﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة: 28).
“نركل من طريق ما بيننا وبين الآخرين كل عصبياتنا وأنانياتنا ورغباتنا في الانتصار للذات حتى تتاح الفرصة لهم أيضا أن يفعلوا مثل ذلك فينحوا عصبياتهم وأنانيتهم عن الطريق حتى تنفذ إليهم كلمة الحق صافية سائغة”.
(محمد سعيد رمضان البوطي هكذا فلندعُ إلى الإسلام،
مؤسسة الرسالة، مكتبة الفارابي ص 109)
مقدمة
ما زال الموت الفاجع للعالم والمفكر والمجدد الشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي يسيل حبرًا ويقدح فكرًا، فالرجل جمع في واحد، وهو في مجاله الإسلامي لا يمثل شخصية بل مسارَ المدرسة الإسلامية السنية الأشعرية في جركتها التجديدية التي تعثرت وتجمَّدت وكانت محتاجة في كل وقت إلى رجل استثنائي ذكي القلب واسع الثقافة متشربًا لروح عصره علَّه ينقذها من سكونيَّتها التي طالما اتخذها المناوئون لها من مختلف المشارب مطعنًا ليسِموها بالتلفيقيَّة والتبريريَّة والمهادنة.
فالشيخ البوطي ليس عالمًا دينيًا وسطيَّا فحسب، وليس مفكرًا إسلاميًا باحثًا ولا فقيهًا أصوليًا، ولا متمكنًا من علم السلوك والباطن متجردًا ولا مجاهدًا منافحًا؛ بل هو إلى ذلك شخصية مشهورة مؤثرة، وهو محسوب على المدرسة الأزهريَّة معقل الإسلام السني وقد تخرج فيها. والشيخ البوطي ظل زمنًا من أحد أهمّ المراجع الفكرية للكثير من التيَّارات الإسلامية بمن فيهم من نابذوه العداء وحرضوا على قتله رمزيًا وفعليًا.
بين يدي الكتاب
الكتاب التذكاري المعنوَن بـ الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته وقائع ندوة أربعينيَّته بتونس صدر عن مجمع الأطرش للكتاب المختصَّ بتونس في طبعته الأولى سنة 2022، وجاء في تصديره في الصفحة الثالثة “هذا الكتاب التذكاري في الأصل ندوة أقامها منتدى التفكير في الحراك العربي في أربعينية الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي يوم 30 نيسان 2013 بالمكتبة الوطنيَّة بتونس” وتولى تنسيق الكتاب عالم الاجتماع والأناسة التونسي عادل بن خليفة بالكحلة بمساعدة ناجي الحجلاوي ومحمد السبتي ونعمان المغربي. والكتاب مجموع محاضرات الندوة، يتكون من 114 صفحة من الحجم المتوسط وفي صفحة غلافه الخلفية صورة للشيخ محمد سعيد البوطي وتحتها إشارة إلى الكتب التي وقع تقديم البوطي من خلال دراستها وهي الجهاد في الإسلام وكيف نفهمه، وشرح الحكم العطائية، وممو زين، ومنهج الحضارة الإنسانية في القرآن آفاق متجددة، والسلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، وكبرى اليقينيات الكونية.
ونلاحظ طول المدة الفاصلة بين أعمال الندوة (2015) ونشر الكتاب (2022) (سبع سنوات) وكذا المدة الفاصلة بين استشهاد البوطي (2013) وأعمال أربعينيته (2015). ولا يمكن الغفلة عن المتغيرات الجيوساسية وتغير المشهد العام بعد انحسار مد ما سمي “الربيع العربي” وفشل إسقاط “الدولة السورية” وتغير الرأي العام العربي طيلة العشرية العاصفة التي زلزلت المنطقة العربية الى حين.
والكتاب هو عودة هادئة للبحث في الفكر العربي الإسلامي ومدارسه واتجاهاته وأبعاده، بعيدًا من “الإكراهات الدعائية والسياسية والشحن الغرائزي والأفكار الوثوقية اللاعقلانية”.
