ملخص
ينطلق هذا المقال من فكرة مفادها أنّ حرب غزّة تضع المعرفة الغربيّة على المحك، وأنّ «العين السوسيولوجيّة»، بعبارة بيير بورديو، التي نرى بها واقعنا العربي لم تعد رؤيتها واضحة، ما دامت لا تبني مفاهيمها من رحم واقعها. ويحاول المقال أن يذهب أبعد من ذلك ليجازف بالقول بأنّ إيبيستيمية جديدة هي الآن قيد التكوّن، وتخلق رؤية جديدة للعالم تنطلق من فكرة المقاومة لمختلف أشكال الهيمنة. وجذور هذه الفكرة ليست جديدة، إذ تستند إلى رصيد معرفيّ مهم ينطلق من المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي. وتستند أيضًا إلى ما كتبه الطبيب فرانز فانون في إدانته المعرفيّة للغرب الاستعماري، وكذلك إلى إدوارد سعيد حين يحاول أن يفكّك أسطورة الهيمنة الغربيّة في الأدب، ظهر هذا الجهد بخاصّة في كتاب الثّقافة والإمبرياليّة، الذي يكشف ميكانيزمات الإمبرياليّة الغربيّة، ولكن في الأدب هذه المرّة. ينضاف إلى هذا محاولات ميشال فوكو، وبخاصّة في سنواته الأخيرة، حين ربط بين السّلطة والحريّة، فهُما متلازمتان، من جهة أنّ كلّ سلطة تنتج ميكانيزمات مقاومتها. وأهمّ ما في هذه الأعمال أنّها تكاد تمثّل، بعضها مع بعض، شبكة أو نسيجًا واحدًا يحيل إلى رؤية للعالم تدفع إلى تشكيل معرفة قائمة الذّات، نسمّيها، مبدئيّا «إيبيستيمية المقاومة». ونعني بها هذه الرؤية للعالم في التّفكير والقول والفعل، وحتّى الإحساس كذلك، التي تقوم على مقاومة الهيمنة بكلّ أشكالها.
الكلمات المفتاحية: الإيبيستيميّة؛ ما بعد الكولونيالية؛ إيبيستيمية المقاومة؛ حرب غزّة؛ المعرفة الاجتماعيّة.
تمهيد
كلّ ما نسعى إليه في هذه الدراسة، أن نُخرج مفهوم «المقاومة» من حيّز النضال إلى حيّز المعرفة، ومن الحسّ المقاوم إلى المقاومة كنظام معرفيّ، لتصبح ممارسة علميّة ممكنة، تحمل في داخلها رؤية للعالم ومنظومة من القيم والمواقف. وليس معنى هذا أنّها بدايةٌ، بل لحظة نضج لرؤية للعالم لعلّها تتبلور منذ قرن أو يزيد، غير أنّ الجهد فيها ظلّ متفرّقًا، وقد لا يحتاج منّا إلاّ إلى نسج ما تفرّق من خيوطها ضمن شبكة معرفيّة واحدة، فنربط بين ما تناثر فيها من عناصر. ونسمّيها، مبدئيًّا، إيبيستيمية المقاومة.
تلازمت، تاريخيًّا، السّلطة مع المقاومة، فكلّ سلطة، وبخاصّة إذا كانت غاشمة، تخلق من داخلها ميكانيزمات مقاومتها. ومنذ أن تطوّر في الغرب نظام رأسمالي مع الثّورة الصّناعيّة في القرن التاسع عشر، تشكّلت معرفة تُفكّك ميكانيزمات الهيمنة، بدءًا من الماركسيّة، ومرورًا بالنيو ماركسيّة، وصولًا إلى ما بعد الكولونياليّة وبحوث مدرسة التّابع. كلّ هذا التراث المعرفي المقاوم للهيمنة نسمّيه «إيبيستيمية المقاومة»، إذا ما نُظر إليه ضمن نسيج من المفاهيم والمقولات والرؤى. ويبدو أنّ حرب غزّة هي التي دفعت إلى التّفكير فيها، لأنّ المقاومة بلغت ذروتها من جهة، والاحتلال بلغ ذروة «التوحّش»، حدّ الإبادة الجماعيّة، من جهة أخرى، إلى الحدّ الذي بات معه الاستشهاد أرحم من الحياة[2]. لقد اهتزّ العالم أمام «بشاعة الموت»، واهتزّت معه الكثير من المسّلمات و«الحقائق» والقيم.
