مقدمة:

يتناول هذا البحث وقائع جائحة كورونا، وانعكاساتها العامة على العالم، ويركز بخاصة على الشكل المتوقع للنظام الدولي، حيث وقع الكثيرون تحت وطأة السؤال عن الشكل الذي سيكون عليه العالم، ونظامه بعد التغلب على الوباء: هل ستؤدي انعكاسات الجائحة وطريقة تعامل الدول الكبرى معها إلى تغيّر في شكل النظام العالمي وموازين القوى فيه؟ وهل يعاد الاعتبار إلى الدور المركزي للدولة الوطنية؟ وهل نشهد تغيّرًا في السلوك الإنساني بعامة، وهل يتغير العالم كله؟ تم التعامل في محاولة الإجابة عن هذا السؤال انطلاقًا من ثلاث فرضيات:

الفرضية الأولى، تتحدث عن أنّ فشل دول الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في التعامل مع جائحة كورونا، وانكشاف ضعف النظام الصحي في تلك الدول، ما عدا ألمانيا إلى حد ما، معطوفًا على أزمة اقتصادية كبيرة في الدول الغربية وغياب التضامن المفترض في ما بينها، مقابل نجاح الصين في احتواء الجائحة، وعودة عجلتها الاقتصادية إلى الدوران بسرعة نسبية، وهي التي كانت أصلًا تملك اقتصادًا في حال صعود قبل ظهور الفيروس، سوف يفرض تغيرًا كبيرًا وعميقًا في النظام الدولي، وسيقود إلى أن تتولى الصين قيادة النظام العالمي الجديد.

الفرضية الثانية، تُبنى على التشكيك في قدرة الصين على قيادة النظام العالمي، وعلى أنّ الغرب يملك اقتصادات هائلة وقوية جدًا، كما أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تملك أكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ الإنساني، وتتحكم في عملة الاقتصاد العالمي (الدولار)، وأنّ الحديث عن نجاح الصين في الاحتواء يتصل بمعطيات مضللة وبلعبة إعلامية تروج للنجاح الصيني، على عكس ما هي الوقائع الفعلية، ومن المتصور أنّ النظام الدولي سيعود إلى ما كان عليه بعد الانتصار على الفيروس، مع تسجيل زيادة في حدة الاستقطاب الدولي، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

الفرضية الثالثة، تقول إنّ ثمة مؤشرات عميقة على أنّ شيئًا لن يعود مثلما كان. لن تتقدم الصين إلى قيادة النظام العالمي، لكن النظام الذي تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية قيادته لن يعود، ولن نرى التحالفات التقليدية التي اعتدنا وجودها خلال العقود الماضية، وستطرح الكثير من المفاهيم التي تم ترسيخها بوصفها حقائق منتهية للمناقشة، ومنها ما يتعلق بالعولمة والليبرالية ودور الدولة الوطنية، وكذلك دور الإعلام الذي برز بقوة مؤثرة، والسلوكيات الاجتماعية المعتادة عامة. وبكلمة، سوف نكون أمام إرهاصات عالم جديد.

أولًا: النظام الدولي قبل الجائحة

 

1 – تطور مفهوم النظام الدولي

تعرّف موسوعة السياسة مفهوم النظام على أنّه «مصطلح يطلق على الظواهر والعلاقات والبنى الاجتماعية بما يفيد تبلورها وانتظامها في قواعد ومصالح وقيم واتجاهات متمايزة. ويتضمن النظام – سياسيًا – مبادئ وإجراءات ومؤسسات وأجهزة تنظيمية تعمل لتحقيق هدف أو مصلحة ما»[1]. وتعرّف الموسوعة السياسية النظام الدولي «بأنّه مجموعة من المتغيرات في تفاعل بعضها مع الآخر. وقد يكون هذا التفاعل متكرر الحدوث ومعتمدًا بعضه على بعض، إضافة إلى أنّ أيّ تغيرات في أجزاء النظام تؤثر في الأجزاء الأخرى. ويمكن القول إنّ كل الأنظمة لها قواعد وأعراف معينة، وحدود معرفة، وهيكل وتنظيم بالإضافة إلى مجموعة من المدخلات والمخرجات. وأما بالنسبة إلى الوحدات المشكلة للنظام فقد تكون دولًا مستقلة أو مجموعات من الدول كالأحلاف العسكرية والتجارية ومؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة، إضافة إلى فاعلين دوليين غير الدول، وحتى بعض الأفراد. غالبًا ما يتسم النظام الدولي بالفوضوية، أي أنّه نظام سياسي دون حكومة ودون قواعد مستقرة وقيم راسخة، ولذلك يجب أن نتصور نظامًا دوليًا بقواعد، دون منظم لهذه القواعد. وتحصل هذه الفوضى العالمية لأنّ كل الدول تتصرف حسب مصلحتها الذاتية، وأنّه لا دولة ستتصرف بأخلاق، حيث لا يوجد من يؤمنها إذا تصرفت الدول الأخرى بسلوك غير أخلاقي»[2]. وهناك من يعرّف النظام الدولي بشكل مختصر على أنّه «الإطار المؤسسي والدبلوماسي والسياسي والقانوني الناظم للعلاقات الدولية خلال فترة تاريخية معينة»[3].

تذهب دراسات حديثة إلى نفي صفة الفوضى عن النظام الدولي، وترى أنّ «جوهر عمل النظام الدولي هو الوصول إلى حالة الانتظام في غياب أي مصدر محدد للسلطة العالمية، على غرار ما هو موجود على مستوى الأنظمة الوطنية، وبذلك يكون النظام الدولي ذاتي التنظيم أكثر من كونه فوضوي البنية، وتصبح الفوضى مجرد وصف تحليلي أكثر من كونها مشكلة معيارية في كيفية عمل النظام»[4].

مع أنّ محاولات إيجاد نظام دولي تعود إلى القرن الرابع عشر، فإنّ مفهوم النظام الدولي نشأ «في ظل اتفاقيات وستفاليا (1644 – 1648) التي أنهت حربيَ الثلاثين سنة والثمانين سنة التي مزقت أوروبا وتصارعت فيها الإمبراطورية الإسبانية المدعومة من قبل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ودول شمال القارة البروتستانتية في أغلبها والمتحالفة مع ألمانيا وفرنسا التي دخلت هذا الحلف رغم كاثوليكيتها لدفع التوسع الإسباني الذي غصب بعض أراضيها ومعها هولندا»[5].

عرف النظام الدولي شكلًا أوضح خلال القرن العشرين، وبخاصة عقب الحربين العالميتين، الأولى (1914 – 1918) والثانية (1939 – 1945)، فبعد الحرب الثانية، انهارت «عصبة الأمم» وتأسست الأمم المتحدة بوصفها التجلي الأبرز للنظام الدولي الجديد. في المقابل تكرس، بنتيجة الحرب، نظام ثنائي القطبية بين العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وشهدت هذه المرحلة ما عرف بالحرب الباردة[6] بين الكتلتين، التي تجسدت في الكثير من الحروب الصغيرة المسيطر عليها، وفي حروب إعلامية ودعائية شرسة، هي من بين أسلحة الحرب الباردة، لكن انهيار المنظومة الشيوعية ثم الاتحاد السوفياتي ما بين عامي 1989 و 1991، أذن بنشوء «نظام عالمي جديد» تميز بالأحادية القطبية في المرحلة الأولى، حيث تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم، قبل أن ينشأ في مرحلة تالية شكلٌ من تعدد الأقطاب، وبروز قوى إقليمية صاعدة، من دون أن يتم الحديث عن نشوء نظام مختلف، حيث ظل كل كلام على «النظام العالمي الجديد» في الوسائط الإعلامية، وأغلبية الدراسات البحثية، مرتبطةً بالإشارة إلى تصدُّر الولايات المتحدة للقيادة.

في ظل حالة النشوة التي سادت الغرب بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، تم التشديد على أنّ ما حققته المنظومة الغربية هو انتصار حاسم ونهائي للنموذج الرأسمالي الغربي، بل يمثل «نهاية التاريخ» بتعبيرات فرانسيس فوكوياما[7]، وعليه فإن النظام العالمي الجديد هو نهائي وثابت. كتب فوكوياما: «ربما لا يكون ما نشهده هو مجرد نهاية الحرب الباردة، أو انتهاء فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، بل التاريخ ذاته: أي نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية كلها وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء»[8].

واقع الحال أنّ الهيمنة الأمريكية المطلقة، التي تم الحديث عنها بوفرة في الإعلام والدراسات البحثية، لم تستمر إلى وقت طويل، فقد عرفت السنوات الأولى من الأحادية القطبية عالمًا غير مستقر، وأزمات دولية متلاحقة، لتسجل سلسلة من التراجعات الغربية (الأمريكية على نحو أكثر دقة) مع دخول العالم الألفية الثالثة، بداية من الحربين الأمريكيتين «الكارثيتين في أفغانستان والعراق، وغرقها (الولايات المتحدة) في مستنقعات حروب مجنونة لا نهاية لها، مثل الحرب على الإرهاب، التي حدّت كثيرًا من إمكاناتها العسكرية وجعلت قدرتها على التدخل عسكريًا في مناطق جديدة محدودة جدًا وغير مضمونة النتائج، ما أدى إلى نشوء عقيدة جديدة لإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تفضِّل خيار القوة الناعمة في تدخلاتها في الساحة الدولية على خيار العمل العسكري. كان ذلك كله متوازيًا مع الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي عصفت بالولايات المتحدة ابتداءً من عام 2008، والتي لا تزال آثارها السلبية في الاقتصاد الأمريكي ماثلة إلى اليوم»[9].