يوهم الكتاب من خلال عتباته الأولى (العنوان / المناسبة / الإطار المرجعي) أنَّه كتاب “مناسباتي” يخلد شخصية مرموقة من خلال مداخلات ألقيت في ذكراه الأربعينية، وفي الصفحة الخامسة منه يَجمَع الكتاب الشيخ البوطي إلى شخصيتين فكريتين عربيتين تجتمعان في التفكير الاستراتيجي السياسي وهما محمد حسنين هيكل وأنيس النقاش فهل كان البوطي مفكرًا استراتيجيَّا؟
قدم عادل بالكجلة الشيخ البوطي عبر ترجمة سيريَّة مكثفة ومختصرة ووظيفيَّة ركَّز فيها على القيمة العلميَّة والمشارب والأصول وقام بحصر بيبلوغرافي لمؤلفات الشيخ البوطي (ونلاحظ أنه أشار إلى أنها نحو 60 مؤلفا بينما تربو مؤلفات الشيخ على 115 كتابًا كما ورد في موقعه على الانترنت). ويمكن لنا من خلال الجرد التاريخي لمؤلفاته ملاحظة تركيزه على القضايا الكبرى للفكر الإسلامي المعاصر في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي واهتمامه بالقضايا الفكرية والروحية العامة في الثمانينيات وانشغاله بقضايا التأصيل العقائدي في أواخر القرن العشرين وعودته إلى القضايا العاجلة والتحديات في أوائل القرن الحادي والعشرين). الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته (ص 10/11/12)
نجد في المداخلة الأولى عنوانًا إشكاليًا هو “سيرة مجاهد صادق مواقف الشيخ سعيد البوطي إصلاحي اشتراعي يحارب “الراية العُمِّية” .. وهو مقال لـ عادل بالكحلة، الباحث الاجتماعي والأناسي التونسي،
ويمتد على ست وعشرين صفحة. وبغضّ النظر عن وضوح الانحياز إلى موقف الشيخ البوطي منذ العنوان فإننا نجد مساجلة فكرية ومرافعة دفاعية متينة عن المواقف الشرعية والفكرية والسياسية للشيخ البوطي تجعل موقفه من الأحداث العاصفة لما يسمى “الربيع العربي” مندرجًا ضمن مشروع فكري شرعي وروحي تبنَّاه الشيخ منذ أصدر كتابه المهم الجهاد في الإسلام في أوائل التسعينيات ولكنه متفرع عن طرح أشار إليه الشيخ في كتابه باطن الإثم، صدر سنة 1983 على أثر الأحداث الدامية التي نتجت من التمرد المسلح لحركة الإخوان المسلمين في سورية. وقد ركز الباحث عادل بالكحلة على مفهومين متصلين بالسياسية الشرعية هما الجهاد ونظرية الحكم ليصل بينهما وبين الصراع الفكري والشرعي والفقهي الذي خاضه الشيخ البوطي في مواجهة “شيوخ الثورة السورية”. وقد كشف الباحث صوابيَّة رؤية الشيخ ليخلص إلى نتيجة مهمة “لقد دافع الشيخ طيلة حياته العلمية والعملية بهدوء علمي وإيتيقي ووفق ضوابط ارتآها عن الإسلام السني ناقدًا بعالِمية وأخلاقية الإسلام السلفي والإسلام الاخواني ووقف ضد ما سماه الغوغائية وتدمير الوطن”. (الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته ص 29).
أما المداخلة الثانية في الكتاب فمهمة وطريفة رغم إيجازها وهي عمل مقارني في ظاهره ولكنه مدخل لضبط المراجع الفكرية والروحية للشيخ البوطي والمداخلة تحمل عنوان “البوطي وبديع الزمان النورسي البوطي نورسيَّا من خلال كتبه للباحث محمد السبتي وهو باحث في العلوم الإسلامية وعلم الاجتماع. والحقيقة إن فكر الإمام بديع الزمان النورسي ظل غامضًا وقليل التأثير في مدارس الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، شأنه في ذلك شأن كبار المفكرين في الفضاء الإسلامي غير العربي (التركي والهندي والإيراني)، فلم يُعرف قدر جمال الدين الأفغاني مثلًا إلا عبر تلميذه رشيد رضا، ولم يقع الاهتمام بالمدرسة الهندية والأفغانية إلا عندما جعلها تيار الإسلام السياسي رافدا لمفاهيم الحاكمية.
