مقدمة:

كانت الحقبة التي ظهر فيها جمال عبد الناصر تشهد صراعاً سياسياً عقائدياً بين معسكرين تجلّى في حرب باردة بين عملاقين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، تلاها سقوط الاتحاد السوفياتي. ومع تفككه إلى عدّة دول أصبح معظمها يدور في فلك الولايات المتحدة، التي كرّست نفسها قطباً أوحد في العالم يهيمن على مقدّراته. لكن في مطلع الألفية الثالثة، ومع ظهور منظومة مناهضة للهيمنة الأمريكية لا تتحرّك على قاعدة عقائدية بل على قاعدة القانون الدولي واحترام الغير، وهي مجموعة البريكس، أي كل من البرازيل، وروسيا، والصين، وجنوب أفريقيا، عاد الصراع السياسي بين كتلتين متنافستين ولكن منزوع من بُعد عقائدي يستقطب العالم رغم محاولات الولايات المتحدة والغرب إعطاء بعد فكري أخلاقي حضاري لاستعباد الشعوب، وهو ما سنعرضه سريعاً في الجزء الأول. وفي رأينا، فإن هذه المجموعة، أي مجموعة البريكس ومتفرّقاتها، ستفرز نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب على قاعدة الندّية وإلغاء القاعدة الصفرية التي تحكم علاقات القطب المهيمن مع سائر الدول. فالجميع «رابح» في التعامل وفقاً للبريكس وليس هناك من رابح وخاسر.

أما في الوطن العربي فكانت تجلّيات الصراع بين العملاقين مباشرة وعميقة. ليس هدفنا تأريخ الحقبة التي امتدّت منذ قيام ثورة 23 يوليو حتى الساعة لكن طبيعة الحراك الذي شهدته الساحة العربية لم تكن مخالفةً لطبيعة الحراك بين العملاقين عموماً. غير أن البعدين الفكري والعقائدي لم يُغيّبا طبيعة الصراع السياسي القائم آنذاك وما زال حتى الساعة. فالوطن العربي يشهد صراعاً وجودياً بين معسكر التحرّر من جهة والسطوة الغربية القديمة الجديدة بوجه عام وأداتها الوظيفية الكيان الصهيوني وما سمّاه الزعيم الخالد الرجعية العربية، من جهة أخرى، ويأخذ الصراع القائم أبعاداً فكرية تهدف إما إلى التنبؤ والاستشراف وإما في معظم الأحيان إلى التبرير. فالفضاء الفكري العربي شهد سيـلاً من الأفكار والأطروحات التي حاولت تفسير إما الواقع المؤلم، وفي هذه الحال الهزيمة على يد المستعمر الجديد القديم أو على يد الغازي المستعمر الصهيوني، وإما استشراف مستقبل الأمة كالمشروع النهضوي العربي الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية عام ‏[1]2010 الذي يتناسق مع أدبيات المؤتمر القومي العربي منذ مطلع التسعينيات في القرن الماضي.

لقد أدّى الطرح الأول إلى بلورة ما يمكن تسميته ثقافة الهزيمة التي تكلّم عنها ابن خلدون‏[2] في القرن الرابع عشر الميلادي وولفغانغ سكيفلبوش‏[3] الألماني في القرن الحادي والعشرين. فهذه الثقافة أفضت إلى تفسير الهزيمة عبر تبنّي سرديات غربية كفقدان «الحداثة»، أو غياب «الديمقراطية»، أو «بنية العقل العربي» المتماهية مع الغرائز وفقاً لطرح رفائيل باتاي‏[4]، أو حتى التشكيك في العقل العربي وضرورة القطيعة مع التراث‏[5]… إلخ. وهذا يطرح إشكالية الثنائي بين المعرفي والعقائدي/الأيديولوجي الذي حاول مركز دراسات الوحدة العربية مقاربته في ندوة عقدت في بيروت عام 2010‏[6].

أما الطرح الثاني، فيقينه هو ثقافة المقاومة التي تبلورت منذ أوائل القرن التاسع عشر في مواجهة الغزوات الأوروبية للولايات العربية للسلطنة العثمانية ولاحتلالها لشمال أفريقيا. فالنهضة العربية التي بدأت مع ردّ الفعل على حملة بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر أفرزت مقاومة شرسة للغازي. وهذه المقاومة لم تكن محصورة على الصعيد العسكري الميداني بل أيضاً على حالة الركود الفكري السائد، فكانت حركة النهضة ببعدها التجدّد الديني، والإصلاح اللغوي، ومقاومة الاستبداد السياسي. فكانت حقبة النهضة التي بدأت مع بعثة الشيخ رفاعة الطهطاوي التي أعادت التفاعل مع الحضارات المجاورة كما حصل مع بداية عصر الفتوحات.

غير أن النهضة العربية مرّت وما زالت بوتائر مختلفة من المد والجزر. فحقبة الخمسينيات والستينيات كانت حقبة مدّ بينما بدأت في السبعينيات حقبة الجزر التي تمثّلت بخروج مصر من الصراع العربي – الصهيوني وصعود المال النفطي الذي تحكّم بالبيئة الفكرية فأجهضها في أسوأ الأحوال أو حيّدها في أحسنها. لكن مع الاحتلال الصهيوني للبنان والأمريكي للعراق ظهرت حقبة المقاومة العسكرية للاحتلال وأنجزت ما لم تستطع إنجازه الدول العربية التي حملت لواء العروبة والتحرّر، أي تحرير الأرض من الاحتلال من دون قيد أو لا شرط. ولتلك الرؤية نقاش لا نستطيع خوضه في هذا البحث لضيق المساحة المتاحة. لكن ما يمكننا قوله إن المقاومة في لبنان استطاعت استيعاب هويتها المركّبة، أي العربية والإسلامية واللبنانية من جهة، وتراكم الإنجازات وتحويلها من فائض قوّة إلى فائض في القيمة المضافة كما شرح ناصر قنديل في مؤلف له في غاية الأهمية يفكّك فيها فلسفة قوّة حزب الله والمقاومة‏[7]. وما يشير إليه الكاتب في بحثه الفريد هو أن حزب الله لم يغرق بضرورات النظرية السياسية أو العقائدية المتكاملة قبل الإقدام على العمل المقاوم كما فعلته أحزاب وتنظيمات أخرى، بل بادر إلى الخطوة الأولى حيث نتائجها تحدّد الخطوة التالية، وهكذا دواليك. ليس من الضروري أن توجد نظرية تجيب عن كل الأسئلة، وليس من الضروري إخضاع الواقع للنظرية. وهذا ما أدّى إلى إخفاق الحركات التي سبقت حزب الله. لكن للإنصاف، لا يمكننا إلّا الإقرار بأن بعض الدول التي حملت لواء العروبة وبعض الفصائل المقاومة حقّقت إنجازات كانت اللبنات الأولى التي ارتكزت عليها المقاومة في لبنان. فالأخيرة ولدت من رحم تجارب مقاومة متعددة واستفادت من الدروس والأخطاء لدى حركات تحرّرية مقاومة في الوطن العربي ومن سياسات دول المواجهة مع الكيان الصهيوني. لكن ما يهمّنا تأكيده هو أن فكرة النهضة العربية تحتوي في مضمونها مقاومة شتّى أنواع الظلم سواء من جرّاء الاحتلال أو من الاستبداد أو من الفساد أو من التراجع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فالنهضة مقاومة متعدّدة الأوجه وإن كانت بعض الدول العربية تعتبر المقاومة إرهاباً.