فاز دونالد ترامب في انتخابات رئاسية كان شعارها الأساسي «أمريكا أولًا، والكف عن السياسة التدخلية» التي طبعت عقودًا من السياسة الخارجية الأمريكية، لكن في ذلك الوقت بالذات صار الحديث عن الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية غير منطبق على واقع الحال، فقد سجل «بروز قوى دولية جديدة تحاول استغلال ظرفية الانكماش الأمريكي الحالي لمصلحة توسعها إقليميًا ودوليًا، ومحاولة إيجاد نوع من التوازن العالمي وإنهاء حالة القطبية الأحادية التي سادت العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود. وتعد روسيا والصين أهم قوتين دوليتين في هذا السياق، إضافة إلى قوى أخرى صاعدة مثل الهند والبرازيل، على الرغم من محدودية دورهما دوليًا»[10]. وتطورت أدوار الكثير من القوى الإقليمية في ظل حالة الإفلات من الضوابط التي كانت تضعها معايير الحرب الباردة، ثم الأحادية القطبية، ومن أبرز الأمثلة على صعود أدوار هذه القوى الإقليمية، تزايد نفوذ كل من تركيا وإيران على مستوى الإقليم.

سواء نجم تراجع القيادة الأمريكية وقدراتها عن أخطاء، أم عن حقيقة القدرات، أم عن حال التدافع الطبيعي بين القوى الدولية الساعية إلى السيطرة وتقوية ممكناتها ونفوذها، فإنّ النظام العالمي الأحادي القطبية لم يعد قائمًا من الناحية العملية، وسادت حالة من السيولة في العلاقات الدولية، تقترب من الفوضى، «لتظهر أول وثيقة أميركية بعد الحرب العالمية الثانية، تُقرّ بحاجة الولايات المتحدة إلى شراكة مع القوى الأخرى، أي نتحدث هنا عن تقرير «بايكر هاميلتون» (جايمس بايكر ولي هاميلتون)، الذي رسم استراتيجية جديدة للولايات المتحدة تقرّ بالعجز من خلال التفرّد («وحدنا لا نستطيع»، شعارٌ ورد في الوثيقة)، والحاجة إلى التعاون مع الآخرين»[11].

لم يحدث شيء من هذا. يتحدث البعض عن أنّ الولايات المتحدة هي التي تسببت في تصاعد الأزمة عبر محاولة إحداث تغيير قسري في النظام الذي سعت لترسيخه منذ وقت طويل؛ فـ «إدارة دونالد ترامب، وبالرغم من نقضها لكلّ المواثيق والسياسات والاتفاقات السابقة، لم تنجز الكثير في سياستها الخارجية تحت عنوان «أميركا أولًا»، وأتت النتائج لتؤكّد صوابية تقرير بايكر هاميلتون، بالأخص بعد معاينة النتائج المحقّقة في ملف كوريا الشمالية وإيران وأفغانستان والشرق الأوسط، بوجه عام. كلّ ذلك أدّى إلى تراجع الهالة الأميركية في العالم، وقد أثبتت التجارب أنّ الأدوات الأميركية الجديدة، أي عدم الاعتراف بشرعية السلطات في الدول، والعقوبات على الأفراد والشركات والحكومات، ودعم المعارضين المحليين، والفوضى الخلّاقة، نادرًا ما يمكن أن تغيّر بشكل حاسم، قرارات تتعلّق بمصالح الدول الحيوية»[12]. عمليًا، منذ صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية قبل أكثر من ثلاث سنوات، اتسم الوضع الدولي بزيادة حدة الاستقطاب بين القوى الكبرى، وقدرة القوى الإقليمية على التأثير وصرف النفوذ في محيطها القريب على الأقل، وظهرت مؤشرات إلى تغيرات ملحوظة، وإن كانت غير حاسمة، في صيغ التحالفات الدولية التقليدية، وبرزت دلائل على أنّ العالم يفتقر إلى قيادة دولية عاقلة، وينحو باتجاه مزيد من الاضطراب غير المسبوق. «إن عالمنا يعيش ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية، هي ظاهرة تفتت وتفكك المرجعيات والمنابع المنتجة للمعنى. ومراقب طبيعة حركة الأحداث، وبخاصة منذ اقتراب القرن 21، سيلاحظ ازدياد درجة عدم اليقين بالنسبة إلى مختلف الرهانات والمجالات. فعالمنا الراهن هو عالم اللاستقرار، وإطار القلق واللايقين أصبح بعدًا جديدًا في الوضع الراهن»[13].

2 – النظام الدولي عشية الجائحة

يبدو مفهومًا تزايد الكلام على ضرورة حدوث تغيير في النظام الدولي، عشية انتشار الجائحة. ولعل هذا ما يفسر حضور «نظرية المؤامرة» بقوة في الوسائط الإعلامية المختلفة، وبخاصة وسائط الإعلام الجديد، التي أرادت القول إن ما يجري هو محاولة قوية ومؤثرة لإحداث تغيير كبير في النظام الدولي، من طريق استخدام الفيروس المهرّب من مختبر علمي، أمريكي أو صيني، أو غير ذلك، بحسب مصدر الاتهام، وهذا مجال حديث يطول، وبحث آخر.

في العامين المنصرمين (2018 – 2019) اللذين شهدا تصاعدًا في التوتر الدولي، ومن ذلك اشتداد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتنامي الدور الروسي الذي كاد يقترب بنسبة ما من دور الاتحاد السوفياتي السابق، تزايد الحديث عن نظام عالمي قادم، وقيل «إن الحقبة الحالية وما فيها من تطورات ومسارات جديدة في السياسة الدولية، وفي العلاقات بين الدول [تشهد] البدايات المبكرة لانهيار الأمم المتحدة، وكذلك القانون الدولي المستند إلى أولوية الحق، دون وجود اتفاق دولي على البديل»[14].

كان جوهر الدعوة إلى نظام دولي جديد، يكمن في محاولة بناء نظام يعكس موازين القوى الفعلية القائمة على الأرض، ولئن عكست هذه المحاولة رغبة من القوى الصاعدة للجم الهيمنة الأمريكية وسيطرة الدولار الذي يشكل أداة قوية في يد الولايات المتحدة فتقمع وتحاصر وتفرض عقوبات، في الوقت الذي تقدم الأرقام دلائل قوية على تراجع الاقتصاد الأمريكي، فإن من قام بالانقلاب على الوضع القائم في الواقع هي الولايات المتحدة نفسها، التي ظهرت مناهضة، في ظل إدارة ترامب للعولمة الاقتصادية، وناقضة للاتفاقات القائمة مع كثير من الدول، ومن بينها حلفاء تقليديون للولايات المتحدة.

بدا ترامب مع وعوده السخية حول استعادة عظمة أمريكا أنه يريد مواجهة انعكاسات الأزمة الاقتصادية التي بدأت من عام 2008، ويرى أنّ تعديل الميزان مع الصين ووقف تهديدها الاستراتيجي هو أكثر من ضرورة وأمر اليوم في السياسة الأمريكية، «فأمريكا لا تستطيع أن تقبل المنافسة الحرة طويلة الأمد، ولا تستطيع أن ترى الصين تتحول إلى رقم 1 في الحجم الكلي للإنتاج، ولا تستطيع أن ترى هواوي يتقدم بالجيل الخامس. من هنا ذهب ترامب مباشرة في تحدي العولمة والتجارة الحرة والمنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية، فهو يريد علنًا أن يعود إلى التجارة المحمية، وإلى رفض المنافسة الحرة، وإلى عدم إعطاء براءة لاختراع يعتبر تطويرًا نوعيًا لبراءة اختراع سابق، مطالبًا بتعويضات عن براءات لا تعد ولا تحصى قامت على ما سبقها، مثلًا ما تم من تطوير للهاتف المحمول منذ 2007، وربما عاد إلى أديسون والكهرباء»[15].

في الواقع «كانت مؤشرات العولمة الاقتصادية والسياسية تشير إلى تقدم الصين، فصادراتها وصلت إلى 2.4 تريليون دولار، في حين توقفت صادرات الولايات المتحدة عند حاجز 1.6 تريليون دولار، وفي سباق شبكات الجيل الخامس، كانت الصين تنتظر قرارات هيئات الاتصالات الدولية لبدء المشاريع المتعلقة بها»[16].

تتوجب ملاحظة أنّ جزءًا كبيرًا من الصادرات الصينية يعود إلى شركات أمريكية، فقد «وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 636 مليار دولار سنة 2017، مع صادرات صينية نحو الولايات المتحدة بـ 505,6 مليارات، وأميركية نحو الصين بـ 130,3 مليارًا. القراءة الأولية لهذه الأرقام تظهر أنّ الصين تحقق فائضّا تجاريّا صافيّا عبر هذه المبادلات، وهي التهمة الأبرز الموجّهة إليها في الولايات المتحدة، إذ تصل قيم هذا الفائض إلى 375,2 مليار دولار، لكن المتهمين يتجاهلون أنّ حصة الشركات الأميركية في الصين هي نحو 40 بالمئة من هذا الفائض. يتعامى هؤلاء أيضًا عن حقيقة أنّ الولايات المتحدة حققت فائضّا بقيمة 52,3 مليارّا في تجارة الخدمات مع الصين سنة 2016، وهو فائض تضاعف 30 مرة بين 2006 و2016»[17].

