بعدما توفي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رمز وملهم وقائد الزخم الشعبي العربي الهائل لفكرة الوحدة العربية، وتخلت مصر عن دورها القيادي الطليعي في تبني ونشر ذلك الشعار السياسي القومي الثوري، دخل الفكر والنضال القومي الوحدوي في مرحلة قلق وشكوك في الذات وسكون في النشاط.

تلك كانت الخلفية التي جعلت المرحوم الصديق سعدون حمادي يطرح على مجموعة من أصحابه المقربين فكرة إنشاء مركز دراسات الوحدة العربية. ذات مساء خرجت وإياه نتمشى في أحد شوارع بغداد حين عبّر عن قلقه من تراجع الفكر الوحدوي عند الجيل الجديد من جهة، ومن غموض فوائد وأهمية الوحدة العربية في ذهن وقلب المواطن العربي العادي من جهة أخرى. ثم أردف قائلًا بأنه سيقترح على مجموعة من القوميين المهتمين بالأمر، الذين يشاطرونه قلقه، التعاون في إنشاء مركز فكري ثقافي نشري ليقوم بمهمة تعميق وتوضيح وتبسيط ونشر مفهوم الوحدة العربية وموجباته في الواقع العربي بحيث يقتنع المثقف والعامل والطالب والفلاح وسيدة البيت، بأهميتها وفائدتها في حياتهم الخاصة والعامة وفي حياة المجتمع المحلي الذي يعيشون فيه.

كانت فكرة بسيطة في البداية، لكنها تطورت مع مرور الزمن لتصبح ألقًا مؤسسيًا في الساحة الثقافية العربية، عبر الوطن العربي كله، وليتسع الاهتمام القومي العروبي ليشمل كل مكونات المشروع النهضوي العربي الستة: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال القومي والوطني، العدالة الاجتماعية، التجديد الحضاري، والتنمية الإنسانية المستمرة.

لقد أصدر المركز منذ إنشائه أكثر من ألف كتاب فكري وبحثي ومنهجي في الحقول الستة تلك، ساهمت في إغناء مكتبة الفكر القومي الشامل وفي إبقاء ذلك الفكر حيًا وحيويًا لدى جمهور واسع من القراء عبر الوطن العربي كله. وبذلك أصبحت نتاجات المركز تلك أحد أكثر المصادر التي يشار إليها من جانب آلاف المؤلفين العرب والأجانب.

لكن قمة الدفق الفكري القومي للمركز تمثل في مجلته الثقافية الشهرية: المستقبل العربي. وبسبب توازن المجلة العلمي ومحافظتها على استقلاليتها الفكرية، وتجنب هذه المجلة الدخول في المماحكات الأيديولوجية والانتهازية السياسية، استطاعت أن تكون منبرًا مفتوحًا ومستقبلًا للكتاب العرب كافة الجادّين الرصينين، من أقصى المغرب العربي إلى أقصى المشرق. ولا يكاد يوجد كاتب عربي كتب في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة إلا وساهم في إغناء تلك المجلة. وتُظهر مراجعة فهرس موضوعات المجلة عبر السنوات الأربعين الماضية أنه لم يوجد موضوع مجتمعي واحد شغل بال الأمة العربية إلا وتعاملت معه تلك المجلة بصورة منهجية عملية عقلانية رصينة مقنعة.

ذلك كان عطاءً غنيًا ومتميزًا له ما له وعليه ما عليه. لكن، أما وأن المجلة تحتفل بصدور خمسمئة عدد من عطائها الشهري بانتظام والتزام، فإنه حق عليها أن تطرح على نفسها بعض الأسئلة في شأن مستقبلها ومستقبل نوع الرسالة الفكرية التي ستحملها. ذلك أن أوضاع أمتنا، كما أوضاع العالم كله، تعيش حالة تغيرات هائلة كبرى تستدعي أنماط معالجات فكرية جديدة قادرة على المساهمة في القدرة العربية على مواجهة تلك الأوضاع والتغيرات الجديدة المعقدة. لنستعرض بعضًا مما يجب أن يهتم به المركز بصفة عامة، ومجلته بصفة خاصة، إبان حاضرنا ومستقبلنا.