فالفكر السياسي والاقتصادي لا ينمو إلّا ضمن بيئة معينة، بل إن البيئة تؤثر أكثر فأكثر في المنتوج الفكري. فالفكر الذي يتحوّل إلى عقيدة سياسية أو اقتصادية يشبه في كثير من الأحيان العقيدة الدينية مع طقوسها وأحبارها وحتى النزعات الإقصائية أو التكفيرية. فالعقيدة تأخذ دوراً وظيفياً يبرّر وجود منظومة سياسية أو اقتصادية لا يجوز نقدها فما بالك بنقضها! فالمبحث الأول يتناول إشكالية المعرفة والعقائد أو الأيديولوجيات، كما يحلو للبعض تسميتها، وإن كنّا نحبّذ المصطلح العربي على المصطلح المستعرب. أما في المبحث الثاني فسنعالج العقائد/الأيديولوجيات الرئيسية في العالم بعد الحرب الباردة، وتشمل نظرية نهاية التاريخ، والاستشراق الجديد الذي عبّرت عنه نظرية «صراع الحضارات» لصمويل هنتنغتون، والعولمة كنظرية قيد التكوين المتكامل التي تهدف إلى فرض نظام سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي متكامل يستوحي من أفكار الليبرالية الجديدة أو النيوليبرالية التي يتشارك في «أبويتها» العديد من السياسيين ورجال الأعمال والمؤسسات الدولية العابرة للقارات والدول. وسنعالج في فقرة لاحقة بعض نواحي هذا الفكر وتجلّياته وحدوده، غير أنه لا يخرج عن قاعدة كونية حول ترابط الفكر بالبيئة. فهذه الظواهر التي حكمت الفضاء الفكري في العالم، عن حق أو غير حق، تلازمت أيضاً مع مشاريع فكرية هجينة تخلط بين العقائدي الصرف، والواقعية النسبية (أي من منظور محدّد وغير مطلق)، والكثير من الانتهازية الظرفية. فجميعها وليدة البيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

لن يخلو البحث بشيء من الاستنساب في التركيز على بعض الظواهر بسبب محدودية المساحة المتاحة في البحث ولأنه يأخذ طابع المحاولة (Essay/Essai) أكثر من الطابع البحث الأكاديمي الصرف. ففي آخر المطاف نعبّر عن رأي ورؤية على قاعدة معلومات وتحليل على قاعدة تحاكي البحث العلمي المألوف بوجه عام.

أولاً: حول إشكالية العقائد/الأيديولوجيات

إن أي مقاربة للعقيدة/الأيديولوجيا في الوطن العربي تحاكي حكماً المنظومة المعرفية السائدة عند المثقف أو الباحث أو الكاتب العربي. والمنظومة المعرفية السائدة هي نتيجة موازين قوّة عبر التاريخ القديم والمعاصر أفضت إلى ترسيخ مفاهيم يُبنى عليها محاكاة قضايا الأمة والمجتمع. وهذا ما نقصده بأن الفكر يتأثر بالبيئة الحاضنة له، التي ولد من رحمها قبل أن يؤثّر بها فيما بعد، فتخلق حلقة ثانية، ثم ثالثة… إلخ، من منظومة فكرية لا تخلو من العقائدي. والعقيدة/الأيديولوجيا تؤّثر في بناء المنظومة المعرفية وفقاً لمفاهيمها وليس بالضرورة لمقتضيات العلم والحقيقة. فهناك ثنائية بين العقيدة/الأيديولوجية والمعرفة تسود الفكر العربي المعاصر. فهي إشكالية مثلما ولدت فيه إشكالية‏[8].

يعتبر أستاذ الفلسفة عبد الإله بلقزيز، وهو مُحقٌّ في رأيه، أن الفكر العربي المعاصر عاش توتراً لتلك الثنائية سحابة أكثر من قرن في مختلف قطاعات العلوم الإنسانية. غير أن تلك الثنائية في هذا الفكر هي «أقلّ توتراً كعلاقة منها في الفكر الغربي بسبب التفاوت في التطوّر والتراكم بين الإنتاج الفكري هنا، والإنتاج الفكري هناك، وبسبب حداثة الانتباه إلى إشكاليات الأيديولوجيا والمعرفة في فكرنا، وحداثة إشكالية الاتصال والانفصال بين حدّيها في وعينا المعاصر وفي اهتماماتنا الإيبيستمولوجية»‏[9]. ثم يضيف ملاحظة مهمّة جدّاً أنه يمكن لأي قارئ في الإنتاج الفكري العربي، منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم، أن يلحظ ظاهرة حضور المتضخّم للأيديولوجيا فيه بما هي رؤية العالم والأشياء والظواهر. ولن يُعجزه، أن يلحظ، في امتداد ذلك، ضعف مستوى البناء المعرفي لمقالات ذلك الفكر إن قورنت بغيرها في ثقافات أخرى في العالم. وأكثر ما يمكن للقارئ أن يلاحظه هو ذلك الكمّ الهائل من الأيديولوجيا التي يبديها المفكّرون والكتّاب العرب إلى هذه المنظومة الفكرية أو تلك التي يتصلون بها قراءة واستعمالاً… [فالانحيازات] تبدو، أكثر ما تبدو، في ميل كتاباتهم إلى التبشير بالأفكار التي اعتنقوها وتنزيلها في نصوصهم منزلة الحق الذي لا يطاله الشكّ»‏[10].

تعمّدنا اقتباس فقرات من تقديم عبد الإله بلقزيز لأنه يثير في رأينا مشكلة جوهرية حول المنظومة المعرفية التي تشكّل الفضاء الفكري لمعظم المفكّرين المعاصرين العرب. وفي رأينا، فإن معظم منظومتنا العربية المعاصرة هي من تجلّيات الغزو الفكري والثقافي الغربي بسبب الحقبة الاستعمارية الطويلة نسبياً في تاريخنا المعاصر، والذي نتج من موازين قوّة لصالح الغرب المستعمر. لذلك، فإننا بحاجة إلى منظومة معرفية تقارب قضايا مجتمعاتنا العربية المتنوّعة بعامة، وفي العلوم السلوكية أو الاجتماعية بخاصة، منظومة نابعة من واقعنا وتطلّعاتنا. لقد عرضنا في بحث منفصل وجهة نظرنا في هذا الموضوع‏[11]. ففي آخر المطاف، لا نريد أن نكون مجرّد مثقفين غربيين ناطقين باللغة العربية ومستعربين لمفاهيم المقاربة لقضايانا الاجتماعية‏[12]. فإشكاليات المجتمعات الغربية ليست بالضرورة إشكالياتنا، كما أن قيم الغرب ليست بالضرورة قيماً عالمية قائمة بحد ذاتها. هذا الموضوع يستحق النقاش مفصّلاً ولكن ضيق المساحة المتاحة في هذا البحث لا تسمح بذلك.

غير أن إشارتنا إلى تلك الإشكالية هي أن مقاربتنا الاستشرافية للمستقبل العربي، المبنية على مقاربة تقدير موقف للمشهد الدولي والإقليمي والعربي، تستدعي توضيح المنطلقات الفكرية التي نرتكز عليها. لا يخلو البعد العقائدي/الأيديولوجي من مقاربتنا التحليلية للواقع واستشرافنا للمستقبل العربي، وإن كنّا نعتقد أننا نعبّر عن مزاج الأمة وعن الفطرة الأساسية الموجودة في مجتمعاتنا العربية المتنوعة.

