي فقد خرج المجتمعون بالتوصيات التالية:

– مطالبة حكومات ليبيا وتونس والمغرب باعتبارها دولاً مستقلة سياسياً بتوحيد التشريعات الاجتماعية في بلدانها، وذلك بانتهاج سياسة تشمل التشغيل والتكوين المهني وإنشاء نظام الضمان الاجتماعي وتعميمه.

لقد برهن مؤتمر طنجة على مدى وعي وإدراك الحركات النقابية في الدول المغاربية الأربع الأوضاع التي تمر بها بلدانها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل تعدى الأمر إلى وضع برنامج عمل وجهته إلى حكوماتها يتضمن حلولاً لكل المشاكل التي تعيشها أقطارها، لذلك كانت قرارات مؤتمر طنجة تعبيراً عن تطابق الرؤى بين المنظمات النقابية والمواقف الشعبية في بلدان المغرب العربي، وهو ما جعل الحكومات المغاربية في موقف حرج أمام شعوبها نتيجة ضعف مواقفها من القضايا المصيرية للمنطقة (دعم الثورة الجزائرية) ومن ثم للأمة بأكملها (القضية الفلسطينية)، الأمر الذي نتج منه تأزم في العلاقات بين الحكومات المغاربية والحركات النقابية المغاربية‏[28].

3 – مؤتمر جنيف آذار/مارس 1958

بعد لقاء طنجة السابق الذكر وتأكيداً لتفعيل العمل السياسي للنقابات العمالية المغاربية وتفاعلها مع الأوضاع في المنطقة، التقى قادة الحركات النقابية المغاربية الأربع في جنيف يومي 8 و9 آذار/مارس 1958 على هامش اجتماعات منظمة العمل الدولية، حيث تناول القادة النقابيون الموضوعات الآتية:

– الأوضاع الراهنة في المغرب العربي وأهمها القضية الجزائرية.

– دراسة مشاريع منظمة العمل الدولية في أفريقيا.

– توسيع جهاز التنظيم الجهوي للاتحاد الحر لتسهيل عملية التعاون بين الحركات النقابية المغاربية الأعضاء في الاتحاد وبين بقية المنظمات النقابية الأفريقية.

أكد لقاء جنيف إصرار الحركات النقابية المغاربية على الاهتمام بأوضاع المنطقة السياسية ومتابعتها، وهي خطوة لا نعتقد أنه كان من الممكن تجنبها من القادة النقابيين، ذلك أن ظروف المنطقة المتمثلة باشتداد النزعة الوطنية نحو الاستقلال وإجلاء المستعمر والحرب المستعرة في الجزائر، وطبيعة المرحلة المتصفة بمعاداة الاستعمار وتصفيته وحق الشعوب في تقرير مصيرها، علاوة على الظروف الدولية المنوَّه عنها في بداية هذه الورقة، عوامل كلها كانت تصب في هذا الاتجاه السياسي للحركات النقابية المغاربية، لذلك جاءت توصيات القادة النقابيين في هذا المؤتمر مشتملة على الآتي‏[29]:

– إجماع القادة الأربعة على اتهام الاتحاد الحر بالتقصير تجاه القضية الجزائرية وعدم إدانته للأعمال الإجرامية التي تقوم بها فرنسا في الجزائر.

– مقاطعة فرنسا اقتصادياً وعدم تفريغ سفنها الراسية في الموانئ المغاربية والتشهير بها عبر وسائل الإعلام المختلفة.

– استقلالية الحركة النقابية في المغرب العربي عن الاتحاد الحر ورفض فكرة تكوين فرع له في المنطقة.

وبالنظر إلى التوصيات السابقة يتضح إلى أي مدى انغمست الحركات النقابية المغاربية في العمل السياسي دون النقابي، بل إن هذا النشاط لم يكن دعاية إعلامية، إذ تحول إلى عمل ميداني ملموس من خلال البرامج التي نفذتها كل حركة نقابية في بلادها، ففي ليبيا على سبيل المثال قامت الحركة العمالية خلال الفترة التي تلت ذلك المؤتمر وحتى سنة 1961 بحملة تشهير كبيرة ضد فرنسا اشتملت على عدم تفريغ السفن الفرنسية الراسية في الموانئ الليبية، وحث المواطنين الليبيين عبر وسائل الإعلام المختلفة بوجوب مقاطعة فرنسا اقتصادياً، وإقامة أسابيع الجزائر في مختلف المدن الليبية، وجمع التبرعات لمصلحة مجاهدي الجزائر.

