لا مبالغة في القول إنه لولا كتاب الناقدة والشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي: الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث لفقد الشعر الحديث سياقه، إذ كان الشعر آنذاك غضّاً طريّاً يشق درباً مغايراً غير مسبوق، ويحاول رصد احتمالاته المفتوحة على المجهول، وكان كتاب سلمى بمنزلة صلة الوصل الأوضح والأصح في الربط بين النهضة والحداثة الشعريتين، الأمر الذي ضمن لها مكانةً مرموقة من جهة، وفتح لها من جهة أخرى نافذة الشغف بالبحث والتأليف الموسوعي، فأصدرت ونشرت عشرات الموسوعات والكتب التي تُعرّف قارئ العربية والإنكليزية بالثقافة العربية بصورة فذّة. ولم يكن ذلك ليتمّ لولا إصرارها ودأبها، والأهمّ لولا وعيها بأهمية سياق أي أمر. فنظرة سلمى الجيوسي إلى الثقافة العربية، هي لبّ الأمر كلّه، إذ وضعتها في سياقٍ صحيح ينصفها، ويبرز أهمّ ما فيها، وذلك ضمن رؤية متكاملة، لم تفض إلى مجموعة من الكتبِ فحسب، كما يحدث عادة، بل إلى مشروع ثقافي نهضوي لا مثيل له.

1 ـ كما لو أنكِ وُلدتِ مع الحداثة الشعرية، فديوانك الأول «العودة من النبع الحالم» صدر عام 1960، وكانت الحداثة في بداياتها، تتبلور شيئاً فشيئاً وتدفع باقتراحات جديدة. أنتِ، إذاً، من جيل الرواد، ثمة صور لك تجمعك معهم: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، فؤاد رفقة، عصام أبو شقرا، يوسف الخال، محمّد الماغوط، أدونيس … إلخ. إلى أي حدّ كنتم منسجمين؟ وكيف كنتم تنظرون إلى أنفسكم؟ هل كنتم واعين بدوركم؟ وهل فكرتم بأنكم «الروّاد»؟

الجيوسي: علاقتي مختلفة مع كل واحد من هذه الأسماء. الأسماء التي ذكرتها لم تكن جميعها من جماعة شعر. فحتّى محمّد الماغوط، ذلك الشاعر العجيب، لم يكن منهم كلياً. إلا أن جماعة شعر كانوا منفتحين على الآخرين يرحّبون بمن يزورهم من الشعراء والنقاد، وكثيراً ما كانوا يحتفون بهم، ومن هؤلاء كان جورج صيدح وبدوي الجبل، اللذان اعترفا بمكانة شعره وجودته، رغم اتباعه الأسلوب الموروث، ودعياه ولبّى الدعوة إلى خميسهما في مسـاءٍ كان في غاية الانسجام والأنس، وأُخذت الصور للحاضرين، ومن بينهم فدوى طوقان ونازك الملائكة.

كانت أمسية خميس مجلة شعر مكرّسة للشعر، دائماً، ولا علاقة ظاهرةً للسياسـة بها، إذ إن الحديث كان يتركّز فيها على أمرين (إلى جانب الشعر): الحداثـة والحـرية، وهما شعاران كانا في غاية الجاذبية في تلك الفترة من تاريخنا الحديث. لقد كان الشعاران هدف كلّ قلب وشوق كلّ من آمن بالتجدّد والتغيير، وبهذين الموضوعين خلب حديث الجماعة كثيرين من محبّي الشعر، وعلى هذين الشعارين تركّزت أهمية مجلة شعـر ونجاح دعوتها في النهاية، وحتّى بعد توقفها عن المسير.

تسألين إن كان وضع الخميس منسجماً؟ نعم، كان منسجماً إلى حدّ كبير. ولكن لا بدّ من نشاز أحياناً. أذكر إحدى أمسيات الخميس، وكان يوسف مسافراً في باريس، وأقام الأمسية أدونيس. وكانت الشاعرة اللبنانية لور غريّب بين الحضور، وطرحت سؤالاً أثارني كثيراً. سألت تحت أي عنوان ستنشر شعرها، وهو مكتوب بالفرنسية: هل هو شعـر فرنسي أم لبناني؟ قلتُ لها: سيكون شعراً عربياً بالفرنسية، فثارت بعنفٍ وأصرّت أنه ليس عربياً، بل لبنانياً. وأنا أصررت على أنه ينتمي إلى الوطن العربي. وإزاء إصرارها العنيد، وسكوت الجميع، قلتُ إني لن أبقى لحظة واحدة، ونهضت لأذهب وأدونيس صامت. كنتُ قد اشتريتُ عدداً غير قليل من الكتب ذلك النهار، فحملتها ومشيت أنوء بها بضع خطوات، فقام شوقي أبو شقرا وفؤاد رفقة وحملا الكتب عني ورافقاني إلى بيت أختي. أفقتُ باكـرا ذلك الصباح وهاجسي يتركّز على ما كنتُ أسمع أدونيس يردّده عن دُمشُق، كما كان يلفظها ضاحكاً ومنتقداً علاقتي بعروبة دمشق، وكتبت قصيدة قصيرة منها:

«نحن نهوى رملها المحموم والريح العتية

وبلاياها، ونهوى يتمنا فيها

ونرضاها مماتْ

وإليها سوف نمضي

كلما ضعنا مع الغربة نمضي

كلّما ذلّ على أهدابنا كِبْرُ الحياةْ».

وقد لحّنتها ريم كيلاني، وغنّتها بذلك الصوت النـادر، وأودعتها ألبومها الأول.

الحادثة مع لور غريّب، كانت الأهمّ في خميس شعر التي خدشت شعوري، وحرّكت بقوة انتمائي العربي الذي رافق عمري كلّه. تحدّثتُ أكثر من مرة خارج الخميس مع أدونيس ويوسف الخال حول السياسـة، وكنّا نتجادل بقوّة أحياناً، ولا سيما حول إصرارهما على التهديم الشامل، وإصراري على البنـاء، وأن ثمة ما لا يُهدم. فأنا نشأتُ على احتـرامٍ كبيرٍ للتراث العربي، ولم أطق تلك الشهيّة العجيبة لتهديمه وإنكاره، على الرغم من اهتمامي المماثل لاهتمامهما بالتجديد والـوصول إلى المعاصرة، وكنتُ أريدها أن تكون معاصرة معافاة. لم نختلف على المعوقات التي تعترض الحياة العربية، ولكن الاختلاف كان يتركّز على كيفية الخلاص. لم نكن نعرف أن البلاء العربي أعمق وأقوى من كلّ هدمٍ وبناءٍ، وها هو تكشّف الآن، أعان الله أولادنا وأحفادنا.

وأذكر أيضاً أمراً آخر، حزّ في نفسي، ولم يبارح ذاكرتي قط. لقد كان ذلك في حفلة تكريم جورج صيدح، ودخلتُ ألبس ثوباً من الأغباني الذي كنتُ قد تعبت كثيراً في الحصول على قطعة قماشه الخاصة من دمشق، إذ كان تطريز الأغباني فيه على قماشٍ شفّافٍ. وأخاطته لي سيدة بارعة في رأس بيروت، مُبطّناً، وفي زيٍّ حديث كلياً. ولما رآني أدونيس ألبسه في أمسية جورج صيدح، أمسك بطرف الثوب وقال: «سلمى، ما هذا؟»، وكان صوته ساخراً. لقد كان الأغباني زي اللحظة، وهو إعادة تكريم لجماليات التراث الذي كان قد أصبح في مجمله مرفوضاً كلّ الرفض عند دعاة التجديد أولئك. ولستُ أذكر الآن إجابتي لأدونيس، ولكن الحادث نبّهني إلى الموقف الجارف نحو التراث ورفضه، من دون تمييز، وكما ترين، لم أنسه قطّ.

2 ـ يخيّل إليّ أن النساء كنّ قليلات في هذه «الشلة». ونحن نعرف اليوم ما يكفي من الحياة الشخصية والنتاج الإبداعي لـ «ذكور الشلّة»، كي نتصوّر أن نظرتهم إلى المرأة لم تكن حداثية، فبدر شاكر السيّاب كان متأهّباً وجاهزاً للحبّ على الدوام، وفي حياته الشخصية كان زواجه تقليدياً مثلاً. ولم يكن الماغوط «لطيفاً» مثلاً مع زوجته الشاعرة سنيّة الصالح. ولطالما لفت نظري كلام الراحل هشام الشرابي عن ضرورة تحرير المرأة، قولاً وفعلاً. أنت تعرفينهم عن كثب. أخبريني كيف كانوا ينظرون إلى المرأة في الحالتين: المثقفة وغير المثقفة.

الجيوسي: نعم، النساء كنّ قليلات، وهنّ العدد الأقل بين الشعراء نسبةً الى الذكور. وقلّتهنّ تتناسب مع تاريخ بروزهنّ في المسرح الثقافي. الجميل في وضع أعضاء شعر هو أن العلاقات كانت شعرية وغير خصوصية إطلاقاً. مساء خميس شعر كان مكرّساً للشعر والأدب، وعلى مستوى خلقي حضاري كبير، وبالنسبة إليّ كان هذا مطلوباً ومفرحاً. ولا أذكـر أن حديثاً ما جرى يوماً حول المرأة بالذات ومكانها في المجتمع وضرورة تحريرها. هذا كان يناسبني كثيراً، فقد كنتُ أشعر بأني شخص كامل في المجتمع، ولا يتركز تفـكيري على البحث عن الحرية ونوالها، فقد كنتُ أشعر بالحرية التـامّة. ولم أصطدم على هذا الأمر مع زوجي إطلاقاً. والحق هو أن المـرأة العربية كانت تشقّ طريقها بقوّة نحو الحياة الحديثة في منتصف القرن الماضي، أمّا ما حدث مؤخراً من تحجّب وعزلٍ، فقد كان أمراً مفاجئاً لي، وقد غيّر تركيبة المجتمع العربي وحوّلها، وكانت ـ في منتصف القرن العشرين ـ تسير نحو الحداثـة الأكيدة. إنني ما زلتُ أذكر كيف كانت المرأة تلبس «الملاية» عندما فتحتُ عينيّ على الحياة، ثم تدرّج لباسها في حوالى خمس مراحل إلى أن نزعت الحجاب كلياً، ثم لم تعُد تلبس شيئاً على الرأس، إلى أن حدث هذا الاندفاع نحو التحجّب.