ثانياً: العقائد/الأيديولوجيات في الغرب بعد الحرب الباردة

سنحاول في هذا المقطع تقديم مقاربة سريعة جدّاً لثلاثة تيّارات فكرية ظهرت بعد الحرب الباردة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. لا ترتقي هذه التيّارات إلى مستوى العقيدة/الأيديولوجية كما كانت في الحقبات التي سبقتها، كالشيوعية مثـلاً أو الاشتراكية، أو القومية العرقية… إلخ. غير أن العالم آنذاك كان منقسماً إلى معسكرين يقودهما كل من الاتحاد السوفياتي للمنظومة الشيوعية/الاشتراكية من جهة، والولايات المتحدة للمعسكر الغربي الرأسمالي الليبرالي من جهة أخرى. أما ما بعد الحرب الباردة، فإن العالم منقسم إلى معسكر يرفض الهيمنة القطبية الأحادية للولايات المتحدة وتقوده مجموعة دول البريكس (الوريث الشرعي – إذا جاز الكلام – لمعسكر عدم الانحياز الذي حاول في الحقبة السابقة رفض الاصطفاف إلى أحد المعسكرين). ويضم محور البريكس مجموعة من الدول المتنوّعة في بنيتها السياسية والاقتصادية والثقافية غير أن ما يجمعها هو نزعتها الاستقلالية الرافضة للهيمنة. أما المعسكر الآخر، فهو بقيادة الولايات المتحدة التي تسخّر «حلفاءها» للدفاع عن هيمنتها وتضم مجموعة من الدول المتجانسة في البنية السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية، وهي دول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الآسيوية وأمريكا اللاتينية التي لم تستطع حتى الآن الخروج من الوصاية الأمريكية.

والوطن العربي منقسم إلى قسمين: قسم قيد التحالف مع مجموعة البريكس وتضم ما سُميّ محور المقاومة الذي يضم في الأساس الجمهورية العربية السورية كدولة، وحزب الله كمنظومة غير حكومية مقاومة للاحتلال الصهيوني لفلسطين ولبنان وسورية، ومعهما فصائل من المقاومة الفلسطينية. ومع هذه المجموعة العربية المكوّنة من دولة وتنظيمات، هناك تحالف مع دولة إقليمية هي الجمهورية الإسلامية في إيران. في الجهة المقابلة هناك مجموعة من الدول العربية النفطية في الجزيرة العربية والخليج في خندق الولايات المتحدة وبوجه شبه علني مع الكيان الصهيوني، وذلك في مواجهة محور المقاومة. ما بين المعسكرين مجموعة من الدول العربية تحاول جهداً لأسباب ذاتية بها فلا تريد الانخراط في أي من المعسكرين، وإن استثنينا الجزائر التي هي أقرب إلى معسكر المقاومة من دون أن تكون جزءاً منه. أما مصر ولبنان فيقفان على مسافة من المعسكرين وإن كانا على صعيد الموقف الرسمي في بعض الأحيان أقرب إلى معسكر دول الجزيرة العربية والمعسكر الغربي بسبب التضييق الاقتصادي والمالي الذي تستعمله دول الخليج والولايات المتحدة للابتزاز والضغط على مصر ولبنان.

في مطلق الأحوال لا يغيب البعد العقائدي عن المعسكرين وإن كان الطابع الأساسي للصراع هو سياسي بامتياز. فالمعسكر الغربي يجهر بالليبرالية والعولمة وقوّامه الأسواق وثقافة الاستهلاك، وبالتالي استمرار هيمنته على العالم عموماً والوطن العربي خصوصاً. بالمقابل، يجاهر معسكر المقاومة على الصعيد العربي في المدافعة عن الحرّية واستقلال الوطن والحفاظ على الهوية، وعلى العدالة الاجتماعية والتنمية، وقبل كل ذلك على تحرير الأرض من المستعمر الغربي والصهيوني وفي المقدمة فلسطين.

بعد الحرب الباردة سادت بعض النظريات الفضاء الفكري والسياسي في الغرب التي كوّنت قاعدة للسياسات الخارجية للغرب بعامة وللولايات المتحدة بخاصة. هذه النظريات يمكن مقاربتها إما من منظور وظيفي بحت، وإما من منظور فكري ساهم في التأثير في البيئة الحاضنة له. ولا نرى صراحة تناقضاً جوهرياً بين المقاربتين، غير أننا نميل إلى الاعتقاد بأن النظريات التي تمّ ترويجها كانت نتيجة معتقدات سابقة كنظرية الليبرالية والرأسمالية في مواجهة النظرية الاشتراكية وكنتيجة لوقائع تجاوزت النظريات بسبب عامل ميزان القوّة. فسقوط الاتحاد السوفياتي يعود – في رأينا – لموازين قوّة لم تعد لصالحه ولم تستطع قيادته قراءتها جيّداً، فكان الانهيار، وليس بسبب تفوّق المنظومة الفكرية كما يحلو للبعض. ولا داعي لاعتبار سقوط الاتحاد السوفياتي الدليل القاطع على فشل الفكرة التي يحملها، فذلك اختزال لمسار تاريخي في فكر الإنسانية لم ينته بعد وإن كان في حال ركود أو سبات.

1 – نظرية نهاية التاريخ

التحوّل في موازين القوّة بعد نهاية الحرب الباردة جعل بعض المفكّرين ينظّرون إلى نهاية التاريخ‏[13]، بمعنى نهاية الصراعات العقائدية وتعميم أنظمة حكم مبنية على ما سُمّي «الديمقراطية التمثيلية»، وسيادة الأسواق الحرّة، وانتشار ثقافة الاستهلاك وصعود تيّار العولمة التي مكّنتها الثورة التكنولوجية في كل من التواصل والمواصلات والاحتساب. لكن هذه الرؤية لمسار التاريخ نقضتها الأحداث وأدّت إلى استمرار الجدل حولها وإن كنّا من الذين يتحفّظون عن وضع التاريخ والشعوب في قالب واحد. فالأمور أكثر تعقيداً مما يعتقده المنظّرون والمفكّرون وكثيراً ما يدفعون بسياسات لتبرير نظرياتهم خلافاً للوقائع والفطرة الإنسانية.