في ظل حالة من «تبادل المنافع» الفعلي بين أكبر اقتصادين في العالم (الصين، والولايات المتحدة) فإن الخلاف الجوهري، يجد فواعل أخرى متعددة، «تنافس الصين الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا المتقدّمة، إذ من أصل أول 20 شركة عالمية توجد 9 شركات صينية، كما نلحظ أنّ الشركات الصينية في مجال المراقبة والتعرّف إلى الصوت والوجه، والتكنولوجيا المالية، أصبحت الأكثر تقدمًا. في قارة آسيا، يسجّل الميزان التجاري انحيازًا واضحًا لمصلحة الصين، التي أصبحت المصدِّر الأول والمستورد الثاني وأقوى شريك تجاري لآسيا الشرقية، ضمنًا حلفاء الولايات المتحدة. كذلك، يدور بين القطبين صراع حول تصدير الجيل الخامس، وهو سباق على من يراقب ويتنصّت على الدول، بعد تعثّر الولايات المتحدة في إحكام طوقها على الصين، من خلال ثني الدول عن شراء الجيل الخامس الصيني»[18]، يضاف إلى ذلك تنامي إحساس بالمخاطر في العالم الغربي بعامة، حيث «يعرف الاتحاد الأوروبي بدوره مشكلات متراكمة نجمت عن الديون السيادية التي عصفت بالبيت الأوروبي في عام 2010، وكادت تهدد بانفراط عقد الاتحاد مع الأزمة الحادة التي عرفتها بلدان عدة، مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال وأيرلندا وإيطاليا[19] الأمر الذي هدد بخروجها من منطقة اليورو ما لم تتلقَّ حزمات إنقاذ اقتصادي متتالية، بلغت في مجملها نحو 500 مليار يورو موزعة على دول عدة»[20].

في المقابل، وبينما كان الاقتصاد الصيني يواصل صعوده، وتتابع بكين عملها في بناء طريق الحرير الجديد والحزام الاقتصادي[21] الذي أثار استياء الولايات المتحدة، ومخاوفها، وبينما يتزايد الحضور الروسي في العالم، وفي مناطق الأزمات بخاصة، كان ترامب يشتبك مع حلفاء تقليديين لأمريكا (تركيا، كندا، ألمانيا، المكسيك وغيرها) ويواجه اعتراضات على سياساته من مكونات دولة الأمن القومي الأمريكية (المشكلة من الأجهزة العسكرية والاستخبارية).

ثانيًا: جائحة كورونا

إذًا، جاء الفيروس ليضرب عالمًا مضطربًا، وفي سنة انتخابات أمريكية تسود فيها، عادة، حالة من الغلواء في خطابات المرشحين لسدة الرئاسة، سواء من يريدون الاحتفاظ بها، أو الوصول إليها، وبالفعل فقد كانت الصين وصعودها الاقتصادي على لسان النخب الأمريكية المختلفة.

ضربة الفيروس الأولى كانت في مدينة ووهان الصينية، التي تمثّل مركزًا اقتصاديًا مهمًا، وتشهد الكثير من عمليات التصدير والتبادل التجاري. وسرعان ما بدأ في الانتشار ضمن المقاطعة التي تمثّل المدينة عاصمة لها. ويبدو مما تبين لاحقًا أنّ السلطات المحلية في المدينة لم تتخذ الإجراءات المناسبة بالسرعة المطلوبة، لذلك قامت السلطة المركزية بالتدخل، فأقالت المسؤولين عن المدينة، وشرعت في إجراءات سريعة وحاسمة، لكنها لم تسبق خروج الفيروس من الصين ليبدأ بالانتشار في مناطق متعددة من العالم، وفي وقت سريع جدًا. مع ذلك تمهلت منظمة الصحة العالمية في الإعلان عن وباء يجتاح العالم.

وظّفت الصين إمكاناتها الاقتصادية والبشرية الهائلة، ونظامها المركزي الصارم لمحاصرة الوباء، ففرضت عزلًا كاملًا على المدينة والمقاطعة (خوبي) وألزمت الناس بالبقاء في منازلهم، مع توفير حاجاتهم الحياتية على نحو كامل، وقامت ببناء مشفى ضخم في أقل من عشرة أيام.

في الوقت الذي كان الفيروس يتسلل منتقلًا من بلد إلى آخر، كانت اللامبالاة تطبع السلوك العام، بينما انشغل بعض الغرب في الشماتة بالصين وتوقع انهيار اقتصادها، وكذلك توجيه انتقادات إلى الإجراءات الصينية التي تنتهك حقوق الإنسان، فقد ركزت بعض وسائل الإعلام اهتمامها على ما تعنيه عمليات الإغلاق وحظر التنقل على الحقوق الإنسانية، مستعيدة السجل الصيني على هذا الصعيد منذ واقعة تيان آن من[22] حتى اللحظة الراهنة، وقد بدا لافتًا للنظر نشر أخبار عن أنّ السلطات الصينية تترك المسلمين الصينيين من الإيغور يموتون من دون أن تقدم العلاج إليهم، وحفلت وسائط الإعلام الجديد بروايات شديدة المبالغة حول هذا الأمر[23]. كانت الصين تعمل بوتيرة مرتفعة، وتنجح في كبح جماح الوباء، في الآن عينه كانت تسود في الغرب حالة من الإنكار، على الرغم من التمدد السريع للفيروس، ومن ثم إعلان منظمة الصحة العالمية عن كونه حالة وباء. ولم تخلُ بعض المؤتمرات الصحافية لدونالد ترامب من إظهار كثير من التهكم، والمبالغة في القدرات المتاحة للغرب عمومًا وللولايات المتحدة بخاصة في التعامل مع الوباء إن هو تفشى في البلاد[24]. وفي إيطاليا التي كانت تشهد انتشارًا مدمرًا للفيروس، لم يتم اتخاذ إجراءات عملية، وكذلك الحال في إسبانيا؛ أما في بريطانيا التي وصلها الوباء متأخرًا بعض الشيء، فقد أظهر رئيس وزرائها ميلًا إلى تعميم فكرة «مناعة القطيع» داعيًا المواطنين إلى الاستعداد لوداع أحبتهم، قبل أن يعود إلى تطبيق وصفة العزل الصينية، ويصاب هو بالذات بالمرض القاتل.

كتب جورج باكر: «عندما انتشر فيروس كورونا اكتشفنا أننا نعيش في دولة تعاني من ظروف أساسية خطيرة، تُستغل بلا رحمة، فيها الكثير من العلل المزمنة – فيها طبقة سياسية فاسدة، وبيروقراطية متصلبة، واقتصاد بلا قلب، وجمهور منقسم ومشتت، لقد تطلب الأمر وباء كارثيًا لنكتشف شدة الاعراض التي نعيشها. تطلبت الأزمة منا ردًا سريعًا وعقلانيًا وجماعيًا، فردت الولايات المتحدة مثل باكستان أو بيلاروسيا – أي مثل الدول ذات البنية التحتية الرديئة والتي تمتلك حكومات مختلة قادتها فاسدون أو أغبياء للغاية لتفادي المعاناة الجماعية. لقد بددت الإدارة شهرين للاستعداد لمواجهة الأزمة. الرئيس تعمد التجاهل، بالتفاخر والأكاذيب من أبواقه، حول نظريات المؤامرة وعلاجات المعجزة. تصرف عدد قليل من أعضاء مجلس الشيوخ والمديرين التنفيذيين للشركات بسرعة – ليس لمنع الكارثة القادمة، ولكن للاستفادة منها. عندما حاول طبيب حكومي تحذير الجمهور من الخطر، أخذ البيت الأبيض هيئة التصنيع العسكري لتسييس الرسالة. استيقظ الأمريكيون صباح الأول من مارس (آذار) ليجدوا أنهم مواطنون يعيشون في دولة فاشلة، لا يوجد فيها خطة وطنية – تمتلك تعليمات متماسكة فقد تُركت العائلات والمدارس والمكاتب لتقرر بنفسها ما إذا كانت ستغلق أم لا، وتبين أنها تعاني من نقص حاد في الاختبارات المخبرية والأقنعة والأثواب وأجهزة التنفس وناشد المحافظون من البيت الأبيض الشركات، واضطرت الولايات والمدن إلى خوض حروب العطاءات التي تركتهم فريسة لارتفاع الأسعار وترّبح الشركات. أخرج المدنيون آلات الخياطة الخاصة بهم في محاولة للحفاظ على صحة العاملين بالمستشفيات غير المجهزة وإبقاء مرضاهم على قيد الحياة، وأرسلت روسيا وتايوان والأمم المتحدة مساعدات إنسانية إلى أغنى قوة في العالم، وهي الدولة المتسولة التي تعيش حالة من الفوضى المطلقة»[25].

يلخص المقتطف أعلاه من مقال الكاتب الأمريكي المشهد، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وحسب، بل في أغلبية الدول الغربية، حيث تمت الإشارة لاحقًا إلى إضاعة الكثير من الوقت قبل أن تؤخذ الأمور بجدٍّ وتبدأ الإجراءات المطلوبة، ولكن هنا أيضًا كانت إشارات كثيرة إلى ضعف الأجهزة الصحية نتيجة سياسات اقتصادية واجتماعية، تقدّم فيها دور الشركات على دور الدولة. وهكذا حين بدأت ضربات الوباء تُظهر ضعف الأنظمة الصحية في الغرب، كان الحديث ينتشر بقوة عن قصة النجاح الصينية، وحتى الكورية، وبدا طبيعيًا أن تنعقد المقارنات بين نجاح الصين وعجز الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية عن المواجهة الفعّالة، بل وطلب الولايات المتحدة والدول الغربية مساعدة الصين على توفير معدات الوقاية والأجهزة الطبية الضرورية.

ثالثًا: الجائحة والنظام الدولي

في ظل طغيان الأخبار المتعلقة بالجائحة وطريقة تعامل الدول معها، بدأت بعض وسائل الإعلام والمراكز البحثية تبدي اهتمامًا بمآل النظام الدولي القائم وحجم التحولات التي ستفرضها الجائحة، وراج الحديث عن ارتباط التحولات الكبرى بأحداث كبرى، ومنها الجوائح، وعن أنّ «من السنن الكونية حدوث تحولات في الأنظمة السياسية والاقتصادية وبخاصة عقب الحروب أو الانقلابات أو الأوبئة»[26]. وبحسب الكاتب الفرنسي جاك أتالي، «أدّت الأوبئة الكبيرة في العالم إلى تغييرات أساسية في التنظيمات السياسية للأمم، وفي الثقافات التي تكمن وراء هذه الأنظمة»[27]. بالطبع ثمة من يعارض فكرة الربط بين الأوبئة وبين التغيير في النظام الدولي، وسنلحظ هذا الأمر عند الحديث عن الاستدلالات.

