مقدمة:

بلغت فرقة كركلاّ في المسرح العربي الموسيقى الراقص مكانة عالمية، بعد أن عرضت أكثر من عشرة أعمال في الصين والولايات المتحدة، مروراً بمعظم العواصم الأوروبية والآسيوية. وتميزت هذه العروض بأنها جمعت التراث العربي وعمقه وتجلياته الكلاسيكية، وذلك في صياغة استفادت بعمق من الأساليب الغربية، خصوصاً من مدارس الباليه الأوروبية الكلاسيكية والحديثة والشعبية.

ورغم التواصل والتعمق في تقنية الجسد الغربي وخصوصيات الجسد الشرقي، فإن عبد الحليم كركلاّ حمل زاده الشرقي العربي في كل تفصيل وتشكيل ورؤية مشهدية، مغلفاً إياها أحياناً أو طابعاً خصوصيتها بالأسلوب الغربي أحياناً أخرى، كأنه كان وفياً لما اكتشفه في ذاته العربية على قاعدتي العفوية والمعرفة، وكأن هدفه أن يصبح مالكاً لمعظم أسرار الجسد الغربي ومعظم ثنايا الجسد الشرقي وأسراره. وهو قام بالمزج العضوي للدائرتين في جسد واحد. من هذه النقطة بالذات ولد أسلوب كركلاّ العالمي، لكن كان همه دائماً أن يقال عن فنه إنه عربي. وحتى لا يقع في التقنية الجافة، كان يوازن بين حركة الجسد الشرقي، التي كانت غائبة عن المسرح العالمي الموسيقي الراقص، وصياغاتها ذات الأسلوب العالمي الغربي؛ كان يريد خلق الدهشة الآتية من الجسد الشرقي والفولكلور العربي على متن التقنية المعاصرة.

ولكي لا يقع مسرح فرقة كركلاّ في العولمة والاستهلاكية، قبل عبد الحليم بمبدأ «الغرب يلقّح الشرق»، وكذلك بمبدأ أن يكون العكس هو الصحيح أيضاً، ولكل واحد إضافته الفنية والحضارية. فالمهم عنده البحث عن أسرار الحياة؛ حيث إن الإنسان طاقة وأداة للعمليات الكيميائية الفنية المتغيرة.

لقد حاول كركلاّ أن يصبّ في معالجاته المشهدية الراقصة تعابير جديدة ورؤى متجاوزة، خصوصاً في سياق عمله لولادة مسرح عربي موسيقي راقص طالما أن هذه المحاولة فشلت خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لأنه لم يأخذ فرصة فنية حقيقية ليعبّر عن نفسه ويصوغ مخياله الحركي الموسيقي المشهدي الخاص.

في هذه المقابلة مع الفنان عبد الحليم كركلاّ وقفات حول أعمال الفرقة، وأسلوبها وطرق تعاملها مع التراث العربي والأسلوب الغربي، ورؤيتها للفن العربي الراقص، وكيفية الإفادة من معطياته وعلاماته الدلالية والروحية… وهنا نص المقابلة:

من التقشف والضيق والصبر، وهياكل مدينة بعلبك وكنائسها القديمة ومساجدها، وصدى الأحداث التاريخية، خرجتَ قاصداً الجديد والمختلف، فكان الفولكلور بداية، ثم كانت الأعمال الكبيرة التي جمعت بين الشرق وإرثه وبين تقنيات الغرب وأساليبه. فهل أنجزتَ كل ما تريده، أم أن الأبواب لا تزال مفتوحة على أشياء وعناصر أصبح جدولها واسعاً وكبيراً؟ وإذا كان هذا السؤال يتمتع بكثير من الواقعية وبعض الشرعية، فلأن عدداً كبيراً من المهتمين بأعمالك يرى أن تجربتك كلها، أو بعضها الأعم، وصلت إلى حدود الإشباع. الفنان يختار أفضل ساحة. وقد اختار الرومان وغيرهم بعلبك كأرض للذكورة، أو أرض للذكر. مارك أنطوني أهداها إلى كليوباترا كجزء من البقاع ومجدّها في المعابد. والملك سليمان سكن تدمر وأعطى كل شيء لملكته سبأ مهراً لزواجها. لكننا، اليوم، لا نطلب هذا التمييز، فبعلبك أعطت الكثير من الفنانين الكبار. السؤال: ماذا تريد الآن بعد أن صارت أعمالك الكبيرة وراءك بالمعنى الزمني والتطوري؟