تسارعت الأحداث في المنطقة بفعل تداعيات الثورة الجزائرية، حيث تصاعدت الأصوات المطالبة بتصفية الوجود الفرنسي نهائياً، وتحديداً من قاعدة بنزرت في تونس، وما نتج منها من أحداث دامية بين الشعب التونسي والقوات الفرنسية. ولذلك فمثلما وحّدت القضية الجزائرية الحركات النقابية المغاربية ضد فرنسا في الجزائر، فقد وحّدتها أيضاً في تونس من خلال أحداث بنزرت والاعتداءات الفرنسية المتكررة على بقية الدول المغاربية، ولذلك جاء مؤتمر صفاقس 1961.

4 – مؤتمر صفاقس (آب/أغسطس 1961)

جاء هذا المؤتمر ترسيخاً للعمل السياسي وزيادة في الولوج إلى عالم السياسة، ويتضح ذلك من التوصيات التي خرج بها والتي تضمنت:

– عزم الطبقة العاملة في الأقطار المغاربية الأربعة على مواصلة الكفاح المسلح لتحرير المغرب العربي الكبير تحريراً كامـلاً، وتخليصه من جميع الرواسب الاستعمارية والقضاء على جميع مظاهر الهيمنة الأجنبية.

– مناهضة الجماهير المغاربية لجميع الأحلاف مهما كان نوعها وتقويض القواعد الأجنبية المفروضة على بلادها حتى يتقلص ظل الاستعمار تقلصاً كامـلاً وتكتمل سيادته الوطنية.

– قناعة المسؤولين عن الحركة العمالية في الأقطار الأربعة بأن تدعيم الحركة العمالية الصحيحة وتوحيد أهدافها وغاياتها، من شأنه تحقيق النهوض بالطبقات الشعبية وتحريرها من كل القيود للوصول بشعوبنا إلى حياة أفضل قوامها الحرية والرفاهية والعدالة الاجتماعية‏[30].

وشعوراً من الحركات النقابية الأربع بقوتها على الساحة الوطنية أقام الاتحاد العام التونسي للشغل في ختام هذا المؤتمر مهرجاناً شعبياً إحياءً لذكرى شهداء الطبقة العاملة في تونس، تحدث فيه القادة النقابيون عن نضال العمال في سبيل تحرير بلادهم من السيطرة الأجنبية، وما تحمله تلك التضحيات من معانٍ في النفوس، حيث أبرز الأمين العام للحركة العمالية الليبية في كلمته: «إن 5 آب/أغسطس كان عامـلاً في بعث الحركة العمالية في شمال أفريقيا، لذا وجب أن يتجاوز التضامن العربي حدود التصريحات والبرقيات لأننا لا نريد أن يعيد التاريخ خيبة فلسطين، ويكفي عبرة لنا توسيع دائرة التضامن بين كل الشعوب المضطهدة التي يقاسمها المصير المشترك لإيجاد قوة عمالية لا شرقية ولا غربية لوقف تيار الاستعمار الذي تدافع عنه فرنسا في الجزائر».

شكل هذا المؤتمر والمؤتمرات التي سبقته تحدياً للحكومات المغاربية، وتحديداً في ليبيا وتونس والمغرب، وعامـلاً مهماً في سوء العلاقة بين الحركات العمالية المغاربية وحكوماتها التي كانت تأمل أن تكون الحركات العمالية جزءاً من النظام السياسي لتلك الدول، لا منظمات مستقلة عنها، وهو ما دفع الحكومات المغاربية، وبخاصة في تونس وليبيا، إلى العمل على تقليص دور الحركة النقابية من خلال جعلها ضمن النظام السياسي الحاكم؛ ففي تونس تمكن الرئيس الحبيب بورقيبة من جعل الاتحاد العام التونسي للشغل خاضعاً لسيطرة الحزب الدستوري وجزء من هيكلية الحزب، وإبعاد القادة النقابيين المناوئين له، وبهذا الانقلاب أصبحت الحركة العمالة التونسية جزءاً من الحزب الدستوري الحاكم‏[31].