ليس هدفنا شرح تفاصيل نظرية فوكوياما وعرض ما ولدت من انتقادات لها. المهم أنها أسست لنظرة سياسية لإطار العولمة. فنهاية التاريخ كما ذكره لم يحصل لأن الصراعات التي كانت قد أخفتها الحرب الباردة ظهرت إلى العلن. فقضايا الهيمنة الغربية ظهرت، والصراع بين الشمال والجنوب تحوّل في الألفية الثالثة إلى صراع بين شرق وغرب، وكأنه استكمال للحروب الفارسية – اليونانية أو الحروب الخرافية كحرب طروادة. نهاية الحرب الباردة أسقطت الأوهام التي سوّقها المعسكر الغربي كالدفاع عن الحرّيات والمبادرات الفردية. فاستُبدلت بقوامة الأسواق التي تسيطر عليها الشركات العملاقة التي سيطرت أيضاً على وسائل الإعلام، لتحويل الإنسان من كائن يفكّر إلى كائن وظيفته الأساسية الاستهلاك. فالإعلام القائم في الولايات المتحدة على سبيل المثال تملكه بنسبة 90 بالمئة ست شركات فقط‏[14] بينما هناك عشر شركات تسيطر على العالم‏[15]. أما على صعيد المؤسسات المالية في الولايات المتحدة، فهناك خمسة مصارف تسيطر على أكثر من 15 تريليوناً من الأصول المالية، أي أكثر من 75 بالمئة من إجمالي الأصول المصرفية، وهذه المصارف تملكها أربع شركات فقط‏[16]. فهذا التمركز الهائل للاقتصاد والمال والإعلام يلغي عملياً «حرّية» المواطن في اختيار ممثّليه، كما يلغي «عدالة» و«فعّالية» الأسواق. فلا يبقى من نظرية فوكوياما إلّا ثقافة الاستهلاك!

هذه النظرية أُسقطت على عدد كبير من البلدان العربية لاتخاذ سياسات اقتصادية تتماهى مع تلك النظرية، غير أن الفجوة الاقتصادية في الأقطار العربية وما بينها تفاقمت إلى حد لجوء الشارع العربي إلى التحرّك، بغض النظر عما أسفر عنه ذلك التحرّك.

2 – نظرية صراع الحضارات

في المقابل ظهرت نظرية ليست بالضرورة مناقضة لـ «نهاية التاريخ» بل تستشرف مسار الأمور عبر ما سمّاه الباحث الأمريكي صمويل هنتنغتون «صراع الحضارات». واعتبر هنتنغتون أن طرحه هو إجابة عن أطروحة تلميذه السابق فرنسيس فوكوياما. ففي مقال شهير صدر في مجلّة فورين أفيرز عام 1993‏[17] حول «صراع الحضارات» تلاه كتاب بنفس العنوان، اعتبر الباحث أن الشعوب بعد الحرب الباردة تتحرّك وفقاً لهوياتها وثقافاتها. وهذه النظرية كانت قاعدة السياسات التي انتهجتها الإدارة الأمريكية بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 والتي جعلت من الإسلام كدين لأكثر من مليار ونصف المليار العدو الوجودي للولايات المتحدة والثقافة الغربية.

تاريخياً، أوّل من استعمل مصطلح «صراع الحضارات» هو الكاتب الفرنسي ألبير كامو في مقاربته للمسألة الجزائرية عام 1946، حيث اعتبر آنذاك أن الصراع الروسي – الأمريكي هو نموذج عن صراع حضارات بين إمبراطوريات وحضارات‏[18]. كما أن المصطلح هو عنوان الاستشراق الجديد الذي أوجده الباحث المؤرّخ الصهيوني الهوى وبريطاني الأصل برنارد لويس في مقال في المجلّة الأمريكية ذي أتلنتيك عام 1990‏[19]. فالثنائي لويس – هنتنغتون رسخا القاعدة النظرية لمعاداة العرب والمسلمين بصراحة ووضوح كما نراه في هذه الأيام في إدارة دونالد ترامب.

نظرية هنتنغتون نقضها العديد من الباحثين العرب كإدوارد سعيد وجورج قرم في كتابات عديدة. ليست هنا مهمتنا شرح تلك النظرية وإخفاقاتها، لكن نشير إلى استعمالها كغطاء فكري لسياسات عدوانية تجاه العرب والمسلمين منذ تولّي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في مطلع الألفية واستمرّت حتى الساعة تحت عنوان «الحرب على الإرهاب». أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فلا يتخفّى وراء نظريات بل يعتبر المسلمين أعداء ويطبّق سياسات معادية للمسلمين. للمزيد عن موجة الكراهية ضد المسلمين نشير إلى كتاب خالد بيضون، كتاب في غاية الأهمية يفكّك عناصر تلك الكراهية‏[20].

سياسات بوش الابن ومن تلاه في البيت الأبيض اعتمدت رؤية هنتنغتون ولويس مع نظرة المحافظين الجدد والمتدخّلين الليبراليين الذين احتلوا مفاصل الإدارة لتطبيق سياسات عدوانية تهدف إلى «خلع مخالب» الإسلام من جهة‏[21] والتعاون مع حركات إسلامية تقبل بحكم السوق وثقافة الاستهلاك وتتماهى مع سياسات الولايات المتحدة، من جهة أخرى؛ فكانت بداية تمكين بعض فصائل الإسلام السياسي الذي وصل إلى السلطة في عدة دول عربية بعد الحراك الشعبي عام 2011. لكن مع تقلّب الإدارات وترهّل الإدارة الأمريكية تقدّمت العنصرية إلى الواجهة، الوجه القبيح لمفهوم «صراع الحضارات» لينهش في نسيج الجسم الاجتماعي الغربي بعامة والأمريكي بخاصة. فـ «صراع الحضارات» انتقل إلى داخل الولايات المتحدة، وهو موجود فيها منذ تكوينها مع إبادة الشعوب الأولى للقارة الجديدة! بالمناسبة، في آخر مؤلَّف له قبل رحيله، اعتبر هنتنغتون أن الخطر الذي يحدّق بالولايات المتحدة ليس الخطر الإسلامي بل فقدان الهوية الأنكلوساكسونية البروتستانتية البيضاء، وذلك بسبب الهجرة اللاتينية الوافدة إلى الولايات المتحدة‏[22]. في آخر المطاف، لم تجر الرياح الفكرية الأمريكية كما اشتهت سفن المفكّرين والمنظّرين والسياسيين. فالعنصرية المتفشية في المجتمع الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً أصبحت تهدّد الكيانات الغربية كما تبرزه التظاهرات الاحتجاجية على سياسات الحكومات تجاه الهجرات الوافدة في أوروبا والمواقف اللامبالية للإدارات الأمريكية تجاه الأقلّيات في مجتمعها. بالمناسبة، تفيد بعض الإحصاءات الاستشرافية أن مع بلوغ العقد الخامس من هذا القرن فلن يصبح العرق الأبيض الأكثرية في الولايات المتحدة. فمعدّلات النمو السكاني في الولايات المتحدة أقل من المعدّل المطلوب للحفاظ على النمو الطبيعي للمكوّنات السكانية وبالتالي لا بد من الهجرة الوافدة. المأزق بنيوي وليس هناك من سياسات واضحة لا في الولايات المتحدة ولا حتى في الغرب الذي يشيخ بصورة ملحوظة. في المقابل هناك دراسات تفيد أن عدد المسلمين في أوروبا قبل نهاية العقد السادس من هذه الألفية قد يصل إلى 15 بالمئة من إجمالي السكّان أي ما يوازي 50 مليون نسمة بينما لا تتجاوز 5 بالمئة عام 2017‏[23]!