لا أعرف ماذا أريد تماماً. قل لي أي فنان يعرف ماذا يريد بالضبط. والمسافة، أية مسافة يريد أن يقطعها الفنان لا يعرف فيها إلى أي مرحلة سيصل. وعظمة أي فنان، هنا، أنه لا يعي ماذا يريد. فالفن ليس عملية واعية. الوعي في الفن يسقط في المعرفة الجاهزة ويسقط في الأكاديمية، لكن الروح في سعيها وتجلياتها تبقى قصية، ولا نعرف ماذا ستعطي بالضبط. كل الفنانين ينقلهم الإيحاء إلى أرض أخرى، والأرض الأخرى هي بعض أرض الروح الغائبة التي يفتش عنها الفنان. كل الفنانين يمتلكون الطاقة التي يفتشون من خلالها عن معادلات جمالية جديدة ومختلفة.

 

إذاً تجربتك الفنية وصلت إلى حدود ما يمكن أن نسمّيه الإشباع أو شبه الإشباع، وأنها مفتوحة على احتمالات تشكيلات وتعبيرات للروح.

انطلقت من التفتيش عن التراث وما قد يعطيه. وكما تعرف، التراث له حدوده، لأنه موجود في الناس وأشيائهم والبيئة، وليس لأحد حق في الزيادة أو الانتقاص، خصوصاً بكل أبعاده الموسيقية والأزياء والألوان والاجتماع البشري والمعتقدات والخرافات… هذا التراث هو أرض الخلق الأولى ومصدر العطاء. في كل عمل بداية، ولكل عمل بداية. يبتدئ من مضمونه وأبعاده لخلق شكل فني يتلاءم وهذا الموضوع. المضمون يبقى مع الزمن وإلى آخره. أما الشكل، فيتغير في كل زمن ومع كل جيل جديد وضوء جديد. هملت شكسبير هو الخيانة، والخيانة ستبقى إلى نهاية الدهر. هملت الماضي تشكُّل فني، وهو غير الشكل الفني لهملت الحاضر، فكيف لي أن أكون قد أشبعت أي شكل فني. تجربتي مفتوحة ولا أعرف النتائج. كل زمن يجب أن نخلق له شكله، ومعه إشباعه المرتبط بالإيقاع الزمني والروحي الذي نعيشه. لا وصول للأنا ولا إشباع.

 

في إطار ما ذكرت، الذي سكن معظمه في النظرية والتبرير الجمالي والفني. إلى أي حد حققت «فرسان القمر» و«زايد» «إشباعاً» ضمن الرؤية العالمية؟

لا بد من الأخذ في الاعتبار النقد العالمي لأي عمل، ومن أعلى المنصات الثقافية، خصوصاً «مركز كنيدي» في الولايات المتحدة. فلنعد إلى هذا، وإلى كتابات النيويورك تايمز و واشنطن بوست الأمريكيتين و الإندبندنت البريطانية، والصحف اليابانية والفرنسية، ربما تنجلي الصورة. معظم هذه الصحف والنقاد المعروفين في الغرب كتب مطوَّلات عن عروض الفرقة في العواصم الأوروبية وأمريكا قائلاً: فرقة كركلاّ في مسرحها الراقص ملوك «الميوزيكال» (Musical) . هذا ليس ادعاء، إنه حقيقة الأمر. والفرقة لن تصاب بالغرور.

 

بأية علاقة عضوية وعميقة تربط بين أعمالك الموسيقية المسرحية الراقصة والمسرح كبنية فنية متماسكة؟ هل أقمت عمارات فنية جمعت فيها عناصر متفارقة وحتى متضادة وولّفت بينها؟ وهناك من يقول إنك في أعمالك الأخيرة خصوصاً نجحت، وكنت حاضراً من الناحية الفنية، لكنك في الوقت نفسه وقعت في بعض التكرار.

كان طموحي أن أنتج المختلف وغير المألوف؛ فالطموح بلا معرفة لا قيمة له. صاحب الرسالة الفنية يجب أن يحمل مضموناً إنسانياً حتى في تشكيلاته وبنيته المسرحية الموسيقية الراقصة. الرسالة في المسرحية تربك وتخيف، لأنها تحمل النبض الإنساني وتكثِّفه في لحظة واحدة. وهذا الأمر قد يهيئ للانفجار الكلّي بالمعنيين الشكلي والمضموني. لقد فرحت بالمضمون وولادته. وفي معظم الأحيان من الأدب العالمي، أو في أي عنصر متخيل. لكن الفنان هو من يعطيه شكله ويبلوره عملاً متجاوزاً. فأي موهبة هي لخلق الدهشة وسبر الأعماق وتلوين العيون بالحركات والبنى الجديدة.