أما في ليبيا فقد تعرضت الحركة العمالية إلى التقليص من جانب السلطة السياسية سنة 1961، حيث زج بالكثير من قياداتها في السجن بسبب مواقفها على المستوى المحلي والمستوى القومي وتحديداً المغاربي، ذلك أن الحركة العمالية الليبية كانت هي التنظيم الوحيد الذي سمحت له الحكومة بممارسة نشاطه، لذلك كسب هذا التنظيم قاعدة جماهيرية ضخمة حتى قيل عنها: «إن الحركة العمالية الليبية ما هي إلا تنظيم سياسي غير معلن، وهي الفئة الوحيدة المؤهلة لأن تتحول إلى حزب سياسي إذا سمحت الحكومة بذلك»‏[32]، بينما كانت الحركة العمالية الجزائرية تشكل جزءاً من حزب جبهة التحرير الحاكمة‏[33]، أما الحركة العمالية المغربية فربما تكون هي الحركة العمالية الوحيدة التي لم تكن تشكل جزءاً من السلطة السياسية في المغرب‏[34]، ولعل ذلك يعود إلى التعدد السياسي الذي عرفه المغرب منذ استقلاله دون غيره من الدول المغاربية، ولا يعني ذلك تمتعها بكامل حريتها كما هو الحال في العالم الغربي.

إن نظرة فاحصة لتاريخ الحركات النقابية وقادتها ومن ثم إلى دورهم الفعال في ترسيخ مفهوم الوحدة المغاربية ولو مرحلياً، تؤكد لنا عمق ونضج وصحة تلك التوجهات، فقد سبق أولئك النقابيون بتفكيرهم وتوجهاتهم تفكير السياسيين، من خلال ما وضعوه من برامج تتعدى مجالات نشاطهم النقابي؛ فالتحرر من التبعية الاقتصادية والسياسية واستكمال السيادة الوطنية والدعوة إلى وضع برامج اجتماعية للرفع من المستوى الاقتصادي للطبقات العاملة، وتحرير التجارة العربية وإيجاد عملة مغاربية موحدة، لا شك في أنها أطروحات مهمة تتمشى والتحديات التي واجهتها المنطقة ولا تزال.

ثالثاً: الواقع الحالي للحركات النقابية المغاربية

 

1 – في المغرب

منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي دخلت الحركة النقابية المغربية في سيرورة تفكيك ممنهج كأحد أبرز أوجه الهجوم النيوليبرالي على الطبقة العاملة وتنظيماتها المختلفة وفي مقدمتها النقابات، بهدف تدمير كل وسائل المقاومة لديها، وكذلك نتيجة الغياب التام للديمقراطية الداخلية وعدم ترك المجال لمبادرات القواعد كنتيجة للهيمنة البيروقراطية على جل النقابات العمالية، إضافة إلى تغييب أساليب الديمقراطية العمالية في تدبير الاختلاف في جهات النظر. وهكذا عرفت الحركة النقابية المغربية تفككاً وتشتتاً كبيرين اتخذا مظاهر متعددة، ستسهم بصورة واضحة في إضعاف خطير لقدرة العمال والمأجورين على مقاومة الهجوم النيوليبرالي المتواصل، ومن أهمها:

– تواتر الانشقاقات داخل المركزيات النقابية الكبرى (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، الاتحاد المغربي للشغل) في المغرب نتيجة انفجار التناقضات الداخلية للقيادات البيروقراطية وهيمنة الأحزاب الليبرالية على هذه القيادة، والبحث عن قاعدة ارتكاز داخل الحركة العمالية والتنافس حول التمثيلية في مؤسسات الدولة وجلسات الحوار وما يصاحب ذلك من امتيازات.

هكذا شهدت الحركة النقابية المغربية تراجعاً مستمراً بسبب الهجوم الكاسح للعولمة الرأسمالية المتمثلة بتكاثر وتجذر الشركات المتعددة الجنسيات من جهة، وتواصل الانشقاقات على خلفية الصراعات الحزبية وما خلفته من انقسامات من جهة ثانية، ناهيك بسن قوانين واتخاذ إجراءات وتدابير حكومية أسهمت في الإجهاز على الحقوق والحريات النقابية (مدوّنة الشغل مشروع قانون الإضراب الاقتطاعات من الأجور) وكذا مختلف أوجه التضييق على العمل النقابي كالتوقيف عن العمل والطرد والتسريحات الجماعية… وغيرها من تمظهرات الهجوم على الممارسة النقابية للحد من قوتها وتواجدها بمختلف القطاعات والوحدات الإنتاجية والضيعات الفلاحية‏[35].

