مقدمة

تتناول هذه الدراسة موضوع مقاربة مفهوم الدولة في الوطن العربي في علاقته بإشكالية المنهج، وهي تنطلق من فرضية رئيسية مفادها أن مناهج العلوم السياسية، على الرغم من التطور الكبير الذي حققته في الغرب، لا تزال قاصرة عن مقاربة الدولة في العالم الثالث عموماً والدولة في الوطن العربي بوجه خاص.

ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، أهمها أن هذه المناهج بمختلف أبعادها القديمة والحديثة هي في الغالب مناهج غربية، ولدت من رحم التجربة الغربية وتطورت في الغرب، ثم تم نقلها لاحقاً إلى العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي، وأريد لها أن تطبق فيه كمسلّمات جاهزة، وأن تجيب عن أسئلة تتعلق بدولة مختلفة عن الدولة في الغرب من حيث الجوهر، وإن تشابهت معها من حيث الهيكل والشكل.

وبالتالي فإنه بقدر ما تحقق تلك المناهج نجاحاً كبيراً وتظهر قدرة جيدة على مقاربة الدولة في الغرب، وفهم كنهها وكنه مؤسساتها المختلفة، تعاني ارتباكاً كبيراً، وتعاني أوجه قصور عديدة عند محاولة تطبيقها على الدولة في الوطن العربي، أو عند استخدامها في محاولة فهم جوهر تلك الأخيرة.

ومرد ذلك إلى أن الدولة في الوطن العربي لم تنشأ ولم تتطور في سياق طبيعي، كما أنها لم تولد في سياق اجتماعي – اقتصادي وسياسي عادي، خاص بمجتمعاتها، وإنما هي عبارة عن بنى خارجية تم استيرادها من الغرب، وزرعها في بيئة غريبة عنها، ومختلفة بشكل كامل عن البيئة التي أنتجتها‏[1]، وذلك على خلاف نظيرتها في الغرب، التي نشأت وتطورت تطوراً عادياً، وجاءت كإفراز طبيعي لسيرورة تلك المجتمعات.

ويستتبع ذلك بالضرورة القول إن مناهج العلوم السياسية في صيغتها الحالية عندما ولدت كان الهدف منها أن تساعد على دراسة وفهم الدولة وما يرتبط بها في أوروبا وأمريكا، وهذا ما تبدو صالحة له وقادرة عليه، لكن عندما يتم نقلها من هناك وتوظيفها في محاولة فهم الدولة والظواهر المرتبطة بها في الوطن العربي فإنها تتعطل، وتعجز عن أداء ذلك الدور، وحتى لو سلمنا جدلاً بإمكان تطبيقها فإنها على أحسن الأحوال لن توصلنا إلى أكثر من الخروج ببعض الخلاصات الغامضة، والمجتزأة، أو إلى إسقاط وضع الدولة في الغرب على حالة الدولة في الوطن العربي، مع القفز على الفروق الكبيرة القائمة بين الحالتين.

وإذا كان يمكن من حيث المبدأ تعميم الحكم السابق عند مقاربة الدولة في الوطن العربي بوجه عام فإن اختيار نموذج بعينه لا يخلو من أهمية، لأن اختيار مثل ذلك النموذج من شأنه أن ينقلنا من الطور النظري العام إلى الطور الواقعي الخاص، وأن يمثل جسراً يربط بين النظرية والتطبيق، كما أن من شأنه أن يمثل حقـلاً تجريبياً لاختبار الافتراضات السابقة، الأمر الذي من شأنه إما أن يدحضها وإما أن يؤكدها، وهو أمر لا يطمح أي بحث يسعى إلى أن يوسم بالعلمية إلى أكثر منه.

وعلى الرغم من أنه كان من الممكن أن يعتمد هذا البحث أي دولة من دول الوطن العربي كنموذج له، فإن اختيار الحالة الموريتانية هو أمر لا يخلو من دلالة خاصة، وذلك انطلاقاً من معطيين اثنين: الأول هو أن الدولة في موريتانيا مثلها مثل الدولة في باقي البلدان العربية لم تكن نابعةً من داخل المجتمع كما هي الحالُ مع الدولة في السياق الغربي، وإنما كانت آليةً غريبةً عنه وبنيةً مُستورَدَةً من خارجه، فرضها عليه الاستعمار، لكن ما يميز موريتانيا عن الكثير من الحالات العربية الأخرى هو أن الدولة ومؤسساتها فيها هي موروثة بالكامل عن الاستعمار، وهي بذلك تختلف اختلافاً كلياً عن بعض الدول الأخرى مثل المغرب وسلطنة عمان على سبيل المثال وهي دول احتفظ المستعمر فيها بأشكال الحكم السابقة عليه (النظام الملكي في المغرب والنظام السلطاني في عمان)، وإن سعى إلى أن يقوم بإعادة صوغها وتحديثها وفقاً لأجندته الخاصة.

أما المعطى الثاني فهو أن إشكالية غربة الدولة عن المجتمع في موريتانيا قد ساهم في تعميقها عامل آخر لا يقل أهمية، وهو غياب أي ميراث للدولة المركزية في موريتانيا، بحيث يتم الاعتماد على ذلك الميراث، والسير على هديه في تبيئة بنى الدولة المستوردة عن الغرب، وجعلها تتمشّى مع الحقائق الخاصة بالمجتمع، ذلك أن التاريخ يشهد بغيابٍ شِبْهِ تامٍ لأي دولةٍ مركزيَّةٍ في موريتانيا قبل عام 1960 الذي استقلت فيه هذه الأخيرة.

ما تقدم يعني أن محاولة مقاربة الدولة في موريتانيا انطلاقاً من مناهج العلوم السياسية الغربية من شأنها أن تبين بوضوح ما إذا كانت تلك المناهج هي مناهج كونية صالحة للتطبيق في كل مكان وزمان، أم أنها مجرد نماذج ذات خصوصية غربية تم تعميمها على باقي دول العالم، في حين أن صلاحية تطبيقها الحقيقية لا تتجاوز حدود العالم الغربي الذي أنتجها.

من هنا فإن هذا البحث يسعى في إطاره العامّ إلى النّفاذ إلى عمق أزمة مناهج العلوم السياسية في الوطن العربي من خلال واحد من أهم تجلياتها، وهو: عجز تلك المناهج عن فهم أو إدراك كنه وجوهر الدولة في الوطن العربي؛ وبخاصة في البلدان التي لا تتمتع بتجربة سابقة مع الدولة المركزية مثل موريتانيا.