ما معنى إيبيستيميّة في حدود هذا النّص؟ هي تلك البنية التي تجعل خطابًا معرفيًّا ما ممكنًا ومتماسكًا في لحظة معيّنة، وفي ثقافة بعينها. ونعتقد، بهذا المعنى، أن حرب غزّة كانت لحظة مواتية لتنكشف فيها إيبيستيمية الإنسان المقاوم. ثلاث إيبيستيميات متتابعة يقترحها ميشال فوكو في الكلمات والأشياء، تتعلّق بتطوّر المعرفة الغربيّة بتطوّر حقبها. فلكلّ حقبة إيبيستيميتها، أي نظامها المعرفي، الأولى حقبة عصر النّهضة، والثانية الحقبة الكلاسيكية، والثالثة حقبة الإنسان الحديث. هذه الإيبيستيميات لا يمكن مدّها لتنسحب على الثّقافة العربيّة، التي اتّسمت، تاريخيًا، حسب الطّاهر لبيب، بهيمنة براديغم واحد سمّاه براديغم الطّاعة (لبيب، 2010). ونفترض من جهتنا، أنّ هذه الثّقافة، هي بصدد بلورة إيبيستيمية مختلفة عن براديغم الطّاعة، ولها مرتكزاتها المعرفيّة، سنوضّحها لاحقًا، وقد سميناها إيبيستيمية الإنسان المقاوم، بما فيها من نسق مفاهيميّ يفكّك خطاب الهيمنة، الصريح منه أو الضّمنيّ. ولنا في التاريخ العربي ما يفيد استمراريّة حسّ مقاوم، رغم محدوديّة تأثيره، ولكنّه، مع ذلك لم ينقطع في أيّ مرحلة من مراحل هذا التاريخ العربي الإسلامي. فمنذ صدر الإسلام وُجدت خلايا مقاومة بالفكر والممارسة، بدءً من الخوارج والمعتزلة، مرورًا بثورة الزّنج في القرن التاسع ميلادي ضد سلطة الدّولة العباّسيّة، وصولًا إلى ما حدث من هزّات وانتفاضات في المئة سنة الأخيرة، وأبرزها مقاومة الاستعمار الغربي في الفضاء العربي. غير أنّ الإيبيستيمية لا يمكن تتبّع تشكّلها في التاريخ، بل يمكن دراستها سنكرونيًّا في لحظة ما. ونفترض أنّ حرب غزّة أحدثت، وتحدث منعطفًا حاسمًا يأخذنا من الحسّ المقاوم إلى الوعي بولادة خطاب معرفيّ يتمثّل العالم من زاوية المقاومة، فيكون بمثابة الرّحم المولّد للقيم والمعتقدات والتمثّلات والمعاني التي ترفض مختلف أشكال الهيمنة. ولعلّها أطروحة إبستمولوجيّة ترتفع بما هو كامن إلى السّطح، فتنتج بنية مترابطة من المفاهيم والرؤى والتمثّلات والمواقف وطرق من الفعل تدفع باتجاه الخروج من الخضوع إلى الاستقلاليّة، في مستويات مختلفة، ومنها إنتاج معرفة خارجة من رحم واقعها. يقول ميشال فوكو: «عند لحظة معيّنة لا توجد إلاّ إيبيستيمية واحدة في كلّ ثقافة. هذه الإيبيستيمية تحدّد الشروط التي بها تكون معرفة ما ممكنة» (Foucault, 1966: 179).
أولًا: المعرفة الملتزمة بالمقاومة
قد يكون من البديهي أن تكون كل معرفة علمية وليدة عصرها أو عصارته. عصُرها هذا، قد يمتد زمنه كما حدث مع المعرفة العلمية الكلاسيكية. وقد يتقلص كما هو ملاحظ مع الثورات العلمية والتكنولوجية الحديثة. إذ ما فتئت الإنتاجات المعرفية النظرية والتكنولوجية تتكاثر وتتنوع وتتطور. وتخضع الإنسان بشتى مكوناته وأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها للدراسة والتفكيك والتحليل، بل للهيمنة.
يعدّ التنظير للنفسي والاجتماعي في الإنسان أخطر أنواع المعارف. لأنه وضع ويضع الإنسان ضمن قوالب المعرفة الغربية التي أريد لها أن تكون «كونية». وذلك بهدف جعلها أداة للسيطرة الأيديولوجية على الشعوب غير الغربية، والاستيلاء بالتالي على مقدراتها. حيث مارس تأثيره العميق ليكون مرجعًا للفكر العربي عمومًا تفكيرًا وتدريسًا. يشهد على هذا، واقع البرامج والمحتويات المدرّسة في الجامعات، وقد ينسحب هذا على الإنتاجات الفكرية لمعظم مثقفينا.
كل معرفة إذًا، ترتبط بسياقها السوسيو تاريخي والمعرفي أيضًا. فتكون غالبًا ملائمة له في معطياتها وإنتاجاتها العلمية. وقد تتجاوز المعرفة تلك المعطيات عندما يتسنى لها تفكيك الواقع الاجتماعي وتحليله، والبناءات المعرفية لعصرها وإعادة تركيبها. ومن ثم، استخلاص معرفة جديدة تتجاوز كلًا من المعرفة والواقع الذي كانت تتطلع إليه.