 

كيف تتعامل مع عمل الفرقة؟

أولاً أمنع الدخول إلى أية حركة من باب الإيقاع؛ فحينما نقبل بذلك نكون قبِلنا أن نتحرك بالإيقاع ونحوه. يقوم عمل الراقص في فرقة كركلاّ أو ينطلق جسده بتعابير إيحائية للتعبير الجسدي المراد وصوله إلى المجد، والمكتوب في السيناريو؛ فهذا الراقص يتحول إلى فنان وممثّل، يعرف كيف يوصل روح جسده.

 

وصلت إلى تنفيذ أعمال كبيرة. ما هي الحواجز القائمة اليوم أمامك والتي تطرح نفسها لتخطّيها والوصول إلى جديد مختلف؟

سؤال يدخل في دائرة ضرورة التخطّي. التقنية ثابتة في الأسلوب، أما الرؤى فهي التي ستتغير تبعاً لسياق تغيير النبض الزمني لأي فن في العالم، خاصة إزاء دخول المسرح عالم العولمة ودخول الإنسان إلى ساحة يشترك فيها البشر جميعاً.

 

بعد أن تعلّمت في الغرب: مدرسة «مارتا غراهام» في الرقص، والرقص التعبيري في ديجون في فرنسا (مدرسة Hahie Lemon ) وعدت إلى لبنان، ماذا كانت استنتاجاتك الفنية وماذا فعلت؟

وجدت في الغرب الباليه بكل أنواعه، وهو يتغير ويتنوع من كلاسيكي إلى مودرن « Moderne ».. إلى باليه شعبي.. بعد عودتي من الغرب اكتشفت أنني أمثّل الشرق بكل ما فيه من عفوية أو تعبيرية ضمن نطاق الفولكلور الشعبي اللبناني والعربي، في إطار طقوسنا الشعبية في الأعراس والأعياد والاحتفالات. فلكلٍّ ممّا ذكرت نكهته وهويته وحضوره وتعبيره الخاص في لغة الجسد العفوية.

أنا من الشرق، ونهلت من الغرب، فأصبحت أملك معظم دائرة الجسد الغربي، بكل زواياه الحركية، وأملك معظم الشرق بكل ثنايا الجسد العفوية والشعبية. وجديدي، هنا، كان أنني قمت بمزج عضوي للدائرتين في جسد واحد. ومن هذه النقطة بالذات ولد أسلوب كركلاّ. نعم، أنا أملك احتياطاً ضخماً من تراثي العربي كوني ابن بيئتي.

 

لنعُدْ إلى مشكلة التخطي والتجاوز!

كل ما سبق مات مع رؤاي وأعمالي السابقة. أنا بحاجة إلى تخطّي ما كنت فيه وعليه. للرؤى التي عملت عليها. وهنا أجد نفسي أبحث.

 

هناك من ينسب التكرار إلى بعض أعمالك.

أهمية أعمالي، خصوصاً الأخيرة منها، تنبع من أنني جعلت من الكوريوغرافي، وللمرة الأولى في تاريخ الشرق والغرب، ما هو أشبه بأوركسترا، تماماً كما يعمل المؤلف الموسيقي لأي عمل سيمفوني على أن تتناغم الألحان الموسيقية بعدة أوزان متنوعة، تتولى كل آلة دورها فيها. لا تكرار في أعمالي إلا إذا كان الأمر يتعلق ببعض المنمنمات والحركات المستخدمة التي توصل إلى تعابير فنية جديدة. الأصوات الموسيقية تخرج وتسبح في عالم واحد، في فضاء واحد هو فضاء الهارمونيا. «التيم» « Theme » موزّع على الآلات الموسيقية، وتالياً تتوزع الكوريوغرافي على الأجساد مثلها، وعندئذ يصبح كل راقص آلة موسيقية في الهارمونيا الجسدية والموسيقية.