3 – نظرية العولمة كقيمة عالمية

مع الثورة التكنولوجية في التواصل والمواصلات والاحتساب أصبح العالم «قرية كبيرة». وتلازماً مع نظريات «نهاية التاريخ» وسيطرة الأسواق، ومع نظرية «صراع الحضارات» تبلورت نظرية حاولت التحوّل إلى ثقافة مهيمنة، هي العولمة بمفاهيم معيّنة تكرّس القوامة الأمريكية. فالعالم أصبح مخيّراً بين «شجرة الزيتون وسيّارة اللكسس» (وهو عنوان كتاب‏[24] للصحافي الأمريكي توماس فريدمان (أي بين التمسّك بالتقاليد والأفكار القديمة التي تمثّلها شجرة الزيتون‏[25] والحداثة وثقافة الاستهلاك التي تمثّلها سيّارة اللكسس اليابانية الصنع. كما أن العولمة تقفز فوق الهويات الوطنية والخاصة وتستبدلها بمفاهيم «معولمة» كما يدعو المضارب المالي جورج سوروس‏[26]. ويعتقد سوروس أن المجتمع المنفتح (Open Society) هو الطريق لترسيخ السلام والديمقراطية كما يفهمها هو وبالتالي الخصوصيات والهويات الوطنية تقف عائقاً أمام كل ذلك. كرّر موقفه في مداخلة طويلة في منتدى دافوس في مطلع عام 2018‏[27]. الجدير بالذكر أن سوروس كان وراء معظم الحملات على العملات الوطنية للدول التي حاولت فرض استقلالها الوطني في مجال الاقتصاد والمال كعقاب عليها!

سياسات العولمة، التي حاولت فرضها دول كالولايات المتحدة ومعها مؤسسات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ما سُمّي «إجماع واشنطن» (Washington Consensus) ومنظّمة التجارة العالمية على سبيل المثال، أدّت إلى تفاقم الفجوات الاقتصادية في الدول التي تبنّت تلك السياسات مع تمركز الاقتصاد والمال والإعلام بيد عدد قليل جدّ من الشركات كما ذكرنا سابقاً. وتأتي أبحاث الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي لتؤكّد ذلك التفاقم في الفجوة في الدخل بين مكوّنات المجتمعات وبين الدول‏[28]. أضف إلى ذلك فإن موجة الهجرة الشرعية وغير الشرعية من دول يشتعل فيها الاضطراب‏[29] إلى دول أوروبا والولايات المتحدة أدّت إلى احتكاكات مع شرائح من المجتمعات في الاغتراب. الهجرة من نتائج العولمة التي فتحت الحدود الوطنية أمام حركة رؤوس الأموال والعمالة وسرعان ما فتحت الأبواب للهجرة الشرعية للحفاظ على النمو الطبيعي للسكان. أما الهجرة غير الشرعية فلم تكن لتتمّ لولا الموافقة الضمنية للسلطات والفعّالية الاقتصادية التي وجدت في تلك الهجرة الوافدة غير الشرعية عمالة رخيصة يمكن استغلالها لأقصى الحدود ولملء الوظائف الصعبة والشاقة التي لم يعد يريدها المواطنون الأصليون. ويمكننا القول إن الأزمات التي تشهدها الدول الغربية هي نوع من القصاص على نهب ثروات العالم الثالث. فرخاء المجتمعات الغربية لم يتم بسبب التفوّق التكنولوجي وحرّية الفكر كما يطيب للنخب الغربية ترويجه بمقدار حصولها على ثروات الدول الناشئة سواء في حقبة الاستعمار أو في حقبة التبعية التي فُرضت على هذه الدول بسبب موازين القوّة لصالح دول الغرب. أما اليوم، وقد تغيّر ميزان القوّة في هذه الدول فبرز العجز الفكري والسياسي والأخلاقي عند النخب الحاكمة في مقاربة الأزمات التي تعصف بمجتمعاتها.

الاحتكاكات بين المواطنين الأصليين والمهاجرين/النازحين أدّت إلى صعود تيّارات سياسية معادية للنخب الحاكمة التي أوصلت بلادهم إلى الأوضاع التي يرفضونها. كما أنها مناهضة لسياسات فتح الحدود وطمس الهويات الوطنية ما ينقض نظرية فوكوياما الذي اعتبر بالمناسبة أن السياسات التي تعتمد على الهويات تفسد الديمقراطية على حد قوله‏[30]. غير أن الصراع مع الوجه القبيح للعولمة ما زال قائماً، ونرى حتى داخل الدول الغربية كالولايات المتحدة مواقف وسياسات تضرب مؤسسات العولمة كالهجوم على منظمة التجارة العالمية وعودة التعرفة الجمركية كسياسة لحماية التجارة الخارجية الأمريكية.

غير أن موازين القوّة في العالم تغيّرت وحصلت تحوّلات فيها أفضت إلى نتائج لم تكن تتوقعها النخب الحاكمة في الغرب‏[31]. فمن ضمن التحوّلات الجذرية على الصعيد الدولي هو انكشاف الهدف السياسي لموجة العولمة (المرحلة المتقدّمة والمتطّورة وفي لباس «حضاري» للإمبريالية) التي تريد إضعاف إن لم يكن إلغاء مفهوم الدولة – الأمة التي حكمت العلاقات الدولية منذ القرن السابع عشر بعد معاهدة وستفاليا. كشف الرئيس الفرنسي ماكرون أن مفهوم السيادة للدولة – الأمة مفهوم نسبي يجب مراجعته. فالقوميات شيء من الماضي وتغذّي الحروب وبالتالي فتح الحدود للتجارة أهم من الحفاظ على «خصوصيات» تضرّ بالتوجّه المعولم. ففي ما يتعلّق بقوامة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته على سيادة المؤسسات الوطنية فالمسألة محسومة عنده لصالح مؤسسات الاتحاد. ردود الفعل في عدد من الدول الأوروبية تشير إلى أن الشعوب ما زالت متمسّكة بخصوصياتها وهويتها وأنها لن تقبل بسيادة خارجية على مؤسساتها الوطنية والقومية. كما أن نتائج الانتخابات في إيطاليا، إحدى الدول المؤسسة للسوق الأوروبية المشتركة وفيما بعد للاتحاد الأوروبي، تنذر بإمكان الخروج من الاتحاد بسبب عدم اكتراث المسؤولين في مؤسسات الاتحاد لقضايا الشعوب. على أي حال أطلقت موجة العولمة، وبشكلها المالي، موجة مضادة تتجلّى بالتمسّك بالهويات الوطنية والخصوصيات القومية ولو أدّت إلى تفكّك الاتحاد.

ثالثاً: الوطن العربي والعروبة بعد الحرب الباردة

العالم والإقليم والوطن العربي شهد تحوّلات هي بمنزلة تحرُّك الصفائح التكتونية والزلازل. لقد فصّلنا تلك التحوّلات في سلسة من الأوراق كتقدير موقف قدّمناها للمؤتمر القومي العربي وأمانته العامة على مدى ثلاث سنوات تمّ جمعها في مؤلف صدر حديثاً‏[32]. من ضمن هذه التحوّلات محاولات ضرب الدولة الوطنية في الإقليم وفي الوطن العربي عبر تفكيك المؤسسات وتفتيت المجتمعات، وذلك خدمة لسياسات تُخضع الهويات الوطنية لمقتضيات العولمة‏[33] كما شرحها جورج سوروس وغيره. غير أن ردود الفعل الشعبية، وإلى حدّ كبير النخب، كانت واضحة بتمسّكها بالدولة ورفض المشاريع التفتيتية التي بدأت بعد خروج مصر من الصراع العربي – الصهيوني وصعود الطفرة النفطية. وفي الدول العربية رمز تماسك الدولة هو الجيش الوطني الذي استُهدف مباشرة في كل من العراق وسورية واليمن وليبيا، بينما جيوش بعض دول مجلس التعاون لا تخلو من خصخصة ما حيث يوجد في مواقع حسّاسة مرتزقة من عدّة دول. فخصخصة القوّات المسلّحة عبر اللجوء إلى مرتزقة أجانب هدفه إضعاف الدولة المركزية وجعلها منكشفة على تدخّلات خارجية تسلب استقلالية القرار الوطني، هذا إذا وجد. كما أن هذه الدول التي تلجأ إلى الخصخصة لا تثق بأبنائها خشية من تمرّد فانقلاب فثورة! فمحاولات التفتيت والتمزيق تهدف أيضاً وفي الأساس لتصفية القضية القومية الكبرى كقضية فلسطين. بالمناسبة، أقام مركز دراسات الوحدة العربية ندوة في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 حول التغيير في الوطن العربي عالجت في جزء منها مشروع التفكيك ومساراته والاستراتيجيات البديلة‏[34].