إن الباحث السوسيولوجي، بناء على هذه المسلّمة، مدعوّ ليغيّر زوايا الرؤية كلما تغيرت السياقات الاجتماعية واتضح عدم تلاؤمها مع المفاهيم التي تعدّ تنظيرًا لها. الأمر الذي يفرض عليه اختبار المسلّمات المعرفية وما ينبني عليها من نظريات. هذا هو ذات السياق الذي تتموقع ضمنه مقالتنا هذه. حيث تهدف إلى مساءلة هيمنة المفاهيم والتصورات الاجتماعية الغربية في إطار مشروع إيبيستيمي يسعى إلى نزع الهيمنة على المعرفة الاجتماعية الغربية، ونزع هيمنتها على القيم وعلى الصورة.
وإذا ما كان لهذه المقالة من إضافة، فهي الافتراض بأنّ حرب غزّة تضع المعرفة الغربيّة على المحك، وأنّ «العين السوسيولوجيّة»، بعبارة بيير بورديو (Bourdieu, 1993: 604-605)، التي نرى بها واقعنا العربي لم تعد رؤيتها واضحة، ما دامت لا تبني مفاهيمها من رحم واقعها. وإذا ما ذهبنا بالافتراض أبعد من ذلك، فإنّنا نجازف بالقول بأنّ إيبيستيمية جديدة هي الآن قيد التشكّل، وتخلق رؤية جديدة للعالم تنطلق من فكرة المقاومة لمختلف أشكال الهيمنة. وجذور هذه الفكرة ليست جديدة، إذ تستند إلى رصيد معرفيّ مهم ينطلق من المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وبخاصّة في مصطلح الخاضع (Subltern) الذي صاغه في كرّاسات السّجن، وهو يقبع في سجون الفاشيّة. وفيه تنسج الطّبقات الخاضعة بعض عناصر استقلاليتها عن الطبقات المهيمنة، رغم خضوعها (Gramsci, 2021: 602) . يتعلّق الأمر بعناصر نادرة، ولكنّها ثمينة، قد تكون أساسًا لهيمنة مختلفة. ولنا في ما كتبه، وناضل من أجله الطبيب فرانز فانون، الكثير من السّند لتبرير وجود براديغم يتخمّر منذ ما يزيد على نصف قرن، وكلّ ما ينقصه وضع اسم على مسمّى. نطلق على هذا البراديغم، مبدئيّا، «براديغم المقاومة»، في انتظار تطويره لاحقًا في عمل أكبر، ويجمع كلّ ما أُنتج من معرفة تشرّع المقاومة ضد كلّ أشكال الهيمنة. ومن أهمّ كتبه جلد أسود، أقنعة بيضاء (Fanon, 1952) والمعذّبون في الأرض، وفيهما يكشف فرانز فانون كيف أنّ المستعمِر جعل من هيمنته هيمنة اعتباطيّة، غير قابلة للنّقاش، بل لا بدّ منها، ما دام المستعمَر يمثّل جوهر الشّرّ، ومنزوعًا من كلّ قيمة. المُستعمَر، الذي انتُزعت منه أرضه، يواجه قدره المحتوم، ما دامت قد هجرته القيم، بل من الأفضل ألا تسكنه أبدًا. فعالمه بلا أخلاق، بل إنّه فوق ذلك عدوّها. فهو شرٌّ محضٌ، وحشٌ، كما تصف إسرائيل اليوم المقاومة الفلسطينية. هذا العالم، من وجهة نظر استعماريّة يجب أن يزول ويُدمّر، لأنّه يشوّه كلّ ما يتعلّق بالجمال والأخلاق، فهو مستودع قوى الشّرّ. فنحن هنا إزاء منطق يجرّد المستعمَرين والخاضعين من إنسانيتهم. لذلك يجب أن يُقاوم بكل الطرق حسب فانون، ومن هذه الطرق، طريق المعرفة. ونسمّيها، في حدود هذه المقالة، المعرفة الملتزمة بالمقاومة. يقول فانون: «عندما يريد المستعمِر أن يصف جيدًا، ويجد الكلمة المناسبة، فإنه يشير باستمرار إلى الحيوانات. نادرًا ما يتعثر الأوروبيون في الاستعارات. هذه الديمغرافية الراكضة؛ هذه الجماهير الهستيرية؛ هذه الوجوه التي فرت منها البشرية جمعاء؛ هذه الأجساد السمينة التي لم تعد تشبه شيئًا؛ هذه الزمرة بلا رأس ولا ذيل، هؤلاء الأطفال الذين يبدو أنهم لا ينتمون إلى أحد؛ هذا الكسل المنتشر تحت الشمس؛ كل هذا جزء من المفردات الاستعمارية» (Fanon, 2001: 45). ويضيف جون بول سارتر على هذا التوصيف الذي قدّمه فانون، بقوله إنّ العنف الاستعماري يسعى إلى تجريد المستعمَرين من إنسانيتهم (Fanon, 2001: 15). إنّ ما يفعله فانون هو إدانة معرفيّة للعنف الاستعماري المميت، هي معرفيّة لأنّه يحلّلها، ويفكّر في العلاقة بين الفلسفة السّياسية والنّضال ضد الهيمنة. أمّا سارتر، فيزايد عليه في مقدّمته لكتاب المعذّبون في الأرض، بتبرير العنف ضد الاستعمار. ولكنّ هذه الجرأة، وهذه النزعة التحرّريّة لسارتر، تسقط حينما يتعلّق الأمر بتحرير فلسطين، إلى الحدّ الذي جعل إدوارد سعيد يصفه، في سياق ما، بــ: «الفكر المحبط»، إذ يراه مختلفًا جذريّا عن جون جينيت، مع أنّه كان شديد الإعجاب به (Said, 2009: 4-5).