ولكن بالعودة إلى تساؤلاتك حول موقف جماعة شعر من المرأة أقول: لقد كانت تجربتي في شعر مبنية على مساواة كريمة لا يشوبها معكّر ذكوري أبداً، وإلا لما صمدت لي علاقة مع أحد. أما حياة الشعراء الشخصية، فلم يكن لها أي حضور مهمّ في الخميس. لقد كانت هيلين زوجة يوسف الخال لبنانية الأصل، أمريكية المنشأ كلياً، تعيش حياتها، ولا تتدخل في حياة الخميس، ولم تكن تحضر حتى الأمسيات الباهجة. وكانت خالدة زوجة أدونيس تملأ مكانها الحصيف بهدوئها الدمث، وذكائها الفائق، وجمالها المليء بالوداعة والرقة. أما بحث السياب الدائم عن الحب، فلا علاقة له بالرجعية الذكورية. لقد كانت معدّاته العاطفية دائماً في حاجة إلى الدخول الطبيعي في تجربة الحبّ، وقد حُرم منه إلى حدّ ما بسبب وضعه العام، وخجله وكياسته الطبيعية، وارتباك أدواته، وقلة ثقته بالذات العاشقة. لم يكن يعرف كيف يتصرّف ويعبّر عن أحاسيسه، إلا نحو الشعر. عرفته جيداً عندما كنـا نسكن في بغداد. وتزوّج ونحن هناك، وانتقل إلى الأعظمية حيث سكن على مسافة عشر دقائق سيراً عن بيتنا، وكان يزورنا على الأقل مرة في الأسبوع، ولم يعرّفنا إلى زوجته في منزلهما، ولكنني التقيتها في إحدى سيراناتنا الباهجة أيام الجمعة مع شلّة الأصدقاء من محبّي الشعر. ولا يمكنني أن أنسى كيف كنتُ أجلس مع بـدر على ضفّة النهر ننشد شعرنا بأعلى صوتٍ ممكنٍ، حتى نملأ البساتين حولنا بأنغام الشّعر العربي التي تكاد تختفي اليوم. أما محمّد الماغوط، فقد كان تركيبةً عجيبةً من الشعر الذي أدرك الحداثة قبل أغلب الناس، ولكنه لم يتخلّص قط من شوائب موروثه الذكوري وشراسته نحو المرأة. وهذا يقول لنا شيئاً عن الحداثة الأدبية وقدرة الشاعر الموهوب على أن يجيدها، بينما روحه الاجتماعية ما زالت تعيش في القرون الغابرة. ألا ترين الانفصام هنا؟ كيف صحّ؟

يجب أن يعاد نشر كلام هشام الشرابي مجدداً هو وسواه من الأقوال التي قد تجدّد معنويات النساء وثقتهن بأنفسهن الآن، بعـد هذا الزيّ الانفصالي الذي عمّ الوطن العربي بتحجيب المـرأة. إن الميل في الصالونات الاجتماعية اليوم هو إلى أن تجلس النساء في دائـرة، والرجال في دائرة أخرى، بينما كان يجب تحرير المرأة من الإحساس الدائم بأنها أنثى، والتشديد على كونها شخصاً في مجتمع مكوّن من رجال ونساء، كلهم أشخاص متساوون في المكانة. وعندما نشرت نازك كتابها قضايا الشعر المعاصر سنة ١٩٦٢، وتعرّضت فيه لبعض المناحي التقنية، لم يلق كتابها ما يستحقه من قبول، ولعلّ ذلك كان يعود إلى ذكورية حساسة لا تستسيغ تغلّب امرأة في الحقل الأدبي. لقد كانت نازك لا شكّ متغلّبة. في هذا الكتاب، حاولت نازك أن تفرض قوانين للشعر الحرّ، فقامت قائمة النقّاد عليها، وعلى وجه الخصوص في مصر، ولا سيما عندما استطاعوا أن يكتشفوا خطأ صغيراً ارتكبته لا قيمة له، وما كان يستحق أن يسلبها إنجازاتها النقدية، تلك المرأة التي كانت ملكة النقد والتجديد الشعري في الخمسينيات. ومن يؤرّخ لأدب تلك الفترة، سيكتشف كيف أشبعها النقّاد الذكوريون قهراً من دون أن يزنوا هنات صغيرة صدرت عنها، بحجم ما أنجزته من تغييرٍ شعري حاسمٍ؛ ما كان ممكناً أن يقوم به أو بمثله أحد منهم. أنا أتساءل دائماً: لماذا تراجعت نازك بعد ذلك وهدأت فورتها اللامعة؟ بإمكاني الآن أن أقول إن فترة الخمسينيات كانت فترة نازك الملائكة الباهرة التي لم ينازعها فيها أحد. فقد كتبت شعراً جديداً كلّ الجدّة وجميلاً، مختلفاً كلياً عن شعرها الأول، وعمّا كان يُكتب من شعر يومئذٍ، وما كُتب بعد ذلك. أذكر قصائدها المبتكرة وكتاباتها النقدية المبتكرة، ومثلها كتاباتها الاجتماعية. رأيتُ لها محاضرتين حول المـرأة في أوضاعها العربية ظهرتا في سنتي ١٩٥٣ و١٩٥٤ على ما أذكر، كانتا في منتهى الحصافة والإحـاطـة والإقناع، وحداثيتين بامتياز. كلّ هذا خفّ عندها في الستينيات، مع الأسف، وتحولت إلى التديّن. وقد أدهشتني كثيراً بتراجعها. كتبتُ عنها بدقّة وموضوعية صارمة في كتابي الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، وأرّخت لدورها الإبداعي والنقدي الكبير. وكانت هي سعيدة جداً بذلك، وأصبحنا على صداقة اجتماعية أدبية غير شخصية. ولم نكن على صداقة من قبل، بسبب تحسُّبها، على ما أظن. ولديّ قصص كثيرة عن الفترة التي عاشت فيها في بيروت في ستينيات القرن الماضي، ثم في لقاءاتنا في الكويت بعد صدور كتابي.

3 ـ ما زلنا في عام 1960، وفيه نشر أنسي الحاج ديوانه الأوّل «لن»، تتصدّره مقدّمة تنظيرية أضحت في ما بعد جزءاً لا يتجزّأ من الكتابات التي تُنظّر للشعر غير الموزون (قصيدة النثر)، وقد قمتِ بنقد هذا التنظير، بل ذهبت أبعد في تأصيل هذا التيار الشعري في كتاباتك المبكّرة. كيف قرأت أنت وقتذاك ديوان أنسي؟ وهل أعجبك؟ إذ إن أنسي الحاج يشغل مساحة ضئيلة نسبياً في كتاباتك.

الجيوسي: لم أحبّ شعر أنسي الحـاج في مطلع كتابته الشعرية حين كان أدونيس يمدحه ويقول له كتابةً، وذلك لكي يقرأه الآخرون: إنك أحسننا يا أنسي. ولكن أنسي غيّر أسلوبه، وكتب لاحقاً شعراً أجمل كثيراً، بلغةٍ أكثر صفـاءً وقرباً للفهم والتفاعل الشعريين. والحقيقة أن تجربة أنسي مهمّـة من هذه الناحيـة، فمجموعته الأولى تعكس تـأثّره بدعوة تجديد طلاقي عن اللغة الشعرية التي كنا نعرفها، أي أنها كانت منفرزة عن مجرى التطور المعـافى في أي شعر. ويؤسفني أنني لا أجد في مكتبتي هنا في عمّان مراجع كافية لأعطيك أمثلة على التجريب اللغوي المبكّر عند أنسي. ولكنه جازف باللغـة كثيـراً يومئذ وفرح به أدونيس. أنا لم أفرح، بل شعرتُ بأن هذا شيء مؤقت، وكان مؤقتاً. لقد فرحت كثيراً يوم كنت أعدّ مجموعتي عن الشعر المعاصر في الثمانينيات، ووجدت له قصائد جيدة لا علاقة لها بمعميّات التجريب اللغوي المبكّر في تاريخ شعرنا في الخمسينيات.

4 ـ لو انتقلنا إلى عام 1970، عام حصولك على درجة الدكتوراه من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، أخبرينا عن الشغف الذي قادك إلى دراسة الشّعر وأنت نفسك شاعرة، وعادة ما يأنف الشعراء من البحث العلمي، ويميلون صوب الحدس والتخيّل. وثمة سؤال آخر أيضاً يندرج تحت هذا السؤال: لقد قررت دراسة الشعر الحديث الذي كتبته أنتِ وكتبه أصدقاؤك الشعراء، وكانت الأمور في خطواتها الأولى، فما الذي حدا بك على أن تدرسي ما كنتِ تبدعين فيه، أهي الرغبة بالإحاطة؟

الجيوسي: كثُرت التخمينات في الستينيات، وازدادت التعريفات غير الملهمة وغير المدروسة، وكان لا بـدّ من رسم خريطة لما كان يجري من تجارب في الوزن والصورة الشعرية بشكلٍ خـاص. ثم إن الشعر والبحث كانا أمرين ملازمين لي دائمـاً، فلما سنحت لي الفرصة للعيش في لندن مع أولادي، واثنان منهما كانا يستعدان لدخول الجامعة، انتهـزتُ الفرصة للدراسة أنا أيضاً. وكان اختياري دراسـة الشعر المعاصر يومئذ أمراً طبيعياً وتلقائياً، فأنا كنتُ أعيش في جوّ الشعر باستمرار. الشعر كان هو الأعلى والأهم في سبعينيات القرن الماضي. كانت الرواية تتأهّب للدخول في الحقل الأدبي العربي، ولكنها لم تكن بعد قد بلغت مكانتها الطبيعية والألفة التي يحتاج إليها العمل الأدبي حتى ينضج.

5 ـ ما زلنا في عام 1970، وسلمى الشاعرة الشهيرة حصلت على دكتوراه في دراسة الشعر ونقده، لا بل أرّخت للشعر الحديث، ووضعته ضمن سياق تاريخ الشعر العربي، وهو إنجاز متقدّم فعلاً، فقد أقمتِ الصلة بين النهضة والحداثة، أي أن الأمر أعلى وأعمق من كتاباتك النقدية الأولى، وقد اتخذ قلمك النقدي شرعيةً ومهابة. فهل تغيّرت وقتها نظرة الشعراء إليك؟

الجيوسي: صدر كتابي بالعربية وأنا في أمريكا، ولذا لم أتمكّن من الاطلاع على ما كُتب عنه إلا قليلاً. وكما تعلمين إنه تأريخ لتطور التقنية الشعرية منذ عصر النهضة حتى عام ١٩٧٠، ويفسّر، على ما أظن، أساس كلّ ما حدث من تغيير، إذ ليس من المعتاد الكتابة عندنا عن تطور التقنية الأدبية. لقد كانت الكتابة النقدية ـ وما زالت إلى حدّ غير قليل ـ تركّز على اجتماعية الشعر وتأثير الحياة اليومية والسياسية فيه، وهذا يختلف كثيراً عن رؤياي للتغيير الشعري والفني. فالشعر ـ ومعه الفنّ عامة ـ ذو حياة عضوية، يتقبل التغيير عند حاجته العضوية إليه لا قبل ذلك. وإذا أُقحم التغيير عليه قبل أوانه لا يتمثّله، إذ لا يحدث التغيير الناجح إلا عند حاجة الشعر العضوية إليـه، أي عندما تكون أساليبه ولغته قد أصابها الإرهاق. إن قضية الإرهاق هي قضية أساسية في الحياة، فالإرهاق يفسّر التغيير في حياتنا الشخصية وعلاقاتنا وصحّتنا وممارساتنا اليومية، فكلّ شيء يصيبه الإرهاق. إن الإرهاق الذي يحدث للشعر هو إرهاق جمالي، وفي تاريخ شعرنا الحديث دلالات عديدة على هذا الأمر.