 

هل تعتقد كفنان أنك فعلت ذلك في كل أعمالك؟

إلى حدٍّ شبه كامل. في الخيام السود كانت الحركات من بيئة بدوية وصحراوية، أزياء وموسيقى وحركة. في الأندلس المجد الضائع كنا نحكي عن تاريخنا في الأندلس. أما في أليسار ملكة قرطاج ، فكان الجسد طقوسياً يعبّر عن هذه المرحلة. عدنا إلى التاريخ لنعبّر من خلال الجسد نفسه، وفي ألف ليلة وليلة عدنا إلى روح الشرق وأشيائه وملامحه الجملية. ولقد كتبت الصحافة الغربية أن مسرح كركلاّ أهم من مسرح موريس بيجار. ومُنحت الفرقة ثلاث نجوم في لندن، في حين مُنح أكبر راقص في العالم بوريس ايغمان نجمة واحدة. باختصار، إننا نحاول التخطّي والتجاوز الدائم، والفرقة لا تعود إلى أي عمل قديم. إنني أفتش عن الموضوع الجديد والزمن الجديد، ولا أضع شيئاً على المسرح إلا إذا كانت له علاقة بتاريخ تراثي العربي وبيئتي العربية والإنسان العربي. فأنا جزء حيوي من هواء الشرق وروحه. أريد لعملي أن يقال عنه إنه عربي وإنه يتحدر من أصالة متينة.

 

كيف تصف تعاملك مع تاريخية الجسد الشرقي بكل تجلياته؛ وكيف أمكنك إلباس هذه التاريخية لباس المسرح وروح الأسلوب الغربي؟

نتعامل مع الجسد الشرقي لخلق تعابير أنثوية. هناك لغة الأنثى في الحركة الشرقية التي في صيغة حركتها الجسدية تعبِّر عن الموضوع المتمثّل في الإغراء والعاطفة والحب.. الحركة الشرقية هي الأساس في التعبير. أما حركة الرجل، فيجب أن تُستمد من الحركة الذكورية في التراث. يجب أن لا نستعمل على المسرح الحركة الشرقية، علينا الابتعاد عن «الإيروتيكية» « Erotisme » لأنها تصب في إغراء العين الأخرى، وحتى لا نقع في الشراك المادية للجسد.

 

هل الوصول إلى الملحمية الجسدية الموسيقية الراقصة يفترض ما يشبه السحر والغواية؟

حينما يدخل المؤلف الموسيقي إلى الملحمية الموسيقية يتخطّى المألوف، ويستعين بالضخامة الصوتية ضمن الطرب السمعي. وفي هذا الإطار، يمكن الدخول، أو ندخل، حالة من النشوة. أنا أشفق على الغرب لأنني متفوق عليه في هذه النقطة بالذات، ولأنني تخطّيت معظم رؤى الآخرين الآتية من الخيال، رغم أنني أتيت من الخيال أيضاً.

 

كتبت جريدة لوموند الفرنسية مدحاً مسهباً لأعمالك قائلة: «هؤلاء لا يريدون تقليد أحد. جميلون. وزادهم جمالاً أنهم لا يعون كمية الجمال التي يفرشونها أمامنا». وكتبت الإندبندنت أنهم «ملوك العالم في الرقص». عن أي جمالات تتحدث الصحافة الغربية تحديداً؟ هل هي الضغط في فحولة الرجال» و«أنوثة المرأة»، و«إعادة الشرق إلى شخصيته»؟ هل يعني هذا أن الغرب حينما شاهدكم أحس بنقص جمالات الباليه وفنونه الشعبية الراقصة؟

الذَّكَر مسيطر في الشرق. البيئة العربية ذكورة. العراق مكثفاً ذكر. سورية، الأردن.. الصحراء ذكر. المغرب ذكر. الجزائر ذكر. وهذا يعني أنني اشتغلت على حركة فنية تعتمد جسداً مفعماً بالذكورة. وهذا ما يجعل عملي ذا تعبير فحولي. العين الغربية تلاحظ التعبير الجسدي المفعم بالأنوثة عند النساء الشرقيات، ويتفجر في الوقت نفسه فحولة عند الرجال. العين الغربية لاحظت وتلاحظ هذا الفرق بين المسرح الراقص الآتي من الشرق العربي، والمسرح الغربي الآتي من الكلاسيكية الغربية. الغرب يحرِّر الأرواح والأجساد والتعابير. إنهم أقرب إلى الـ «يونيسكس» « unisex ». الجسد معهم يصبح موضوعاً تقنياً، في حين أن هذا الأمر صعب في الشرق، وغير مقبول.