تركز الدراسة على قضية رئيسية هي قضية عجز المناهج الغربية عن مقاربة وفهم الدولة في الوطن العربي بوجه عام، وفي موريتانيا بوجه خاص، وهي في تناولها لتلك القضية تعرّج على تناول بعض القضايا الفرعية؛ مثل علاقة عجز تلك المناهج عن مقاربة الدولة في الوطن العربي بغياب مفهوم محدد وواضح للدولة في الوطن العربي، بحيث إن الباحث يواجه عند دراسته لتلك الدولة بأنه لا يتعامل مع مفهوم واحد للدولة، واضح الدلالة كما هو الحال في الغرب، وإنما يتعامل مع مجموعة كبيرة من المفاهيم الغامضة والملتبسة والمتداخلة.

وهي تهتم أيضاً بقضية أخرى، وهي مدى إمكان الاستفادة من تلك المناهج الغربية في مقاربة الدولة في موريتانيا عبر تبيئة تلك المناهج، وإعادة توطينها وفقاً للسياق الاجتماعي – السياسي والاقتصادي الخاص بالمجتمع الموريتاني، أم أن ذلك لن يعدو أن يكون نوعاً من التلفيق الذي لن يجدي نفعاً. وأخيراً لماذا لم يتم تطوير بديل منهجي خاص يصلح لمقاربة الدولة في الوطن العربي، وما هي أهم معالم الطريق نحو ذلك مثل ذلك البديل إن وجد.

وتتطرق الدراسة إلى إشكاليات عديدة تعنى بمقاربة الدولة في الوطن العربي من خلال نموذج محدد هو النموذج الموريتاني، من خلال رؤية كلية تحاول التعرف إلى أوجه القصور المختلفة التي تعانيها مناهج العلوم السياسية الغربية في سعيها لمقاربة الدولة في الوطن العربي، وتستهدف التعرف إلى المحاذير المختلفة التي تطرح على الباحث لدى التعامل مع تلك المناهج، ومن هذه الإشكاليات:

1 – ما العوامل التي تمثل عائقاً أمام مقاربة الدولة في موريتانيا انطلاقاً من مناهج العلوم السياسية في الغرب؟ وما أهم أوجه قصور تلك المناهج في التعاطي مع تلك الدولة.

2 – هل هنالك تناغم بين المفاهيم التي طورتها تلك المناهج في التعاطي مع الدولة وبين المفهوم الواقعي لتلك الأخيرة في موريتانيا؟ وإلى أي حد تعد إشكالية المفهوم تلك جزءاً من إشكالية المناهج بوجه عام؟ أم أنه لا علاقة بين الإشكاليتين؟

3 – ما المشكل الأساس الذي يحول دون الاستفادة من تلك المناهج الغربية في مقاربة الدولة في موريتانيا؟ وما أهم الصعوبات التي تثار عند تطبيقها على الدولة في موريتانيا؟ وإلى أي مدى يمكن اللجوء إلى مناهج بديلة في التعاطي مع تلك الدولة؟

وهل من سبيل لتنقية تلك المناهج من شوائبها عبر إخضاعها للمراجعة والفحص والتمحيص؟ وهل الإشكال هو في تلك المناهج في حد ذاتها؟ أم أنه في تعاطي الباحثين معها على أنها مسلّمات جاهزة، وتطبيقهم لها بتساهل وتبسيط مخلّين، وعدم قدرتهم على التعامل معها بالصرامة اللازمة؟

ستعتمد الدراسة على المنهج المقارن كمنهج أساس من خلال محاولة وضع تصور حول الدولة في موريتانيا مع مقارنته بتصور المناهج الغربية للدولة بغية معرفة أوجه التماثل والاختلاف بين التصورين، كما أنها ستنفتح على مناهج أخرى كلما كان ذلك ضرورياً وبخاصة المنهجان الاستقرائي والواقعي.

وسيتم تناول موضوعها في ثلاثة محاور، يخصص الأول منها للتعريف بالمفاهيم المركزية للدراسة، بينما يخصص الثاني للمقارنة بين مفهوم الدولة في التجربتين الغربية والعربية، وسنحاول خلاله أن نعرج على مدلول الدولة في التجربة الموريتانية، وأن نعطي فكرة أو تصوراً عنه، في حين سيخصص المحور الثالث للتعرض لمظاهر وأسباب عجز مناهج العلوم السياسية في صيغتها الحالية ذات الأصول الغربية عن فهم الدولة في الوطن العربي عموماً وفي موريتانيا بوجه خاص.

أولاً: مفاهيم الدراسة

يرى سعد الدين ابراهيم أن كل كاتب أو باحث هو ملزم بأن يقدم تعريفه الخاص للمفاهيم والمضامين التي يستخدمها، على اعتبار أن ذلك من شأنه أن يعين القارئ على فهم أفكار ذلك الباحث أو الكاتب في سياقها الدقيق الذي يقصده به هذا الأخير. ذلك أن تلك التعريفات التي يقدمها الكاتب للمفاهيم والمضامين التي يستخدمها تعد تعاقداً قاموسياً بينه وبين القارئ، على أنه في كل مرة يستخدم فيها المصطلح أو التعريف فإنه إنما يقصد به شيئاً محدداً‏[2]، وبالتالي، اتساقاً مع الطرح السابق، فإننا سنحاول في عجالة أن نحدد المفاهيم المركزية لهذه الدراسة، وذلك على الشكل التالي:

- الدولة: ونقصد بهذا المفهوم في هذه الدراسة دولة ما بعد الاستعمار التي نشأت في الوطن العربي، والتي تسمى في المشرق العربي الدولة القطرية، وتسمى في المغرب العربي بالدولة الوطنية، وهي عبارة عن كيان مكون من شعب وسلطة وإقليم محدد، له حدوده السيادية الخاصة، وشخصيته القانونية الاعتبارية، ومؤسساته السيادية، وشرعيته الإقليمية والدولية، التي هي في الأصل عبارة عن: «نظام سياسي ابتكرته أوروبا الغربية، ومر بمراحل وتحولات كثيرة قبل أن يفرض نفسه بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر الميلاديين على مستوى أوروبا كلها ليمتد لاحقاً إلى الأمريكيتين فالدول الأفريقية والآسيوية التي استنسخت بدورها ذلك النموذج السياسي الغربي للدولة»‏[3]، وهي على الرغم من أنها جميعاً قامت في مجتمع عربي – إسلامي يعود بجذوره إلى ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن بعضها كانت له إرهاصات سابقة، أو كانت أقطاره موقعاً لدول سابقة في التاريخين القديم أو الوسيط، فإنها في مجملها كدول قطرية هي عبارة عن ظواهر حديثة أو مستحدثة، نشأت في بعض الأقطار العربية في حقبة ما بين الحربين، ونشأت في أقطار عربية أخرى خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية‏[4].