أما عن نظرة الشعراء إليّ عند صدور كتابي، فأنا لا أظنّ أن عدداً كبيراً من الشعراء العرب قرأ الكتاب، ولا سيما الجيل الطالع الآن، إلا أنه سجل رقماً جيداً لبيعه عبر ناشره بالعربية، وهو مركز دراسات الوحـدة العربيـة.

أما كتابي بالإنكليزية، فقد صدر عن دار بريل العريقة، فهو مرجعٌ دائمٌ لتدريس الشعر العربي الحديث في الجامعات. إنه كتابٌ صعبٌ، وهو سجل لتاريخ التغيير التقني الذي حدث للشعـر العربي في العصر الحديث، لكن المقاربة التقنية صعبة.

وعودة إلى سؤالك عن موقف الشعراء مني بعد صدور كتابي: لقد كان موقف خليل حاوي مليئاً بالمودّة والرضا. لم يكن قد رأى كتابي عندما زرتُ بيروت آنذاك قبل وفاته بفترة، ولكنه كان قد سمع بأني قيّمته جيداً، فدعاني إلى العشاء في «رأس بيروت»، وكنتُ أنا مهتمة كثيراً بمحاولته الانتحار مرتين من قبل، واجتهدتُ أن أتغلغل إلى أسباب ذلك، ولكنه كان منفتحاً، وبدا سعيداً، ولم أشعر أبداً أن ذلك المساء الودود كان يهدّد بالموت. أظن أن انتحاره لم يكن أبداً سياسياً، بل يأساً من عدم استمرار الشاعرية. هذا ما استنتجته في ذلك المساء الطيب، حدساً وشعوراً، مع أن حاوي كان مرتاح النفس كثيراً، وكان ذلك اللقاء أكثر لقاءاتنا المتعددة في تاريخ علاقتنا سلاماً وانسجاماً، فقد التقينا كثيراً عندما كنا نعيش في إنكلترا، هو في كيمبريدج، وأنا في لنـدن. ولديّ صورة جميلة لنا في بيتي مع توفيق صايغ وجبرا إبراهيم جبرا، ثم سمعتُ بوفاته. أظنّ أنه كان في حاجة إلى استمرار أهميته كشاعرٍ عند الآخرين، والعرب أمّة ضجرة، ضعيفة الذاكرة تحتاج إلى تلقيمٍ دائمٍ، وهذا ما قد يدفع البعض إلى الاجتراء واختراع المواضيع الناشزة التي تهزّ الآخرين سريعاً، رغبةً في استمرار الشهرة والأهمية. ولم يكن خليل، وهو ذلك الإنسان الشديد الإخلاص والكبرياء، من هذا النوع الإثاري.

ومثل ردّ فعل خليل الإيجابي، كان ردّ فعل نـازك. لقد أعطيتها مكانتها الرائدة في تطور الشعر العربي الحديث، وكرّمت اجتهادها وأسبقيته في كتابي، ولم أسمح إطلاقاً لأي اعتبار أن يتدخل في محاولتي تقييم ما حدث للشعر العربي في منتصف القرن العشرين، إذ إن تلك الثـورة الكبيرة الناجحة بامتيـاز، هي أخطر ما حدث له في تاريخه الطويل، ونازك لولبها الأول. لقد شارك السياب فيها بالطبع، غير أن اكتشاف تقنية التفعيلة لم يثبت في الشعر إلا عن طريق نازك. ولكن لا بدّ هنا من القول إن نازكاً أخطأت كثيراً عندما تجاهلت، بل أنكرت، ما قدّمه قبلها علي أحمد باكثير الحضرمي وفؤاد الخشن من تجربة ناجحة تقنياً، وإن لم تكن مهمة شعرياً. ولم تكن نازك في حاجة إلى هذا الإنكار لوجود تجريبيين في قضية الوزن الشعري قبلها، فنجاح التجربة شعرياً جاءت على يديها هي ومعها السياب. وكانت نازك هي التي فسّرتها نقدياً ورسّختها، وقد ذكرتُ كل هذا بالتفصيل. كما كانت نازك مطّلعة على ما كتبت، ودأبت على زيارتي عندما كنت ضيفة لدى ابني أسامة في الكويت، وعلى دعوتي إلى بيتها.

كان السياب قد فارقنا يوم صدور كتابي، أما أدونيس الذي كرّمته فيه، بالطبع، فلا أظنّ أنه اكتفى بما كتبته عنه على الرغم من اهتمامي بشعره دائماً. لقد كان شاعراً كبيراً، ولكنه اتخذ طريقاً مسدوداً، بينما كان بإمكانه أن يُرسي، شعراً ونثراً، رؤيـا مستقبلية عظيمة للمعاصرين العرب، الذين كانوا متأرجحين باستمرار بين اختيارات لا تتوازى مع ما كان الزمن يهيّئه لهم من عذاب وخيبـات.

6 ـ لفت نظري في كتابك الشهير «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» أنك لم تستعملي مصطلح شعر التفعيلة، بل الشعر الحرّ. وتعلمين أن مصطلح شعر التفعيلة يعود إلى د. عز الدين الأمين في كتابه «نظرية الفن المتجدّد وتطبيقها على الشعر»ـ أمّا مصطلح قصيدة النثر، فيعود إلى أدونيس ترجمةً عن المصطلح الفرنسي. لقد ثار لغطٌ وما زال حول مصطلحات الشعر الحديث، فمصطلح قصيدة النثر لم ينجُ هو الآخر من الانتقاد. لكننا نقول اليوم شعر التفعيلة وقصيدة النثر، كيف تنظرين إلى الأمر؟ إنك باحثة، فهل لديك اقتراحات؟ وما رأيك لو قلنا شعراً موزوناً وشعراً غير موزون؟

الجيوسي: في مطلع الحركة، أعني في منتصف الخمسينيات، وقف الشعر الحرّ إزاء شعر الشطرين حاملاً الثورة ضده، وكانت هذه التسمية هي ما اصطلحنا عليه باكراً في تاريخ ذلك النكوص الجريء عن شكل الشطرين، الذي لازم التعبير الشعري قروناً طويلة. وكما أذكر، لم نشعر بألم الفراق، بل بنوعٍ من الانتصار والإنجاز. ولو سمعتُ أنا الآن مصطلح «الشعر الحر» لفهمتُ منه حالاً أنه شعر موزون لا يلتزم بشكل الشطرين أو بالقافية الواحدة. إن قصيدة النثر هي شيء آخر كلياً، فهي خالية من الوزن، على تطلبها الصعب للإيقاع الشاعري الملزم، ولشروط أسلوبية أخرى.

الأمر في التسميات الجديدة هو أن ما يدرج يصبح مستعملاً، ولو كان غير دقيق. إن شعر التفعيلة هو وصفٌ دقيقٌ، ولكنه لا يبدو أنيقاً، أو معبّراً أو مهمّاً، وأظن أن هذا ساعد على شيوع تعبير «الشعر الحرّ» بدلاً منه. إنه لم يدرج عندنا كثيراً. أما قولنا شعراً موزوناً وشعراً غير موزون، فلن يصحّ، لأن الشعر الحرّ، كما أتحدّث عنه، متحرر من الشطرين، لا من الوزن.

بعد ذلك بمدة، عندما بدأتُ التفكير في تقنيات الشعر، وتكشّفت لي مناحٍ عديدة، لم أكن، لا أنا، ولا غيري، قد فكّر بها. لقد تملكني سؤال عنيد: ما دامت كل الأمور رهينة بالإرهاق، لماذا بقي الشعر الكلاسيكي بشطريه العنيدين حياً وحيوياً ومحافظاً على جماله كل هذه القرون، أي بقي حتى يومنا ذاك بين يدي شعرائه الأهمّ، كبدوي الجبل ومحمّد مهدي الجواهري، لا يُعلى عليه؟ لماذا لم يحلّ الإرهاق فيه، فيتغيّر؟ ثم عندما دعيت لمدّة سنة (١٩٩٤ ـ ١٩٩٥) إلى معهد الدراسات العليا في برلين، صرفتُ جزءاً من تلك السنة أحاول اكتشاف السبب، مقررة سلفاً أن السبب فني، ولا يعود إلى ما ابتدعه كثيرون عنه، وهو أن العرب تقليديون يتمسّكون بقديمهم! لقد كنتُ أسأل وأتساءل كيف تغاضى هؤلاء الاتهاميون بالتزام العرب للتقليد والمعاودة العنيدة، وقد تغيّر كل عنصر من عناصر الشعر، ما عدا الوزن؟ ولعلي خرجتُ بتفسير ذلك، وها هي الأوراق مكتوبة وتنتظر التوضيب؛ منحني الله الوقت لإخراجها.

7 ـ مصطلحاتك مبتكرة: الميوعة العاطفية، والإرهاق الجمالي، والفتور الروحي. كيف اهتديتِ إليها؟ هل للأمر علاقة بتحليلك للشعر الحديث من ناحية الموقف واللهجة؟ فإنك في كتاباتك تمتلكين أسلوباً خاصّاً يجمع بين الصرامة النقدية والمتعة، وتستطيعين التفلّت من مشكلة جفاف البحث العلمي من دون أن تفقدي الرصانة العلمية.

الجيوسي: بعضها مبتكر بحكم الحاجة إليه، كالميوعة العاطفية، وبعضها مترجم كالإرهاق الجمالي، مثلاً. ثمة حالات تقنية أو معنوية تفرض على الناقد الاقتباس أو الاختراع، وهذا ملزمٌ في كل لغة. لكن ما أكرهه هو اختراع المناسبة لاستعمال مصطلحٍ جديد، فعادة هذا لا يتلاءم مع العمل النقدي. وهو يفشل عادة ويعطيك انطباعاً بالحذق من دون أن يكون العمل حاذقاً بالفعل.

8 ـ كتبتِ شعراً حديثاً موزوناً، هل تميلين إلى الوزن؟ كيف تنظرين إليه كعنصر من عناصر القصيدة؟ أيأتيك عفواً وبتلقائية؟ كيف تعلّمت العَروض، من طريق السمع أم من كتابٍ معين؟ هل لديك انحيازٌ إلى الشطرين المقفّى أم إلى الموشحات، مثلاً، أم تحبين القصيدة الموزونة الحديثة كما كتبتها أنتِ والسيّاب، على سبيل المثال؟ كيف اختبرتِ أنت الانتقال من الشطرين المقفّى إلى شعر التفعيلة، وأي بحر استعملتِ؟ هل ثمة ميل لديك إلى بحرٍ معين؟

الجيوسي: الوزن مغروزٌ في داخلي لا يفارقني ساعة. كلّ العالم يتحول لديّ إلى نغمٍ شعري عندما أكون وحـدي أو أقوم بعمل إفرادي. إنني أغني شعراً، وأنا دائماً آسفة، لأن صوتي ليس صوت غناء مقبول. ولكن ابنتي الصغرى، مي، تحبّ أن تسمع دندناتي دائماً. لقد كان والدي يغنّي الشعر دائماً بصوت هادئ شجي، وكان صوته جميلاً. ثم أمضيت ليلة في ضيافة خالدة وأدونيس في بيتهما في ديك المحدي، وفي الصباح سمعت شعرا يُغَنّى بصوت منخفض شجيٍّ أعادني إلى أيام والدي وغنائه الرائع للشعر. لقد كان أدونيس هو الذي يغني الشعر في دندنة مؤثّـرة، فدخلت إلى غرفتي وبكيت.