ذهب إدوارد سعيد في هذا الاتّجاه نفس، ويفعل تقريبًا الشيء نفسه، حين يحاول أن يفكّك أسطورة الهيمنة الغربيّة في الأدب. ظهر هذا الجهد بخاصّة في كتاب الثّقافة والإمبرياليّة (Said, 2000)، الذي يكشف ميكانيزمات الإمبرياليّة الغربيّة، ولكن في الأدب هذه المرّة. كلّ هذا الجهد وغيره، من قبيل محاولات ميشال فوكو، وبخاصّة في سنواته الأخيرة، حين ربط بين السّلطة والحريّة، فهُما متلازمتان، من جهة أنّ كلّ سلطة تنتج ميكانيزمات مقاومتها. الخيط النّاظم بين كلّ هذه الأعمال هو فكرة المقاومة من الأسفل، والتحرّر من كلّ أشكال الهيمنة. وأهمّ ما فيها أنّها تكاد تمثّل، بعضها مع بعض، شبكة أو نسيجًا واحدًا يحيل إلى رؤية للعالم تدفع نحو تكوين معرفة قائمة الذّات، نسمّيها، مبدئيّا «إيبيستيمية المقاومة». ونعني بها هذه الرؤية للعالم في التّفكير والقول والفعل، وحتّى الإحساس كذلك، التي تقوم على مقاومة الهيمنة بكلّ أشكالها.
ثانيًا: التحولات السوسيوتاريخية
ومؤشرات إيبيستيمية جديدة
قبل ما يحدث الآن من إبادة جماعيّة على غزة، كانت فكرة تحرير فلسطين تبدو ضربًا من اليوتوبيا، لأنّها لا تأخذ بالحسبان واقع الهيمنة وتكنولوجيا القوّة والموت. وكان البعض منّا، ممّن يرى مشهد الصّراع من الخارج، يعتقد أنّ النّصر ضرب من الوهم، في حين تراه المقاومة في غزّة «صبر ساعة». وبعد هذه الحرب، أضحى مشروع تفكيك إسرائيل، أمرًا ممكنا، وانتشر الحديث عن فرضية نهاية إسرائيل. وهذا ما يعني أنّ غزّة قد نجحت في إثبات قوّة السّرديّة الفلسطينيّة، رغم حجم الإبادة الذي تجاوز الآن أربعين ألف شهيد، وما يزيد على مليون مشرّد. وبدأ العالم ينتبه إلى زيف السّرديّة الإسرائيليّة التي تقوم على أساطير مصنوعة سلفًا، لتبرير سرقة الأرض الفلسطينية، وتشريع الاحتلال. ومن هنا نفهم اللامعياريّة في القتل التي أظهرها الاحتلال كردّة فعل على هذا الفشل. فتعرّى وجهه العنصري، كأوضح ما يكون، وبكيفيّة غير مسبوقة، وبخاصّة مع سرعة جريان الصّورة في الوسيط الرّقمي. وفيها بدأنا نسمع عن أطعمة الموت، ونقرأ عن الولادة تحت القصف، ونرى كيف أصبحت المدرسة بوّابة لجهنّم، وكيف تتحوّل البيوت والشّوارع إلى مقابر. ونشهد كيف تطوّرت تقنيات القتل والتّعقّب بواسطة طائرة مسيّرة صغيرة الحجم: «الكواد كابتر»، مهمّتها المراقبة والتّعقّب والقتل. كانت، في هذه الحرب الأخيرة، تدخل البنايات وتصوّر الموجودين، ثمّ تطلق النّار على أيّ جسم يتحرّك. ولقد طوّر الفلسطينيون تقنية لتعطيلها، تتمثّل ببساطة في إغماض العينين عند دخولها، وبخاصّة في الليل. ومن تقنيات التّحايل لهذه الطائرة المسيّرة إصدارها أصوات أطفال تبكي، وحين يخرج النّاس للتّثبّت تطلق النار عليهم.