ولا عبرة هنا باعتراض بعض الباحثين حول أقدمية نشأة الدولة في بعض الأقطار العربية، وكون الدولة في تلك الأقطار هي ظاهرة قديمة جداً، وتعود إلى مئات أو آلاف السنين مثل مصر على سبيل المثال، وهو الاعتراض الذي يبنونه على أنه لو ربطنا تعريفنا للدولة بسيطرة سلطة مركزية على إقليم ما وتسيير جانب كبير من شؤونه لأمكننا الحديث عن دولة مصرية يعود تاريخها إلى ستة آلاف سنة، ولو اعتبرنا أن المعيار هو تمتع الكيان بالسيادة، وتحطيمه أو إخضاعه للمنظمات الوسيطة، واعتماد مبدأ المواطنة بدلاً من الهوية العرقية أو الدينية لأمكن إرجاع تاريخ الدولة في مصر إلى عهد محمد علي في بدايات القرن التاسع عشر‏[5].

ذلك أن شروط هذا الاعتراض علاوة عن كونها لا تنطبق إلا على قطر واحد وهو مصر، أو وربما إلى حد ما المغرب، أي قطرين، من مجموع الدول العربية البالغة اثنتين وعشرين دولة. وهذا يعني أنه في أحسن الأحوال يتعلق باستثناء، والاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها كما هو معلوم، كما أنه من الصعب أن نعتبر أن الدولة التي نشأت في مصر في أي من التاريخين هي دولة قطرية بالمفهوم المعاصر للدولة القطرية، وبالتالي فإننا نعتبر أن الدولة القطرية بمفهومها المعاصر لم يكن لها وجود في الوطن العربي قبل المرحلة التي تلت نهاية الحرب العالمية الأولى.

- الوطن العربي: ويقصد به في هذه الدراسة الدول العربية المعاصرة، أي «مجموعة البلدان الإثنتين والعشرين الناطقة باللغة العربية والأعضاء في جامعة الدول العربية، وهي دول تتميز بتجانسها الثقافي، وتشغل موقعاً استراتيجياً من العالم، وتمتد أراضيها من المحيط الأطلنطي في الغرب إلى المحيط الهندي في الشرق، ومن القرن الأفريقي في الجنوب إلى جبال طوروس في الشمال»‏[6].

- موريتانيا: وهي دولة عربية أفريقية تقع في أقصى غرب الوطن العربي، وفي النصف الشمالي الغربي من القارة الأفريقية، وهي تشغل اثني عشر خطاً من خطوط الطول (من 5 – 17 غرباً)، كما تشغل اثني عشر خطاً من خطوط العرض (من 15 – 27 شرقاً) وبهذا تبدو على شكل مربع مكسور الضلع‏[7]. تبلغ مساحتها 1.030.700 كم2، وتتمتع بموقع بالغ الأهمية، إذ تمثل حلقة اتصال بين شمال وجنوب الصحراء وتطل على المحيط الأطلسي، إذ يحدها هذا الأخير من الغرب بساحل يبلغ طوله 740 كم، يمتد من انواذيبو إلى سان لويس، وتحدّها من الشمال الغربي الصحراء الغربية المتنازع في شأنها والواقعة في أغلبها في الوقت الحالي تحت السيادة المغربية، ومن الشمال الشرقي جمهورية الجزائر، ومن الشرق والجنوب الشرقي جمهورية مالي، ومن الجنوب الغربي نهر السنغال‏[8].

وهذا ما يجعل من موريتانيا من ناحية نقطة الالتقاء بين العرب والأفارقة ومن ناحية أخرى بين شمال القارة الأفريقية وجنوبها، يضاف إلى ذلك وجودها في شرق المحيط الأطلسي وهذا يعطيها أهمية خاصة من الناحيتين الجيوستراتيجية والاقتصادية.

ثم إن لموريتانيا بعداً صحراوياً مهماً حيث تمتد هذه الصحاري على امتداد التراب الموريتاني، إذ يعدّ هذا الأخير بلداً صحراوياً، له إطلالة مهمة على مجابات الصحراء الكبرى الممتدة حتى النيجر.

- إشكالية المنهج: وهذا الأخير أي المنهج يقصد به كمفهوم عام: «طريقة تصرفٍ ما فكراً أو فعـلاً»‏[9]، أما بمفهومه الاصطلاحي فقد قدمت له تعريفات عديدة من ضمنها أنه: «الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد له عملياته حتى يصل إلى تحقيق نتيجة معلومة»‏[10]، كما يعرف المنهج بأنه عبارة عن: «طريق للاقتراب من الظاهرة وهو المسلك الذي نتبعه للوصول إلى ذلك الهدف الذي حددناه مسبقاً»‏[11]، أما هذه الدراسة فستعتمد تعريفاً ديكارتياً للمنهج يقوم على اعتبار أنه هو مسيرة عقلانية بغية الوصول إلى الحقيقة أو المعرفة أو البرهنة على الحقيقة‏[12]، وهي مسيرة هادفة تعقلية، تتسم بتسلسلها المنطقي، وبأنها تنطلق في طرحها للمسائل أو القضايا أو المشكلات المعمقة أو الإشكاليات أو الظواهر المدروسة من الأعم إلى الأخص ومن الأبسط إلى الأعقد‏[13].

هذا في ما يتعلق بالمنهج؛ أما في ما يتعلق بإشكالية المنهج فنقصد بها في هذه الدراسة أن مناهج مقاربة الدولة أي مناهج العلوم السياسية هي في مجملها مناهج غربية ولدت وتطورت في الغرب، ومن ثم تم استيرادها في البلدان العربية، وبالتالي فإن تطبيقها على الدولة في الوطن العربي يثير أسئلة عديدة حول مدى قدرتها على الإجابة عن مختلف الأسئلة التي تثيرها هذه الأخيرة، وعن ما إذا كانت تلك المناهج هي الأصلح لمقاربة دولة ما بعد الاستعمار في الوطن العربي التي تختلف جذرياً عن الدولة في الغرب لاختلاف السياق الاجتماعي – السياسي لكل من الدولتين، وظروف نشأتهما. وبخاصة أن المنهج هو في النهاية يظل ابن بيئته ويصعب فصله عنها، وهو يتأثر بقيم أصحابه وبيئاتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، والسياقات التاريخية التي ولد فيها، وبالتالي فإنه بقدر ما قد تظهر تلك المناهج قدرة كبيرة على استيعاب وفهم وتفسير ظواهر معيَّنة في بلدان معيَّنة، قد تفشل وتعجز عن فهم نفس تلك الظواهر في بلدان آخرى‏[14].