أشعر بأسىً كبير لأن الوزن أصبح موضوعاً للانتقاد والتساؤل، وعليه بُني عمود شعـرنا الغني وصرحـه الباذخ. أنا لستُ ضـدّ الشعر اللاموزون إذا حافظ على ثـراء الإيقاع وجمالية الشعر في معناه وصوره وإيقاعه، إنما الجيد منه عسير المطلب جداً. لكن أن يتحوّل الشعر العربي إلى شعرٍ لا يصلح إلا إذا خلا من أي وزن، ولا يمرّ امتحان الشعرية إلا نثـراً، فهذا ليس معقولاً، ولا مقبولاً، ولا أظنّ أنه سيستمر. فماذا بعده؟ وكيف ينتهي التجريب في كلّ هذا؟ لا شيء يبقى على حاله، كما تعلمين، فإلى أي متاهة سيأخذنا الطامحون ونقّادهم؟ إن الأسى يغمر القلب عندما تقرأ مجموعة شعرية بعد مجموعة خالية من الوزن، ومن الشعر أيضاً، وتعجّ بصور لا تتلاءم، ولا تقودك إلى معنى أو تفتح عينيك على أية تجربة ذات قيمة شعرية، جمالية كانت أو إنسانية. إلى أين سيؤدي بنا هذا الكلام؟ ثمة قسطٌ كبيرٌ من اللامسؤولية النقدية والنشرية في هذا السياق المتفلّت من شروط الإبداع وجمالية الشعر. لذلك يجب أن يضع الناشرون شروطهم، وأن يتعفّفوا عن النشر لكسب المال، فهـذا يغيّر مفهوم الفن والإبداع ويشيع الذوق الفاسد.

لقد نشرتُ ديواني الأول من دون أي معرفة بالعروض، فقد كانت أوزان الشعر منغرسة في وجداني. أما الموشحات، فلم أحبّها قط إلا مغنّـاة، ولعلّ السبب هو لأني لا أحبّ الشعر المبني على مخطط وزني مركبٍ، كما هو الحال في الموشح، أو السونيت بالإنكليزية، إلى جانب كون الموضوع في الموشحات مكرراً، وخطابه عاماً قليل العمق، هذا مع أن والدتي أحفظتني عدداً من الموشحات في صغري.

لم أجد أي صعوبة في الانتقال إلى الشعر الحرّ، أو شعر التفعيلة، إذا أحببتِ. وإذا راجعتِ شعر الخمسينيات، ستجدين أن الشعراء كانوا يمسكون وزناً معيناً لمدّة من الزمن، ثم ينتقل أحدهم إلى وزن آخر، فينتقل معه البقية، إلى أن اكتشفنا جمال وزن بحر الرجز في الشعر الحرّ، وأنه يتفوّق على وضعه في شكل الشطرين كثيراً، فأمسكنا به مدة. في الحقيقة، إن موضوع القصيدة كثيراً ما يملي البحر على الشاعر.

9 ـ كتب عبد الجبار السامرائي أنك زرتِ السيّاب في أواخر أيامه في المستشفى في الكويت، وقال لك: «ضاع شعري الجديد .. ضاع» فأجبتِه: «إن ما ملكت لا يضيع يا بدر، ما كان أفقرنا لو ضاع منّا ما أعطيت». أخبريني عن السيّاب وعن علاقتك به وبشعره، وعن حدسك في خلود قصائده؟ أصحيح لو أن الله أمدّ بعمره لأعطانا قصائد أجمل؟ كيف تقرئين قصائده الأخيرة التي رثى فيها نفسه، وكان جسده متهالكاً من المرض؟ هل شعرت بالألم حين افتتح الناقد الكبير إحسان عباس كتابه عن السيّاب بوصف شكله الخارجي؟ هل علينا أن نعرف شكل السيّاب لنعرف شعره؟

الجيوسي: زرته مراراً في المستشفى، ولكنني كنت متوعّكة نفسياً في أسبوعه الأخير، فلم أزره، وأنا لم أكن أشعر بأني لن أراه. وعـاد زوجي من العمل ذلك اليوم وأخبرني بأنه توفي، فأمضيتُ أسبوعاً كاملاً أبكي. لم أبكِ على أحد، كما بكيتُ على بدر. لقد كان إنساناً نقياً، وكانت بيننا صداقة متينة، وشعرتُ بالندم الشديد لأني لم أزره في أسبوعه الأخير. ولكن البكاء كان أكثر لإحساسي بالظلم الذي عاناه في حياته، وعذاب الحرمان الذي عاناه في مناحٍ عديدة من تجربته الحياتية.

بالطبع، كان جسده متهالكاً والأنابيب تحاصره. ولكنه لم يفقد إحساسه بالآخر وبالحياة نفسها. لقد كنتُ معتادة عليه، فلم يؤثر فيّ ذلك الهزال. وجاء معي وقتها، لكي يتعرّف إليه لأوّل مـرة دينيس جونسون ديفيز، ولم يـأنسا الـواحد للآخـر. واستغربت كثيراً أن دينيس كان متوقعاً أن يـرى إنساناً مليئاً بالحياة، إلا أن بـدراً كان يموت بالتدريج بعيداً عن أحبائه، وحتى الآن أتذكّر هذا الأمر وأحزن.

أما خلود شعره هو أو سواه، فلعلّه كتب لعصره، وعندما كتب عن وضع الإنسان ومعاناته وتجربته، أي عن الأمور التي تتجاوز عصر الشاعر، لتحيط بالتجربة الإنسانية المتكرّرة، كان مريضاً.

أما إحسان عباس، فعلى جاذبية شخصيته، كانت فيه فجاجة رأيتها في كثيرين غيره من الرجال في وطننا العربي. وإذ أقول هذا، تمرّ أمامي سلسلة من الكتّاب والشعراء الذين عرفتهم، وعرفت فيهم شيئاً من قلة الكياسة، ولكن هناك وجوهاً أخرى تمرّ أيضاً على لوحة الذكريات الشخصية، لا بدّ من أن أذكرها. فهل من ينسى كياسة صلاح عبد الصبور، ولطف رعايته؟ وشوقي أبي شقرا؟ كما كان محمّد عبد الحيّ من ألطف من عرفتُ من الناس. وليس بالإمكان تذكر كلّ اسم دفعة واحدة، ولكن التجربة تضيء وتعتّم، بحسب مزاج اللحظة.

10 ـ في الثمانينيات كنتِ أستاذة في الجامعة في أمريكا، ونعرف قصّة الشاب الأمريكي الذي أنكر مساهمة الثقافة العربية في الثقافة الإنسانية، ففجّر غضبك حين وضع يده على الجرح، وأدركتِ واقع غيابنا. هنا تغيّرت حياتك مرّة وإلى الأبد ـ هذا من حظّنا كقرّاء ـ وبدأت كتبك المميزة بالصدور، ولمّا تتوقف؛ لديك «بروتا» و«رابطة الشرق والغرب»، ومع ذلك، أنت لا تنظرين بعين الرضا كلّما سُئلتِ عن الأمر، وتقولين إن علينا القيام بما هو أكثر، وإنك تستغربين أننا لا نشعر بالحرج الكبير بسبب تقصيرنا. عند كلّ حوارٍ معك تمرّين على إنجازاتك ثم تسهبين في الكلام عمّا يجب عمله، وعن مشاريع جديدة وأخرى توقفت لنقص في التمويل أو بسبب صعوبات أخرى، ربما. من أين تأتيكِ هذه الحماسة؟ وكيفَ لا تشعرين بالرضا، كما لو أنك ترين الأمور من منظورٍ مختلف؟ بمعنى أنك تقولين: أنجزنا هذا (أنتِ التي أنجزت)، ولكن ما زال أمامنا الكثير لإنجازه، أي تغيّبين «الأنا» الناقدة أيضاً، ألا يكفي أنكِ ضحيّتِ بالشعر؟ أنت لا تتنزّهين مطلقاً حول «أناكِ»؟

الجيوسي: ليس بالإمكان أبداً أن يقام مشروع كهذا يخدم كلّ إبداع عربي، وأن يكون للأنا فيه مكان. هذا مشروع لا يمكن أن يستهدف إلا نفسه وغايته، فما قيمة العمل على تغيير وضـع شائن إذا كان ثمّة سباق بين الخاص والعام؟ أي بين الأنا ونحن جميعنا، وإنجازات مبدعينا وغنى تراثنا الباذخ؟. العمل يحتاج إلى إنكار الذات وملذات الحياة. لقد كبر أحفادي أمامي، ولم أرهم يكبرون. أعمل بلا حدود، ولم أنم ليلة قبل الواحدة صباحاً، ولم آخذ إجـازة واحدة مكّرسة للراحة على الإطلاق. والحقّ أني لم أشعر قطّ بالتعب من العمل، إنما تعبتُ من مخاطبة العقول التي تملك حياتنا ومستقبلنا من دون أن تستحق هذا المُلك الثمين. إن ما لم أستطع أن أهضمه هو ذلك التـردّد الذي قابل به المقتدرون مشروع الترجمة إلى عشر لغات، والذي أطلقته منذ حوالى تسع سنوات. كان مشروع «بـروتـا» قد أحـرز صدقيّةً كبيرةً في الغـرب، وشهرةً بين العرب، وكان طبيعياً أن نتمكّن من تأسيس المشروع الأكبر للترجمة إلى اللغات الحيـّة، لنخدم به ثقافتنا وسمعتنا الحضارية على نطاق واسع. ولكن بعد عملٍ دؤوبٍ أنتج عشر موسوعات مترجمة ناجحة بكلّ مقياس، في ظرف أقل من اثنتي عشرة سنة، مع أكثر من ستة كتب فكرية كبيرة تقدم إنجاز العرب الحضاري على مر السنين، وكتب أدبية ذات المؤلف الـواحـد، لم أتمكّن من إقناع المقتدرين بإمكان إنشاء مؤسسة للتـرجمة إلى عشر لغـات.