ساد نوع من التسليم لدى الأغلبية من الكتاب والباحثين بأنّ التغيير قادم بلا شك، وأنّ النظام العالمي القائم، بل العالم، الذي عرفناه قبل جائحة كورونا لن يكون هو نفسه بعد الجائحة. وقد تناقلت وسائل الإعلام بكثافة تصريحًا لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر يقول فيه: «كورونا سيغير العالم إلى الأبد»، ونظرًا إلى اعتبار الرجل واحدًا من السياسيين الكبار ومن الشهود على تحولات كبرى، ومساهمًا في رسم السياسة الأمريكية من خلال شغله منصبَي رئيس مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية في الولايات المتحدة، فقد أخذ كلامه بكثير من الاهتمام والجِّد، وبنيت عليه توجهات من قبل باحثين ومهتمين بالتحولات في العلاقات الدولية.

مع الإقرار، بصورة عامة، بأنّ التغيير قادم فإن الخلاف ظل قائمًا حول شكل وطبيعة هذا التغيير، وبالتأكيد، حول اتجاهاته الرئيسة. هنا ينبغي إيراد ملاحظتين مهمتين، الأولى، هي أنّ الوقائع الساخنة تترك في العادة تأثيرًا كبيرًا وواضحًا على اتجاهات التفكير، والاستنتاجات الأولية، فلا ننسى أنّ المشهد قدّم صينًا منتصرة في مواجهة الجائحة، وغربًا متعثرًا، ويكاد النظام الصحي في بعض دوله ينهار، أما الملاحظة الثانية، فهي أنّ الانحياز الأيديولوجي يترك أثرًا لا يمكن إنكاره على توظيف معطيات محددة للخروج بنتائج تخدم التوجه الأيديولوجي في الأساس.

يمكننا رصد ثلاثة اتجاهات رئيسة في قراءة المشهد، والحديث عن التغيير المتوقع في النظام الدولي بتأثير الجائحة وانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهائلة خلال نحو ثلاثة أشهر من منتصف شباط/ فبراير، حتى قبيل منتصف أيار/مايو 2020.

1 – تقدم الصين وتراجع الولايات المتحدة

يتبنى أصحاب هذا التوجه نظرةً تقول بأنّ التغيير واقع لا محالة، وبالمقدار نفسه من الثقة يرون أنّ هذا التغيير سيقود إلى تبوّء الصين قيادة النظام العالمي القادم، ويستند الكثير من هؤلاء إلى ما تشهده الولايات المتحدة بوصفه مؤشرات على الانهيار والتفكك في بعض الأحيان، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي كثر الحديث عن تفككه، وهيمنة النموذج البريطاني على المرحلة المقبلة من حياة الدول الأوروبية، وخصوصًا تلك التي ضربها الوباء بقوة (إيطاليا، إسبانيا، والبرتغال إلى حد ما) من دون أن تحصل على المساندة المطلوبة من باقي دول الاتحاد الغنية والأقل تضررًا.

من المثير للانتباه أنّ كثيرين كانوا قد حذّروا من التراجع الذي تشهده الولايات المتحدة، الذي ظهر بصورة فادحة عند محاولة التصدي للوباء. لقد أضاعت الإدارة الأمريكية وقتًا ثمينًا في تهيئة البلاد للتعامل مع جائحة كانت كل التقارير، والوقائع أيضًا، تؤكد أنها قادمة لا محالة، وربما كانت بالفعل قد بدأت بالتفشي. لكن ثمة عطب كان قد أصاب المنظومة على أكثر من صعيد. في عام 2019 نشر الجنرال المتقاعد من سلاح الجو الأمريكي بعد خمسة وعشرين عامًا من الخدمة روبرت سبالدينغ كتابًا بعنوان الحرب الخفية أكد فيه أنّ «الحرب بين الأمم في القرن الحادي والعشرين تختلف كثيرًا عن حروب القرنين التاسع عشر والعشرين. عوضًا عن الرصاص والقنابل، تستخدم فيها الدولارات والسنتات والاقتصاد والقطاع المالي وقواعد البيانات والمعلومات والصناعة والبنى التحتية والاتصالات. من يسيطر على هذه الجبهات اليوم، يربح الحرب دون طلقة واحدة. هي استراتيجية بسيطة ومنطقية، لكن القادة في الغرب لم يفهموها بالسرعة المطلوبة. قادتنا السياسيون والعسكريون وشركاتنا الكبرى لم تنجح في إدراك اللعبة الذكية التي لجأ إليها الحزب الشيوعي الصيني. بقوا يعملون وفقًا للقاعدة التي مضى عليها الزمن، والتي تنص على أنّ الحروب تخاض فقط بالقنابل والرصاص»[28].

قد يقال الكثير عن أخطاء إدارة ترامب في التعامل مع الوباء، وعن الصراعات الداخلية التي تغلبت على الوحدة المطلوبة في المواجهة، وكذلك عن الانخفاض المريع في أسعار النفط الذي تسبّب في أضرار قاصمة لصناعة النفط الصخري الأمريكية، وانعكس على الأداء الاقتصادي الأمريكي، وعن أشياء متعددة أخرى، من بينها تلك التظاهرات المسلحة احتجاجًا على الإغلاق، وهي التظاهرات التي لقيت تشجيعًا علنيًا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكن من كان يمكنه التصديق بأنّ الولايات المتحدة (وبعد شهرين من انتشار الوباء) تفتقد إلى الكمامات ومعدات الوقاية الضرورية للأطقم الطبية والذين لجأ بعضهم إلى ارتداء أكياس القمامة بدلًا من الثياب المخصصة لتجنب التقاط العدوى، وكذلك تفتقد إلى أجهزة التنفس ومعدات الاختبار الضرورية للكشف عن المصابين بالمرض، وأنّ ميزانيات الصحة الضخمة تنفق على أعمال إدارية وتبتلعها شركات التأمين؟ لقد قدمت هذه المشاهد مجتمعة صورة عن دولة هشة.

أما في أوروبا فقد رفضت ألمانيا تقديم قروض بضمانة أوروبية لكل من إيطاليا وإسبانيا، ما أدى إلى «تعاظم الشرخ بين دول جنوب أوروبا المطالبة بالتضامن، ودول الشمال. يبدو أنّ بقاء الاتحاد (الأوروبي) بذاته أصبح على المحك أكثر من أية فترة ماضية»[29]. لقد كان لافتًا للنظر، وغير متوقع، مشهد السيارات العسكرية الروسية في وسط المدن الإيطالية، وهي تحمل فرقًا للتعقيم، وتقديم المساعدة الطبية، وكذلك مشهد الفرق الطبية الكوبية، وكذا شحنات المساعدات الطبية الصينية، وبالقدر نفسه مشهد إحراق علم الاتحاد الأوروبي ورفع العلم الصيني.

في ذلك الوقت بالذات كانت الصين التي طوقت الوباء، تشرع في تقديم المساعدة إلى كثير من دول العالم، فحملت الطائرات الصينية من المعامل التي عاودت إنتاجها، الكمامات والمعدات الطبية المختلفة، وكذلك الأطقم الطبية المدربة والقادرة على التعامل مع مرضى كورونا. وصلت المساعدات الصينية إلى عدد كبير من الدول، ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد دفعت هذه المشاهد مجتمعة إلى القول: «إن معركة كورونا بين المركز الإمبريالي المأزوم والصين الصاعدة تمثل صورة عن تحول متسارع يدفع بكين إلى صدارة العالم الاقتصادية في غضون العقدين القادمين، معززة أيضًا بتحالف وثيق مع الحوض الأوراسي بزعامة روسيا، الممثل العسكري السياسي لهذه الصدارة»[30].

 

كتب الباحث والسياسي البرازيلي جواو ستيديل: «نرى الولايات المتحدة غير قادرة على الاستجابة للأزمات المتتابعة من انتشار الفيروس والركود الاقتصادي، وانهيار أسواق النفط، والقادم أعظم. بينما نشهد على الضفة الأخرى فجر نظام عالمي جديد رمزه الصين، التي تعزز اليوم قوتها السياسية والاقتصادية، مستفيدة من قدرتها على تولي أمر الأزمات بفاعلية. ليس فيروس كورونا مسؤولًا عن هذا، بل هو مجرد أحد أعراض الشيخوخة الرأسمالية التي أظهرت ضعفها. إن هذا الضعف يفتح الباب واسعًا أمام إمكانات جديدة لإسقاط هيمنة مؤسسات القطب الواحد الدولية، وتابعيها المحليين»[31].

تبنى هذا الرأي أيضًا كيشور محبوباني، الباحث في معهد آسيا للبحوث في جامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتاب هل فازت الصين؟ حول تحدي الصين للهيمنة الأميركية، حيث يرى «أنّ الجائحة لن تؤثر كثيرًا في الاتجاهات الاقتصادية العالمية، ولكنها ستسهم في تسريع تغيير كان قد بدأ بالفعل، هو الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى عولمة تتمحور حول الصين»[32].

«نحن نشهد انزياحًا في مركز العولمة باتجاه الشرق إلى الصين. وهذه القيادة الجديدة لا ترتبط فقط بنسبة الصادرات وشبكات الجيل الخامس، وإنما ترتبط بمشاهدات الأفراد في كل العالم لكيفية إدارة الأزمة في الصين، وكيفية الإدارة الغربية لها. لقد فشلت منظومة الديمقراطية الغربية في حماية الأرواح، وأظهرت على نحوٍ غير مسبوق تغليب الاقتصاد عليها. إن الثقافة الكونفوشية التي لا تغلب الفرد على المجتمع، أظهرت نجاعتها في محاصرة الأزمة، وأشعرت العالم بأنّها قادرة على تقديم الدعم والمساندة، وتشكيل نموذج لدولة رعاية»[33]

تكررت الإشارة إلى دور المكوّن الثقافي في قصة النجاح الصينية. في إجابته عن سؤال من هم المنتصرون في مواجهة كورونا، يقول الفيلسوف الكوري الجنوبي بايونغ تشول هان: «إن المنتصرين الدول الآسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين وهونغ كونغ أو سنغافورة، بسبب عقليتها الاستبدادية المستمدة من الإرث الثقافي للعقيدة الكونفوشيوسية. إنّ الناس في تلك الدول لا ينزعون كثيرًا إلى التمرد، وهم مطيعون أكثر من نظرائهم الأوروبيين، ويثقون بالدولة، وحياتهم أكثر تنظيمًا. وفوق هذا وذاك، أظهروا التزامًا صارمًا بالرقابة التي فرضتها عليهم السلطات في بلدانهم في مواجهة كوفيد 19. إنّ الصين بإمكانها الآن الترويج لدولتها البوليسية الرقمية، كنموذج للنجاح في درء الوباء، وستفاخر أكثر بتفوق نظامها»[34].