ثانياً: الغرب والوطن العربي:
مفهومان مختلفان للدولة

إن نموذج الدولة الأمة أو القطرية أو القومية أو الوطنية على خلاف في التسميات هو مفهوم نشأ في الغرب بداية، ومن ثم تم استنساخه لاحقاً من جانب عموم دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية والإسلامية، وبالتالي فهو يختلف عن مفهوم الأمة الدولة الذي عرفته المجتمعات العربية والإسلامية على مدى قرون طويلة من تاريخها، الأمر الذي يعني أنه ليست له أي جذور لا في التاريخ العربي – الإسلامي ولا في المدركات الجماعية للأمة العربية.

وقد كانت لذلك المعطى تداعيات على أكثر من مستوى، من ضمنها أن التعريفات التي قدمت للدولة في أغلبها الأعم تصدق أكثر فأكثر على الدولة في الغرب، لكنها لا تفي بصورة كاملة بتعريف الدولة كما هي في الوطن العربي.

ولإثبات صدق هذه الفرضية ستحاول هذه الدراسة استعراض جملة من التعريفات التي قدمت للدولة من قبل باحثين غربيين وعرب، من أجل معرفة إلى أي حد تنطبق تلك التعريفات على الدولة في الوطن العربي، وسيكون ذلك على النحو التالي:

– هارولد لاساكي يعرف الدولة بأنها «سبيل من سبل تنظيم الحياة الجماعية في مجتمع معيّن، والمظهر التي تجتمع فيه حياة المجتمع بأسره، وصاحبة السلطة العليا فيه، والهيئة التي يحق لها تقييد مختلف أوجه النشاط الإنساني، وتخضعه لتشريعها الداخلي»‏[15].

– جاك دوه نيدييه دي فابر يعرفها بأنها «شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي تكفل الأمن لنفسها والرعاية لبنيها ضد الأخطار الخارجية والداخلية، وتحقيقاً لهذا الغرض فإنها تحتكر لنفسها حق امتلاك القوة المسلحة واستخدام وسائل الإكراه والقمع داخل المجتمع، وهي لا تقومُ بدون تماسك اجتماعيٍ على درجة عاليةٍ من الدقة وتنظيم متدرج يسمح لها ببسط سلطانها وتنفيذ قراراتها»‏[16].

– ميلود عامر الحاج يرى أن الدولة هي عبارة عن «صيرورة تاريخية وحركة سيسيولوجية تصنعهما المجتمعات من أجل ضمان وجودها وتفوقها بين الكيانات النظيرة لها»‏[17].

– عبد الوهاب الكيالي يعرف الدولة بأنها «الكيان السياسي والإطار التنظيمي الواسع لوحدة المجتمع والناظم لحياته الجماعية وموضع السيادة فيه، بحيث تعلو إرادة الدولة شرعاً فوق إرادة الأفراد والجماعات الأخرى في المجتمع، وذلك من خلال سلطة إصدار القوانين واحتكار حيازة وسائل الإكراه وحق استخدامها، في سبيل تطبيق القوانين بهدف ضبط حركة المجتمع وتأمين السلم والنظام وتحقيق التقدم في الداخل والأمن من العدوان الخارجي»‏[18].

– سعد الدين ابراهيم يرى أن الدولة هي «كيان سياسي – قانوني ذو سلطة سيادية معترف بها في رقعة جغرافية محددة، على مجموعة بشرية معينة»‏[19].

– غسان سلامة يعرف الدول بأنها: «تلك الكيانات السياسية المنظمة، التي لها أرض محددة قدر الإمكان، وشعب مميز قدر الإمكان، وحكومة منظمة إلى حد ما، ووجود معترف به دولياً من خلال منظمة الأمم المتحدة مثـلاً»‏[20]. كما أنه يعرف الدولة في سياق آخر بأنها عبارة عن ذلك «الهيكل القانوني الذي انبثق تدريجياً خلال قرون من الزمن انطلاقاً من التجربة التاريخية الغربية»‏[21]، أو هي «فكرة نشأت في بدايات الألفية الثانية الأوروبية، وتبلورت تدريجياً عبر مراحل من التقدم والتعثر إلى أن استقرت على ما هي عليه في القرن السادس عشر، فهي كيان خراج من المخيال الإنساني قائم بذاته، يدير علاقات أعضاء الجماعة فيما بينهم، ويقيهم من رعب حالة الكل ضد الكل»‏[22].

– سعيد الصديقي يعرفها بأنها «نظام سياسي ابتكرته أوروبا الغربية، ومر بمراحل وتحولات كثيرة قبل أن يفرض نفسه بين القرنين الثالث عشر والتاسع عشر الميلادي على مستوى أوروبا كلها ليمتد لاحقاً إلى الأمريكيتين فالدول الأفريقية والآسيوية التي استنسخت بدورها ذلك النموذج السياسي الغربي للدولة»‏[23].

وبالرجوع إلى هذه التعريفات السابقة فسنجد أنها في أغلبها لا تعبِّر عن حقيقة الدولة بالنحو الذي هي عليه في الوطن العربي، إذ إن هذه الأخيرة لم يعرف عنها كبير اهتمام بموضوعات من قبيل تحقيق الأمن لنفسها والرعاية لبنيها ضد الأخطار الداخلية والخارجية، كما أن كون الدولة في الوطن العربي على درجة كبيرة من التماسك الاجتماعي هو قول لا يخلو من مبالغة، إضافة إلى أن إرادة هذه الأخيرة لا تعلو دوماً فوق إرادة الأفراد، بل إنه في ظل وجود نوع من الدولة الأبوية في الوطن العربي بمميزاتها وخصائصها المعروفة، من شخصانية الحكم في الدولة، وغياب أي نوع من الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة لمسيريها، وطغيان النظرة القاضية باعتبار الوظائف العامة وسيلة للثراء المادي، وكون النظام السياسي يعمل تبعاً لشبكة القائد والأتباع، واستخدام السلطة وتوظيفها في خدمة المسؤولين‏[24]، فإن إرادة الأفراد، وبخاصة من الحكام وحاشيتهم، هي من تعلو غالباً فوق إرادة الدولة وفوق القوانين بمختلف درجاتها في البلدان العربية، كما أن هذه الدولة ليست من صنع المجتمعات العربية وإنما هي دولة مستوردة من الخارج وتحديداً من الغرب.

ويبدو التعريفان الأخيران من بين هذه التعريفات، وهما يرى أصحابهما أن الدولة هي عبارة عن نظام سياسي نشأ في أوروبا قبل أن تستورده باقي بلدان العالم، وهذا التعريف هو الأكثر تعبيراً عن حقيقة الدولة في الوطن العربي من بين التعريفات السابقة، والأكثر انسجاماً مع مدلولات هذه الدراسة وتمشياً مع مقاصدها.