لا شك أنَّ روابط عديدة تجمع الشيخين البوطي والنورسي منها أنهما من أصول كرديَّة وأنهما تلقيَّا التعليم الديني التقليدي السني نفسه، وأنهما مرتبطان أشدَّ الارتباط بالتصوف فكريًا وروحيَّا، وأنهما عاشا في حقبة عاصفة وفي خضم أحداث هزت البلاد الإسلامية على اختلاف الزمن. ويشير الباحث محمد السبتي أن البوطي هو الذي عرَّف بالنورسي داخل الفضاء العربي قبل أن تصل رسائل النور وتترجم إلى العربيَّة
لقد وقف الباحث محمد السبتي على التأثير المرجعي للنورسي على الشيخ البوطي في قوله “إن ما يجذب البوطي إلى النورسي ليس ذلك العلم الفياض ولا ذلك الصلاح بل النورسي المصلح المقاوم”(ص 34).
ويبدو الباحث كما في أغلب المداخلات في كتاب “الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته” منشغلًا بمُجريات الصراع المحتدم بعد الأحداث السورية باحثًا عن الصلة بين موقفي النورسي والبوطي من التمرد المسلح، ولكن البحث كان مدخلًا مهمَّا لمزيد التعمق في تأثير بديع النورسي مفكرًا ومتصوفًا ومصلحًا وقائدًا في الفكر السياسي العربي وبخاصة في ما يخُصُّ العلاقة بين الدين والسياسة والعلمانية والإسلام.
والمداخلة الخامسة وهي الأطول في الكتاب وعنوانها “البوطي مفكرًا صوفيًا / البوطي متماهيًا بابن عطاء الله السكندري من خلال شروح الحكم وسيرتيهما” للباحث العادل بلكحلة. ويمكن أن نلاحظ أنَّ الباحثين في الكتاب كانوا باحثين عن المرجع أكثر من اشتغالهم على الكتب السبعة التي وقع اختيارها لدراسة فكر الشيخ البوطي (هذه الكتب هي الجهاد في الإسلام / شخصيات استوقفتني/ شرح الحكم العطائية/ ممو زين/ منهج الحضارة الإنسانية في القرآن/ السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي/ كبرى اليقينيات الكونية).
وقد حاول الدكتور عادل بالكحلة أن يمهد لدراسته المقارنيَّة الوعرة بطرح إشكالي وطرح مفاهيمي ونلاحظ نحت الباحث لمصطلحات ميتا-لغوية منها “الاشتراع / التحمية/ الحمى الامتلائي… إلخ.). وإذا كان الباحث قد تتبع بعمق ورويَّة نقاط الاجتماع بين مشروعَي السكندري والبوطي في هدفين رئيسيين هما إعادة الأخلاق والمنظومة السلوكية المثلى لتحصين المجتمع أولًا وإنشاء رباط اجتماعي روحاني في ظل الانهيار السياسي ومخاطر سقوط ثغور الإسلام وحواضره وبيضته ثانيًا فإنَّ انشغاله بتفكيك الصلة بين “الغنوص الصوفي الروحاني” واشتغاله اجتماعيًا وسياسيًا بدا ملتبسًا وغامضًا.
والذي رسخ بعد طول مدارسة للتصوف سلوكًا وعلمًا وطريقة وتاريخًا وحضارة واجتماعًا وثقافة أن هذه المدارسة على قيمة البحوث التي كتبها باحثون من القدماء والمحدثين من المسلمين وغير المسلمين كانت جميعها تدرسه خارجيَّا بمقاربات فيها غير قليل من الإسقاط الماقبلي أو الانبهار والتقمُّص. وتأتي قيمة شرح الحكم العطائية للإمام سعيد رمضان البوطي من كونه شرحًا غاص في بواطن الحكم بتأمل إشراقي دون أن يفقد الأدوات المنهجية والعقلية وغائية البحث وهي استخراج قوته الإصلاحية السلوكية وهو ما يقول في مقدمة شرحه: “لا شك أنَّ توجيه هؤلاء الظمأى إلى حكم ابن عطاء الله وأمثالها إنَّما هو توجيه إلى مورد لعاطفة إسلامية صافية عن الشوائب بعيد عن عكر البدع والمنكرات ولسوف توصلهم أن هم اخذوا أنفسهم بنصائحها إلى صعيد باسق من محبة الله وتعظيمه والمخافة منه والرضا عنه والثقة به والتوكل عليه وهل يصلح إيمان بالله بدون هذا كله”. (محمد سعيد رمضان البوطي شرح الحكم العطائية المقدمة دار الفكر دمشق سورية ط2 سنة 2003 ص 18)
وأطرف ما في الكتاب الجماعي هو ملخص للقصة الماتعة التي اقتبسها محمد سعيد رمضان البوطي من الأدب الكردي القديم، وهي تعد أول منشوراته، فقد نشرها سنة 1957 تحت عنوان “ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء”. والقصة شبيهة جدًا بقصص العشق المتواترة عند شعوب العالم كقصة كليوباترا ومارك أنتوني ومجنون ليلى وبيراموس وثيسبي البابلية التي استمد منها شكسبير رائعته روميو وجوليت وقصة شاه جيهان وممتاز محل المغولية.