كما توقع العالم ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية، «أن يسرع انتشار الوباء وتيرة تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، ويدلل على ذلك باستجابة دول شرقية لمواجهة المرض مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، كما أنّ تعاطي الصين مع الوباء كان جيدًا بالرغم من تعثرها في البداية عند اكتشاف الفيروس. وقال إن الاستجابة البطيئة والمتخبطة في أوروبا وأميركا من الأشياء التي شوهت الهالة التي طالما أحاطت بالتعامل الغربي»[35].

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، صار الحديث يتكرر عن سقوط أمريكا. كانت تلك إشارات على الإمكان الذي يستند إلى «النظرية الخلدونية» في صعود وهبوط الدول، لكن كثيرًا من الدراسات التي توقعت سقوط الولايات المتحدة، بل حتى تراجع قوتها، اتهمت بالتحيز الأيديولوجي، والتوظيف الجائر للمعطيات، وبرز رأي في منتصف المسافة بين القول بالسقوط، والقول باستعصاء أمريكا، ليتحدث عن «الأفول التدريجي» للدولة الإمبراطورية القوية.

الآراء المنحازة إلى الصين ليست كلها ذات منشأ أيديولوجي. الوضع المستجد جعل التساؤل حول استمرار قيادة أمريكا للعالم مشروعًا تمامًا. أكثر من ذلك عاد حديث سقوط الإمبراطورية ليجد مكانًا له ولو في شكل تساؤلات تمتلك الكثير من المشروعية بالنسبة إلى أصحابها. يقول جميل مطر: «قضيت ساعات عديدة خلال الشهور القليلة الماضية، وساعات أخرى قضاها زملاء ومراقبون من مختلف الجنسيات والأعراق، قضيناها نراقب ما يغرد به رئيس أمريكا أو يصرح وما أصدره من قرارات وأقره من سياسات وخطط. خرجنا من هذه الرحلة واثقين من أنّه ما من رئيس عاقل ومحب لبلده يفعل بها ما فعله السيد ترامب بأمريكا. أكتب هذه السطور وأمامي على شاشة أخرى جداول بأرقام الحال المتدهورة للولايات المتحدة لأمريكية. تحتار وأنت تقارن. قوائم بأرقام تعلن تدهور أغنى اقتصاد بالعالم وقوائم بأعداد المصابين بالفيروس وقتلاه، وتسأل لماذا تكون الدولة الأغنى والأكثر تقدمًا وتحضرًا ونصيبًا في الثروة العالمية هي الدولة التي تجاوز عدد موتاها على يد الفيروس الملعون ثلث موتاه في العالم بأسره بينما لا يزيد نسبة سكانها إلى مجمل سكان الكوكب عن 5 بالمئة. هذه علامات قليلة من علامات كثيرة تثير جميعها وبإلحاح الرغبة في الحديث عن مستقبل دولة عظمى واحتمالات سقوطها. يبقى أيضًا مثارًا السؤال التالي، لو كانت العلامات بالفعل جادة وخطيرة وليست مجرد فصل في سردية افتراضية فما العمل؟»[36].

2 – النظام الدولي على حاله

يرى أصحاب هذا التوجه أنّ الحديث عن انهيار الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، وتقدّم الصين إلى قيادة النظام العالمي إنما هو ناجم عن التسرع في استخلاص النتائج من المشهد الدولي القائم، ويفتقر إلى أسس صحيحة، أو ربما هو نتاج التفكير تحت وطأة الأزمة، وحدّة المشاهد التي نقلها الإعلام بكثافة في سياق الحرب الناعمة التي تدور بين القوى الكبرى، وأريد منها تصوير الغرب وكأنّه فقد القدرة على المواجهة.

يركز أصحاب هذا التوجه على أمرين أساسيين: الأول، عدم جهوزية الصين لتصدر القيادة العالمية، وربما عدم رغبتها، وكذلك حاجتها إلى ولايات متحدة قوية (وحتى إلى اتحاد أوروبي ناهض اقتصاديًا) في سياق تشابك المصالح الكبير في الاقتصاد العالمي؛ أما الثاني، فهو أنّ الولايات المتحدة ما زالت تملك قوى احتياطية هائلة، وتتحكم بالعملة العالمية (الدولار)، وتملك قوة عسكرية شديدة الضخامة وحلفاء أقوياء في العالم الغربي. ولئن بدت أمريكا وعدد من الدول الغربية متعثرة في المواجهة، فإنها سوف تلتقط أنفاسها بسرعة، وتعود إلى موقع الصدارة، وتكرس زعامة الولايات المتحدة للعالم.

لا ينفي أصحاب هذا التوجه وجود أزمة عميقة في اقتصاد الولايات المتحدة، واقتصادات الغرب على وجه العموم، ولا ينكرون وجود حالة من عدم الاستقرار والاضطراب، وهي حالة قد تطول، وتخلف آثارًا لن يكون تجاوزها سهلًا، ولكن بعد ذلك ستعود الأوضاع، تقريبًا، إلى ما كانت عليه قبل الجائحة. بكلمات أخرى سنعود إلى تلك الحالة الصراعية والتنافسية الحادة التي سبقت الوباء، ومن ضمن ذلك يرون أنّ «الدور الصيني مرشح للصعود بعد الجائحة، غير أنّ الطريق لن يكون معبدًا، فالصين ليست على عجلة من أمرها للتحول إلى قوة عظمى، على ما تؤكد دائمًا، وتحتاج إلى وقت لإصلاح اختلالات اجتماعية فادحة، إذ يعاني بعض مواطنيها من فقر مدقع، ونظامها السياسي يحتاج إلى انفتاح أوسع حتى يكتسب جاذبية الإلهام الذي تحتاج إليه أية قوة عظمى في عالم السماوات المفتوحة.

على جانب آخر فإن هناك حروبًا معلنة ومكتومة ستجري ضدها للحيلولة دون أي صعود محتمل لمنصة القوة العظمى الأولى. ومن هذا المنطلق بدأت إدارة دونالد ترامب الحملات عليها بذريعة مسؤوليتها عن تفشي الوباء وتضليل العالم، وذلك بينما يزايد منافسه الديمقراطي جو بايدن عليه، ويتهمه بالتساهل مع الصين ودول غربية أخرى دخلت على خط الاتهامات. قد ترجع أسباب الحملة على الصين إلى أخطاء ارتكبتها في بداية الوباء، أو تعود إلى صراعات انتخابية في الولايات المتحدة، لكنها في صلبها تعبير عن صراعات سياسية دولية ستأخذ مداها، ولا شيء سيمضي يسيرًا»[37]. «باختصار لا تستطيع أمريكا أن تترك الصين تتقدم وتتطور اقتصاديًا وعلميًا وذكاءً اصطناعيًا، وبالطبع عسكريًا أولًا. ومن ثم ليس لأمريكا إلا منعها من هذا التطور، ومحاولة عرقلته، وذلك باستخدام كل ما تملك من وسائل تحت سقف النووي، فضلًا عن تأليب العالم ضدها. أما الصين فإلى أي مدى تستطيع استيعاب ضربات تحت الزنار، وتقديم تنازلات مقابل كسب الزمن، وتهدئة الثور الهائج؟ فهي غير متعجلة لتصبح الرقم 1، وتريد أن يأتيها بسلاسة. ولعل أصعب ما ستواجهه هو اقتراب أمريكا من حدودها في بحر الصين وهونغ كونغ وتايوان»[38].

إن «السمات العامة للوضع الدولي وموازين قواه وطبيعة كل دولة كبرى فيه، ستبقى هي قبل كورونا وبعده. فكورونا لا يستطيع أن يطيح بأمريكا، ولا يستطيع أن يعلو بالصين لتصبح الدولة الكبرى رقم 1، وكذلك بالنسبة إلى روسيا وأوروبا واليابان والهند، وليس هو الذي يقرر التّغيير الذي يحدث بعده. تأثير كورونا على أمريكا وأوروبا أنّه هز سمعة النظام الرأسمالي الغربي وهيبته، إذ بدا هشًا أمام هجمة كورونا، فيما بدت الصين ونظامها أقدر وأفعل في مواجهة الوباء كوفيد 19. وبدت أوروبا ضعيفة أمامه وتكاد تتصدع، فيما حافظت روسيا على مكانتها وهيبتها. لكن موازين القوى العسكرية فيما بين الدول الكبرى لم تتغيّر قبل كورونا وبعده مباشرة، وهذه هي الحاسمة في إحداث التغيير النوعي، أو الكمي، أما الهيبة والقدرة فلهما أهميتهما في حسابات موازين القوى العامة، ولكنهما لا تحدثان التّغيير في الموقع الذي تحتله الدولة المعنية في ميزان القوى. الفرق بين الحرب العسكرية بين الدول، والحرب ضد كورونا، أنّ الأولى تنتهي بمنتصر يفرض سيطرته، ومهزوم يخرج من المعادلة ولو مؤقتًا، أما الثانية، عندما يهزم كورونا، فالكل يخرج منتصرًا، أما في أثنائها فالكل سيعاني من خسائر وأزمات بتفاوت، عدا البعد المتعلق بالهيبة والقدرة، حيث امتازت الصين حتى الآن بهما. هذا يعني أنّ الوضع العالمي بعد أن تضع الحرب الكورونية العالمية أوزارها، سيتشكل من الدول الكبرى نفسها، ويكون متعدد القطبية، مع متغيرات كمية هنا وهناك، سياسية واقتصادية ومعنوية، الأمر الذي سيحتاج إلى تغيير، ولكن دونه خرط القتاد (صراعات حامية الوطيس). فالوضع العالمي بعد كورونا سيبقى متعدد الأقطاب، وبالأقطاب نفسها، وبفوضى، ولا نظام، ولكن بمتغيرات كمية في معادلة موازين القوى العامة، والأهم من دون اعتراف بمنتصر أو مهزوم، ومن دون استجابة للتّغيير الذي أصبح على الأجندة، فما من دولة تتنازل بخاطرها عن مربعها، نزولًا إلى مربع أدنى، فالنزول والصعود لا يتمان إلا مدافعة وغلابًا. وفي الماضي قبل النووي، كانت الحرب حتمية، وهي القول الفصل»[39].