ورأينا كذلك كيف يتشفّى الجندي الإسرائيلي، ولعلّه يتلذّذ أيضًا، على نحو مَرَضي، بعرْض الملابس الدّاخليّة لنساء من غزّة، بعضهنّ قضين تحت الأنقاض. وكأنّ الفلسطيني هو كائن خارج نطاق الواجب الأخلاقي. وهذا بُعد من أبعاد تعريف معنى الإبادة لدى البنيويين والسوسيولوجيين: النظرة المسبقة للضّحايا على أنّهم خارج نطاق هذا الواجب الأخلاقي، فهم أعداء وجماعة منبوذة (أوثوايت، 2022: 26). التعرّي والفضح يطال الغرب أيضًا، وبخاصّة أمريكا التي خسرت ما لم تتمتّع به يومًا: قيادتها الأخلاقيّة للعالم، خسرت التوهّم بقيادة هذا العالم (جيجيك، 2022: 65). يتعرّى الغرب، وقبله أمريكا، ويفقد قيادته الأخلاقيّة، حين يرى الإبادة الجماعيّة صريحة، ولا يمنع استمرارها، بل ويشرّعها بأشكال مختلفة. يكفي أن نقرأ الصورة التي تصلنا من غزّة لنسأل إن كان قد بقي في هذا العالم ما يمكن به الدّفاع عن معنى الإنسانيّة: صور لكلاب تحمل أعضاء بشرية قضت تحت الأنقاض زمنًا، أجساد فُصلت عنها رؤوسها، شنق النساء الحوامل، أشلاء من شهداء مغلّفة في أكياس أغلبهم من الأطفال.
ورغم حجم الإبادة، فقد تمكّنت غزّة بقوّة المعنى، من التّذكير بزيف هذه الأساطير، وبيّنت، بما قدّمته من ملحمة مستمدّة من ثقافة الأرض ومدّتها الممتدّة، أنّ «التّاريخ» الإسرائيلي ما هو إلا تاريخ مصنوع خارج السّيرورة. يؤكّد المؤرّخ الإسرائيلي شلومو صاند، الذي يتبنّى حلّ الدولتين، بأنّه لا يمكن خلق شرعيّة تاريخيّة على أساس زيف أسطوري (Sand, 2010: 125-134). ويضيف، في كتابه: كيف تمّ خلق الشّعب اليهودي؟ أن سرديّة الشّعب الموحّد لم تمثّل واقعًا تاريخيًا، إلا كأسطورة مختلقة (Sand, 2008). هذه أولى فضائل هذه الملحمة التي صنعتها غزّة ببندقية وكفن: التذكير بالتّزوير الإسرائيلي للتّاريخ، والتّحايل الفظّ عليه. ثانيتها التّذكير بأنّ القوّة الغاشمة تحمل ميكانيزمات مقاومتها. فالاحتلال وشرعيّة مقاومته والتحرّر منه متلازمان. لقد تحوّلت غزّة اليوم إلى رمز، بالمعنى الدّلالي للكلمة تشير إلى المقاومة. وهنا يختفي تصنيفها المعتاد بأنّها حركة إخوانية متطرّفة، لتصبح معنى، علامة اتفاقيّة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، لا يختلف حولها اليمين أو اليسار، أو السّنة أو الشّيعة.
في هذه الحرب على غزّة، تحوّلَ المشهدُ إلى قتل بغرض المحو. تقتل إسرائيل النّساء حتى لا يُنجبن أطفال الظّلام، كما يقول نتنياهو، مقابل أطفال النّور، على حدّ تعبيره. يتمّ هذا القتل ضمن مجازر، منها «مجزرة الطّحين» التي وقعت في اللحظة التي كان فيها الجياع من الأطفال وأهاليهم يحاولون الحصول على حفنة من طحين، فإذا بالموت يسبقهم إليه. وتبلغ الإبادة ذروتها في ما سمّي «مجزرة البركسات[3]»، وفيها حُرقت الخيام على رؤوس النّازحين في مخيّم رفح. وهنا تحوّل في تسمية المجازر، فبعد أن كانت تسمى باسم الأمكنة التي وقعت فيها (مجزرة دير ياسين مثلًا)، أضحت تُعرف بظرفيّة وقوعها.