 

فلنعد ونسأل: هل أحسّ الغرب بنقص جمالات الباليه وفنونه الشعبية الراقصة حينما شاهدكم؟

من المؤكد لا. لأنه توصل إلى أجمل. فالجسد الغربي وصل إلى مرحلة أصبح ينطق الشعر فيها. لقد وصل إلى القمة. أما نحن (فرقة كركلاّ)، فجئنا لنعطي الحركة الأولى للجسد التي كانت غائبة عن المسرح العالمي. لقد سبقتنا عواصم الحضارة في هذا المضمار 150 سنة. وكانت سيرة الفن الراقص الموسيقي في خلق نجومها وفرقها انطلاقاً من استخدام الجسد وسر روحها مع اللحن والنغمة الموسيقية الآتية من الموسيقى، فيخرج التعبير من الجسد كما يخرج الشعر من الكلمة، وكان هذا مع الممثّل الراقص فرِد أستير، الذي يُعتبر أول راقص ذَكَر ظهر على المسرح الاستعراضي. وعلينا أن لا ننسى أن الأميرة كاترين دي مديتش ساعدت على اعتبار الرقص من المظاهر الاجتماعية الراقية. وهذا الأخير كان مقتصراً على فئة الارستقراطية، ومن هنا قام الملك لويس الرابع عشر بتأدية دور «ملك الشمس» « Roi de Soleil ». وفي هذا السياق، توصلت لغة الباليه الكلاسيكية في الغرب حضارياً إلى أوجها على المستويات كلها. وحينما ظهرت فرقة كركلاّ بلغتها الراقصة الجديدة التي تجمع الشرق والغرب، كانت الدهشة، لأن الغرب شاهد وجهها الآخر، أي الدهشة الآتية من الجسد الشرقي بأسلوب فرقة كركلاّ، وعلى مستوى آخر لأنها آتية من الفولكلور العربي على متن التقنية المعاصرة للفن الحديث.

 

لماذا لم تنشأ فرقة مشابهة لفرقة كركلاّ في وطننا العربي؟

أنا ابن مدينة بعلبك وابن التراث، وقد درست في لندن. ولمّا وصل تكويني الأكاديمي إلى شبه الاكتمال، عدت إلى لبنان، وكان عليّ أن أغوص في التراث العربي وأن أبدأ بتطبيق ما تعلمته في الغرب. وهكذا صرت استعمل الباليه الشعبي والتحركات الشعبية العربية. وللحقيقة، لقد حذوت في ذلك حذو الراقص الروسي والعالمي موساييف، الذي جمع بين الكلاسيكية والفولكلور كلغة جديدة. وقد حظي هذا الأسلوب بموقع مهم في العالم لأنه حكى قصة متكاملة وقدّمها بلغة الجسد بدءاً من اليوم ، بكرا ، مبارح ، و الغرائب والعجائب ، و الخيام السود و طلقة النور .. فهذه الأعمال كانت الانطلاقة الأولى. بعد ذلك جاءت أصداء و ترويض الشرسة و حلم ليلة شرق كنقلة كبيرة في إطار تطوير الجملة والتشكيلة الراقصة اللتين صهرتا وجمعتا كل زوايا الرقص في جسد واحد. هكذا قفزت الفرقة قفزتها، وأصبحت تقدم عروضها على أكبر المسارح العالمية.

 

ذكرت في غير مكان أن عملية الاطلاع على بعض التراث العربي مدّت أعمالك ببعض غنى التشكيلات والضروب الإيقاعية والرزم اللحنية، من دون الوقوع في الاستعراضية والاستهلاكية المجانيتين. هل يمكن أن تشرح ذلك؟

الإيقاع يعبّر عن حالة روحية وتعبيرية؛ فإيقاع الحرب غير إيقاع الفرح. وإيقاع الخوف هو غير إيقاع الحب. وكل هذه الإيقاعات موجودة في الأغاني الشعبية والتراث العربي. والمدهش في تجربتي أنني حينما كنت أجد إيقاعاً تراثياً كنت أشعر بأني وجدت «لقية» في الأرض. تتعدد الإيقاعات بتعدد البيئات والمناطق. فإيقاعات موج البحر هي غير إيقاعات الحصادين والسهول، وإيقاعات ظهر الجمل والسهول والجبال. فلننظر إلى غناء الإنسان وهو على ظهر الحصان، فغناؤه هنا يجب أن يتوافق مع هدب الحصان وسباقه مع المسافات والزمن.

وكنت في كلّ المراحل أبحث عن التراث العربي وقصصه ومعالمه، إن في الحكايات، أو في الآلات الموسيقية، لإغناء مركز الأبحاث في الفرقة، ولكي أعرف منه بعض هويتنا والأشكال الفنية.