ساير ناجي الحجلاوي هذا العمل الفني وإعادة تسريده عبر بنيته الحدثية العامة مع تدخل روائي توجيهي أربك السيرورة البنائية للنص إلى حد ما، ولكن الملخص العام اكتمل نظامه ليفهم القارئ – الذي لم يطلع على الرواية – أحداثَها الدرامية والتراجيدية ويتابع ظاهر شخوصها وبواطنهم وليصل مع الباحث إلى جملة من الإشكاليَّات المتعلقة بصلة النصّ بموارده وبفنّ الرّواية وبفكر البوطي ومرجعياته وبغاياته ويخلص إلى جملة من النقاط المهمة هي علامات تربط مسار هذه التراجيديا العاطفية ببواكير فكر البوطي، فهل قام الشيخ بتغيير مساره من الفن إلى الفكر الديني؟؟ لقد غيَّر الكثير من المفكرين الإسلاميين مسارهم الأول فقد كتبوا الأدب والشعر ومارسوا الإبداع الفني ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام حرقة العقل ومشاغل الفكر؛ فمحمد إقبال كان شاعرًا بالأساس، وكذلك كان مالك بن نبي وعباس محمود العقاد. ولكن سيد قطب وحده من تمرد على تجربته الأدبية الأولى وعَدّ الفن ضربًا من الجاهلية. أما سعيد رمضان البوطي فقد ظل مرتبطًا بذلك النصَّ “المكاشفي” الأول ذلك أنَّه استغراق عميق في الصراع الأزلي بين السعي إلى التطهر الباطني والتصادم مع واقع معقد مشتبك. ولعل تلك النهاية المأسوية لبطل ممو زين هي نفس نهاية الشيخ البوطي ولكنَّها ليست مأسوية من منظور المجاهدة الصوفية والتخلص من أدرن الناسوت وكُدورات “الأغيار”.
وتمثل المداخلة السادسة للكتاب مدخلًا لفهم النص المؤسس عند البوطي وعنوانها الرئيسي “البوطي مفسًرا للقرآن” وعنوانها الفرعي “في القراءة البوطية للقرآن الكريم قضايا جديدة تركز على البعد الحضاري” وهي ورقة مشتركة بين ناجي الحجلاوي ونعمان المغربي. ولم يكتب محمد سعيد البوطي كتابًا جامعًا لتفسير القرآن ولكن مقاربته للنص القرآني شملت كتبًا كثيرة ألَّفها منها من روائع القرآن تأملات علمية وأدبية في كتاب الله عز وجل (مؤسسة الرسالة بيروت 1990)، وكتاب لا يأتيه الباطل (عن دار الفكر بدمشق 2007)، وأدب الحوار في كتاب الله ومنهج الحضارة الإنسانية في القرآن (دار آفاق المعرفة 1981 والحب في القرآن دار الفكر بدمشق 2011).
ولئن ركز الباحثان على الكتب التي تحمل كلمة القرآن بوصفها نصوصًا تفسيرية ممكنة وهي كذلك إلا أننا نعثر على كتب أخرى كانت على درجة الأهمية التفسيرية نفسها، منها كتب في العقائد والتشريع أهمها كبرى اليقينات الكونية ومن أسرار المنهج الرباني والإنسان وعدالة الله ومنهج تربوي فريد في القرآن ومن سنن الله في عباده.