أولًا، هناك موجة كبيرة من محاولات النقد الذاتي من داخل الحركة القومية العربية وخارجها لمعرفة أسباب ومسببي التراجعات الهائلة التي رانت على كل أرض العرب عبر العقود الأربعة الماضية على الأخص، والتي رافقها ضمور كبير للرابط القومي العروبي المشترك في كل الساحات.

ولأن هناك خطة استعمارية صهيونية ورغبة انتهازية داخلية لدى بعض الأنظمة العربية فقد استعملت الجهتان محاولة النقد الذاتي تلك للقيام بتدمير الذاكرة العربية الجمعية، وللتحامل على كل منجزات حقبة المد القومي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولإعلاء الولاء الوطني القطري فوق وضد الولاء القومي المشترك، بل ولإعلاء الولاءات الفرعية المذهبية الطائفية والقبلية والعرقية والمناطقية فوق وضد الولاء الوطني القطري من أجل تجزئة أو تدمير الوطن القطري.

إنها مراجعة منهجية مليئة بالأكاذيب والتضليل والتشويه المتعمد، لها مراكز بحوثها وكتابها وإعلاميوها. من هنا الأهمية القصوى في أن تتبنى مجلتنا قيادة القيام بمراجعة نقدية شاملة متوازنة علمية موضوعية للموضوع برمّته، وعلى الأخص من أجل الإشارة إلى الأخطاء في الممارسة وإعادة ترتيب الأولويات، ولكن من دون أن نتخلى عن مشاعرنا القومية الطبيعية التي بناها التاريخ عبر قرون وعن حاجة العرب الوجودية لقيام أمة عربية واحدة في وطن عربي واحد في نهاية المطاف.

وكجزء من تلك المراجعة ستحتاج المجلة إلى عقد حلقات كثيرة مفتوحة للرد على كل الافتراءات، ولإبراز أهمية موضوع الحركة القومية الوحدوية – لا كطرح نخبوي للمثقفين فقط ولكن أيضًا كتفاصيل واقعية عملية – لحل مشاكل المواطن العادي وضمان مستقبله المعيشي والأمني والحضاري في هذا القطر أو ذاك أو في كل الوطن العربي. من الضروري أن يقتنع المواطنون العرب في كل الأرض العربية بأن خروجهم من تخلفهم التاريخي، ومن استباحة أرضهم من جانب قوى الاستعمار والصهيونية، وبأن، دخولهم في حضارة العصر من أبوابها الواسعة مرتبط أشد الارتباط بمدى اقترابهم من تحقيق وحدة أمتهم.

ثانيًا، كجزء مفصلي من المهمة الأولى هناك حاجة إلى إعطاء المجلة فسحة أكبر من كتاباتنا ومؤتمراتنا الفكرية لموضوع العلاقة الملتبسة عند البعض فيما بين واقع الدولة الوطنية القطرية العربية وبين أمل وأهداف العمل على قيام نوع من الوحدة العربية في المستقبل. مطلوب الإبراز المقنع، من خلال البحوث والمنطق الفكري، أن لا تناقض ولا تصارع في ما بينهما، وأن الوحدة المنشودة لن تكون على حساب مصالح هذا الشعب العربي أو ذاك، في هذا القطر أو ذاك.

ولأننا أمة تجيد طرح الشعارات الثنائية المتصارعة في حياتها السياسية والثقافية، لتصبح بعد ذلك ضحية لتلك الثنائيات العبثية، فقد فعلنا الأمر نفسه مع ثنائية القومي/القطري، فقد طرحت في المشرق العربي على الأخص في شكل تنافس استئصالي لا يقبل التعايش في أي شكل من أشكال التوحد، كما تمثل مثلًا في الاتحاد الماليزي أو الأمريكي أو السويسري أو حتى الأوروبي في شكله الاقتصادي الناجح.