لقد كنت، قبل مخاطبة أولئك المسؤولين، قد قمتُ باتصالات واسعة مع أفضل المترجمين من العربية في عدد من البلدان، منها الصين وروسيا واليابان وبلدان أوروبية متعددة، وكانوا كلّهم يشكون من عدم اهتمام العرب بعملهم، واعتمدوا عليّ كثيراً. ولكنني لم أفرح بجوابٍ واحـدٍ من أي مسؤول عربي على الإطلاق، وكأننا «يا زين لا رحنا ولا جينـا». لعلّ الذكورية تضافرت مـع عدم الثقـة بالنفس كأمّة حضارية، وبما أنجَزَت وتنجز من إبداع، فجعلت هؤلاء يتردّدون. حزنتُ كثيراً، ولو قمنا بهذا العمل، لكنّا أسّسنا صرحاً عالياً ناجحـاً مبنياً على التخطيط الجـادّ والإتقان الدقيق والأمـانـة الكاملة، وأثبتنا أهمية ثقافتنا في تاريخ الثقافة الإنسانية بلغات العالم الأولى. ولكن هذا لم يحصل، ولعله لم يكن قابلاً للحدوث في محدودية الـرؤيـا الثقافية عندنا في تلك اللحظة الزمنية بالذات! أظنّ أن الأربعة قرون التي حكمنا فيها العثمانيون أنستنا إنجازاتنا الكبيرة التي هي أساسٌ في نهضة أوروبا والعالم الحديث. وحتى الآن لم يفطن العرب إلى الدور الكبير الذي أديناه في تاريخ الحضارة الإنسانية. أرأيتِ هذا الأكثر الذي كان بالوسع القيام بـه ولم نفعل؟ أنت قد لا تعرفين كم تنكّر لنا الدهر ونجح في إقناعنا، لبلادة عجيبة اقتحمت حياتنا، بأننا لم ننجز شيئاً. حدث هذا قبل مولدك واستمرّ. ولما قرأتُ ذلك التاريخ الباهر، واكتشفت شيئاً فشيئاً حقيقة الدور الذي أديناه في تاريخ الحضارة الإنسانية، اسودّ العالم في عينيّ لعلمي بأن الـزمن لن يمكّنني من تحقيق ما كان ممكناً أن يُحقق من إعـادة الاعتبار لنا كما يجب، وتأكيد أهمية ما قدمناه إلى الإنسانية. ذلك لأنهم، أولئك الذين يملكون القدرة المادية على إرساء المشاريع الكبيرة، لم يتحرك فيهم ساكن، ومرّ الوقت ساخراً بنا، فالحياة قصيرة، يا ديمـة، والزمن سريع.

أتحدث بصيغة الجمع، نعم، لأن هذه كانت أمنيتي: أن أجد الكثيرين الذين يناصرون هذا العمل الملزم، ويتضافرون على دفعه إلى الأمـام. ففي ما يتعلّق بالتبادل الثقافي ومعرفة الآخر للآخر، لا شيء يُعلى على هذا العمل، وليس له بديل أبداً، وإنه لهذا السبب لاقى الكثير من الصعوبات، لأنه يناقض كلّ الادعاءات التي أطلقها علينا الكارهون لنا، بأننا أمّة بلا إنجـاز، وأنكروا الدور الأساسي الذي أديناه في تاريخ الحضارة العالمية. وثمة منهم من حاول تقليص عملي وإيقافه، لأنه من أولئك الذين كانوا يحاولون أن يثبتوا في العقول أننا أمّة بلا إنجاز.

من ناحية النقد، كتبتُ مقدّمات نقدية لكلّ مجموعة أصدرتها تقريباً، ومنها مقدمات تأريخية مطوّلـة. ولكن بقيت دراساتي النقدية، ومنها تلك التي تناولت إشكالات لم تجد حلّها في تاريخ الأدب العربي، تنتظر مني العمل النهائي عليها. مثلاً: قضية تعدّد المواضيع في القصيدة، وإشكالية تغيير شكل الشطرين تاريخياً عبر القرون، وسواهما. كان عليّ أن أختار ما يجب عمله أوّلاً. ولم يكن الاختيار دائماً سهلاً، ولكنني آثرت إكمال البحث الذي بدأته، والحديث عن مناحي الحضارة العربية الإسلامية، كموضوعٍ موحّـدٍ قبل إكمال المواضيع الأخـرى. وقد لا يسمح لي الزمن بإنجازها.

11 ـ الكلام عن «بروتا» و«رابطة الشرق والغرب» وكتبك يحيل فوراً إلى الترجمة، فيظهر القول الشهير «الترجمة خيانة» (Traduttore, tradittor)، باهتاً كما لو أنه قول المستسهلين، أي قول خارج السياق تماماً، فأنتِ لك طريقة منهجية في نقل الأدب العربي إلى اللغة الإنكليزية، أخبرينا، ويا ليتك تتوسعين في الحديث عن المحرر الأسلوبي.

الجيوسي: الترجمة هي الدخول إلى العالم، ولا بديل لها في إنشاء العلاقة بين الثقافات الإنسانية وإعطائها والأخذ عنها. لقد كان عن طريق الترجمة، أننا أسسنا علاقاتنا مع الآخر، ولا سيما في القرون الوسطى. أما قضية الخيانة، فلها مواصفاتها، ولا تعني أبداً إيقاف الرابط الوحيد الذي يعرّفنا إلى ما يفكّر فيه الآخرون، وإلى ما أنجزوه ويعرّفهم إلى إنجازاتنا. أذكر أنني دعوتُ مرّةً نزار قباني عندما كنت في معهد الدراسات العليا في برلين إلى أمسية شعرية في دار الثقافات العالمية، وترجم الألمان له قصائد جميلة اخترتها أنا بالتفاهم معه، وكان في لندن يومئذ، ودعت دار الثقافات العالمية أشهر ممثل في برلين ليقرأ شعره المترجم، فـإذا به في خطابه، الذي افتتحنا به الأمسيـة، يهاجم فكرة التـرجمة هكذا من دون سبب واضح أو رؤيا عميقة للموضوع، ويؤكد أن المترجم خـائن، وهو هذا القول المنقول عن الإيطالية، ولكنه يحمل تفسيراً عميقاً لمعنى الخيانـة لا علاقة له بما تعرّض له نزار، سامحه الله. فهو في وادٍ ونحن في واد.

لقد تأسّست حول الثقافة العربية في القرون الوسطى، مراكز للترجمة أفاد منها الأوروبيون كثيراً، وكان على الترجمة من العربية أن بُنِيت بعض أهم الأعمال الأدبية الأوروبية. ولكنهم، عندما نجحت أعمالهم واشتهرت، أنكروا العلاقة مع أدبنا، وحاولوا إخفاء الحقيقة. كلّ هذه الأوضاع والملابسات والتخرّصات والإنكارات يجب أن تتغيّر، ولا بدّ من أن تتغيّر. وليس تغييرها معجزة بطولية، فالحقائق تبرهن عن نفسها. ولكن لنتحدث الآن عن التـرجمة. لقد بدأت مشروعي بالترجمة من العربية إلى الإنكليزية. ومن دون كبير عذاب تبيّنتْ لي شروط العمل. كان أوّل شروطه التي اكتشفتها بحدسي، أنه لا يترجم الشعر إلا شاعرٌ في اللغة المترجم إليها، وكان ثاني شروطه أن يخضع العمل المترجم إلى أربع مراحل: الترجمة الأولى، وقد شعرتُ بأن الأفضل أن يكون المترجم الأول عربياً يتقن اللغتين، ثم يخضع عمله للتدقيق المعنوي، ويقوم بهذا من يتقن اللغتين أيضاً، وبعد ذلك تعطى القطعة المترجمة إلى شاعرٍ باللغة الإنكليزية إذا كانت شعراً، وإن كانت نثراً، فإنها تُعطى إلى من يتقن الكتابة الإنكليزية ومن الناطقين بها، ثم يمرّ على كلّ هذا مدقق آخر ليضمن أن المعنى بقي دقيقاً وواضحاً. طبّقتُ هذه الشروط على كلّ ما ترجمناه، وكانت نتيجته نجاح عملنا منذ البـدء. وفي ما يتعلّق بالشعر، استطعت أن أجد شعراء كباراً من الناطقين بالإنكليزية، وقد تعاونوا معي، ومنهم ويليام ميروين، الشاعر الغنائي الأمريكي المرموق؛ ومنهم كريستوفر ميدلتون، الشاعر الإنكليزي، وهو من أبرع من ترجم الشعر من الألمانية (وهي اختصاصه الأكاديمي)؛ وديانا دير هوفانسيان، رئيسة نـادي الشعر في نيوإنغلند لمدة طويلة؛ وناومي (نعيمة) شهاب ناي، الشاعرة الأمريكية المشهورة، وهي من أصل فلسطيني؛ وجون هيدستبز، من أهمّ شعراء الإنكليز، وقد قلّدته ملكة بريطانيا وسامين؛ وتشارلس دوريا، الأمريكي، وهو مترجمٌ متفوقٌ من أبرع من تمثّل المعنى الشعري في اللغة الأخرى وحوّله إلى الإنكليزية؛ وآخرون غيرهم. إنني لم أعمل مع شاعرٍ واحدٍ كان لم يزل في مرحلة التجريب. وكانت هذه العلاقات التي أقمتها سبباً دافعاً إلى المزيد من العمل، وأحد أسباب نجـاحـه في عالمٍ لم يكن يعرف عنا شيئـاً تقريباً.

وقد كان حظّ مشروعي كبيـراً جداً عندما قرّر كريستوفر تينغلي، وهو أستاذ جامعي إنكليزي متمكّن من اللغة الإنكليزية ومصطلحاتها، ومتفهم جيداً للأدب، شعره ونثره، أن لا يعود إلى التدريس الجامعي، فدعوته إلى العمل على مشاريعي، وكان العمل هذا في أوّل مراحله، فقرّر أن ينصرف إلى التعاون معي على ترجمة الأدب العربي والكتب الحضارية الأخـرى تحت مشروعيّ الاثنين: «بـروتـا» و«رابطة الشرق والغرب». وكنت قد التقيتُ به في الجزائر عندما كان يدرّس الأدب الإنكليزي في جامعة قسنطينة، وخبرت عمله عندما ترجم معي، إعداداً للنشر في دار بريل، جميع النصوص العربية وأبيات الشعر في كتابي الحركات والاتجاهات في الشعر العربي الحديث. وكنتُ قد أثبتها في الأطروحة بنصّها العربي فقط، مع أن أطروحتي مكتوبة بالإنكليزية. وما كانت دعوتي له عند تأسيس «بروتـا» إلا اعتماداً على خبرتي بعمله، وعلى تفانيه وأمانته الكاملة. فتعاونّـا معاً، هو في ليدز في إنكلترا، وأنا في بوسطن. لقد تسلّم كريستوفر العمل بتفانٍ كامل، إذ لا يمكن أن يجد الإنسان من يسبقه في جميع تفاصيل العمل هذا. وإن كان مشروعاي: بروتا (١٩٨٠)، ورابطة الشرق والغرب (١٩٩١) مدينين للكثيرين الذين عملوا عليهما معي، فهما مدينان بالدرجة الأولى لكريستوفر تينغلي. لقد أعطاني دائماً، ومن دون إخلالٍ واحدٍ، أسفاراً كتابية، لها هيبة النصّ الرصين ودقّته وجمال لغته الإنكليزية. وكان شديد الاحترام لكتابة الآخرين، فلا يغيّر إلا ما يجب أن يتغيّر، فيعمل عليه بشيء كثيرٍ من الاحترام والتقدير للكاتب، ويحترم أسلوبه في الكتابـة وروح العمل جميعه بتلك اللياقة التي لا تضـاهـى. وفي آلاف الصفحات التي حرّرها كريستوفر لنا، لم ينبرِ كاتبٌ واحدٌ من كتّابنا باعتراض أو سؤال. وكان الناشر الكبير يأخذ نصوصنا من دون تردّد أو حاجة إلى تحريرها مجدداً، كما هو متّبع عادة في دور النشر الكبيرة. كما لم يُرجع لنا ناشرٌ واحدٌ حتى صفحة واحدة من بين هذه الآلاف، طالباً أي تغيير. لقد كان عمل كريستوفر متميّزاً للغاية. أما الآن، فلم يعُد قادراً على العمل الكتابي، لحادثٍ ألمّ به عطّل عضلة الكتف عنده، فأوقف ذلك العمل الرائع. ونحن، أسرتي وأنا، على اتصالٍ دائم معه. عافـاه اللـه.