والمداخلة مدخل مهم لفهم “الجهاز المفاهيمي للبوطي” من خلال اشتغاله على استجلاء تأملي للنص القرآني للبحث عن مفهوم حضاري وتاريخي إسلامي يجعل هذا النص يتحول من كتاب مقدس للتلاوة إلى كتاب مرجعي لتنظيم الحياة والاجتماع الإنساني. يقول سعيد رمضان البوطي “متى يدرك المسلمون أن ثقافتهم المختلفة لا قيمة لها في نطاق البحث عن الذات وترسيخ الأصالة المنشودة إن لم تنهض أولًا وتتوج أخيرًا على دراية هادئة جادة بكتاب ربهم الذي يعلمهم كيف يعتنون وكيف يتعاملون مع المكونات والإنسان والحياة”. (محمد سعيد رمضان البوطي منهج الحضارة الإنسانية في القرآن آفاق معرفة متجددة دار الفكر دمشق ط1 سنة 1983 ص 15/16).
ورغم الجهد الكبير الذي بذله سعيد رمضان البوطي في بحثه عن منهج تفسيري قرآني يؤسس لفهم حديث لمشكلات الحضارة والإنسان إلا انه مثلما توصل الباحثان ظل رهين عقل جدالي سجالي بل أدبي تأملي. ورغم قسوة الباحثين على الجهد البوطي في خلاصة البحث – إذ وسماه بالإسقاط – إلا أن البوطي لم يكن مهمومًا بتأسيس نظرية تفسرية جديدة ولا حتى صوغ “مفهمة” قرآنية ولا كان ساعيًا إلى إسهام تفسيري تأملي جديد بل كان “منافحًا” عن “صلاحية القرآن لبناء حضارة قويمة.. والكتاب المنزل من الله يتضمن أدلة منهجية واضحة تدعو إلى تحقيق الأهداف الحضارية”. (الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته ص 74).
وتتعلق المداخلة السابعة للدكتور عادل بن خليفة بالكحلة بكتاب خطير ومهم للإمام سعيد رمضان البوطي هو كتاب السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي. ولعلَّ الشيخ البوطي اضطر إلى هذا الكتاب اضطرارًا، إذ هو من الرافضين للجدل داخل الحقل الفكري الإسلامي مهتم بدفع الشبهات الخارجية واستقراء المفاهيم الفعالة لتجيد الفكر الإسلامي ولكن “لا بدَّ مما ليس منه بُدُّ”. فالسلفية الوهابية كما يرى بلكحلة “أصبحت تهديًدا وجوديًا وعقائديًا” لمصير المذهب الأشعري والمذهب الماتريدي، وهما مذهبا أكثر أهل السنّة والجماعة لأنهما مذهبا كفر في نظر السلفية. (ص 82).
يفكك الشيخ البوطي في هذا السفر الصغير المحكم هذه الظاهرة التي تحولت من مرحلة زمنية إلى أنموذج مستعاد إلى منهج في التفكير والاقتداء ثم الى فرقة متشددة داخل المذاهب الإسلامية وأخيرًا إلى مذهب طهوري متعال شديد الحساسية والعدوانيَّة ولفظة السلفية لا يشمل الإسلام فحسب بل هو موقف مرتبط بتقديس الأسلاف وحسبانهم مرجعية لازمانيَّة وتحكيمية واقتدائية وقانونية وهذا في الأديان جميعها وكذا في التصوُّرات والأفكار والفلسفات، بل إن جدلية القديم والمعاصر والسلف والخلف والسابق واللاحق هي دينامية تطور الحضارة الإنسانية والأجيال البشرية في كل العهود والعصور.
والسلفية في مجالها الإسلامي عقيدة وتشريعًا ونسقًا فكريًا ظهرت منذ نشأت الفرق الإسلامية التي رفعت كل واحدة منها شعار الاقتداء بالسلف الصالح على اختلاف تحديد هذا السلف لتتبلور لاحقًا داخل الحقل السني مع جماعة الحديث الرافضين للجدل المنطقي والكلامي وارتبطوا أساسًا بالحنبلية التي ستُخرج لاحقًا عبد الحليم بن تيمية في القرن الثامن ميلاديًا وهو الذي تعرض لمعارضة قويّة من العلماء التقليديين لأهل السنّة والجماعة في زمن استقرت فيه العقيدة الأشعرية.