لكن على الرغم من بعض مظاهر التراجع والضعف في أداء الحركة النقابية المغربية، فهي أدت دوراً بارزاً في الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب من خلال الدينامية النضالية التي خلقتها حركة 20 فبراير والتي رفعت مطالب ذات صبغة سياسية واجتماعية واقتصادية وسرعت من الإصلاحات السياسية والدستورية بالرغم من محدوديتها، وعدم رضى الشارع المغربي ومجموعة من الإطارات الديمقراطية على المكاسب المحققة.

2 – في الجزائر

بعد الاستقلال بقيت الحركة العمالية الجزائرية ممثلة بالاتحاد العام للعمال الجزائريين تحت وطأة التدخُّل السياسي، حيث اعتبرت من بين المنظمات الجماهيرية التي تسعى إلى تجنيد اليد العاملة في سبيل القيام بمهامهم التنموية، والملاحظ هنا أنه تم محاصرتها ومحاولة الحد من دورها وتقليصه إلى أقصى الحدود، الأمر الذي أدى إلى انحسار دورها. ولعل أهم الخطط المعدة لضربها هي تدعيم بعض أساليب التسيير كالتسيير الذاتي، إضافة إلى إنشاء لجان المشاركة في المؤسسات وسياسة التخطيط الفوقي ومركزية التسيير الإداري، كما كان للتدخل السياسي أثره في الحد من فعالية النقابات مثل ضرورة الانخراط في جبهة التحرير الوطني حتى تتمكن من الترشح لأي منصب مهما كان نوعه. أدت كل هذه الإجراءات إلى بروز ما يعرف بأزمة الثقة بين العمال والنقابة من جهة وبين النقابة والدولة من جهة ثانية، الأزمة الأولى كان من نتائجها قيام إضرابات عمالية غير مؤطرة وعشوائية، وبخاصة في فترة الثمانينيات. أما الثانية فتتعلق بانتهاج الدولة سياسة الانفتاح غير المبرمج، الأمر الذي سيؤدي إلى حلول اضطرابات اجتماعية سعت النقابة دائماً لأن تكون بعيدة منها، الأمر الذي سيهدد السلم والأمن الاجتماعيين‏[36].

وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن الحركة النقابية في الجزائر اليوم يتنازعها تياران أساسيان: تيار يبني نضاله على لغة الحوار والتشاور، ممثـلاً بالاتحاد العام للعمال الجزائريين، وهو يتخذ من رصيده التاريخي والنضالي حجة لتمثيل العمال والتكلم باسمهم إضافة إلى الاعتراف التام به من قبل الدولة كونه الشريك الاجتماعي الوحيد الممثل للعمال؛ في مقابل التيار الثاني الذي يجسد نظرة المواجهة والصراع، وهو إن نهج هذا الأسلوب فهو لعدم وجود اعتراف من قبل السلطات بتمثيله، رغم ما أحدثه من حشد في صفوفه ونجاح الإضرابات التي نظمها رغم عدم الاعتراف بها من قبل السلطات.

3 – في تونس

مثل الاتحاد العام التونسي للشغل في فترات عديدة من تاريخه مكسباً للشغيلة التونسية في مواجهة القوة الاقتصادية والسياسية لأرباب العمل – رأسماليين ودولة – إلا أنه كذلك وفي فترات عديدة أخرى تحوّل إلى منظمة للتعاون الطبقي تبنّت سياسة السلم الاجتماعي والمشاركة وتحوّلت تحت نفوذ بيروقراطيتها من أداة بيد الشغيلة للدفاع عن مصالحهم إلى أداة مساهمة ومشاركة في تنفيذ سياسات الاستغلال المفرط والتفقير المفروضة من المؤجرين ضد هؤلاء الشغيلة أنفسهم. إن تلك الفترات المضيئة من تاريخ هذه المنظمة كانت نتيجة عمل معارضة نقابية ناضلت من أجل أن تكون النقابة أداة للدفاع عن مصالح المنخرطين فيها وعن مصالح عموم الشغيلة لا أداة بيد السلطة، ومن أجل ديمقراطية واستقلالية العمل النقابي عن نفوذ الدولة ونفوذ البيروقراطية، وهو ما مكن الاتحاد العام التونسي للشغل من التغلب على الأزمات التي مر بها وتقوى نفوذه في منعرجات كثيرة من صراع الحركة العمالية مع سلطة رأس المال وسياسات الدولة التابعة.