هذا القتل «المتوحّش» وراءه «ثقافة متوحّشة» لدولة تستمدّ وجودها من تقنية الإبادة بآلة موت، تَنَافَس العقل الغربي، منذ الحرب العالميّة الأولى، وبخاصّة الثّانية، على تطويرها، وتمكين «دولة إسرائيل» من أهمّ ما وصلت إليه من تكنولوجيا الموت. هذا التواطؤ «الفاحش» مع القتل يضع الغرب، أو ما يسمّى العالم الحرّ، أمام مأزق يكشف مفارقة تتمازج فيها القيمة بين خطاب القيم الإنسانيّة، ومنها حقوق الإنسان، من جهة، والتواطؤ مع القتل بطريقة لامعياريّة، من جهة أخرى. هذا القتل اللامعياري، على ما فيه من وحشيّة غير مسبوقة، كان، وعلى نحو مفارق، مفيدًا، إذ خلق حالة من اليقظة العالميّة نبّهت إلى عدالة القضيّة الفلسطينيّة، من جهة، ومن جهة أخرى كشفت براعة الاحتلال الإسرائيلي في تدمير البشر والحجر. وممّا رأيناه من «بشاعة» في التعبير عن الحقد الإسرائيلي، في التكنولوجيا الرّقمية، نقرأ هذه الجملة: «I will barbecue your flesh»، وتعني «سأجعل من لحمك مأدبة شواء». وفي المقابل، يردّ الشاعر الفلسطيني، رفعت العرعير، قبل استشهاده وأسرته، بقصيدة حلّقت عبر العالم، تعاند قاتلها:
«إذا كان يجب أن أموت
فعليك أن تحيى أنت
لتروي حكايتي[4]
لذلك، ولكلّ هذه اللامعياريّة في القتل والتّشفّي، لن يعود العالم كما كان، مهما كانت نتائج هذه الحرب. أشياء كثيرة ستوضع على المحك، أوّلها علاقة العرب بالإيبيستيمولوجيا الغربيّة، بما في ذلك من مطلب إعادة التموضع المعرفي. وثانيها سؤال القيم الإنسانيّة. وهنا مطلب إعادة بناء المنظومة القيميّة وفقًا لأطروحة قوّة الضّعف. فليس ثمّة قيمة في المطلق. كلّ قيمة هي نتاج سياقاتها الاجتماعيّة والتاريخية والحضاريّة. وثالثها سؤال الصّورة ونزع الهيمنة عنها. فالصّورة الغالبة، كما أرادت موازين القوّة، هي صورة الثّقافة الغالبة. نحن إذًا، إزاء ثلاثة رهانات كبرى، ترتبط كلّ واحدة منها بالأخرى: الأوّل نسمّيه المشروع الإيبيستيمي، بما في ذلك من تحدّ يتمثّل بنزع الهيمنة عن المعرفة، الاجتماعيّة بالخصوص. والثاني نسمّيه نزع الهيمنة عن القيم. والثالث يتمثّل بنزع الهيمنة عن الصّورة.
ثالثًا: نزع الهيمنة عن المعرفة
ويتعلّق الأمر فيه بمقاومة أطروحة المعرفة المتعالية على كلّ الحقب وعلى كلّ الأمكنة. ميشال فوكو يقول لكلّ حقبة إيبيستيميتها (Foucault, 1966: 13). فكلّ حقبة، عنده، تمتلك خطابها المعرفي. هذه مقاربة عمودية للمعرفة. وقد نحتاج، بدءًا من الآن، وبعد ما شاهدناه من تواطؤ بعض رموز المعرفة الغربيّة مع القتل، إلى مقاربة أفقيّة، جغرافية اجتماعيّة، مكانية للمعرفة. كلّ جغرافيا اجتماعية يُفترض أن تكون لها رؤيتها للعالم. هذه الرؤية لا يمكن أن تمتدّ على كلّ الثّقافات. فالترسيمة التحليلية، أو الإيبيستيمية، يُفترض أن ترتبط بأمكنتها وبواقعها. هذا ما نقصده بنزع الهيمنة على المعرفة، بما في ذلك من انتقال إلى شيء آخر غير المعرفة الغربيّة، تخرج فيها رؤى العالم من أمكنتها وأزمنتها. لا يحتاج هذا إلى أكثر من نوع من التموضع المعرفي والأخلاقي والسياسي المختلف، يسمح بممارسة تمارين معرفيّة تأتي من الأسفل، وتنطلق عند الضّرورة، كما تفعل الفينومينولوجيا (أو الظّاهراتيّة) من صفر في المعرفة، لتبني معرفة جديدة تبدأ من تحليل الواقع المحلّي. وليس هذا بالأمر الصّعب، إذ يكفي أن نبدأ، في دروسنا الجامعيّة، مثلًا، بالاشتباك، نقديًّا، مع ما ندرّسه لطلبتنا