بيد أنه تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه إلى جانب الاستخدام العام لمفهوم الدولة، الذي عادة ما يقصد به الجسم السياسي للمجتمع، هناك مصطلح أكثر تحديداً يقتصر فيه المعنى على مؤسسات الحكم أو السلطة الحاكمة في الدولة‏[25]، أو يقصد به مجرد جهاز في أيدي النخب الحاكمة وهي نخب لا تتمتع بشرعية راسخة وبالتالي تحاول تعويض ذلك النقص في الشرعية من طريق استخدام ذلك الجهاز استخداماً تعسفياً استبدادياً تسلطياً‏[26]، وهذان المفهومان للدولة ينطبقان كثيراً على مفهوم هذه الأخيرة في التجربة العربية المعاصرة بوجه عام والحالة الموريتانية بوجه خاص.

ففي ما يتعلق بمفهوم الدولة في التجربة العربية فإنه لم يتضمن أي حديث عنها بوصفها الكيان السياسي العام الذي يشمل الأرض والسكان والسلطة السياسية جميعاً، وهو المفهوم التاريخي للدولة كما تجسدت عند أمم أخرى، مثل الصينيين والفرس والرومان، وإنما ظل استخدام مفهوم الدولة في الخبرة التاريخية العربية مرتبطاً بالإشارة إما إلى السلطة السياسية ذاتها وإما إلى عملية تداولها‏[27].

وفي هذا السياق لاحظ سعد الدين إبراهيم أن الفكر العربي الإسلامي قد اهتم أساساً بقضايا من قبيل «السلطة» و«السلطان» و«الحكم» و«الحكومة»، وليس بالدولة كمفهوم وكيان أكبر يحتوي على هذه كلها ولكنه لا يقتصر عليها‏[28].

وبالرجوع إلى الحالة الموريتانية سنجد أن مفهوم الدولة ظل أقرب إلى المدلول العربي الإسلامي لهذا المصطلح منه إلى المفهوم الغربي، وهو الأمر الذي لا يعدم أن يجد له عدداً من المبررات، من بينها أنه في ظل وجود نوع من الدولة الأبوية في موريتانيا على غرار باقي دول العالم الثالث فإن الفروق تكاد أن تنعدم بين الدولة والسلطة الحاكمة، ولا سيما أن المعطى السالف الذكر وهو معطى واقعي يعززه معطى آخر لا يقل واقعية وهو أن النخبة الحاكمة في موريتانيا فيما عدا استثناءات قليلة درجت على اعتبار نفسها هي الدولة، كما أن قطاعات واسعة من المجتمع الموريتاني ما زالت لا تستطيع النظر إلى الدولة بمعزل عن الأشخاص الحاكمين لها.

وربما يعود السبب في ذلك إلى كون دخول الاستعمار الفرنسي قد حال بين المجتمع الموريتاني وبين أن يطور مؤسساته السياسية الخاصة به، وحال كذلك دون أن تكون الدولة نابعة من إرثه التاريخي وتطوره الاجتماعي‏[29]، وبالتالي فقد أدى ذلك إلى إحداث قطيعة نسبية بين الدولة في الممارسة السياسية الموريتانية المعاصرة بمؤسساتها السياسية الموروثة في عمومها عن الاستعمار من جهة، وبين المجتمع الذي رأت فئات معتبرة منه أن تلك الدولة لا تعكس تاريخ البلد السياسي وتقاليده الاجتماعية‏[30]، وقد أدى ذلك إلى أن أصبحت قطاعات واسعة من المجتمع تطغى عليها نظرة خاصة إلى الدولة، تقضي بوصفها مجرد أداة بيد الاستعمار في مرحلة أولى والحكام في مرحلة ثانية وأن المجتمع غير معني بها أصـلاً.

ولم تنجح السلطة الحاكمة آنذاك في موريتانيا، وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها واستهدفت «أسطرة» تاريخ لهذه الدولة «الجديدة» في وضع حد لتلك القطيعة القائمة بين المجتمع والدولة‏[31]، أو في إحداث أي تغيير يذكر في رؤية عموم الموريتانيين إلى تلك الدولة، وهي الرؤية التي ظلت تقوم على اعتبار أن هذه الأخيرة مجرد نموذج استعماري مدان بوضوح.

وما أعطى لهذه الرؤية الكثير من المصداقية هو أن الدولة في موريتانيا تختلف عن نظيراتها في بلدان أخرى عالم ثالثية وعربية في كونها موروثة بالكامل عن الاستعمار، فهذا الأخير هو الذي وضع أسس وهياكل تلك الدولة وأنشأها من العدم، وهي بذلك تختلف عن بلدان أخرى استندت الدولة فيها إلى ميراث تاريخي للدولة المركزية وحاولت أن توائمه مع النموذج الغربي للدولة مثل المغرب على سبيل المثال، الذي قامت الدولة القطرية فيه على أساس محاولة التوفيق بين ضرورة الاستجابة لأحكام وضوابط النموذج الاستعماري المفروض من الخارج والتعاطي معها وبين النزوع إلى المحافظة على الإرث التقليدي المحدد وفقاً للضوابط الحضارية بما فيها الهوية العربية الإسلامية، مع محاولة مراعاة خصوصية الدولة المغربية التي تتميز بكثافة تاريخية وطبيعة نظام حكمها المرتبط بمفهوم الدولة المخزنية ذات الطابع التقليدي‏[32].

كما أن الاستعمار في موريتانيا هو من قام باستيراد الدولة القطرية إليها، وبالتالي فإن التجربة الموريتانية تختلف عن العديد من بلدان العالم الثالث الأخرى التي كانت النخب التي حكمت فيها في مرحلة ما بعد الاستعمار هي من استوردت تلك الدولة إليها، وذلك في محاولة منها لاستدعاء النموذج التحديثي الغربي من خلالها، وهو النموذج الذي حقق قدراً من النجاعة في الغرب، الأمر الذي شكل عاملاً مساعداً في تبنيه من قبل أغلب بلدان العالم ‏[33].

وقد كانت للطبيعة المستوردة للدولة في الوطن العربي عموماً وفي موريتانيا بوجه خاص واختلاف مفهومها عن مفهوم الدولة في التراث الغربي تداعيات على عدة مستويات، من بينها المستوى المتعلق بأساليب وآليات مقاربة هذه الأخيرة.