 

أي فرق بين الثقافة والموروث الشعبي؟

الموروث الشعبي هو هوية الشعوب التي تعبّر عن الحياة اليومية وعاداتها عند كل شعب، وفي كل زمان، وتتوارث بصورة تقليدية من جيل إلى جيل. أما الثقافة، فهي الأخذ من هذا الموروث وصياغته الفنية المعاصرة كحركة فنية تواكب العصر كما تواكب المستوى الفني لأي شعب كدليل على مستواها المتقدم في الموسيقى والمسرح الراقص والأزياء… وهنا يأتي دور العلم والموهبة في عملية إبداع الجديد.

 

هل كانت تجربة فرقة كركلاّ بحاجة إلى تقنيات الغرب لتأصيل الهوية وتأكيد الجذور؟

ليست مسألة شرق وغرب فقط. إنها مسألة فكرية في عالم الإبداع؛ فحينما رقص نجنسكي عام 1928 Spectre de la rose ، كان الرقص على المستوى الإبداعي في بداياته، وهو لم يكن قادراً على وضع كوريوغرافيا أفضل ممّا كان موجوداً، فكان لا بد من تصوّر جديد، ثم حدث التبّدل ودخلنا في عصر العولمة التي أتاحت التلاقح الحضاري بين الشعوب والفنون. الغرب يلقّح الشرق والعكس صحيح، لكن لكل واحد إضافته.

 

كُثُرٌ لاحظوا أنك ركزّت كثيراً على الأخذ من شكسبير وإبراز مواضيعه بأسلوب وتقنيات فرقتك، فماذا يعطي شكسبير ولا يعطيه غيره؟

لقد كتب شكسبير للمسرح بشكل خاص، فكانت شخصياته موازية لشخصيات الحياة الاجتماعية لدى كل الشعوب. كتب عن الشك والحب القاتل والخيانة والموت.. باختصار شديد، كتب شكسبير للمسرح. وهذه نقطة تفوّقه وقوّته.

 

وماذا أخذت منه:

روميو وجوليت (العائلات المتقاتلة…)

حلم ليلة شرق (خرافات وجن..)

إمارة من هالزمان (جعجعة من دون طحين).

ترويض الشرسة (أبدية سيطرة الرجل على المرأة)

 

بعض المتابعين والمهتمين بأعمالك يقول إن المتعة البصرية موجودة في كل ما أنجزتَه، لكن النص الموسيقي المرافق والأصوات المؤدية لم تكن على مستوى الموضوع، لا من حيث مستوى الجذب الموازي للرقص، ولا من حيث المادة الموسيقية!

في المراحل الأولى كلامك صحيح، لأنني تعاونت مع أكثر من أربعة موسيقيين في العمل الواحد. في المرحلة الثانية صار هناك تكامل بين كتابة الموسيقى والنص المسرحي الراقص، خصوصاً حينما تعاونت مع الملحن الإيراني علي غولي، الذي يتقن خلق الجملة الموسيقية من أي مصدر كانت. فلون «هويدالك» الشعبي اللبناني ـ بقي هو هو إلى أن جاء علي غولي فأصبح قطعة موسيقية قابلة للاستمرار والعيش في الزمن الآتي.

 

ماذا عن مارسيل خليفة وزكي ناصيف؟

إنهما بيضتا القبّان في معظم أعمالي، لأنهما رافقاني من عام 1978 حتى عام 1997. مارسيل خليفة كانت له من عام 1978 حصة الأسد. وأقول هنا إن 75 بالمئة من موسيقى أعمالي كانت من حصة مارسيل. زكي ناصيف ومارسيل في ( الأندلس المجد الضائع )، وهناك منصور الرحباني الذي كتب مقدمة ترويض الشرسة، والمشاهد الشعبية في حلم ليلة في عز الصيف . وهناك منير بشير ووليد غلمية، الأول عمل في ترويض الشرسة، والثاني اشترك في أليسار ملكة قرطاج و الأندلس المجد الضائع.

 

هناك عدة أنواع من الجسد: الجسد العبادي، المكبوت الجسدي، الخلاص الجسدي، الجسد الدرامي، الشعائري… الجسد الآيروسي، الجسد الرغائبي. في أي أعمالك نجد هذه الأنواع من الأجساد، وهل كانت بحاجة مضمونية وفنية لاستخدامها أو لاستخدام بعضها، وإلى أية نتائج وصلت؟ أو إلى أية مألفة synthese وصلت؟