والمذاهب الكبرى وبعد نحو ستة قرون ستظهر الدعوة الوهابية لتعلن عداءها لكل فرق الإسلام وتزرع بعض غراس التكفير من خلال أرضية تيمية وهابية تجلت في كتب مرجعية لصاحب الدعوة أهمها كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وكتاب نواقض الإسلام، ومنها خرجت كل التيارات السلفية وصولًا إلى أشدِّها عتوَّا و تطرفًا ووحشية.
إن قراءة عادل بلكحلة، على اختصارها، مرت مباشرة إلى غائية الشيخ البوطي البعيدة وهي وضع حواجز شرعية وعقلية أمام الفكرة السلفية في حد ذاتها قبل هدم مقالاتها التي أسالت حبرًا كثيرًا، ولم يبق تقريبًا شيخ ذو أهمية علمية لم يكتب للرد عليها بمن فيهم شقيق صاحب الدعوة سليمان بن عبد الوهاب (انظر رسالة الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية لسليمان بن عبد الوهَّاب).
تناول الباحث الرد البوطي من ثلاثة منطلقات مهمة أولها تهافت تقديس الأسلاف، وثانيها تناقض التصور السلفي مع العقل والمنطق، وثالثها تعارض السلفية مع جوهر الدين ومقاصده.
وتفطّن الباحث أن الكتاب يكتسي أهمية بالغة إذ أدرك التيار السلفي ومن تحالف معه فكريًا وسياسيًا لخطر هذا الكتاب فقال “لا أبالغ إذا رأيت ان نقده العلمي الهادئ للتفكير السلفي في هذا الكتاب عام 1988 هو الذي تسبب في تثبيت قرار قتله من ذلك العام لأن هذا التكفير يضيق بالنقد العلمي الهادئ” (ص 83).
والدراسة الأخيرة في كتاب “الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته” حاولت الولوج إلى العمق الفكري الكلامي للشيخ سعيد رمضان البوطي الذي يمثل امتدادًا للمدرسة السنية الأشعريَّة من خلال كتابه “كبرى اليقينيات الكونية وجود الخالق ووظيفة المخلوق (دار الفكر المعاصر /دار الفكر دمشق بيروت 1997). وقد سعى الباحث نعمان المغربي المختص في علم الأديان المقارن مثلما أشار في بداية بحثه إلى ملامسة “بعض الجِدة والإضافة في علم كلام البوطي في العقيدة وفي منهجه البحثي” (ص 85). ولا شك أن هذا مبحث على درجة عالية من الأهمية إذ انَّه ينفذ إلى آليات التفكير عند البوطي وهي التي ظل وفيًا لمسارها في جل مؤلفاته.
غير أن الباحث استغرق أكثر من ثلثي بحثه في متابعة السجال الذي نتج من الكتاب من قبل مناوئيه وهم ثلاثة أصناف التيار السلفي الوهابي الضديد للأشعرية (انظر الرد على البوطي للشيخ الألباني)، والتيار الإخواني الذي بدأ يقطع الصلة الفكرية بالشيخ البوطي بناء على موقف سياسوي (انظر ضجيج العلماء الشيخ البوطي أنموذجا لخالد سعد النجار)، والتيار العلماني بشقيه الليبرالي والماركسي الذي يرى فكر الشيخ امتدادًا للتصورات الميتافيزيقية الدينية التي رسخت السكونيَّة والرجعيَّة وأعاقت الفكر التقدمي والنقدي (صادق جلال العظم / جورج طرابيشي/ الطيب تيزيني )… ولقد حجب هذا السجال الذي طغى على أغلبه أسلوب المحاكمة السياسية والصخب الفكري النظر الرصين في فكر الشيخ البوطي وإضافته المهمة داخل المدرسة الأشعريَّة التي ظلت منغلقة على مدوناتها القديمة ومقالاتها منذ شيخ الحرمين الجويني والباقلاني والغزالي ثم رسخت عبر الحواشي والمختصرات والشروح المعقدة (انظر شرح المقاصد للإمام سعد الدين التافتازاني ت 792هجريًا).