من معرفة غربيّة، فنضعها على المحك، لننتقل بعدها إلى شيء آخر في قراءة واقعنا ومفهمته. لعلّ هذه أولى خطوات نزع الهيمنة على معرفة الواقع المحلّي، البدء بنقد المعرفة الاجتماعيّة الغربيّة في ضوء معطيات هذا الواقع بخصوصياته. وهنا يُفترض أن ننطلق من بداهة ساطعة مفادها أنّ علم الاجتماع الذي نُدرّسه اليوم، ونسلّطه على واقعنا، هو ببساطة، علم اجتماع المجتمعات الغربيّة، أي تأويل للعالم انطلاقًا من ثقافة هذا الغرب. ولأنّه كذلك فليس أقلّ من أن نشتبك مع هذه المعرفة، بنظرياتها ومناهجها ومفاهيمها. يذهب فرانز فانون أبعد من ذلك، فيدعو إلى أن ندير ظهرنا إليها صوب «ترييف أوروبا» (Provincialisation de l’europe). الغرب الذي ما فتئ يرفع شعار الإنسانيّة ويتحدّث عن الإنسان، ومع ذلك يقوم بإبادته في كلّ مكان، وآخر هذه الأمكنة غزّة. في المعذبون في الأرض يقول: «نحن نعرف اليوم مقدار المعاناة التي دفعت ثمنها الإنسانيّة مقابل كلّ انتصار من انتصاراتها الفكريّة» (Fanon, 2003: 302). هذا الغرب، دائمًا حسب فانون، لا يجب ألّا نتّبعه فحسب، بل علينا أن نبتعد عنه، لأنّ لعبته بلغت حدّها. لقد آن الأوان للذّهاب إلى شيء آخر. هنا قد نحتاج إلى قلب روابط الخضوع للمعرفة الغربيّة بتأويلات ذاتية للحياة، وتدفّق من الدّاخل، حتّى نأخذ مكانًا في بنية العالم، كما يقول الفيلسوف الكمروني أشيل مبامبي (Mbembe, 2013: 18).
هذا المشروع الذي يتبنّى أطروحة نزع الهيمنة على المعرفة ليس جديدًا، كلّ ما في الأمر أنّ الحرب على غزّة حرّكته وشرّعت وجوده. غير أنّ الجهد فيه يذهب في اتّجاهات مختلفة، من الديكولونياليّة إلى ما بعد الكولونياليّة إلى مدرسة التّابع، مع أنّ الهاجس المعرفيّ واحد. ولعلّ الرّبط بين هذه الحقول الثلاثة، والبحث في منطقة التماس بينها قد يكون أكثر نفعًا، وأكثر تكثيفًا للجهد. الديكولونياليّة مفيدة من جهة الموقف والتموضع المعرفي والأخلاقي. وما بعد الكولونياليّة فيها معنى التّجاوز وخلق معرفة جديدة. ومدرسة التابع تحيل إلى أطروحة قوّة الضّعف وقوّة الهامش، هذا الهامش الذي يشار إليه بكلمة البقيّة، حين تمييز الغرب من بقية العالم (L’occident et le reste) (Mbembe, 2013: 19).
هناك عنف إيبيستيمي وثقافي يُمَارس ضدّ المعرفة المحليّة والممارسات الثّقافيّة بتواطؤ من الضّحية، لذلك نحتاج إلى إعادة تكوين إيبيستيمي لننتج معرفة محليّة مبتكرة. ولكن هل يجب أن نلوم الغرب على هذا العنف؟ فالغرب فكّر في واقعه، ففهمه وفسّره، بمعجمه الخاص. أما المشكلة فتكمن في عجزنا عن التّفكير في واقعنا، بسبب تلبّسنا لمعرفة الغرب، كما لو أنّها معرفة كونيّة، أو كما لو أنّها خارجة من رحم واقعنا، حتّى بدت لنا كأنّها المعرفة بإضافة ألِف التّعريف. والحال أنّ هذا الغرب لا يخاطبنا، بل كان يعبّر عمّا تحتاج إليه الإنسانيّة الغربيّة[5]. حين كان هابرماس يتحدّث عن نظريّة الفعل التواصلي، وأطروحته حول تجسير الفجوة بين ذوات تتواصل (Habermas, 1987)، كان يعبّر عمّا تحتاج إليه ثقافته الغربيّة من معرفة. ونعرف موقفه المناصر لإسرائيل حين أمضى على بيان مؤيّد لحربها على غزّة. لقد بات هابرماس بعد 7 أكتوبر 2023 لا يرى الموت إلّا من جانب واحد ليستغلّ كغيره مفهوم معاداة السّامية، ليدين المقاومة ويشرّع الاحتلال، وهو الذي اشتهر بأطروحة الاتفاق والتّفاهم بين ذوات تتواصل في «الفعل التواصلي».