غير أن صمود سورية أمام الهجمة الكونية عليها أفضى إلى تغيير في المعادلات، وبخاصة في ميزان القوّة عربياً، وإقليمياً، ودولياً، كما أنه عرّى بعض الطروح ذات البعد العقائدي في خطاب جماعات التعصّب والغلو والتوحّش الذي حاول وضع «الإسلام» في وجه العروبة وحركة التحرّر العربية. الجدير بالذكر أن وزير خارجية حكومة الرياض عادل الجبير افتخر بسياسة بلاده التي أدّت إلى «هزيمة حركة التحرّر العربية والقومية العربية» وذلك في تصريح في منتدى دافوس عام 2016‏[35]. ومن مفارقات الدهر وسخريته أن الوزير الجبير يعتبر حكومته في هذه الأيّام الرائدة في حماية «العروبة» أمام «الهجمة الفارسية»!

لكن في رأينا، فإن الرد على الخطاب التفتيتي هو الخطاب الجامع الذي يمثّله الخطاب العروبي. وذلك الخطاب ليس «عقائدياً» بالمعنى المألوف؛ بمقدار ما هو خطاب جديد يحمل همّ جميع مكوّنات الأمة. ويعود لمركز الدراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي والمؤسسات المتفرّعة عنه الفضل في بلورة ذلك الخطاب الذي نعرض ملامحه في الفقرة التالية. فالعروبة ليست بوجه الإسلام‏[36]، كما ادّعت دول مناهضة لحركة التحرّر العربي، وليست خطاباً يحاكي العصبية أو الشوفينية بل هو خطاب جامع. ونشدّد على ذلك، لأن الخطاب العروبي يختلف عن الخطاب العقائدي برسالته الكونية ولا يعرض مشروعاً طوبياً مغايراً للفطرة الإنسانية.

  •  في العروبة

هناك من يتكلّم عن القومية العربية وكأنها فكر جامد لا يواكب التطوّرات بينما هو نابع من وجدان أبناء الأمة. فهناك مسارات للعروبة كانت القومية العربية إحدى محطّاتها المنيرة. اليوم، العروبة هي هوية وليست عقيدة وروحها الإسلام. فهي تتمحور حول المشروع النهضوي العربي‏[37] بأبعاده الستة؛ أي الوحدة في مواجهة التجزئة؛ والمشاركة الشعبية في مواجهة الاستبداد؛ والاستقلال الوطني في مواجهة التبعية؛ والتنمية في مواجهة التخلّف؛ والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفجوات بين مكوّنات المجتمع؛ والتجدّد الحضاري في مواجهة التغريب والأسر للماضي. العروبة في الأساس هوية وليست برنامجاً سياسياً أو نهجاً سياسياً وإن استلزم الدفاع عن الهوية العمل السياسي فشكّل ما نعرفه بالقومية العربية. وهذا العمل كان تاريخياً يسعى إلى تحقيق الاستقلال الوطني وتحرير الأرض من المحتلّ الغربي والصهيوني، وإقفال القواعد العسكرية الأجنبية، ووحدة الأمة التي تجزّأت بفعل التاريخ الاستعماري وارتباط النخب الحاكمة بسياسات الاستعمار، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وحرّية المجتمع التي تكمن في التحرّر من الاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي. كما أنها تنتهج سياسات للدفاع عن تراثها ومبادئها تجاه الغزو الفكري والثقافي المدمّر لمجتمعاتنا والمدمّر أيضاً للمجتمعات الغربية التي تصدّرها لنا. لذلك، فإن القومية العربية حركة تحرّرية، أولاً ووحدوية ثانياً، ومتطلّعة إلى نهضة الأمة ثالثاً.

هذا الطموح لإنجاز أهداف سياسية واضحة تحافظ على الهوية هو ردّ فعل طبيعي على كل المحاولات لطمس الهوية العربية. تاريخياً كانت خلال السنوات الأخيرة للسلطنة العثمانية التي حاولت تتريك الولايات العربية، وفيما بعد مع الاستعمار الأوروبي الذي استكمل احتلال معظم الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الأولى. وهذه المحاولات لطمس الهوية تأتي عبر عدّة محاور: المحور الأول هو التهجّم على الهوية العربية ووصفها بالتعصّب العرقي أو القومي والمتعارف عليه بالمصطلح المستعرَب بـ «الشوفينية»؛ والمحور الثاني هو التحقير لهذه الهوية عبر استعمال مصطلحات كـ «عربان» بما يحمل من نظرة دونية لسكّان الجزيرة العربية؛ المحور الثالث هو عبر نفي المساهمة العربية في الحضارة الإنسانية ونسب القسط الأكبر لإنجازات الحضارة الإسلامية إلى الحضارات المجاورة غير العربية كالفرس والهند والصين ومصر الفرعونية… إلخ؛ وأخيراً وليس آخراً، الهجوم على العروبة عبر نفي وجودها.

فالحديث الغربي عن الأقطار العربية مبني على قاعدة أن الشعوب القاطنة فيها هي تجمّعات طائفية ومذهبية وعرقية وليست عربية الهوية والهوى. فالعراق مكوّن من سنّة وشيعة وأكراد ومسيحيين ويهود (قبل رحيلهم إلى الكيان). فللكرد قومية يُعترف بها بينما تُنفى عروبة السنّة والشيعة وحتى عروبة المكوّنات الأخرى للمجتمع العراقي والمجتمعات العربية! وكذلك الأمر في بلاد الشام وذلك لتبرير وجود الكيان الصهيوني المبني على قاعدة عنصرية ودينية. وبعض المثقفين العرب المتغرّبين يعتبرون أن المشكلة الأساسية في الحركة القومية العربية هو التنكّر للأقلّيات العرقية متناسين – عن قصد أو غير قصد – أن الهجوم القائم هو على الأكثرية الساحقة من مكوّنات الأمة وتجاهل «الأكثرية» (بالإذن من المفكّر الراحل منح الصلح ومقولته المعروفة). طبعاً هذا الادعاء غير صحيح لأن مفهومنا للعروبة يختلف عمّا يتكلّمون عنه.