إن الخوض في هذا الموضوع سيحتاج إلى أن يبرز بصورة علمية هادئة مقدار فشل الدولة العربية القطرية عبر عقود طويلة في حقول الاستقلال والأمن الوطني والتنمية الإنسانية، وفي الاندماج التفاعلي مع المنجزات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، ويبيّن بصورة مقنعة حاجة الدولة القطرية لمجالها العربي في حقول الاقتصاد والأمن وتقاسم المصادر الطبيعية والعمالة وبحوث العلوم والتقدم التكنولوجي، ويبعدها بالتالي من الوقوع في فخ الابتزاز الخارجي. وهذا سيضيف لأهمية المجال العربي عوامل المصلحة المشتركة والكفاءة والفاعلية المترتبة عن خطوات التعاون والتوحيد القومي، الأمر الذي سيغني ويضيف إلى عوامل اللغة والتاريخ المشترك والجغرافيا الممتدة الواحدة والثقافة العروبية المشتركة التي قام عليها المشروع القومي الوحدوي عبر مسيرة تكونه ومحاولة تطبيقه في الواقع العربي المجزأ طوال قرن من الزمن.

ثالثًا، إن العرب، شعوبًا ودولًا في الحالة الحاضرة، هم جزء من هذا العالم العولمي المليء بالإنجازات الهائلة من جهة، وبالأخطاء الكبيرة من جهة أخرى. لذلك، فعلى مستوى الأفكار الفلسفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة على هذا العالم، وعلى مستوى الممارسات الحياتية التي رسختها الرأسمالية النيوليبرالية العولمية في طول العالم وعرضه، وعلى مستوى الإنجازات العلمية والتكنولوجية والتواصلية الإلكترونية التي تعيد تركيب حاضر هذا العالم ومستقبله، هناك نقاط احتكاكات وتحديات وتفاعلات في ما بين الفكر القومي النهضوي الذي ندعو إليه وبين ما يطرحه الآخرون في هذا العالم.

هذا الأمر سيحتاج إلى تحليل ونقد وتفاعل ندي موضوعي لينقل الحياة الفكرية العربية من مكانة التلقي ورد الفعل والانغلاق الخائف والتبعية للمركز الحضاري العولمي إلى رحاب التفاعل الندي، والأخذ والعطاء، مع حضارة العصر بكل أوجه حداثاتها، وذلك من أجل بناء حداثة عربية ذاتية إنسانية تساهم في إغناء حضارة العصر وتشارك في تصحيح مساراتها الخاطئة إن وجدت.

هذا موضوع كبير ومعقد سيحتاج إلى تركيز عميق ونشط من قبل جانبنا لتساهم في إخراج العرب من حالات الريبة والتوجس تجاه الآخر، والفكاك من ثنائية الأصالة/ المعاصرة، وإعادة الثقة بقدرتهم على الوقوف الحضاري المستقل بصلابة وكفاءة وإبداع أمام الثقافة الاستهلاكية المسطحة والفردانية الجامحة وهيمنة قيم السوق العولمي ومؤسساته المهيمنة على السياسة والمشوّهة للكثير من جوانب الممارسة الديمقراطية.

وإذا كان الغرب الذي وضع أسس الرأسمالية النيوليبرالية العولمية وثقافتها قد بدأ يضيق ذرعًا بسلبياتها الكثيرة فأحرى بنا، نحن العرب، المكتوين بنار ذلك النظام المتوحش وثقافته، أن نكون في طليعة المساهمين في عملية تحليل ونقد ذلك النظام، واقتراح خطوات تجاوزه نحو نظام ديمقراطي أكثر إنسانية وعدالة، وثقافة أكثر التصاقًا بالقيم وبحاجات الإنسان الروحية. هذا دور يمكن أن تنخرط فيه مجلتنا بكفاءة والتزام مرتبط بهويتنا العروبية وبخصوصيات مجتمعاتنا العربية التاريخية والحاضرة.

رابعًا، طوال القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، عاش العرب مع ثنائية عبثية أخرى وهي عبثية العروبة/ الإسلام. وكالعادة اندسّ العابثون والانتهازيون والجهلة ليجعلوا هذه الثنائية في الحياة العربية ثنائية متنافسة ومتصارعة، وحتى الادعاء أن أحدهما يجب أن يموت ليعيش الآخر.