ثالثاً: مقاربة الدولة في موريتانيا وإشكالية عجز المناهج:
قراءة في الأسباب والمظاهر

على الرغم من مرور ما يربو على قرن من الزمن على تبلور العلوم السياسية كعلم مستقل في الغرب، ومرور ما يناهز السبعين عاماً على بداية الاهتمام بتلك العلوم في الوطن العربي، فإن حالة هذه الأخيرة في البلدان العربية لا تزال بعيدة من المستوى المأمول، فمن حيث الشكل فإن عدد الباحثين المشتغلين بالعلوم السياسية‏[34]، وعدد المؤسسات المتخصصة فيها من جامعات ومراكز بحث لا يزال قليـلاً مقارنة بباقي مناطق العالم، ومن حيث المضمون فإن اهتمامات تلك العلوم لا تزال تابعة على نحو كبير لاهتمامات نظيرتها في الغرب.

ويظهر ذلك المعطى بوضوح انطلاقاً من تتبع اهتمامات تلك العلوم ومضامينها عربياً، إذ إن البلدان المغاربية لا تزال اهتمامات العلوم السياسية فيها تنحصر في الاهتمامات الكلاسيكية للعلوم السياسية في فرنسا، المتمثلة أساساً بالقانون الدولي والقانون الدستوري والقانون الإداري والتنظيم الدولي والمنظمات الدولية. أما العلوم السياسية في بلدان المشرق العربي فهي بدورها تعيش تبعية للعلوم السياسية في البلدان الأنغلوسكسونية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإن اهتمامها هي الأخرى محصور في موضوعات العلوم السياسية الكلاسيكية في الولايات المتحدة والمتركزة حول بعدين أساسيين، هما البعد الاجتماعي لعلم السياسية والمتمثل بعلم الاجتماع السياسي وعلم النفس السياسي والأنثروبولوجيا السياسية، وبعد آخر يتعلق بالعلاقات الدولية ويتركز حول جوانبها التنظيرية وبناء مناهجها التحليلية‏[35].

غير أنه على الرغم من الضعف الكبير الذي تعانيه تلك العلوم على مستوى المضمون والذي يبدو واضحاً من افتقار تلك العلوم في الوطن العربي إلى توجه خاص بها، وكونها ما زالت تابعة لمراكزها الأصلية في الغرب، على الرغم من ذلك، فإن الضعف والخلل الأكبر في تلك العلوم يظهر على مستوى المنهج، فموضوعات العلوم السياسية في الوطن العربي لا تزال تتم مقاربتها بصورة حصرية انطلاقاً من مناهج غربية، وهو الأمر الذي يبدو أنه سيستمر لسنوات مقبلة على أقل تقدير.

ونظراً إلى هيمنة المناهج الغربية واستفرادها بمقاربة الظواهر السياسية العربية وفي مقدمها الدولة، فقد أصبحت المقاربات التي تقدم إلى هذه الأخيرة تغلب عليها الإسقاطات والتعميمات الخاطئة. فالباحثون الذين تعاملوا مع تلك الظواهر بمختلف صنوفهم من غربيين وعرب أصبحوا يخرجون بخلاصات واستنتاجات متشابهة، وهي خلاصات في أغلبها متكررة ومجتزأة، ويعود السبب في ذلك إلى أنهم ظلوا يطلون على تلك الظواهر من شرفة مناهج العلوم السياسية الغربية.

وتعد ظاهرة الدولة في موريتانيا نموذجاً دالاً في هذا الإطار على عجز تلك المناهج، وهو العجز الذي يمكن أن نرصد مظاهره وأسبابه على عدة مستويات وذلك على النحو التالي:

1 – بنية الدولة

تبدو بنية الدولة في موريتانيا غير قابلة للفهم انطلاقاً من مناهج العلوم السياسية الغربية. فإذا أخذنا على سبيل المثال المقترب المؤسسي وهو المقترب الذي أظهر درجة عالية من الكفاءة عند دراسته للدولة في الغرب وحاولنا من خلاله أن نقارب الدولة في موريتانيا، فسنجد أن هذا المقترب يركز في دراسته للدولة على ما يعتبره حقائقها السياسية، وهي الحقائق التي تتمثل بحسب أنصار هذا المقترب بالمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وينصب تركيز هذا المقترب إلى جانب ذلك على القوى والإدارة والوظائف الخاصة بالرئيس ونظم الانتخابات والأحزاب السياسية والبيروقراطيات‏[36].

ويعنى هذا المقترب بدراسة كل ما يخص تلك المؤسسات، سواء في ما يتعلق بكيفية تكوينها، والهدف من وجودها، ومراحل تطورها، والوسائل التي من خلالها تستطيع الحفاظ على بقائها، والطريقة التي بها يتم تعيين أو اختيار أفرادها، وبنائها الداخلي وهيكلها الخارجي، وعلاقتها بالمؤسسات الأخرى وبالمجتمع ككل، والمدى الزمني الذي تستطيع فيه أن تمارس عملها، واختصاصاتها الوظيفية وأهميتها‏[37].

غير أن دراسة تلك المؤسسات بالنحو الوافي الذي يقترحه رواد المقترب المؤسسي في موريتانيا ربما لا توصل الباحث إلى أي شيء ذي بال في ما يتعلق بالدولة في موريتانيا لا من حيث بنيتها ولا من حيث جوهرها ومراكز القوى فيها، وطبيعة نظامها السياسي، فموريتانيا دولة غير مكتملة النمو، كما أن بناءها المؤسسي غير مكتمل بعد، وحتى المؤسسات الموجودة فإنها لا تعدو أن تكون مؤسسات شكلية وبالتالي فإن تأثيرها يظل محدوداً جداً مقارنة بمراكز القوى الحقيقية.

وبهذا الخصوص فإن الخبرة التاريخية حول موريتانيا تفيد أن هذه الأخيرة قد عرفت بعد استقلالها قيام حكم مدني قوامه نظام سلطوي ممركز في إطار أحادية حزبية وسلطة رئاسية مشخصنة‏[38]، وقد خرجت موريتانيا من هذا النظام بعد ثماني عشرة سنة، ليقوم على أنقاضه نظام عسكري أحادي، استمر يمارس الحكم بصورة مباشرة في غياب كامل لأي نوع من المؤسسات حتى عام 1991، لينخرط بعد ذلك في ديمقراطية شكلية، حكم من خلالها منذ عام 1992 ولا يزال يحكم حتى الآن.

وبالتالي، وبسبب الطبيعة الشخصانية للنظام الحاكم في موريتانيا، التي تجعل من شخص واحد أو مجموعة أشخاص محتكرين للسلطة ويتحكمون في مقاليد الأمور على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، فإن المقترب المؤسسي مثله لا يبدو قادراً على فهم الدولة في موريتانيا ولا مقاربتها مقاربة سليمة.