إن توقع اشتداد الصراعات في عالم ما بعد كورونا، يؤشر إلى أنّ القوة الضارية للولايات المتحدة ما زالت قادرة على الفعل في مواجهة الصين، التي تضرر اقتصادها، كما تضررت الاقتصادات الأخرى، حيث كان هناك تحذير دائم من أنّ القطيعة بين الولايات المتحدة والصين ستلحق بالأخيرة ضررًا كبيرًا أيضًا إذ «ستفقد الصين المصدر الخارجي الأكبر للطلب على صادراتها، التي ما زالت تشكل 20 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي. وستفقد القدرة على الحصول على المكونات التكنولوجية الأميركية الضرورية لعمليات التجديد التكنولوجي عندها، لكن النتائج ستكون إشكالية للولايات المتحدة أيضًا التي ستخسر مصدرًا رئيسيًا من مصادر السلع القليلة الكلفة التي يحتاج إليها المستهلك الأميركي المتراجع الدخل. سيفقد كذلك الاقتصاد الأميركي المتعطش للنمو مصدرًا أساسيًا من مصادر الطلب الخارجي على صادراته لأن الصين صارت السوق الثالث كبرًا لها وأسرعها نموًا. ستخسر أميركا أيضًا أهم مصدر للطلب على سندات خزينتها، في ظل متطلبات التمويل التي تلوح في الأفق لأكبر عجز حكومي في التاريخ»[40].

إذًا، هي حالة من الاعتماد المتبادل كان كل طرف فيها يحتاج إلى الآخر قبل الجائحة، وقبل الأضرار التي ألحقتها بالاقتصاد، والأرجح أنّ الأوضاع ستكون أكثر صعوبة بعدها، وقصة النجاح الصيني في مواجهة الوباء تواجه بمعطيات تكشف عن عطب لا يمكن إخفاؤه، حتى وإن كانت الصين هي الأسرع تعافيًا من تأثيرات الجائحة، والأقل خسارة، وفق ما هو معلن، في عدد الوفيات الناجمة عنها.

وفق تقديرات أمريكية فـ «إن كاهل القيادة الصينية مثقل بأعباء كثيرة بالفعل من محاولتها إعادة تشكيل الاقتصاد الصيني؛ والاحتجاجات في هونغ كونغ؛ وتجدد المشاعر المعادية للصين في تايوان؛ إلى الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري الممنهج الذي تمارسه الولايات المتحدة عليها حتى قبل تفشي الفيروس. وفضلًا عن ذلك، قد يكون توطيد السلطة في عهد شي [جين بينغ] لتسهيل إعادة الهيكلة الاقتصادية والتحول إلى القومية لتوحيد البلاد قد منح الرئيس الصيني التمكين، لكنه زاد أيضًا من مسؤوليته عن الإخفاقات. وقد شهدت الصين تباطؤًا أو تدهورًا هائلًا في نمو اقتصادها في الربع الأول من العام، وهي تخرج من أخطر أزماتها في الوقت الذي يدخل فيه بقية العالم إليها، لكن هذا الأخير سيقلل الطلب على المنتجات الصينية. وستواجه الصين مشكلات اقتصادية حادة حتى نهاية العام على الأقل، إن لم يكن بعده أيضًا. ونحن نترقب العلامات على وقوع مشكلات في قطاع الظل المصرفي الصيني وقوة الضربة التي ستلحق بالمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي توظف عددًا أكبر من السكان لكن إمكانية حصولها على التمويل المصرفي أكثر محدودية من الشركات المملوكة للدولة. وقد ظهرت أدلة غير موثقة عن استياء المجتمع إزاء بعض تدابير التعامل مع الوباء، ومنها تقارير عن تحديات داخل الحزب. لكن من السابق لأوانه معرفة أكان هذا الاستياء مجرد تذمّر لحظي، أم أعراض استياء أشد وأعمق أم أنّه يعكس محاولة كيانات خارجية استغلال لحظة ضعف تمر بها الصين»[41].

من المتصور أنّه لا توجد قصة نجاح كاملة، وهذا ما تركز عليه الولايات المتحدة لتكشف عما تزعم أن الصين قد قامت بإخفائه، ففضلًا عن الحملة الأمريكية الضارية التي تتهم الصين بالمسؤولية عن «تصنيع وتهريب الفيروس من مختبرات ووهان، رغم نفي كبير الأطباء الأمريكيين أنطوني فاوتشي فكرة تصنيع الفيروس» تزعم الولايات المتحدة وعلى لسان الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع أن الصين تخفي الأرقام الحقيقية لعدد القتلى، ولا تكشف عن الأضرار التي لحقت بالصين جراء الوباء.

يبقى كل ذلك مما يمكن إدراجه ضمن مقدمات المشهد القادم، الذي سيحتدم فيه الصراع، وتستخدم فيه الكثير من وسائل القوة الناعمة، من الضغط الإعلامي إلى الضغط الاقتصادي بأوجهه المتنوعة، والولايات المتحدة تملك الكثير من وسائط هذه الحرب: ماكينة إعلامية ضخمة، والدولار. هذا إلى جانب القوة الخشنة، وأمريكا تملك ميزات كبرى على هذا الصعيد أيضًا.

لا يغفل أصحاب هذا التوجه، تقييم حدة الصراع القادم في العالم الذي لن يتغير، بالتأسيس على من يكون الرئيس القادم في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي حالة إجراء الانتخابات وفوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية، فإن الصراع سيكون في منتهى الحدة، وتسود حالة من الفوضى في النظام العالمي أكثر شدة مما كانت عليه قبل الجائحة، ولكن في حال حقق «المرشح الديمقراطي انتصارًا واضحًا لا لبس فيه، بعد شهر من ذلك تقر الـ FDA لقاحًا طوره معهد بحوث أمريكي. وعندها تنتعش الولايات المتحدة وتقود، ابتداء من كانون الثاني 2021 جهدًا مشتركًا للدول الديمقراطية الغربية الليبرالية لمساعدة الدول في العالم للتصدي لانتشار الفيروس، لتجاوز الهبوط الاقتصادي، للحفاظ على النظام الليبرالي ولحل النزاعات الإقليمية المشتعلة. هذا السيناريو يبرز الأهمية الهائلة لموقع القيادة الامريكية في النظام العالمي، والتي كانت تخلت عنه عمليًا في عهد ترامب. انتخابات 2020 هي بالتالي فرصة أيضًا لنشوء قيادة أمريكية جديدة إلى الفكرة الديمقراطية الليبرالية. يمكن لهذه أن تعمل إلى جانب زعامات وزعماء آخرين برزوا على خلفية الأزمة الحالية في الدول الغربية»[42].

3 – إرهاصات عالم جديد

يرى أصحاب هذا التوجه أنّ الجائحة تمثل نقطة فارقة بين عالمين، فما كان قائمًا قبلها لن يعود كذلك بعدها، بمعنى أنّ التغيير سوف يصيب الكثير من المسلّمات. لن تقود الصين نظامًا عالميًا جديدًا، ولن تستطيع أمريكا العودة إلى قيادة النظام الذي كانت تتصدره، فهو لن يكون موجودًا، بل إن كثيرًا من الأسس التي قام عليها ذلك النظام سوف يعاد النظر فيها. هنا تجري مناقشة الكثير من المفاهيم، مثل العولمة وقيم السوق والنيوليبرالية، والديمقراطية ودور الدولة الوطنية، والإعلام وغير ذلك. هنا أيضًا يتم عرض بعض التصورات الحالمة عن عالم ربما يكون قد هذّبه الخوف على الوجود، وأظهر عجز إمكانياته الضخمة جدًا، بما فيها أسلحة الدمار الشامل وحاملات الطائرات العملاقة، أمام فيروس دفع مليارات البشر إلى الاحتماء خلف أبواب بيوتهم لا حول لهم ولا قوة.

كتب أيمن عمر: «إنّ أبرز ملامح النظام العالمي الجديد هو عدم التفرد في قيادته من طرف واحد، وإنما التكامل البشري في تحقيق الخير الإنساني، وإخضاع الماديات للإنسان وليس العكس أن يصبح الإنسان عبدًا للمادة. ومن أهم مقومات النظام العالمي الجديد إعادة إحياء الروح الإنسانية بربطها بمنظومة القيم الأخلاقية المشتركة مع الاحتفاظ بالخصوصيات الحضارية والهوية الثقافية لكل مجتمع، والاقتصاد في هذه المنظومة الجديدة يجب أن يكون اقتصادًا تنافسيًا وليس إلغائيًا»[43].