12 ـ وصلنا إلى التسعينيات الآن، وفيها كتابك الباهر عن الأندلس «الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس». لك في الكتاب دراستان: الأولى هي «الشعر الأندلسي: العصر الذهبي»، والأخرى هي «شعر الطبيعة في الأندلس وظهور ابن خفاجة»، حيث تعلّلين شعر الطبيعة بعددٍ من العوامل (استمرار العرف الأدبي، والنفعية والإرهاق النفسي، والظاهرة الجمالية … إلخ) التي تنتصر في النهاية لوجهة نظرك في النظر إلى الشعر من خلال عوامل فنية تحتّم عليه التجديد أو التطور على يدي شاعر موهوب، وكان مثالك ابن خفاجة الذي نظرت في شعره من جوانب عديدة (اللغة، والوسائل البلاغية… إلخ)، بل إنك صنّفت الشعراء الناجحين من منظور مساهمتهم في تاريخ الشعر إلى ثلاثة أنواع: «المطوّرون» و«الثوريون المجدّدون» و«الانقلابيون». فهل يصحّ الأمر لو طبّقت تصنيفك للشعراء الناجحين على شعراء الحداثة؟

الجيوسي: السيّاب ودرويش مجدّدان وثوريان، والانقلابي هو أدونيس. أدونيس غيّر مصير الشعر العربي. وجلّ ما هو جيد، وجلّ ما هو غير صالح الآن في الشعر، يعود إليه كما أظنّ. لن يقدّر المعاصرون لأدونيس حقّه الحقيقي الإيجابي عندما يرون سلبياته كمفكّرٍ تدخّل في رؤية العرب لأنفسهم، فعتّـم عليها كثيـراً، وأضرّ بالعرب كثيـراً، هو وسواه، ضرراً من الصعب الآن محـو تـأثيره في أمة تعاني أشدّ الانهزامات وأكثرها مرارة في زمنٍ منفتحٍ على الفكـر الحديث، وعلى تاريخ التحرر والخلاص في العالم. إن المستقبل لن يسامح المثقف العربي المعاصـر أبداً على صمته على ما جرى ويجري في الحياة العربية اليـوم، وعلى تقبّله لسلبيات فكرية ستجرّ هذه الأمة إلى الجحيم.

لقد تمادى أدونيس كثيراً في الطعن بالعرب وإعلان سلبيات بعض رؤاهم ومواقفهم، كما لو أنها متعشّشة في صُلب الأمة، حتى جعل لنفسه أعـداء كثيرين لم يستطيعوا أن يروا عبقريته الشعرية مجرّدةً من عدوانه المرفوض على الأمّة وتاريخها وإنجازاتها. لقد أخطأ في هذا كثيراً. ولكن على نقّاده أن يروا أهمية شعره وتأثيره الواسع على الأقل في نصف شعراء العرب المعاصرين. إن الذي لم يقدّره هو في كتاباته النثرية، هو أن الذين يقعون تحت تأثير الكتابة السلبية التي لا تعرف إلا الهـدم، هم الشعراء والكتّاب الأضعف موهبة والأقل استقلالية، وهم جلّ المبدعين في أي عصـر. وها هو الشعر العربي المعاصر يشكو الآن من نثـرية المعنى، وتسيّـب الشكل، ومن تخمة الصور الخالية فنياً من أي وظيفة شعرية، جماليةً أكانت أم معنوية. لقد قلّدوه في تفنّنه بالصورة الشعرية، وهو شاعرٌ كبيرٌ عرف كيف يغامـر وينجو، وهم غامروا وغرقوا وغرق معهم الشعر.

أمّا السياب، فقد كان دائماً رصيناً في تجديده، بيد أن درويش حاول أن يجازف في البـدء، وجاء بصور غير مناسبة، وأقل من عبقريته، ولكنه عـاد إلى وعيه الشعري بعد مدة قصيرة. إنه الشاعر قبل كلّ شيء، فهو لم يدرك إمكاناته في البـدء. ولكنه فطن لنفسه باكراً، وترك ذلك التجريب اللاشعري الذي رافق بداية تجربته بعد خروجه من فلسطين، لمصلحة الشعر.

وفي ضـوء النتائج التي حصلت، فإن أدونيس هو الانقلابي الذي تدخلت تجربته في العدد الأكبر من التجارب. ولكن أي دارس للشعر العربي المعاصر، الآن، لا يجـد أن هذا أنتج شعراً عظيماً عند المعاصرين. لقد كثرت التجارب المتشابهة وأتخمت حصيلة الشعر بصـورٍ لا تخدم الفنية ولا المعنـى، وران شيء من البساطة على الشعر. فثمة شعراء مجيدون، وعلينا أن ننتظر يوماً تنقلب فيه الإجـادة إلى ذلك التعبيـر المتفرّد عن العبقرية الشعرية المتفردة، وهي عبقرية تحمل معها معنىً شعرياً مضيئاً غير مسبوق، ومهنية شعرية تعطي لكلّ عنصر من عناصر القصيدة قيمته الملزمة، وعلى رأس كلّ هذه العناصر يظلّ المعنى الشعري مطلباً أولياً يجب أن يلتفت إليه الشعراء، وأن يكون للشاعر شيء ذو قيمة شعرية ومعنوية يقوله. وتظلّ حصيلة منتصف القرن العشرين أغنى الحصائل الشعرية حتى الآن في العصر الحديث.

13 ـ أظن أن كتابك الأندلسي هذا قد ألهم د. عبد الواحد لؤلؤة للبحث في العلاقة بين الموشح والسونيت، وإظهار دور العرب في تطوّر الشعر الأوروبي، وهو ما ينسجم في ظنّي مع وجهة نظرك في نقد العقل الاستعماري الذي يتصرّف كما لو أن «الحضارة وُلدت غربية، وكما لو أنها انكشفت للإنسانية مرتين في التاريخ: الأولى مع العالم الكلاسيكي، أي عالم الإغريق والرومان، والثانية مع عصر النهضة الأوروبية، وذلك في تجاهل مطلق بأن هذه النهضة كانت انبعاثاً للمعرفة والإنجازات الفنية والعلمية التي ارتكزت إلى حدّ كبير على ثمرات الحضارة العربية الإسلامية وإنجازاتها التي أضاءت عالم القرون الوسطى»، سؤالي عن نزعة التعصّب الغربية هذه التي تنكر دور الآخرين، وتمتح من أفكار مؤسِّسة لصورة أوروبا الحضارية عن نفسها.

الجيوسي: لا أظنّ أن كتابي عن الأندلس هو الوازع للدكتور عبد الواحد للبحث في الموشح وأصوله، فمنذ أن عرفتُ هذا الصديق كان مشغول الفكر بهذا الموضوع. ولعلّ نجاح كتابي أضاف نوعاً من البرهان على أهمية دورنا وإنجازاتنا. أما موضوع الاستئثار الأوروبي بكل إنجاز حضاري وإنساني، فهو ناتج من الركود الذي أصابنا منذ سقوط الأندلس وتحكّم العثمانيين بنا وبالعالم المحيط بنا، والنسيان لماهيتنا وإنجازاتنا الخطيرة في حقل الثقافة الإنسانية والتقدّم الحضاري. ولعلّ أسوأ ما حصل للعرب هو التسلّط العثماني علينا لمدة أربعة قرون. هذا كان الفارق الكبير، وقد حلّت فترة النسيان الأعمى لما كنّا ونكون، وما زلنا ندفع الثمن باهظاً. يتعصّب الآخر ضدّك عندما تنكر دورك، وإنسانيتك المعطاء، وإنجازاتك وتاريخك الذي مدّن الشرق والغرب. إنني أقول لولا قرطبة العربية الإسلامية لما كانت نهضة أوروبا إلا بعد قرون. ولا أظن أن في هذا رغبة في إنكار الآخر وتضخيم الذات الحضارية، فالحقيقة هي أكبر وأهمّ مما أقول. لقد أرسل لي مؤخراً أستاذ أمريكي، هو جون كريسلر روايتيه الاثنتين عن الأندلس، وفيهما اكتشاف شاسع لأبعاد الحضارة الإسلامية فيها، فهو مأخوذٌ بها. وقد حدّثته عن رغبتي في أن تُترجم هاتان الروايتان إلى العربية. إن العالم ليس عدونا إن عرفنا كيف نتصرّف، بل نحن أعداء أنفسنا. الحضارة لم تولد غرباً، على الإطلاق لم تولد غرباً. فاللحظات الحضارية المهمّة بدأت في الشرق؛ في الصين والهند ومصر والوطن العربي. كل ما علينا هو أن ندرس التاريخ بموضوعية صارمة، فالارتكاز على حقائق ثابتة هو الطريق الوحيد إلى معرفة الذات.

14 ـ الكلام عن الأندلس وعن د. عبد الواحد لؤلؤة يحيلان فوراً على كتابك الجديد عن صقلية الإسلامية، متى سيصدر بالعربية، وكما عودتِنا ضمن طبعة أنيقة لدى مركز دراسات الوحدة العربية؟ أخبرينا عن العلاقة بين «الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«رسالة الغفران» للمعري، كيف تنظرين إلى علاقات مماثلة، من باب التأثّر أو التأثير أو الاقتباس أو الإلهام؟ هل يمكن تبرير ذلك، مثلاً، بـ «وقوع الحافر على الحافر»؟ سؤالي أيضاً عن الكيفية التي تتفاعل وفقها الحضارات؟

الجيوسي: كتابي عن صقلية جاهزٌ منذ مدّة غير قصيـرة، وهو موجود لدى مؤسسة محمّد بن راشد في دبي، التي ساندتني من الناحية المالية. وبحسب العقد بيني وبينهم، هم المنوطون بقضية النشر، وقد استلموا مني الكتاب لينشروه، ولكنهم احترموا علاقتي بدار بريل الشهيرة التي تنشر جميع كتبي، وهم يتراسلون معها في هذا الشأن. وأرجو كثيراً أن يتمّ الاتفاق بينهم سريعاً، لأن ثمة نشاطاً جديداً كبيراً حدث مؤخراً في الدراسات عن صقلية الإسلامية، وهو مستمرّ بشكل ممتع، والكتب تصدر تباعاً، فلا خير في التأخير بلا حدود.