الرقص يدخل في الأنثروبولوجيا. وكل مجتمع لديه مجموعة من الأفكار والتعابير والشعارات التي ساعدت في تطويرها عوامل الجغرافيا والبيئة. من هنا يُستعمل الجسد للتعبير كما يُستعمل القلم للكتابة والتعبير. وكان الفراعنة يميلون إلى « Erotisme ». وقد لفت الأديب الفرنسي فورنييه إلى أن الفراعنة هم الأوائل الذين استخدموا الجسد للتعابير الطقوسية والغرائزية Erotique) ). والرقص الشرقي هم الذين أوجدوه في العالم، أي رقصة الدبّور Danse de la Geppe ، إذ ترتدي النساء ثوباً شفافاً ويغلقن كل ما له علاقة بالمنافذ إلى جسد المرأة، ثم يدخل الدبّور إلى الكيس الذي يلف جسدها، وتحاول المرأة الهروب من حركة الدبّور واحتمالات عقصاته، وتنشأ تالياً حركة راقصة وتعبيرية تكشف المتحرك والثابت في جسد هذه المرأة. ولا يزال هذا النوع من الرقص يُستعمل كجسد رغائبي. وقد أخذ كركلاّ الرقص الشرقي الجميل في التعبير الأنثوي للمرأة ليكون من أرقى التحركات التعبيرية التي تحرك المشاعر، لأنه من تراثنا العفوي. ولا بد أن نعلم مسبقاً في كل عمل جديد المضمون العام للقصة التي نرويها بلغة الجسد إن كانت آتية من أحداث التاريخ العربي، أو آتية من الأدب الشعبي أو العالمي، ثم نقوم بتقسيم العمل لوحات، ونزرع في هذه اللوحات الجسد الذي يتناسب معها. فإذا كنا نريد التكلم على عرس شعبي كـ الخيام السود ، أو حكاية كل زمان ، لا بد أن ندخل في التعبير الوجداني للتراث، ونرشف منه ما يناسب بمسرحة كاملة متكاملة لتصبح ثقافتنا وفننا من ثقافات هذا العصر في العالم.

 

كيف تجاوزت في أعمالك الأخيرة ثقافة الجسد الأبوي المتفوق على الطبيعة الأنثوية الضعيفة؟ أية ثقافة كنت أمامها وجهاً لوجه، ثقافة الجسد الأقوى أم ثقافة الطبيعة الأنثوية؟ كيف استفدت من الاثنين، أو كيف وجدت المألفة؟

هذا السؤال طُرح ويُطرح على جميع الكوريوغرافيين في العالم منذ بدء نشأة المسرح الراقص. وفي هذه العملية قد نشاهد الكوريوغرافي في جميع مسرحيات الباليه يستعملون الجسد بين الذكر والأنثى. فللذَكَر تحركاته التي تدهش الجمهور بقوتها، كالقفز والدوران والتعابير القوية، في حين نشاهد في الكوريوغرافيا التي تُخصّص للأنثى تعابير تدهش المتفرج والمشاهد بسرعتها ودقتها وشاعريتها.

كذلك هناك قوة احتضنت الجسدين في تعبير واحد، أو مألفة واحدة. وفي هذا ندخل في توحيد الجسد الإنساني وفي تعابيره كلها، خصوصاً جمالات الحركة الراقصة والالتقاء الروحي، وكمعانقة روحية للجسد الواحد مع الجسد الآخر. هذه اللحظة التي تتميز بقوة التجسيد والخلق تكون من أجمل اللحظات بالنسبة إلى المشاهدين والمتفرجين والمتذوقين « Ensemble » (المجاميع). ونحن في فرقة كركلاّ وأسلوبه نركز على تطبيق القاعدة بتركيز أوسع وأعمق وأكبر على الرجل والمرأة في آن واحد، خصوصاً إزاء إنسان عربي عفوي له خصوصياته وارتداداته الشعورية « Emotion ».

 

هناك من يظن أن وظيفة الجسد تقوم على البحث عن مساحات يحقق فيها أبعاداً خارج بنيته، والغرض من ذلك منح الجسد قدرة على الانسراب في فعاليات راقصة على العالم. والجسد، في هذه الحالة يحاول تفجير طاقته في مهام جمالية. في هذا الإطار، هل استطاع الرقص العربي في العقود الخمسين الأخيرة، وخصوصاً في مصر وسورية والبلدان العربية الأخرى، القيام بهذا الدور؟

التجربة، كما شاهدناها، أن معظم الفرق الراقصة العربية ظلت تدور في ما كان عليه الجسد العربي التقليدي، أي أن ما أراد الفنان أن يعطيه من خلال الجسد أُنجز وانتهى، في حين أننا حاولنا فتح الباب للجسد العربي في تجارب تعبيرية وتشكيلية وحركية جديدة. ليست حكمة الجسد في حقيقة وجوده، وإنما هي في البحث عن سر الحياة وصناعاتها. وصحيح أن الإنسان طاقة جسدية، غير أنه شحنة وجدانية، ورؤية متجاوزة، وأداة للعمليات الكيميائية المتغيرة التي تنضاف إلى عمليات كيميائية أخرى مفترضة الوجود والتحقيق. والجسد في نهاية المطاف تشكيل تضاريس. إقليم. والكوريوغرافي الجيد هو الذي يوظف رموز هذا الإقليم وما يراه في الخلق الفني الراقي.