إذا أردنا التدقيق في مصطلح الهوية نجد أنه مصطلح عربي ولكنه غير أصيل. فهو مصطلح مصطنع، أي مركّب، كما يؤكّده أنطوان سيف‏[38]. فهو يتكوّن من ضمير الشأن (هو) تسبقه «الـ» التعريف ومن اللاحقة المتمثلّة بحرف «الياء» المتشدّد إضافة إلى التأنيث. كما يعتبر بعض الباحثين أن المصطلح ليس عربياً بالأصل؛ بل هو اشتقاق قام به المترجمون القدامى من الـ «هو» أي حرف ربط، الذي يدلّ على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره كالقول إن فلاناً هو إنسان. وفي الغرب يدلّ جذر المصطلح على التساوي (Identity)، أي الشيء المتطابق في ذاته.

أما مكوّنات الهوية العربية فهي متعدّدة وتحمل في طيّاتها التراكم الحضاري والثقافي عبر القرون نتيجة للتفاعل بين الشعوب في إثر الهجرة أو الفتوحات. لكن ما يميّز الهوية العربية ويمثّل نقطة ارتكاز جوهرية – إن لم تكن الأهم – هو اللغة أو اللسان. فاللسان العربي هو الذي يوحي بالهوية ويعبّر عنها وعن العقل العربي كما أبرزته عدّة دراسات في هذا الموضع. لذلك نجد أن الحفاظ على اللسان العربي من الحفاظ على الهوية. وهناك دراسات وأبحاث عديدة توضح علاقة اللسان بالهوية ليس عند العرب، ولكن عند مجمع البشر، ولن نذكرها لضيق المساحة. يكفي التشديد على العلاقة بين الهوية العربية وأهمية ودور اللسان العربي في تجسيدها والتعبير عنها.

هنا لا بد لنا من مقاربة إضافية حول تعريف مصطلح «عرب». جاء في لسان العرب لابن منظور‏[39] أن كلمة «عرب» تعني الذي يعرف نسبه، وعكسه الأعجمي الذي لا يعرف نسبه. ومن مشتقّات الكلمة «إعراب» و«تعريب» بمعنى التفكيك التحليلي والتمييز. فالعربي يصبح الإنسان الذي يعرف نسبه ويستطيع التفكيك والتحليل والتمييز، أي الإنسان العالِم. في المقابل هناك الإعرابي الذي لا يجيد معرفة نسبه بالكامل وقدرته على التفكيك والتمييز محدودة. فإضافة حرف الألف على مصطلح «عرب» وكسره لجعله متعدّياً يعطي معنىً آخر. هذا نموذج عن بلاغة اللسان العربي.

لذلك فإن قضية العرق غير موجودة عند العرب كما يزعم البعض، وإن اعتبروا أن النسب مبني على رابطة الدم. فإذا كنّا لا ننكر أن في مرحلة تاريخية سابقة كانت رابطة الدم بداية تحديد النسب فإن التطوّرات السكّانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ساهمت في تطوير مكوّنات الرابطة وجعل اللسان والتاريخ والمصير المشترك أساس الانتماء العربي. بالمقابل فإن قضية العرق كمكوّن أساسي للرابطة موروث غربي. فالغرب كان يُعرّف العرب في القرون الوسطى بالسراسنة. وكلمة «سراسنة» مشتقة من اليونانية «سراكونوس» تعني المنحدرين من خارج «سارة» أو عبيد لسارة‏[40]. فالنسب الأسطوري للعرب هو هاجر وابنها إسماعيل. أي الغرب هو الذي أوجد مسألة «الآخر» في تعريفه عن العرب أنهم ليسوا منحدرين من الزواج الشرعي بين سيدّنا إبراهيم وزوجه سارة بل من الجارية هاجر! ومشكلة الهويات الفرعية أوجدها المستعمر الأوروبي واعتبرت مدخـلاً للحداثة! وفقاً للباحث سري مقدسي. أما جورج قرم فيعتبر أن مشكلة الهوية نشأت في الغرب لتبرير المشروع الاستعماري عبر اختراع مفهوم «الآخر» كموضوع يُدرس كالحشرات والحيوانات فأوجد علم الأنثروبولوجيا لذلك الغرض. والنظرة إلى الآخر نظرة دونية بطبيعة الحال وهي تختلف كلّياً عن نظرة التنوّع والاختلاف الموجودة في الأمة وفي الأمم الأخرى، التي تفرض الاحترام كما جاء في الآية 13 من «سورة الحجرات»: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.

فإذا كانت العروبة هوية، وهوية جامعة، وإذا كان العرب لا ينتمون إلى عِرق محدّد بل إلى نسب ومعرفة مما يمكّن الجمع بين المكوّنات؛ وإذا كان البعد العرقي اختراعاً غربياً؛ وإذا كانت اللغة مكوّناً أساسياً للهوية؛ وإذا كانت المكوّنات الأخرى للهوية نتيجة تفاعل مع الحضارات المجاورة؛ وإذا كانت مكوّنات المجتمعات العربية تؤمن بالتاريخ والمصير المشترك، فمن هو العروبي في القرن الحادي والعشرين؟ العروبي بالنسبة إلينا ومن يشاطرنا في المقاربة، هو من ينطق باللسان العربي ويؤمن بالمشروع النهضوي العربي. والمشروع النهضوي العربي مشروع يسعى إلى نهضة الأمة عبر تحقيق أهداف الاستقلال الوطني والوحدة وإقامة مجتمع الكفاية والعدل وإيجاد منظومة معرفية عربية تسمح للعروبيين مقاربة أوضاعهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفقاً لمناهج وأدوات تحليل نابعة من واقعهم وغير مستوردة. لذلك تصبح طبيعة العروبة طبيعة جامعة وغير إقصائية لأنها مبنية على أسس موضوعية ومتفاعلة مع التاريخ ونابعة من الوجدان.

وإذا سئلنا عن علاقة العروبة بالإسلام فالإجابة سهلة. العروبة هوية والإسلام روح لها بما أن أكثرية العرب من المسلمين. كما أن الإسلام عموماً، والقرآن خصوصاً، لا يُفهم إلّا بعد اتقان اللسان العربي. فعبر العروبة يُفهم الإسلام وعبر الإسلام تُكتشف العروبة. بالنسبة إلينا، ووفقاً لقراءتنا للقرآن الكريم، فإن الإسلام بمعناه الواسع هو الإيمان بالله، وبملائكته، وكتبه، ورسله، دون التفريق بينهم، كما جاء في «سورة البقرة، الآية 285 ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِه﴾. لذلك فإن اليهودية والنصرانية فرق من الإسلام حيث الله هو واحد وهو على كل شيء قدير، وإن اختلفت الطقوس. وهذا التوضيح يساعد على فهم العروبة كهوية جامعة لكل مكوّنات الأمة وإن حاول البعض وأعداء الأمة إيجاد الشرخ عبر تفسيرات خاطئة في رأينا.