وانشغل الباحث نعمان المغربي على مدى صفحتين تقريبًا في الإجابة عن السؤال الرئيسي للبحث وهو منهجية الشيخ البوطي في البحث العقدي. ويقف على أهم مرتكزات المشروع التجديدي العقائدي للبوطي من دون أن يتوغل في مجالاته، فيرى أن التجديد البوطي يكمن في العمل والتبسيط والعقلنة والنقد الوظيفي. ويلمح الباحث إلى العقبات المنهجية لمشروع البوطي وأهمها توعر تجاوز مرتكزات العقيدة الأشعرية وصعوبة التوفيق بين الاعتقاد الأشعري وبين تطور علم الكلام والتصوف العرفاني.
لا شك أن كتاب كبرى اليقينيات الكونية من أهم الكتب السبعة التي اعتمدها مؤلفو كتاب الشهيد البوطي من خلال مؤلفاته مدخلًا لفهم فكره وتصوراته وجهازه المفاهيمي الإسلامي، وهو سفر ضخم نسبيًا من 400 ورقة تقريبًا وتناول فيه البوطي أهم مجالات التفكير العقائدي الإيماني في الإسلام وهي الإلهيات والنبوات والكونيات والغيبيات مؤكدًا أن الإيمان والعقيدة هما أساس كل فهم إسلامي صحيح وعميق وأنهما بحاجة إلى ترسيخ عقلي وفكري متجدد في مواجهة “الشبهات الجديدة” وهي شبهات تسلحت بتطور علمي وفلسفي وعقلاني حديث لم تعترض علماء الكلام القدامى.
ولئن ظهر تبحُّر الشيخ في القسم الأول المتصل بالإلهيات وتسلحه بالمناهج العلمية والمنطق في تأكيد “العلَّة الأولى” فإنه استغرق بقية المجالات الاعتقادية في إعادة المقولات التراثية في علم التوحيد ليخلص إلى أن الرسالة سلوكية تربوية بالأساس.
“فأجهد ما وسعك الجهد في أن تتسمع إلى هذا الصوت وحده (صوت العقل) متميزًا عمّا في نفسك من ضجيج الشهوات والأهواء ونداء البيئة والتقاليد وتشويش العقد النفسية وصراخ الكبر والعصبية، فإنك إن تبينت صوت العقل وحده في زحمة هذا الضجيج انتهى الإشكال وزالت عنك الغاشية واكتشفت الحقيقة الكبرى وعندئذ تغذ السير في الطريق الحق لا تلوي على أحد”. (محمد سعيد رمضان البوطي كبري اليقينيات الكونية دار الفكر دمشق1997 ص379).
خاتمة
هذا كتاب جدير بالاطلاع والنظر خرج من رحم مأساة الشيخ الشهيد البوطي تخليدًا لفكره ودوره ومكانته فقد كان الرجل هدفًا لحملات ضارية حاولت قتل رمزيته الفكرية والمرجعية وعزله عن مدرسته وعن الجماهير وبعضها نهل من أدبياته وفكره وإسهامه ثم قام “بقتل الأب” رمزيًا.
والباحثون الذين ساهموا في الكتاب – وإن وقفوا موقف الإكبار والإجلال من الشيخ البوطي – فإنهم لم يضعوا شروط البحث الأكاديمي والموضوعي العلمي وراء ظهورهم وهي شروط غابت عن مناوئي الشيخ في حياته وبعد استشهاده.
إنَّ قيمة هذا الكتاب تتجلى في أنه فتح بابًا واسعًا للاشتغال على أكثر من مئة مصنف للشيخ البوطي هي خلاصة حركته الفكرية التجديدية والاجتهادية في حقول الفكر الإسلامي وقضاياه كافة.
لقد كان دمه المُهراق على مصحفه وهو يتناوله بعقله الباحث وروحه المتنورة في مسجد الإيمان بين مريديه شهادة على أن عقله وروحه متصلة بكبار مفكري الإسلام الذين “قتلتهم مواجدهم” إما بكشف ما حقُّه الحجب وإما بالانتصار لموقف مبدئي من القضايا التي يدفع فيها العلماء أرواحهم. ألم يقل الإمام الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل “ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينيَّة مثلما سُلَّ على الإمامة في كل زمان”.
كتب ذات صلة:
ما قبل الاستشراق : الإسلام في الفكر الديني المسيحي
المصادر:
بلقاسم بن جابر: باحث في الأدب والتراث، ماجستير أدب قديم كلية الآداب بمنوبة تونس.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.