 

قامت فرقة كركلاّ في سياق تطوير الصيغ والمضامين، وحتى التفاصيل، بمد خزانتها بعناصر من الرقص التراثي العربي التعبيري والرمزي ذي البعد الشعبي والفولكلوري، وفي هذا لجأت إلى التعرف إلى تراث القبائل العربية، لا سيما «الهَشع» و«الضرب الأومري» وفولكلور «الشمس» وقبائل «الروِّلا» و«عرب الحويطات» و«العنزة»… لكن هذه الخريطة ظلت محدودة، إذ لم تشمل تراث اليمن والمغرب ومصر ومعظم فلسطين. ألا تعتقد أن هذه النقطة كانت بحاجة إلى توسيع وتعميق وتغطية جغرافية وتراثية وإنسانية أكبر؟

الصحراء فيها سر وسحر وغموض. الداخل إليها ضائع سلفاً. لذلك كان هناك المرشدون الذين يعرفون كل معالمها. حتى النساء يعرفن معالم هذه الصحراء وأسرارها. وقد قمت مع بعض عناصر الفرقة بالتعرف والاطلاع على أوضاع «بني مرّة» في الربع الخالي وقطر، وبني تميم، وكذلك على عرب الحويطات بين الشام والأردن والسعودية، وقبيلة آل الرشيد في نجد، وقبائل «المعدان» في العراق، و«مالك» و«السعدون»، «العجمان» و«بنو خالد» في نجران والإحساء، و«الشرارات» و«الشمر» بين العراق والسعودية، و«العوازم» في الكويت و«عرب الرِّولا» و«العنزة» وعرب «وادي خالد» و«الفواعرة» (الفاعور). وقد استفدت الكثير الكثير ممّا عند هذه الجماعات القبلية على صعيد العادات والتقاليد، وحزمهم الصوتية وطرائق تعابيرهم وعاداتهم وطقوسهم، وما يحتضنون في دواخلهم وعلاقاتهم بالبيئة والطبيعة.

 

ماذا في خزانة الصحراء التراثية غير ما ذكرت؟

في داخل هذه الخزانة جوانب إنسانية وثقافية (الوجدان الشعبي). وحينما نكتشف هذا الجانب نبدو كأننا اكتشفنا عصراً وكنوزاً؛ كأننا اكتشفنا الجزء الغائب والمختبئ منا، خصوصاً بمعظم ما يتعلق بالعادات والتقاليد والموت والزواج وبعض العناصر (ضرب المندل مثلاً)، الرياضة والألعاب الفروسية، ثم بعض التراث الصوفي في ترجماته الإنسانية كالتسبيح على الأصابع، ثم التسبيح بالحصى وبالأشياء النباتية (حب الزيتون)، ثم الأزياء والألوان والآلات الموسيقية البدائية والغناء والأزجال البدوية وغيرها. فكلها عناصر استفدنا من بعضها، وقد نستفيد من أشياء هذه الخزانة العربية الفنية المختلفة في تعزيز الجديد، وفي بلورة القديم في أشكاله التعبيرية الجديدة. فالتركيز على الماضي هو بمعنى ما تركيز على جزء من الحاضر من حضارتنا. إنه بعض إبداع يجيء من الماضي. وفي هذه النقطة بالذات تلعب فرقة كركلاّ دورها حينما تتم الاستفادة من هذا الأرشيف الجميل والفريد.

رحلة كركلاّ في مسرحه الراقص الموسيقي عرفت تحولات وقفزات، وحملت اعتمالات متعددة، لكنها في هذا صاغت تجربة فريدة في عالم المسرح الموسيقي الحديث في الواجهة العالمية، وكأنها تفرش أمام كل العرب والعالم نموذجها ورؤاها، وبعض طريقها إلى ابتكار الجديد وتجسيده مسرحه المستقبلي وإنسانه الروائي والباحث أبداً عن أشكال ورؤى تضفي على حياته طبقات من الحرارات الجديدة ومعادلات للوجود متجاوزة، لما قبلها.