بالرغم من أنّ العولمة بدت واقعًا لا يمكن دفعه في السنوات الأخيرة، فقد ظلت محط انتقاد نخب في بلدان متعددة، ودعا كثيرون إلى «عولمة إنسانية»، والآن يرى البعض أنّ العولمة بصورتها المعروفة قد سقطت أمام الجائحة، فقد سيّجت الدول حدودها، ومنعت أغلبيتها حركة الخروج والدخول منها وإليها، وأكثر من ذلك فقد فرض على الناس البقاء في بيوتهم، والابتعاد عن بعضهم البعض.

يرى روبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي لـ «تشاثام هاوس» المعروف بالمعهد الملكي للشؤون الدولية ومقره بريطانيا، «أنّ جائحة فيروس كورونا قد تكون القشة التي قصمت ظهر بعير العولمة الاقتصادية. ويُرجع نيبليت ذلك إلى عوالم قبل ظهور الوباء، من ضمنها القلق الأمريكي من تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية للصين والذي أدى إلى إجماع سياسي على فصل الصين عن التكنولوجيا العالية التي تمتلكها الولايات المتحدة ومحاولة حمل حلفاء أميركا على أن يحذو حذوها. كما أن الضغط الشعبي والسياسي المتزايد لخفض انبعاثات الكربون حماية للبيئة، أثار تساؤلات حول اعتماد العديد من الشركات على سلاسل التوريد من مسافات بعيدة. ووفقا لنيبليت فقد أجبر تفشي «كوفيد – 19» الحكومات والشركات والمجتمعات أيضًا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشرين»[44].

كانت الشركات العملاقة هي الأكثر إفادة من العولمة الاقتصادية. تزايد أعداد الفقراء، وتعثر الكثير من الدول الصغيرة والضعيفة، يظهران توحش الرأسمالية وقيم السوق التي جعلت قيمة الإنسان في المقام الأدنى، وهنا سوف يكون من الصعوبة بمكان المفاضلة بين هذه الدولة أو تلك، ولذلك فإنّ أصحاب هذا الاتجاه انتقدوا «عالمًا اقتصاديًا وصل بمنطق التوسّع الرأسمالي المعولم إلى أقصاه، إلى نقطة لم يبلغها من قبل. منطق السوق والثمن والربحية والاحتكارات والنَّهم، وفيضان الأموال الهائمة الساعية، والنزوع إلى الهيمنة على أكبر رقعة جيو سياسية ممكنة، مع أنانية «قومانية» مفرطة في حقيقة الأمر. ذلك هو التشابك الاقتصادي الأقصى، تجسّده سلاسل العرض (Supply Chains)، سلاسل القيمة المضافة العالمية (Global Value Added Chains)، لتستأنف سيرة بدأتها منذ بدأت الرأسمالية كنظام عالمي، خلال العصر الحديث. هو التشابك الذي لا يحدّه حدّ إلا منطق الربح، فتسعى إليه لاهثة (ولو في الصين!) وتضحّي باعتبارات الاعتماد الذاتي، وتذهب إلى أبعد مكان على الكرة الأرضية لتخفض النفقة، وتزيد الإيرادات وتعظّم العوائد الخالصة، وتكدّس الأموال في خزائن الذهب الفيدرالية والبورصات العالمية، وأسواق المال المعولمة في أيّ مكان، وكلّ مكان»[45].

«إنّ وباء كوفيد – 19 عنصر لا يمكن التحكم فيه في السياسة، لكنّه ظَهّر الأزمة الاقتصادية العالمية للرأسمالية. لقد أدّى لحالة تضع أساسيات النيوليبرالية والرأسمالية نفسها موقع المساءلة. إنّ نموذج قدرة السوق على حلّ كلّ شيء، الأمر الذي دافع عنه النيوليبراليون، وبأنّ رأس المال المالي والشركات العابرة للحدود تتحكم بكلّ شيء، قد هزم»[46].

ليس في هذا النموذج ما يمكن البكاء عليه أو تمني البقاء له، وقد صار من الممكن التنبؤ بنهايته. «الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي، يجزم بأنّ «أوروبا ماستريتش» سقطت، لتدخُل في منظومة العالم الثالث، فكما كان العالم يعيش وهمَ الماركسية حتى عام 1991، كذلك كنّا نعيش وهمَ الحضارة الغربية، ليسقط معها النظام الليبرالي الذي يعتبر أنّ الاستثمار في الأبحاث العلمية والخدمات الطبية، ليس على سلّم الأولويات لأنه لا يعود بالأرباح على الدول والشركات»[47].

في مقابل النقد اللاذع للعولمة والليبرالية في صورتها المتوحشة، يشدد أصحاب هذا الاتجاه على أهمية دور الدولة. يرى العالم ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية، «أنّ جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأنّ الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة»[48].

لقد استدعى الحديث عن دور الدولة إشكالية تتعلق بالسلطة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسوف نعود إلى هذه النقطة لاحقًا، لكن وقائع هامة تفرض نفسها بقوة، ففي وقت التصدي للجائحة، تكون الغلبة للنموذج الذي يسجل نجاحًا ملموسًا. لقد «توقع جون آلن، مدير معهد بروكينغز، أنّ المنتصرين في المعركة ضد فيروس كورونا القاتل هم من سيتسنى لهم كتابة التاريخ كما هي الحال عبر تاريخ البشرية. وقال إنّ كافة الدول باتت تعاني من الإجهاد المجتمعي الناجم عن انتشار الفيروس بطرق جديدة وقوية، وإنّ الدول التي تنجو بفضل نظمها السياسية والاقتصادية والصحية الفريدة، ستفوز على الدول التي خرجت بنتائج مختلفة ومدمرة في معركتها ضد الفيروس القاتل»[49].

يمكن الحديث هنا عن نموذجين بنظامين مختلفين، ولكن حضور «الدولة» فيهما قوي جدًا، وقد حققا نتائج أفضل من سواهما في المواجهة ضد الجائحة: ألمانيا والصين. «نقطة تفوُّق ألمانيا على نظيراتها الغربيات لا يكمن، هنا، في صدقية خطابها السياسي الموجه إلى الرأي العام، فحسب؛ بل نظامها الصحي المتقدم الذي كشف عن قدرته على الاستجابة لضغط الوباء، ومغالبته بعلاج ثلثي المصابين، وحماية أرواح الآلاف ممن كان من الممكن أن يقضوا بالوباء. وتقدم النظام هذا وتفوقه يعود إلى سياسات عليا للدولة، أولت قطاع الصحة أولوية مركزية، وأنفقت على البحث العلمي فيه، ولم تُضَحِّ به على مذبح مصالح الرأسمال مثلما فعلت معظم دول الغرب الرأسمالي. وتكاد ألمانيا في هذا المسلك تشبه دولًا رأسمالية أصغر في أوروبا لم تَسِرْ، بدورها، على نهج السياسات الرّيغانيّة – التّتشارية في «التحرير» الكامل للقطاعات الاجتماعية؛ بل استمرت في الإنفاق العام عليها وحمايتها، ومنها السويد، والنرويج، وفنلندا. ما تعِد به ألمانيا تقوى على بلوغه وإنجازه نظير ما قَوِيَتْ على ذلك الصين. وهي تَقوى عليه لأنها تمتلك، مثل الصين، قوتين رئيستين لا تكون سيطرة على الأوبئة والكوارث إلا بهما، هما: الدولة والعلم. من غير دولةٍ قوية مقتدرة، ذات فاعلية تدخلية حاسمة، ليس لمجتمعٍ أن يتماسك في وجه النّوائب الكبرى المدمرة مثل المجاعات العامة والكوارِث الطبيعية والأوبئة»[50].

لقد أعاد التسابق للعثور على دواء لمعالجة المصابين، والبحث عن لقاح يلجم تمدد الوباء، الاعتبار لدور الدولة والرأسمالية الوطنية، فوجدنا شركات ودول تصارع شركات ودولًا أخرى، وشهدنا على صراع داخل الدول نفسها بين الشركات، لكن الاستنتاج المهم في سردية تقدمها حياة الحويك عطية، حول الصراع الضاري على الأدوية واللقاحات هو أنّ «العالم يتغيّر والتحالفات ستصمد بقدر صمود تركز اقتصاد الدول في يد سلطاتها المركزية»[51]. لقد بدا لافتًا في سرديتها أن يقوم الرئيس الفرنسي بزيارة مختبرات الطبيب والعالم الفرنسي ديدييه راؤول، فهو كان بذلك يبرز انحياز الدولة الفرنسية (أو الجزء الأساسي منها) لعالم فرنسي يدافع عن دواء متوافر ورخيص الثمن ويمكن الدفاع عن أهمية مفعوله[52]، في مواجهة الشركات الفرنسية المعولمة، التي تريد الاستثمار مع آخرين في إنتاج أدوية جديدة. وعمومًا تستحق معركة الدواء بحثًا خاصًا، فهي أظهرت مدى توحّش الشركات وسعيها اللامحدود لجني الأرباح بأي ثمن، كما كشفت عما يرى البعض أنه محاولة للسيطرة على البشر من خلال اللقاح، يخوضها بيل غيتس ومنظمة الصحة العالمية[53].

أثار الحديث عن دور الدولة، والإجراءات التي نفذتها الدول في تطبيق العزل المنزلي، والاستعانة بالجيوش في غير مكان لإلزام المواطنين بالاستجابة، مسائل تتصل بمستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومدى استعداد القوى المسيطرة للتراجع عن مكتسبات الوضع المستجد، ما سبّب وضعًا جعل «أغلبية البشر [تخشى] على مصيرها، حيث إن تقييد الحريات حاليًا، وتسلّم الجيوش إدارة شؤون المدن والدول، يوضح هشاشة حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلو شأن تلك الجماعات المنظمة والمنضبطة [الجيوش]، ويوضح “البحبوحة» المالية التي تتمتع بها، وكذلك الرعاية الطبية التي تجعلها محصّنة بصورة كبيرة ضد ذلك الفيروس والأوبئة. المقصد هنا أنّ البشرية الآن تراقب المشهد كلّه، هم في بيوتهم، والجيوش في الشوارع! طبعًا، تقوم حاليًا تلك الجيوش بأدوارٍ هامة لتأمين حياة الناس وإيقاف زحف الفيروس، ولكن الأهم أنّها تتسلم إدارة الدول، وهذا لا يحدث كثيرًا، إلّا في الأزمات، وفي الحروب، ونحن في أزمة، ولكنه يوضح أنّ المؤسسات العسكرية أهم من كل مؤسسات المجتمع الأخرى، وكذلك أفراد الجيوش أهم من بقية المواطنين»[54].