لكن نظراً إلى ضعف المعارضة النقابية لم تجد السلطة في تونس عناءً في جعل بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل تتبنى هذا المفهوم الجديد للعمل النقابي‏[37]، وانبرت البيروقراطية النقابية التي التزمت بدورها المشارك تنظّر للمساهمة والمشاركة. كذلك انساق قسم التكوين والتثقيف في الاتحاد إلى إقامة ندوات للتكوين النقابي تكوّن وتثقف المسؤولين النقابيين في الهياكل الوسطى والأساسية على مفهوم النقابة المشاركة وآليات عملها وفق هذا المنظور، وانخرطت المنظمة النقابية في شراكة وتعاون مع هيئات لا تخدم في الأخير غير مصلحة رأس المال، مثل منظمة فريدريك إيبرت، التي لا يخفى تاريخها وتوجهاتها المعادية للعمال والشغيلة عموماً وللقضايا العربية (فلسطين والعراق).

رابعاً: الدروس المستخلصة من هذه التجربة

عموماً يمكن القول إن الحركات النقابية المغاربية ما زالت تعاني إلى اليوم تشرذماً وتشتتاً كبيرين، ناهيك بالتبعية الحزبية للمركزيات النقابية التي تكيف مواقفها وتوجهاتها وفق أجندة الأحزاب التابعة لها، وكذا الانحرافات المتكررة على الخط النضالي الديمقراطي وتبني توجه بيروقراطي محض. وهكذا يمكن الوقوف عند أهم الدروس المستخلصة من هذه التجربة المغاربية الوحدوية كما يلي:

انتشار التيار الفوضوي في الحركة النقابية المغربية وهو تيار دخيل على المغرب وعلى الحركة النقابية المغربية، حسب سعيد اللطيف المنوني، نشأ على يد النقابيين الإصلاحيين بفرنسا تحت قناع ثورية مزيفة لمواجهة الشيوعيين وتقليص نفوذهم المتزايد في الحركة النقابية، بحيث تبنت النقابات شعارات سياسية عملاقة ومزايدات، مدعية أن النقابات هي القادرة على صنع الأحداث الكبرى والثورات، بينما كانت متخاذلة ومنبطحة كما أثبتت الوقائع ذلك، ويتجلى هذا التوجه الفوضوي عندنا في المفارقة الكبيرة بين خطابات الاتحاد المغربي للشغل وممارسته.

إن الحركة النقابية الجزائرية هي حركة ناتجة من صراع بين أيديولوجيات متفاوتة الانتشار في الأوساط الشعبية، فإذا كانت الحركة الشيوعية هي السباقة إلى تشكيل النواة الأولى للحركة العمالية الجزائرية فإنها لم تستطع أن تواكب التطورات السياسية الحادثة نتيجة تمسكها بالناحية المطلبية وارتباطها التام أو المطلق بالحركة الشيوعية الفرنسية التي لم تكن صريحة وواضحة فيما يخص المطالب السياسية، هذا الارتباط ساهم في إقصاء طاقات نضالية كان يمكن الاستفادة منها سواء في النضال السياسي أو المطلبي، كما كان وضع الحركة الشيوعية في مواجهة مباشرة مع الحركة الوطنية التي أعطت الأولوية للسياسي على المطلبي، وبالتالي جعلت من تشكيل نقابة جزائرية مطلباً ثانوياً وليس رئيسياً.

تعد الحركة النقابية التونسية، الممثلة بالاتحاد العام التونسي للشغل، من بين المنظمات الوطنية التي جعلت من ضمن استراتيجياتها معارضة كل أوجه الفقر والتفاوت والتهميش ومقاومتها، فانعكس ذلك في كثير من المناسبات من خلال التحركات التي يقودها الاتحاد، ومساهمته في حل كثير من الأزمات التي تمر بها البلاد علىالمستويات المالية والاقتصادية والاجتماعية والسّياسيّة. لذلك لا يزال الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل يعدّ الفاعل المركزي الأكبر في حقل الفعل التّاريخي في تونس إلى يومنا هذا، كونه يحظى بصيت واسع على النطاق الخارجي، ويتمتع بسمعة طيبة في المحافل الإقليمية والدولية تقديراً لنضاله العريق ومواقفه المشرفة دفاعاً عن الحريات النقابية وقضايا الشعوب العادلة.