كما إنني أعمل الآن على إنهاء الخطوط الأخيرة لكتابي عن السرديات العربية القديمة، وهو يروي تاريخ نشوء السرديات العربية القصصية، ويبرهن على وجود القصّة عندنا منذ الجاهلية، رغم إنكار ذلك في كتب التاريخ الأدبي العربي، أمثال كتاب الزيّات، وكتاب فجر الإسلام لأحمد أمين، وسواهما، حيث أنكر المؤلفان وجود القصّة عند العرب في العصر الوسيط. والحق هو أن العرب كانوا سبّاقين في إبداع القصص منذ الجاهلية، ولكن مؤرخي الأدب عندنا، مع الأسف الشديد، يجهلون ذلك، وكان لديهم عماءً عن حقائق تاريخنا القصصي والإبداع العربي فيه. وفي هذا المجال، كانت الحرب التي أعلنتُها ضدّ جهل العالم بنا، تشمل العرب أنفسهم هنا، فالعالم يجهل، وهم أيضاً يجهلون مداخلتنا في تاريخ القصص في العالم (عودي إلى تاريخ القصّة القصيرة ونشوئها: مثلاً قصص الأساطيـر كما تجدينها في كتاب التيجان في ملوك حمير ومصادر أخرى، ثم إلى فن «الخبر» عندنا، وعودي إلى إبداع المقامات الذي وجّه أول الروائيين الغربيين، سيرفانتيس، مؤلف دون كيشوت التي تعتبر أوّل رواية في الغرب، وتأثّره بالمقامات العربية وسواها، ثمّ عودي إلى قصّة المعراج التي كانت حاسمة في تأثيرها بدانتي الإيطالي، وكتابه الشعري الشهير الكوميديا الإلهية.

ولقد كان عن طريق الترجمة أننا، نحن العرب، أسّسنا علاقاتنا بالثقافات الأخرى حولنا، ولا سيما الأوروبية. لقد أخذ الأوروبيون عنا أشياء كثيـرة عن طريق الترجمة التي قاموا بها في القرون الوسطى من العربية. ولعلّ عدداً من أهمّ مؤلفاتهم اعتمد على الأدب العربي الذي تُرجم إلى اللاتينية أو إلى لغات أخرى، كالقشتالية، وهي أساس اللغة الإسبانية المعاصرة. فمثلاً، قام في القرن الثالث عشر نشاطٌ ثقافيٌ كبيـر في كاستيل التي كان ملكها ألفونس العاشر أو الحكيم، وكان معنياً بتمدين شعبه المتخلف حضارياً يومئذ، فأسّس مركزاً للترجمة في توليدو (طليطلة) قام أغلبها على الترجمة من العربية إلى اللغة المحكية في كاستيل أو قشتالة إلى جانب اللغة اللاتينية. وكان أوّل ما ترجموه إلى القشتالية كتاب كليلة ودمنة. ونقرأ أيضاً أن قصّة المعراج تُرجمت عنده كذلك إلى اللغتين اللاتينية والقشتالية. وحمل الخبر عنها، وقد يكون حملها كاملة إلى دانتي الكاتب والسياسي الخطيب بـرونيتّو لاتيني، وكان من نبلاء فلورنس وخطبائها، وقد أشرف على تثقيف دانتي بعد وفاة صديقه أبي الشاعر المبكرة. كما التقى، وهو في بلاط ألفونس العاشر، بمترجم المعراج إلى اللاتينية، ومن المرجح أنه حملها منه إلى دانتي. على كلّ حال، ليس من مجال للشكّ في أن دانتي متأثر كثيراً بصور قصّة المعراج ووصف الجنّة والجحيم وطبقات السماء السبـع… إلخ.

والحقّ أن هذا النـوع من التـشابه لا يجيء عفواً رغم الاحـتجاجات الكثيرة التي قام بها الأوروبيون، بعضهم لأسباب دينية، وبعضهم الآخر لأسباب عرقية، ولا سيّما بعد إعلان الراهب الإسباني الكاثوليكي ميغيل أسين بلاثيوس سنة ١٩١٩ أن الكوميديا الإلهية منقولة عن قصّة المعراج، وإلى حدّ أقل عن رسالة الغفران للمعري. وقد صدرت في العقود الأخيرة عدّة دراسات عن علاقة سيرفانتيس، مؤلف دون كيشوت، بالثقافة الإسلامية، تُـبيّـن تـأثره بالأدب العربي، وبعض هذا التأثر واضح للدارس، كلجوء سيرفانتيس في دون كيشوت إلى استعمال الراوي إلى جانب البطل، تماماً كما نجده في المقامات العربية، وكاستعماله للأسماء العربية في الرواية، وغير ذلك كثير. وليس بالإمكان الاستفاضة هنا أكثر، ولكن ثمة كتباً ودراسات صدرت مؤخراً عن علاقة كل من دانتي وسيرفانتيس (وأنا أتكلم هنا على اثنين من أهم أقطاب الفن القصصي (سيرفانتيس)، والشعري (دانتي) في الغرب) بالأدب العربي، ولا بدّ من نقلها إلى اللغة العربية. وأظنّ أن هذه العلاقات التي أثّرت عميقاً في الأدب الغربي، يجب أن توضع بوضوحٍ علمي أمام أعين الشبيبـة العربيـة ودارسي الأدب عالمياً. إن هذه مسؤوليتنا الأولى، وهي إعطاء الحقّ لصاحبه، وتأكيد التفاعل الأساسي، الذي حدث بيننا وبين عدد من ثقافات الأمم الأخـرى، فأغناها وحوّل تطورها. ويؤكد الغربيـون أن رواية دون كيشوت أو الكيخوتة، كما يسمّيها أهلنا في شمال أفريقيا هي أساس الرواية الغربية، الأمر الذي يومئ إلى الدور الكبير الذي قام به العرب في تأسيس أهمّ ما أبدعه الغرب في العصر الحديث على الصعيد الأدبي، وهو الـروايـة.

15 ـ تحبين التراث والحداثة، وتجمعين الشعر والنقد، وتبدين على صداقةٍ مع الجميع، مع الشباب الشعراء، ومع محبّي الشعر، وقد رأيتُ كيف كانت الشابات، وكيف كان الشبّان يقتربون منك للكلام معك ولسؤالك عن إنجازاتك، لا بل إنهم رغبوا في التقاط الصور معك. هل تؤثر هذه الأمور في نفسك؟ وكيف؟

الجيوسي: تؤثّر فيّ جداً، وكثيراً. وأشعر بأنني لم أعمل في فراغ، وأشعر بأن مستقبل المرأة العربية قادرٌ على الانتفاض، وعلى تغيير الوضع الثقافي، وأن هذا القرن سيكون قرن الشبيبة العربية من نساءٍ ورجالٍ، يعملون معاً وبتكافؤ وتكريم، حتّى يغيّروا ما يجب أن يتغيّر. لن تتسامح المرأة العربية مع الذين يعملون على تهميشها، وعلى إعلاء شأن الذكورية في وطن عربي يحتاج إلى كلّ إنجاز جيد. إنني شخصيّاً ليس لديّ إلا كل توافق في المزاج مع الشبيبة العربية، وما زلتُ أشعر بأنني معهم في الرؤيا والمقصد، وما زلتُ عربية حتّى الصميم، لا فرق عندي بين عربي من نجد، وعربي من بيروت. هنا توجد وحدة تاريخية للثقافة العربية، وتماثلٌ بالمصدر والغاية، وتاريخٌ موحّد، فكلّ هذه قوّتنا ومصدر استمرارنا. إنني أحترم كثيراً توزيع الجوائز العربية للإبداع، وفي تشديدها على هذه الوحدة التراثية المستقبلية الواعدة باستمرار طبيعي ناجز.

ليس لنا إلا هذا الإصرار على وحدتنا الثقافية، تاريخاً ومستقبلاً. إنه أقوى كثيراً من كل محاولات التفتيت والتدمير، لأنه ترابطٌ طبيعي تلقائي، لا تعمل فيه ولا مطابقات مخترعة. إنه حقيقة مستمرّة، ولكنه هدف كلّ من يريد تفتيت قوّة هذه الأمّة، ودفعها إلى النزع الأخير. وعلى كلّ واعٍ لنفسه وتاريخه ومستقبل هذه الأمّة، أن يكون يقظاً باستمرار في وطن عربي يعاني كراهية الذات، ونكران قيمتها، وتكالب الأعداء عليها، وبعضهم أنفار وجماعات من صميمها نفسه.

16 ـ حين كنّا ندردش سوية، قلتِ لي فجأةً إنك لم تلاقِ صعوبات كبرى، وإن الأمور كانت تحدث ببساطة، وتنفتح الطرق أمام المشاريع، ثم استدركتِ، وقلتِ: كما لو أن ثمة قوّة تحميني. أهو الحدس؟ أم ماذا؟ أهو التصميم أم الإرادة؟ أم لعلّه تطبيق لكلام والدتك لك حين كنت ذاهبة إلى بغداد: حظّك في يدك؟

الجيوسي: كم علّمتني تلـك المـرأة الحسّاسة قبل أن تلقيني الحيـاة في تجاربها العسيـرة. «حظّك في يدك» كانت آخـر وصية لي منها، وأنشأتني على الثقة بالذات والقدرة على تجاوز المصاعب. ولا شكّ في أنه كان للحدس دور كبير، ولقدرتي على المجالدة والتحمّـل. لقد بدأتُ مشروع الترجمة بمنحة قيمتها خمسة آلاف دولار، أرسلها إلي جاسم جمـال، ممثّل قطر في الأمم المتحدة في نيويورك، من دون طلب مني. كنتُ قد التقيتُ به في مؤتمرٍ كبير، وحدّثته عن وضعنا الثقافي المتردّي في العالم، فأرسل إلي تلك المقدّمة التشجيعية. لقد كانت فاتحة مليئة بالخير، وبها بدأنا. ولكن الحقّ يقال إني لم ألاقِ عُشر ما توقعه الآخرون لي من متاعب عندما بدأت مشروعي لنقل الثقافة العربية إلى اللغة الإنكليزية. إنني عنيدة، وإذا آمنتُ بضرورة عمل ما، ألاحقه حتى أنجزه. وأظنّ أن طلبي كان مقنعاً للآخرين، وجاء في مكانه (أمريكا) ووقته. إن منطقه واضح صريح إذا استوعبتَه، ولا مجال لأن تتجاهله إلا إذا كنت تقليدياً عتيقاً. لقد كنتُ جـادّةً ومقنعةً على ما أظنّ. لكن نقطة الضعف الوحيـدة كانت ذكورية عالمنا. فلو كنتُ رجلاً لكان المقتدرون، الذين ساعدوني دائماً، ولكن بحدود، تبنّوا ذلك العمل بلا حـدود، إذ كنت أستحقّ ذلك التبني الواثق، ولم يكن عند الآخر إلا أن يدرس ما كنت أنجزه، ثم يرجع إلى المراجعات التي نُشـرت عن الأعمال المتلاحقة حتى يقتنع، ولكن أهلنا لا يدرسون. ولو فعلوا لكنّا أنجزنا الكثير الأكثر على صعيدٍ عالمي واسع. آه، لو أنهم وزنوا الأمور بميزانها الصحيح، وبنتائجها المشرّفـة! ومع ذلك، فإني تمكّنتُ من إرساء عملٍ واسعٍ وبنجاحٍ لا ينكره أحد. وصارت دور النشر الكبيـرة تأخذ كتبنا قبل أن ننتهي منها، وقبل أن تراها. واشترك معنا في العمل عدد من أكبر شعراء بريطانيا وأمريكا، وليس هذا بقليل. وكانت مراجعات الكتب التي ترجمناها أو أعددناها مشرِّفة جداً. وبعد نجاح عملنا، خرجتُ بعـدّة استنتاجات أظن أنها مبنية على واقع منطقي تفسّر سبب نجاحه: أولها وأهمها هو أن المشاريع الناجحة يجب أن تُقام لحاجة حقيقية إليها. فلا فائدة من إقامة مشروع أنشئت قبله مشاريع مماثلة لم تنجح. ثم على المشروع أن يكون إتقانياً لا يتهاون في أي ناحية من نواحي العمل.