2 – الظاهرة الحزبية

في ما يتعلق بالظاهرة الحزبية، يلاحظ أن مناهج العلوم السياسية الغربية ظلت على مدى سنوات طويلة تختزل واقع التعدد والتنوع الذي ميز الممارسة السياسية في البلدان الأفريقية، ومن ضمنها موريتانيا التي عرفت خمسة عشر عاماً من التعددية الحزبية، أربعة عشر عاماً منها قبل استقلالها وعام بعد الاستقلال، وفقاً لقوالب جاهزة وأنماط عامة محددة من قبيل النظم التسلطية والنظم الأبوية ونظام الحكم الشخصي، ويلاحظ أن مختلف الدراسات التي تعرضت للظاهرة الغربية قد انطلقت في أغلبيتها الساحقة من رؤية فكرية تمتح من مرجعية واحدة وهي الديمقراطية بمفهومها الليبيرالي الغربي، ومن ثم فإنها خرجت بخلاصات جاهزة سلفاً مفادها أن نظم الحزب الواحد والأوليغارشيات العسكرية هي نظم تسلطية غير ديمقراطية‏[39].

لكن مقاربة تلك الممارسة السياسية يجب ألّا تفصل عن الظروف التي تمت فيها، فتبني نظام الحكم المدني في موريتانيا للأحادية الحزبية والنظام الرئاسي يجب ألا يُقرأ بمعزل عن الظرفية السياسية والتاريخية التي تم فيها اتخاذ تلك القرارات، وهي ظرفية لا يمكن الجزم تماماً بأنها كانت مؤاتية لممارسة التعددية الحزبية.

فموريتانيا التي كانت قد نالت استقلالها للتوّ كانت آنذاك محـلاً لمطالبة ترابية من المغرب وضغوط قسرية من فرنسا تستهدف إدماجها ضمن منظمة الدول الصحراوية، علاوة على كونها كانت عرضة لضغوط مستمرة من فدرالية مالي للانضمام إليها وهي الفدرالية التي كانت تضم آنذاك كـلاً من جارتيها مالي والسنغال، كما أن الأحزاب التي كانت قائمة آنذاك كانت ولاءاتها موزعة بين تلك الأطراف الخارجية‏[40].

3 – السياسة الخارجية

تبدو السياسة الخارجية مجالاً آخر لاختبار قدرة مناهج العلوم السياسية على مقاربة الدولة في موريتانيا، وإذا أخذنا على سبيل المثال منهج الواقعية الهجومية كأحد المقتربات التي حظيت بقدر كبير من النجاح في تفسير العلاقات الدولية بصورة عامة والسياسات الخارجية للدول الغربية بخاصة، سنجد أن هذا المنهج يقوم على مجموعة من الفرضيات التي يعدّها بمثابة حقائق ثابتة في الساحة السياسية الدولية.

وهذه الفرضيات هي:

أ – أن النظام الدولي هو نظام فوضوي بسبب عدم وجود سلطة مركزية أعلى من الدول تجبرها على احترام القانون الدولي وتسهر على حماية الدول كبيرها وصغيرها.

ب – أن كل دولة من الدول تمتلك بطبيعة الحال قدراً من القوة العسكرية الهجومية تمكّنها من إلحاق الأذى وحتى الدمار بعضها ببعض.

ج – أن كل دولة من الدول لا يمكنها أن تتيقن من نيات الدول الأخرى أو أن تتأكد من أنها لن تستخدم قوتها العسكرية في مهاجمتها.

د – أن البقاء هو الهدف النهائي للدولة وأن مختلف الدول تسعى للحفاظ على سلامة أراضيها واستقلال نظامها السياسي الداخلي.

هـ – أن الدولة هي فاعل عقلاني يدرك بيئته الخارجية ويخطط استراتيجياً للبقاء فيها‏[41].

غير أنه على الرغم من وجاهة الحجج التي يسوقها ذلك المنهج، وكونه يعد في الوقت الحاضر واحداً من أنجح المقتربات في العلاقات الدولية وأكثرها قدرة على التنبؤ بسلوكيات السياسات الخارجية للدول الكبرى بعامة والغربية منها بخاصة، فإنه لا يمكن الجزم بأنه قادر على تحقيق النجاح نفسه عند مقاربته للسياسة الخارجية لدول العالم الثالث بوجه عام والبلدان العربية منها بوجه خاص وموريتانيا منها بصورة أكثر خصوصية، ويعود السبب في ذلك إلى كون بعض الفرضيات التي بني عليها هذا المقترب، على الرغم من أنها ترقى إلى درجة المسلمة لا يشوبها أي شك عند تطبيقها على الدول الغربية، فهي عندما يتعلق الأمر بالبلدان العربية تكون محل نظر.

ومن بين تلك الفرضيات التي تقضي بأن كل دولة من الدول إنما تهدف إلى البقاء، فهذه الفرضية تصدق أكثر على الدول الغربية حيث الديمقراطية وحكم المؤسسات، أما في الدول العربية حيث الأنظمة الشخصانية فإن هذا الهدف كثيراً ما يتم تحويره ليحل محله هدف آخر يشكل أولوية الأولويات وهو بقاء النظام، ولعل تجربة الثورات العربية هي حالة دالة في هذا المجال حيث تعرضت بلدان عربية لأخطار محدقة من قبيل التقسيم والحرب الأهلية بسبب عناد أنظمتها الحاكمة وإصرارها على البقاء في الحكم مهما كلف الأمر، وهذا المعطى يصدق بالدرجة نفسها على مختلف الدول العربية بما فيها موريتانيا.

4 – الممارسة الانتخابية

تظهر الممارسة الانتخابية في الوطن العربي عموماً، وفي موريتانيا خصوصاً، مظهراً آخر من مظاهر عجز مناهج العلوم السياسية عن مقاربة الدولة في الوطن العربي بعامة وفي موريتانيا بخاصة. ذلك أنه على الرغم من أن الانتخابات التي تجرى في موريتانيا أو في بلدان عربية أخرى، لا تختلف كثيراً من الناحية الشكلية عن تلك التي تجرى في فرنسا أو في بلدان أوروبية أخرى، فإنها من الناحية الواقعية تعطي نتائج مختلفة، وحتى لو أخضعناها للشروط والمعايير نفسها التي تخضع لها هذه الأخيرة. لذلك فإن المناهج التي تبدو قادرة على تحليل ظاهرة الانتخابات في الغرب تبدو قاصرة عن مقاربة وفهم الظاهرة الانتخابية في موريتانيا. لذلك فإن الباحث الغربي المسلح بأرقى ما توصلت إليه مناهج العلوم السياسية في الغرب كثيراً ما يبدو غير قادر على فهم الممارسة الانتخابية في موريتانيا ولا قادر على التعاطي معها.