ولقد بذلت جهود كبيرة لإيجاد أرضية مشتركة بين فكر وممارسات الحركات القومية العربية وفكر وممارسات الحركات الإسلامية السياسية المنتظمة في أحزاب. ولعل من أهمها المؤتمر التاريخي القومي – الإسلامي الأول في تشرين الأول/أكتوبر 1994، وعلى الرغم من النيات الحسنة التي أبداها المتحدثون وكلمات التقارب ونبذ الخلافات التي ألقيت عبر ثلاثة أيام من جانب مفكرين ومناضلين بارزين، وكانت واعدة إلى أبعد الحدود بإمكان وجود تفاهم متبادل عقلاني ومستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية التي تعيشها الأمة، إلا أن عدم الاستمرار في اللقاءات، وما طغى على الحياة العربية السياسية خلال حراكات الربيع العربي وبعدها من انقسامات وصراعات، ساهما في وأد محاولات التفاهم والاتفاق على المشترك النضالي.

اليوم، ونحن نعيش حالة تصاعد الجنون الجهادي التكفيري العنفي، الذي يمارَس باسم الإسلام المفترى عليه، أصبحت الحاجة مضاعفة إلى العودة إلى تلك المحاولة. في قلب تلك المحاولة أهمية دراسة حالات التلازم والترابط الحضاري ودراسة حالات الاختلاف بصورة علمية وعقلانية مستقلة عن مماحكات الماضي، ومتحررة من مغالطات الاستشراق، ومركزة على الكثير المشترك، وبذل جهد فكري في الكشف عن إمكانات التقارب فيما بين القليل المختلف حوله.

إن مجلتنا قادرة على أن تعض على هذا الموضوع بقوة وثبات، وتجيّش الكتاب والمفكرين للوصول إلى نتيجة واضحة وصريحة حول أهمية وجود علاقة وجودية بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري، وحول الضعف الذي سيصيب حضارة الأمة في حالة نكران أو ضعف تلك العلاقة. إن حل ذلك الإشكال المفتعل سيساهم مساهمة كبيرة في توضيح تعريف وتحديد مكونات الهوية العروبية للإنسان العربي.

في اعتقادي أن مجلة المستقبل العربي، كأحد أهم أبوابنا المنفتحة على كل قضايا وهموم وآمال المجتمعات العربية والمواطنين العرب، ينبغي أن تعطي اهتمامًا خاصًا للجوانب الأربعة السابقة، تلك الجوانب التي ستحتاج لسبر أغوارها وإنارة ما أظلم فيها نتيجة لعوامل كثيرة معروفة، ستحتاج إلى بحوث وتحليلات وتركيبات إبداعية.

ذلك أن الفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية التي عمّت الوطن العربي كله إبان السنوات العشر الماضية على الأخص قد نتج منها فوضى فكرية وعقائدية لم يرَ الوطن العربي مثلها وفي حجمها طوال القرن العشرين.

وعليه، فمن واجب مجلتنا، وهي تحتفل بمسيرتها الطويلة الرائعة وتفاخر بمنجزات الماضي، أن تقبل بقدرها الجديد: قدر المساهمة الفاعلة المبدعة الملتزمة في إصلاح ما هدمته تلك الفوضى البائسة التي يعيش الوطن العربي حاليًا في جحيمها ولعناتها.

خامسًا، لن يكفي أن تنجح المجلة في اختيار الموضوعات القومية المفصلية وتجدد مسارها الفكري، إذ إن نجاحها في الوصول إلى القراء الشباب هو في الأهمية نفسها. فلقد تغيرت لدى الشباب الكثير من العادات، بما فيها عادة القراءة وأنواع مصادر المعرفة التي يغرفون منها.

من هنا الأهمية الكبرى لمتابعة المسؤولين عن مجلة المستقبل العربي المستمرة لحقل التواصل الاجتماعي الإلكتروني والتكيف مع مستجداته السريعة التبدل.

من دون الوصول إلى ملايين الشباب والشابات العرب سيظل الفكر القومي العروبي الوحدوي حبيس أبراج النخب ودهاليز الأحزاب، من دون أن يصبح ثقافة وهوية مجتمعية شاملة تجمع تحت جناحها كل الأيديولوجيات وكل الجماعات.

 

قد يهمكم أيضاً قراءة الافتتاحية الثانية للعدد نفسه  أربعة عقود من النضال الفكري

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المستقبل_العربي #مجلة_المستقبل_العربي #الوحدة_العربية #الديمقراطية #التجديد_الحضاري #القومية_العربية #العدالة_الإجتماعية #التنمية_الإنسانية #سعدون_حمادي #الوطن_العربي #العالم_العربي