ولا بد لنا من أن نتوقف عند ما أتى به مؤسس حزب البعث الراحل ميشيل عفلق، في مقاربة له عنوانها «ذكرى الرسول العربي» التي يوضح فيها العلاقة بين العروبة والإسلام. نقتبس بعض الجمل التي تفيض عما أتينا به أعلاه. يقول عفلق إن حركة الإسلام «صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصبح لذلك اعتبارها ممكنة التجدّد دوماً في روحها لا في شكلها وحروفها. فالإسلام هو الهزّة الحيوية التي تحرّك كامن القوى في الأمة العربية فتجيّش بالحياة الحارة، جارفة سدود وقيود الاصطلاح، مرجعة اتصالها مرّة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة فتنشأ تعبّر عن إعجابها وحماستها بألفاظ جديدة وأعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكراً وعمـلاً، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيّة كيف يتمرّدون على واقعهم وينقسمون على أنفسهم، في سبيل تجاوزها إلى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ممكناتها ويعزّزوا فضاءها». ثم يضيف أن «هذه التجربة ليست حادثاً تاريخياً يُذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية – إذا فُهم الإسلام على حقيقته – لكي تهبّ في كل وقت تسيطر فيها المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم على نفسها لتصل إلى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهي تجربة لتقوية أخلاقها كلما لانت وتعميق نفوسها كلّما طفت على السطح، تتكرّر في ملحمة الإسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، إلى أن تختم بالظفر النهائي للحق والإيمان». ليت الذين يعتبرون أنفسهم عروبيين ويتساءلون عن علاقة العروبة بالإسلام قرأوا «ذكرى الرسول العربي»‏[41].

وللعروبة مسارات كانت القومية العربية إحدى محطّاتها المنيرة‏[42]. فما هي القومية العربية؟ إذا لجأت إلى المحرّك البحثي على الشبكة العنكبوتية تجد سيـلاً من التعريفات والاجتهادات يختلط فيها الحابل بالنابل من تعريفات غير دقيقة وسطحية، ما يدّل إما عن جهل أو عن تجهيل متعمّد. وقد تكمن هنا مسؤوليتنا كعروبيين ملتزمين في عدم التصدّي لذلك التجهيل. لسنا في إطار سرد هذه التعريفات لضيق المساحة أولاً ولأن معظمها لا يستحق التوقّف عندها. نكتفي بالتوضيح أن القومية العربية محطة أساسية في مسارات العروبة كما أوضحها المؤرّخ يوسف شويري «لأن مصطلح «المسارات» يعطي تصوّراً أرحب لسيرورة العروبة في مراحلها المختلفة، بما فيها القومية العربية ما بين 1940 و1970»‏[43].

ليس هدفنا هنا سرد جذور وتاريخ القومية العربية. فهي كما ذكرنا محطة في مسارات العروبة. وهذه المحطة هي التعبير عن نهج سياسي كان وما زال جوهره حركة تحرّرية من الاستعمار الغربي وردّ فعل على محاولات طمس الهوية، سواء جاءت من النخب العثمانية الحاكمة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أو من المستعمر الأوروبي. الحركة التحرّرية التي تجسّدها القومية العربية كما عرّفناها أعلاه حملتها نخب مدنية وعسكرية إلى السلطة. تحالف قوى الاستعمار القديم والصهيونية والرجعية العربية في الربع الثالث من القرن العشرين، واليوم من الإمبريالية والعولمة النيوليبرالية والدول العربية الداعمة للقوى المتشدّدة المتعصّبة الظلامية، استطاعت إيقاف دفع الحركة التحرّرية القومية واستبدال الخطاب الظلامي الذي يغذّي الغرائز والعصبيات المذهبية تحت صورة مشوّهة للإسلام بالخطاب التحرّري القومي الذي كان سائداً آنذاك. هذا النجاح الذي حققه ذلك التحالف استفاد من أخطاء الحكّام، والنخب التي كانت تدور في فلكهم، الذين اعتبروا أنفسهم ممثلين للحركة التحررية. لا نستطيع في إطار هذا التقديم مقاربة الأخطاء لضيق المساحة ولكن نكتفي بأن الجنوح إلى الصراع على السلطة، والابتعاد من الأهداف القومية في تحقيق الوحدة وتحرير فلسطين، واتباع النهج الإقصائي لكل من يخالف رأي الفئة الحاكمة، أوجد الانقسام المجتمعي الذي سمح للتحالف الدولي والإقليمي المعادي للأمة للتسلّل وضرب الحركة التحرّرية. نضيف طبعاً أن موازين القوة الدولية والإقليمية لم تكن لصالح الحركة التحرّرية العربية. فكان ما وصلنا إليه دون القضاء على الحركة التحرّرية كلّياً التي تشهد مجدّداً حراكا متنامياً يوماً بعد يوم، وبخاصة بعد اتضاح النتائج الكارثية للخطاب الفتنوي التدميري.

بدأت حركة الانحدار مع رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر. فالثورة المضادة استفادت من إمكانات مالية ضخمة أوجدتها الطفرة النفطية وارتفاع أسعار النفط، وهذا ما سمح بترويج خطاب إقصائي ممنهج عبر السيطرة على المساجد في مواجهة «الإلحاد» الذي شكلّته الحركة التحرّرية القومية. وصلت حملة الردّة ذروتها في تبرير احتلال العراق وتدميره، وفيما بعد تدمير ليبيا وسورية واليمن والبحرين وتهديد مصر ولبنان والجزائر.

ضخامة التدمير في هذه الأقطار والخطاب السياسي الإقصائي الذي نظّر له أوجدت ردّ فعل على عبثية الخطاب الإقصائي الديني والمشاريع الظلامية التي يحملها أرباب وروّاد التعصّب والغلو والتوحّش، إضافة إلى ارتباطه بأجندات الاستخبارات الغربية والصهيونية. نشهد الآن نوعاً من الصحوة تطالب بالعودة إلى العروبة التي تجمع ولا تقصي أحد وإلى مشروعها النهضوي العربي.

فالعروبة تتمحور حول ذلك المشروع، كما تقدم ذكره باختصار، بأبعاده الستة. ويعود لمركز دراسات الوحدة العربية مسؤولية نشر ذلك المشروع عام 2010 كما يعود للمؤتمر القومي العربي وأعضائه مهمة ترويجه في مختلف الأوساط والمنابر. هذا وقد ساهم في صوغ المشروع مفكّرون وباحثون وناشطون ينتمون إلى مختلف التيّارات السياسية؛ منها التيّار القومي العربي وسلالاته التقليدية (من ناصريين وبعثيين وحركيين قوميين عرب) ومن التيّارات الإسلامية المتنوّعة، ومن اليساريين، ومن الليبراليين.

لذلك يحمل العروبي اليوم هَمّ جميع أبناء الأمة ويعتبر نفسه مسؤولاً عن جميع مكوّنات الأمة. وحرص العروبي على التنوّع القائم بين مكوّنات الأمة تميّزه عن سائر المشاريع التي تنادي بأحادية العرق أو الطائفة أو المذهب أو المنبت السياسي. وبالتالي لا يمكن لثقافة العروبة إلّا أن تكون ثقافة حوارية بعيدة من ثقافة الإقصاء. لذلك لا مكان لأي نوع من التمييز ناهيك بالعنصرية. على تلك القاعدة، نعتقد أن مسألة الأقلّيات القومية الموجودة في الوطن العربي تُحلّ على قاعدة الاعتراف بحقوقها القومية، وعلى قاعدة التكامل مع الأكثرية العربية بما يصون الأمن القومي لكل المكوّنات العربية وغير العربية وبخاصة في مواجهة أطماع الإمبريالية والصهيونية أو أي جهة أخرى. فالقوميات الفرعية كالقومية السورية والقومية اللبنانية على سبيل المثال لا تتناقض مع العروبة بل تتكامل معها. لذلك كان المؤتمر القومي العربي، وما زال، الإطار المناسب لجمع هؤلاء العروبيين من المكوّنات للتفاعل والتفاهم. فالتنوّع هو سمة ثقافة المؤتمر القومي العربي الذي يعكس في رأينا مزاج الأمة.