خاتمة

خلاصة القول هي أن مناهج مقاربة الدولة بأبعادها المختلفة، سواء أتعلق الأمر بالمناهج السائدة حالياً في العلوم السياسية أو في علم الاجتماع السياسي، أو حتى في علم الاجتماع بصورة عامة، هي مناهج غربية ولدت في الغرب وتم إسقاطها على نموذج الدولة الكولونيالية في الجنوب، في أفريقيا والبلدان العربية وغيرها من بلدان العالم الثالث.

وعلى الرغم من أن هناك وفرة كبيرة في المناهج التي تحاول مقاربة الدولة، وأن هذه المناهج هي متنوعة إلى حد كبير، وأنها اشتغلت على الدولة من مختلف زواياها، ما بين مناهج تركز على النسق والنظام وأخرى تعنى بوظيفة الدولة وبنيتها، بينما سعت مناهج أخرى إلى مقاربة الدولة من خلال زاوية صانع القرار أو من خلال زاوية السلوك أو المؤسسات إلى غيرها من زوايا، وأنها حققت قدراً لا بأس به من النجاح في مقاربة الدولة في الغرب، فإن تلك المناهج لم تحقق أي نجاح يذكر في مقاربة الدولة في الوطن العربي.

وقد حاولت هذه الدراسة أن تبين كيف أن هذه المناهج على الرغم من وفرتها وتنوعها بقيت عاجزة عن مقاربة الدولة في العالم الثالث هشة مثل موريتانيا، وهو عجز عائد فيما نرى إلى جملة من الاعتبارات من أهمها:

– أن هذه المناهج عندما ولدت كان الهدف منها مقاربة الدولة في الغرب وبالتالي فقد صيغت وأُعدت على نحو كامل من أجل هذه المهمة، غير أن استخدامها في مقاربة الدولة في الوطن العربي علاوة عن كونه يتجاوز طاقتها وإمكانياتها فإنه خارج عن صلاحياتها ووظيفتها الأصلية.

– عندما نشأت أغلب تلك المناهج فإن الدول التي كانت موجودة في ذلك الوقت كانت بلداناً محدودة في أوروبا وأمريكا ولم تكن فكرة الدولة القطرية قد بلغت مداها النهائي واكتسحت قارات العالم من أقصاه إلى أقصاه. وبالتالي فإنه كان يفترض أن يترافق نشوء ذلك العدد الكبير من الدول مع جهد يبذله العلماء والأكاديميون المختصون من أجل تطوير المناهج القديمة بحيث تكون قادرة على فهم خصوصية الدول الجديدة.

– أن مناهج تحليل الدولة وعمل الدولة ليس من الناحية المؤسسية وإنما من ناحية السياسة ذاتها، غير قادرة على تفسير الظواهر السياسية في الوطن العربي، سواء كانت تلك الظواهر عامة وشاملة ومركزية مثل الدولة والنظام السياسي أو كانت ظواهر فرعية مثل الانتخابات أو الأحزاب أو البرلمان، وبالتالي توجد حاجة ماسة إلى استنبات وخلق مناهج جديدة تكون أكثر قدرة على مقاربة الدولة في الوطن العربي بظواهرها السياسية المختلفة.

– أن تلك المناهج البديلة من أجل أن تكون أقدر على التعامل مع الدولة في الوطن العربي والنفاذ إلى جوهرها، عليها أن تأخذ في الحسبان الخصوصية الحضارية والثقافية لمجتمعاتنا العربية، وتأتي كنتاج لسياقاتها الاقتصادية السياسية والاجتماعية، بمعنى أنها يجب أن تنبع من الداخل لا أن تستورد من الخارج.

– أن استنبات أو خلق مناهج جديدة لن يتأتى ما لم تتضافر جهود كل المعنيين من أساتذة علوم سياسية في الجامعات العربية، وباحثين عرب من مختلف التخصصات الاجتماعية، ومسؤولين وصانعي قرار، إذ لا معنى لوضع مناهج للعلوم السياسية بمعزل عن ما عرفته تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية من تطورات في الأعوام الأخيرة، على أن تأسيس مناهج جديدة للعلوم السياسية يُفترض أن يكون في مستوى التحديات التي تشهدها العلوم السياسية على المستوى العالمي هو مشروع طموح يحتاج إلى اتحاد جهود كل النخب الأكاديمية العربية.

– أن واحداً من أهم العوامل التي جعلت مناهج العلوم السياسية غير قادرة على مقاربة الدولة في موريتانيا هو أن هذه الأخيرة يغلب عليها الطابع الشخصاني وتفتقد المؤسسية، وبالتالي فإنها تختلف عن الدولة في الغرب، التي يغلب عليها الطابع المؤسسي والنظامي.

– إن مفهوم الدولة الأمة بمدلوله المعاصر هو مفهوم نشأ في الغرب بداية، ومن ثم تم استنساخه لاحقاً من جانب عموم دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية والإسلامية، وبالتالي فهو يختلف عن مفهوم الأمة الدولة الذي عرفته المجتمعات العربية والإسلامية على مدى قرون طويلة من تاريخها، الأمر الذي يعني أنه ليست له أي جذور في التاريخ العربي الإسلامي ولا في المدركات الجماعية للأمة العربية.

– أن مناهج العلوم السياسية الغربية السائدة حالياً قد انطلقت في معظمها من النموذج المعرفي الغربي الذي سيطر على العلوم السياسية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ هيمن منظور التنمية والتحديث على دراسة المناطق غير الغربية من خلال الترويج لمفهوم النظرية الكبرى والقول بإمكان تحليل كل الأقاليم والمناطق من خلال استخدام منظور عام ومقارن‏[42].

– أن هناك وعياً لدى علماء السياسة العرب بعجز المناهج السائدة حالياً في العلوم السياسية، التي هي في عمومها مناهج غربية، عن مقاربة الدولة في الوطن العربي، لكن ذلك الوعي لم يصاحبه عمل مستمر ومنظم من أجل تطوير مناهج بديلة، وفيما عدا جهود فردية معزولة يقوم بها علماء هنا وهناك فلا يمكن القول إن هناك أي خطوات جدية قد قطعت في اتجاه تطوير تلك المناهج البديلة التي أصبحت هناك حاجة ماسة إليها أكثر من أي وقت مضى، بسبب ما عرفته المنطقة العربية من حراك في السنوات الأخيرة، وهو حراك يحتاج تأطيره علمياً واستخلاص الدروس والعبر منه إلى مناهج بديلة تكون أصيلة ونابعة من داخل المجتمعات العربية وليست مستوردة من مجتمعات أخرى.

كتب ذات صلة:

أفكار في الدولة اللبنانية: وقائع في الفشل وتطلعات إلى البناء

الدين والدولة والديمقراطية من زاوية أركونية

المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية (من منظور مختلف)