17 ـ وفي المساء نفسه، حين جرى منحك جائزة جديدة، قمتِ بكامل أناقتك (حرصت على وضع قرطين صغيرين قبل الصعود إلى المنصة، هل تحبين الكلام عن هذا؟)، وقرأتِ هذه القصيدة عنك وعن إنجازك:

«حلمٌ على ورق أنجزته بيدي

ولم يضن عليه الحبر والورق

حلم على أرق ألقمته جسدي

ولم يخنّي على عدوانه الأرق

حلم ورثت رفيع الشأو دان له

صبري الشحيح وقلبي ذلك النزق».

أتعلمين، لقد ذكّرتني قصيدتك هذه وزناً وقافية بقصيدة لمحمود درويش:

«مرّ الربيع سريعاً

مثل خاطرةٍ

طارت من البالِ ـ قال الشاعر القَلِقُ

في البدء، أَعجبه إيقاعُهُ

فمشى سطراً فسطراً

لعلَّ الشكل ينبثقُ

وقال: قافيةٌ أخرى

تساعدني على الغناء

فيصفو القلبُ والأُفُقُ

مَرَّ الربيع بنا

لم ينتظر أَحداً

لم تنتظرنا «عصا الراعي»

ولا الحَبَقُ

غنّى، ولم يجد المعنى

وأطربه

إيقاع أغنية ضاقت بها الطرق

وقال: قد يولد المعنى

مصادفة

وقد يكون ربيعي .. ذلك القلق».

هل تحبين شعر محمود درويش؟ هل تظنين أن تيار التفعيلة من بعد رحيل درويش سيستمرّ؟ أم أن الوزن سيغيب بغيابه؟

الجيوسي: لا أظنّ أن شعر محمود درويش أو أي شعر آخر قادر على الوقوف الآن في طريق هذا الاندفاع المفزع نحو تفكيك عرى الشعر العربي على هذا الشكل الخارج عن نطاق الفنّ. وهو وضعٌ جعل من كلّ من استطاع أن يدبّـج شيئاً في نثرٍ مليء بصـور أغلبها لا معنى لها، شاعراً مبدعـاً! ثمة جرثومة دخلت على الشعر، ويجب أن تأتي أكلها، قبل أن يلوّح بها ريح الفنـاء؛ جزء من اللعنـة التي حطّت علينا في هذا الزمن العجيب. لقد نجحت عملية التخريب وكأنها كانت مخطّطة في أيدي العارفين لما تـمّ من تغريبٍ للعرب عن تراثهم وإقصـائهم عن روح الفنّ، ونحن نتطلع ونتفرّج. ألصقوا إلى نقدها صفـة الرجعية والتخلف الفكري والفني، تماماً كما ألصق إلى كلّ من انتقد الصهيونية صفة اللاسامية. إنه عصرٌ لا يحتمل الحياة الواضحة، ولا يفهمها ولا مكان لها فيـه.

أما أبياتي الثلاثة، فلا علاقة لها بقصيدة درويش، وقد كتبتها إذ كنت أعدّ محاضرة عن مشروعي، غايته وتأسيسـه، فأضفت هذه الأبيات التي تتحدث أيضاً عن مشروعي إلى المحاضرة التي ألقيتها في مركز السكاكيني منذ عدد من السنوات.

18 ـ مَن مِن الشعراء تحبين طريقة إلقائه للشعر؟ هل استمعت إلى السيّاب، مثلاً، أو عمر أبو ريشة، أو بدوي الجبل (اختاري من تحبين من الشعراء والشاعرات).

الجيوسي: كنا نستمع أيام الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت إلى كل من سعيد عقل وعمر أبو ريشة، وكان الاثنان من أحسن من ألقى شعراً. وبقيت أنغام إلقائهما في أذنيّ سنين إلى أن أثمرت دراسة مطولة دقيقة عن الشعر المنبري أثبتها في كتابي الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث، وقد بنيتها أيضاً على ما قيل من شعر في المهرجان الأول للشعر العربي سنة ١٩٥٨، الذي درسته من مسجلات الإذاعة السورية في دمشق على عـدة أيام. وجاء الشعر الحرّ بعد ذلك، وأذكر كم جزعتُ في ملتقى المربد الأول سنة ١٩٧٨ (قد أكون مخطئة في السنة) عندما سمعت نازك الملائكة وخليل حاوي يلقيان الشعر. كانا اسمين شهيرين، وكان من اللائق الاستماع إليهما، حتّى ولو كان إلقاؤهما غير مؤثّر، ولكن الجمهور لم يعبأ بهذا، فما إن بدأ الواحد منهما بالقول، حتى أدرك الجمهور أنه لن يستمع إلى أي حماسة أو إلقاء جهوري بلاغي أو عاطفي، وراح الحاضرون يتحدثون في ما بينهم، فعَلَت همهمة عنيدة غطّت القاعة الكبيرة، وقضت على إمكان وصول الصوت إلى أبعد من الصف الأول.

كان أدونيس بارعاً في إلقاء الشعر، وكان نزار من أبرع من ألقى الشعر، إذ يملأ الناس الشوارع خارج مكان وجوده حتى يسمعوه. وكان درويش بارعاً أيضاً يتهافت الناس على سماعـه، ولا سيما لأن إلقاءه امتزج بموضوعه الوطني الكبير. أما السياب، فإن صوته يملأ أذني كلّما ذُكر أمامي. كنا نمـلأ حدائق بغداد البرية بأشعارنا، ولم أنسَ قط ذكرى ذلك الإلقاء الرائع، ولا سيَّما عندما كان يلقي أنشـودة المطــر.

19 ـ صرّحتِ عدّة مرات أنك بصدد كتابة مذكراتك، وبدا الأمر كما لو أنك ستكشفين فيها أموراً وأوراقاً، هل كتبتِها؟ شذرات منها؟ هل ستنشرينها؟

الجيوسي: لديّ لوحـات كاملة، كلّ منها عن منحىً من مناحي تجاربي في الحياة، وبعضها منشور بالإنكليزية، ولكن لكي تصلح لكتابٍ منسجمٍ، عليّ أن أملأ فجوات كثيـرة بينها. لستُ أظنّ أن بالإمكان كتـابـة مذكراتي متسلسلة زمنياً. هذه تحتاج إلى بحث في تاريخنا المعاصر، وتاريخنا الأدبي بشكلٍ خاصٍ، حتى تستوفي الشروط الدقيقـة التي أضعها لكلّ ما أكتب. ولستُ أظنّ أن الزمن المتبقي لي، مع كثرة ما عندي من التزامات، سيوفر لي الوقت الكافي، بل علينـا أن نكـون واقعيين. أما اللوحات، فهي روايات مكتملة عن منحىً معين من حياتي أو من حياة آخرين كان لها دورٌ مهمّ في حياتي، وبعضها تدخل في عالم القصص لغرابتها، كقصّـة زواج جدّي لأمي من جدتي التركية؛ وقصّة زواج والديّ في دمشق. إن قصص الحب لا تمــوت أبداً، لكن المهم في كتابتها هو البعد عن العاطفية المتهافتـة والتزام اللياقـة الأدبيـة والتوازن.

20 ـ أنتِ مثال بنظر الكثيرات لأنك امرأة حرّة بعقلك وعلمك، أخبريني عن المرأة الحرّة فيك؟

الجيوسي: كانت والدتي تقول باستمرار: «الحمد لله على أن هذه البنت المجازفة، الخارجة من جلدها، لا ترغب في الشّر. الحمد لله ألف مرّة». وكانت تهدئ أبي إذا قلق عليّ. كانت تقول له بحسب روايتها لي بعد سنين: «أنت الخارج الأوّل من جلدك، حتى على الصعيد الشخصي. أنت طلبت المستحيل وحصلت عليه، تذكّر!». كانت تومئ إلى قصة زواجهما العجيبة الجميلة. كتبتها أنا منذ سنتين بالإنكليزية لأضيفها إلى ما أستطيع كتابته عن حياتي وإرثي المباشر للنشر، انتزاعاً من وقت هذا العمل الذي فرضته على نفسي في خدمة الثقافة العربية. ليت العمر يمهلني، وليته يستمرّ حتّى أكمل طريقي.

لم يكن هيّناً أن أجد نفسي في عام 1984 واقفةً في أغنى المكتبات العالمية بتراث الإنسان الفكري والإبداعي، مكتبة دار جائزة نوبل العالمية في استوكهولم التي تضمّ آلافاً من الكتب من كل مكان في العالم، وأكتشف أن كلّ ما عندهم من الثقافة العربية، هو أربعة كتب صغيرة مترجمة، محفوظة لا على الكواليس (الرفوف) المشرئبة، بل في درجٍ جانبي صغير!!. قلتُ للمنصف الوهايبي الشاعر التونسي المعروف الواقف قربي: «هذا لا يصدّق يا منصف!». وعلمتُ أن حياتي قد ختم الدهر عليها، وأني لن أهدأ أبداً، ولم أهدأ.

عندما جابهتني حقيقة غيابنا المخجل عن الثقافة العالمية، وأيقنت أن حياتي أصبحت مرهونة لمحاولة تغيير الـوضع الكئيب، كنت أعرب عن ثقـة بأن الأمر ملك يـدي. هذا تماماً ما شعرت به وقتئذ. لقد كنت واثقة كل الثقـة بأن العمل لن يعجزني، بل كان واجباً عليّ مواجهة الـوضع بقوة وبساطة، ولعل هذا ساعد على الإقناع. لا أعرف، ثمة روح واثقة تلحّ ببساطة، وتتحدث بغضب هادئ، وكان النجاح حليفاً رضيّاً.

ولكنني ما زلت أتساءل حتّى بعد نجاح مشروعي، وصدور إحدى عشرة مجموعة كبيرة مترجمة، وستة كتب حضارية، والعديد من الكتب ذات المـؤلف الـواحد، وترحيب العالم الخارجي بكل هذا: كيف ترك ويترك العرب تاريخهم وإنجازهم ضائعاً مجهولاً، وكأنّ هذا أمر طبيعي مقبول، وكأنه مفروض علينا من السماء! تركت كل شيء وخرجت إلى مجازفة كبيرة، وكأني أدخل إلى بيت أبي من دون تردد أو خوف. وصدق حدسي. وجدت، رغم الصعوبات الذكورية الكثيرة، من يستمع إليّ ويساند عملي. عملتُ أقصى جهدي لإنجاح العمل وإتقانه واختيار الجيد للترجمة، والموضوع الحضاري المهم للبحث والتقديم. وكان إقبال العالم الخارجي عليه جيداً جداً، واهتمام دور النشر الكبيرة به أمراً ملحوظاً، ومشاركة شعراء وكتّاب معروفين من الناطقين بالإنكليزية، وبعضهم من كبار الشعراء في لغتهم، ما أعطاه قيمة إضافية.

لن يهدأ هذا العمل وأرجو أن لا تهدأ هذه الحرب السلمية الكريمة الغاية، الأمينة على كل إبداع عربي، لمئة سنة من اليوم .