خاتمة

لم تكن الحركات العمالية في المغرب العربي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بعيدة من الأحداث السياسية التي عاشتها المنطقة آنذاك من صراع ضد القوى الأجنبية المحتلة لبعض أقطارها كما في تونس والجزائر، أو رفضاً للوجود الأجنبي وتدخلاته في الشؤون الداخلية كما في ليبيا والمغرب، الأمر الذي دفع بالحركات النقابية إلى ولوج عالم السياسة والانغماس فيه، ومن ثم اصطدامها بالحكومات المحلية الموالية للقوى الأجنبية، وترتب على ذلك قمع سياسي واعتقالات وتصفية جسدية للعديد من القادة النقابيين على أيدي المنظمات الإرهابية الفرنسية كما حدث مع النقابي فرحات حشاد، أو على أيدي الأجهزة الأمنية في الحكومات المغاربية.

عموماً فالظرفية التي تمر بها الحركة النقابية دولياً ووطنياً ظرفية دقيقة وصعبة في مناخ اجتماعي في حالة احتقان دائم ومناخ اقتصادي ومالي متقلب ومتأزم، وهو ما يستوجب وضع الأسئلة الصحيحة من أجل تجاوز كل المعوقات والمصاعب التي تقف في وجه العمل النقابي. ويعتبر العديد من الفاعلين السياسيين والنقابيين أن المدخل الوحيد لتجاوز الأزمة النقابية ووقف الهجوم الشرس للعولمة الرأسمالية هو العمل الدؤوب على الوحدة النقابية سواء على المستوى القطري أو على المستوى الدولي بهدف تهيئة الشروط كافة لعولمة النضال الكفيل بالوقوف في وجه العولمة الرأسمالية المتوحشة.

هذا ويبقى اقتراح البدائل الكفيلة بالنهوض بالحركة النقابية هو السبيل الوحيد لإخراج الممارسة النقابية من غرفة الإنعاش، حيث تعاني موتاً سريرياً ترتب عنه تردي أوضاع الطبقة العاملة وجعلها عرضة لكل أشكال الاستغلال الوحشي والتمادي في ضرب حقوقها ومكتسباتها بل والدوس على كرامتها في أغلب الأحيان. وفي هذا السياق يمكن حصر البدائل المقترحة في ما يلي:

لا شك في أنه يصعب على الحركة النقابية تحقيق أهدافها واستقطاب مختلف شرائح الشعب ومن بينها الطبقة العاملة، إذا لم تنجح في تأسيس إطار تنسيقي يجمع بين الإطارات النقابية التقدمية والتنظيمات السياسية اليسارية والحركات الاجتماعية المختلفة، من أجل خلق جبهة ذات بعد سياسي واجتماعي قادرة على ربح الرهانات المرتبطة بالتغيير وفرض الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

تعتبر مسألة توحيد اليسار المغاربي (السياسي والنقابي) مدخـلاً أساسياً لإنقاذ الحركة النقابية المغاربية، بحيث تعتبر الوحدة السياسية لليسار شرطاً رئيسياً وجوهرياً للوحدة النقابية.

وفي هذا الإطار لطالما اشتكت الحركة النقابية من الانشقاقات والتمزقات التي سببتها الانقسامات الحزبية الضيقة، وكل القوى الحية والديمقراطية تنادي حالياً بالوحدة من منطلق سياسي واسع ومتجذر بتراكمات وأيديولوجية يسارية وتقدمية تضع ضمن أهدافها حزب يساري واحد ونقابة تقدمية واحدة.

أمام هذه الأوضاع تشكلت حركات وطنية وعالمية للمقاومة وفتحت إمكانات البديل الاجتماعي، لقد أصبح منتدى الحركات الاجتماعية فضاء أوسع للحوار والتشاور ورسم البدائل لمختلف الإطارات المناضلة ضد مختلف أشكال العولمة والاستغلال.

أصبح كذلك من الضروري الانفتاح على الحركة الحقوقية والعديد من الحركات المدنية، كالحركة النسائية بهدف التأسيس لعولمة المقاومة الاجتماعية.

 

قد يهمكم أيضاً  التكامل المغاربي ومعادلات للنهوض بالبناء الوطني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الحركات_العمالية_في_المغرب #المغرب_العربي #الحركة_النقابية_في_المغرب_العربي #النضال_الحقوقي_في_المغرب_العربي #النقابات_العمالية_المغاربية