قدّم التوجه نحو رفع الإغلاق، وإنهاء حالة العزل في الكثير من البلدان أجوبة عن كثير من الأسئلة الخائفة، «مع أنّ الأزمة قد «هذبت» صورة المؤسسات العسكرية في أذهان الرأي العام العالمي نظرًا لإسهامها في محاولات محاصرة آثار الوباء، ومثاله الحي في هذا السياق لحاق روسيا بغيرها من الدول لمطالبة الجيش بدور أكبر في مواجهة الكورونا. وهذه المهمة للقوة الخشنة سيمنحها المزيد من مساحة الحركة، خصوصًا في دول العالم النامي، ناهيك عن احتمال تعزيز دورها اقتصاديًا كما هو الحال في الصين ودول أخرى خصوصًا في الدول النامية»[55]. لكن النقاشات حول نموذج المستقبل سوف تبقى مستمرة. النقاش سوف يتجه نحو المعنى، وبالتالي سيبرز من جديد دور الدولة ومؤسساتها في مواجهة التحديات التي فشلت العولمة في التعامل معها.

تعرض الإعلام لاتهامات كثيرة. كان هناك من اعتبروا أنّ الإعلام قام بتضخيم حجم الوباء وأشاع حالة من الخوف بين الناس، وهذا فيه الكثير من التزيد، ذلك أنّ الإعلام حضر بقوة بسبب ضغط الحدث، وأيضًا بسبب تعدد وسائطه، وهو شهد حالات غير مسبوقة من التفاعل، أضعفت معادلة مرسل/ متلقي، لمصلحة المشاركة.

«يعد الإعلام جزءًا من القوة الناعمة، وبوصفه المجال الحيوي لسيطرة السرديات التي تتم صناعتها، وقد برعت الولايات المتحدة بهذا النوع الذي يطلق عليه إدوارد سعيد «استعمار الوعي»، فالصورة والشاشة والفيلم والخبر والكلمة والإنترنت وجهاز الموبايل وكل ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات، أصبح بإمكانه القدرة على السيطرة على الوعي. وقد سعت القوى المتنفّذة في العالم من خلال سردياتها المهيمنة التأثير على العالم، باستخدام سرديات القوة الناعمة من دون الحاجة إلى أسلحة تقليدية، فهذه السرديات لو أُحسن استخدامها ستكون سلاحًا فاعلًا من أسلحة التدمير الشاملة ضد العدو، وهدفها ينصب على كسب العقول، وإفراغ الإنسان في مجتمعات «العدوّ» من قيمه وروحانياته، وإدماجه في قيم القوى المتسيّدة، لكي تتحقق غاية الهيمنة على الخصم أو العدو»[56].

طبيعي أن يتم استخدام الإعلام من جانب الفاعلين في حدث على هذه الدرجة من الخطورة والأهمية، وقد ظهر بحالة المتهم/القوي، فقد تسربت صور غير مرغوبة عن الضعف الأمريكي في سياق الصراع الداخلي الذي استخدم الوسائط الإعلامية في الصراع القاسي، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي إلى اعتبار أنّ الإعلام «عامله بوحشية» وشن هجومًا قاسيًا على الوسائط الإعلامية التي انتقدت سياسته[57]، لكن الأمريكيين الذين توحدوا في الحملة على الصين عادوا لتوظيف إعلامهم في الحرب الناعمة ضد الخصم.

لقد تكرس خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة الدور الخطير والهام الذي يؤديه الإعلام. لا يدور الحديث هنا عن قوة كانت غير معروفة وتم اكتشافها، ولكن عن قوة فاق حجم تأثيرها ما هو متوقع، ولذلك فإن التعويل على الإعلام في عالم ما بعد كورونا، كبير جدًا، وسيكون له دوره في التغيير الكبير المنتظر.

الجائحة التي أحيت الكثير من المخاوف، وأظهرت حدود القدرة الإنسانية في مواجهة جزيء غامض فتك بالاقتصادات والأسلحة الضخمة، وشل شركات عملاقة، وقوى أسطورية، أطلق في الآن عينه آمالًا بعالم أفضل يتم فيه العمل من أجل خير الإنسان، صحته وأمنه، واستقراره وسعادته، وليس من أجل تكديس المزيد من الأرباح فقط. هذا العالم المنشود لا تحققه الأمنيات ولا الاعتماد على النيات الحسنة.

خاتمة

عرضنا في الفقرات السابقة ثلاثة توجهات حول مستقبل النظام العالمي والعالم بتأثير جائحة كورونا، مع العلم بتداخل بعض عناصر هذه التوجهات. على سبيل المثال، إن توقع حتمية احتدام الصراع، هو عنصر مشترك لدى التوجهات الثلاثة، فلن تحل قوة مكان أخرى بيسر وسهولة، ولا تتوافر إمكانات العودة الآلية إلى النظام القديم، ولن تسلم القوى الضارية المهيمنة ببساطة لنشوء عالم جديد مختلف.

صحيح أنّ النظام العالمي الذي كان قائمًا قبل الجائحة قد تعرض للنقد الشديد، كما كان محط انتقاد من قوى كبرى ترى أنّ الدور الذي تؤديه في القرار الدولي، لا يتناسب ووزنها الفعلي من حيث قوتها الاقتصادية أو العسكرية أو البشرية، وأيضًا قدراتها التقنية، لكن تفجر الحديث عن نظام دولي جديد، وتصور شكله، ارتبط بالوباء الذي اجتاح العالم، ورأى البعض أنه سبب للتغيير مثلما حدث مع جوائح سابقة، بل مع أحداث كبرى في العالم.

ثمة توجه يرفض الربط الميكانيكي بين الأوبئة وتغيير النظام العالمي. يلاحظ منير شفيق أنّ «الذين تبنوا نظرية في التاريخ تقول إنّ الأوبئة كانت وراء قيام وسقوط إمبراطوريات وحضارات، ويستدلون على أنّ الوباء الأنطوني (165 – 190 م) أسقط الإمبراطورية الرومانية، أو طاعون جستنيان (541 – 543) زعزع أركان الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، هذه نظرية غير صحيحة، لأن الأولى سقطت على يد القبائل الجرمانية عام 476 م، أي بعد حوالى ثلاثة قرون، والفارسية بعد مائة عام تقريبًا، وانتهت البيزنطية بعد 900 عام تقريبًا. فالتغيير لم يكن فوريًا وله أسباب أخرى أهم، ومن ثم يجب أن نفرق بين دور الوباء في الإضعاف ودوره في التغيير. وكذلك حين يعزى للوباء الأنطوني أنّه أدى إلى إضعاف الإيمان بتعدد الآلهة ومهد للمسيحية (315 – 333م) فالتغيير حدث بعد 150 عامًا، أو عندما يعتبر أنّ الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا في القرن 14 أدى إلى إفلاس الملوك وانهيار الإقطاع والقنانة، وأدى إلى النهضة الأوروبية، فأنت تتحدث هنا عن مائة عام تقريبًا، فيما الذي أدى إلى فتح باب التغيير [النهضة] كان اكتشافات الأمريكيتين، وطرق رأس الرجاء المصلحة أواخر القرن الخامس عشر، ثم احتاج التغيير إلى الثورة البرجوازية، والنهضة بعد مائة أو مائتي سنة أخرى»[58].

إنّ نفي القدرة على التغيير (الآلي، أو الفوري) بسبب الأوبئة والجوائح، لا يعني نفي قدرتها على التأثير، «فعل الأوبئة في الإمبراطوريات والحضارات والدول، مثل فعل كورونا الحالي بالإنسان الفرد (أكان فتيًا وشابًا أم كهلًا وشيخًا)، فالإمبراطورية إذا كانت في مرحلة نهوضها تتجاوز الوباء بالرغم من الخسائر التي يسببها، وقد يؤخرها بعض الوقت، لكنه لا يزرع أسباب سقوطها، أو يمنع نهوضها. مثلًا عندما ضرب طاعون عمواس في جيوش الفتح الإسلامي عام 18 هـ الموافق 640 م، وقد ضرب في بلاد الشام حتى البصرة، تم تجاوزه، بالرغم من أنّه قتل ما بين 25 – و30 ألفًا من الجند وخيرة القادة (مثلًا أبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وعدد من الصحابة رضي الله عنهم). وكذلك القوى الناهضة في الغرب تجاوزت وباء 1918 – 1920 واستمرت في النهوض. أما الإمبراطورية عندما تصبح في كهولتها أو شيخوختها، ففعل الأوبئة فيها أشد تأثيرًا في إضعافها أو التمهيد لأفولها، من دون أن يكون (الوباء) السبب الرئيس للأفول»[59].

ووفقًا لستيفن والت «فإن الوباء الحالي لن يسهم في تغيير السياسة العالمية السائدة التي يطبعها الصراع، ودلل على ذلك بأنّ الأوبئة التي مرت على البشرية من قبل لم تضع حدًا للتنافس بين القوى العظمى ولم تكن نقطة بداية لحقبة جديدة من التعاون العالمي»[60].

 

قد يهمكم أيضاً عالم ما بعد كورونا : نحو تحويل المحنة إلى إمكانات خلّاقة؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #كورونا_والنظام_الدولي #جائحة_كورونا #تداعيات_كورونا #كورونا_والعالم #كورونا_والنظام_العالمي #الأوبئة #السياسة_العالمية #الصراع_على_قيادة_العالم #مستقبل_النظام_العالمي