أين تجسير الفجوة، وأين التواصل، والعقل التواصلي، مع عالم غربيّ ينفق على تفجير المستشفيات، وقتل الأطفال والرّضّع وتركهم تحت الرّكام. وحين صاغ ماكس فيبر مفهوم فكّ السّحر عن العالم (Weber, 2003)، كان يتحدّث عن عالمه الغربي الذي بدأ يبتعد عن الدّين كتقنية خلاص مع تطوّر العقلنة. وهل من خلاص دون قوّة الرّمز وقوّة التشبّث بالله في غزّة؟
هكذا ترتبك المفاهيم السائدة في الهزّات التاريخية الكبرى، كهذه الحرب على غزّة. ومنها قد تتغيّر معاني الكلمات وتتبدّل السلّميات القيمية. وقد تكون فرصة لمراجعة نجاعة بعض المفاهيم وولادة أخرى. كنّا نسلّم بمثل هذه المفاهيم، كفكّ السّحر عن الدّين (Gauchet, 1995: 6) وتراجعه بسيرورة العقلنة، وإذا بالدّيني كان أهمّ تقنية خلاص، سواءٌ بالشهادة أو النّصر. وفي الحالتين ثمّة إحساس بالخلاص لدى مقاتلي غزّة. فنحن إزاء عودة السّحر إلى الدّين، وليس فكّ السّحر عنه. وحتّى معنى الجهاد الذي كان يحيل إلى الإرهاب والتطرّف والأصوليّة، قد نُزع عنه، في حرب غزّة، ما علق به من وصم ما دام صار يمثّل قوّة تحرّر من السّلطة الغاشمة للاحتلال. هكذا تحوّل أبو عبيدة إلى نمط مثاليّ للبطولة، والتحرّر من الاحتلال. وأضحى الجندي الإسرائيلي هو الإرهابي الذي يقتل ويفجّر، ويحتفي بالموت، وكأنّه في مناسبة احتفاليّة. ويُوجّه نتائج تفجيره في إرساليّة إلى زوجته، هديّة بمناسبة عيد ميلادها.
وحين كان ريمون بودون في فردانيته المنهجيّة، يقول إنّ الظواهر الاجتماعيّة لا يمكن تفسيرها إلّا بالرّجوع إلى الأفعال الفرديّة (Boudon, 1979: 253)، فإنّه لم يضع في حسبانه مجتمعاتنا العربيّة التي تقوم على الجماعة في الدّفاع عن المجتمع، وليس على الفرد وفعله. وحين أعلن ألان توران نهاية المجتمعات، وتفكّك الاجتماعي[6]، فإنّه لم يفكّر لحظة في مجتمعات تحكمها القبيلة وتحتمي بالدّين وتقوم، في بُعد من أبعادها على الأسرة، كما هي الحال بخاصّة في المجتمعات الخليجيّة، وفي باقي المجتمعات العربيّة بدرجة أقل. ألم ينشط الاجتماعي في غزّة، وعبّرت قيمة الجماعة عن أسمى معاني التضامن والإيثار؟ فهل نحن إزاء مصطلح فكّ السّحر عن العالم، أم عودة السّحر إليه؟ وهل نحن إزاء نهاية المجتمعات وتفكّك الاجتماعي، أم أنّنا إزاء قوّة التضامن الاجتماعي في غزّة؟ وهل الفرد، عندنا، هو الوحدة الأساسيّة في فهم قدرة المجتمع على الفعل في ذاته؟ أم هي الفرد داخل جماعته؟ فكيف، إذًا، ندرّس لطلبتنا مثل هذه المفاهيم والأطروحات، كما لو أنّها مسلّمات علميّة، فلا نعرضِها على الاختبار؟ ولا نشتبك معها بغرض التجاوز؟ كيف ندرّس مفهوم الحداثة بإضافة ألف التّعريف، وكأنّها حداثتنا، مع أنّها حداثة غربيّة تعبّر عن تحوّلات هذا الغرب الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؟ كيف ندرّس الرأسمالية كنمط مثاليّ لطلبتنا، كما بيّن ماكس فيبر حين ربط نشأتها وتطوّرها بعوامل دينية، مع أنّه ينطلق من اختلافات عقديّة بين الكاثوليك والبروتستانت، ولا تخصّ واقعنا إلاّ من جهة أنّها تمثّل لحظة من لحظات تأسيس المعرفة الاجتماعيّة الغربيّة. صحيح أن فيبر يؤسّس في كتابه: الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسماليّة (Weber, 2017) لفرع جديد من فروع المعرفة الاجتماعيّة، هو علم اجتماع الدّين، فيبيّن التمفصل بين وظيفة الدين والممارسات الاجتماعيّة، ولكن مع ذلك، قد نحتاج إلى قراءة نقديّة، غير امتثاليّة لهذه الأطروحة، وبخاصّة إذا تعلّق الأمر بالدّرس الجامعي. كيف ندرّس مفهوم الصّراع الطّبقي، ونجعله أداة تحليل في مجتمعات تتداخل على نحو معقّد ومتشعّب أبعاد مختلفة قبليّة وطائفية ودينية ومذهبيّة وإثنيّة؟ كلّ ما نرمي إليه من خلال هذه الأمثلة هو أن نتجاوز «تقديس المعرفة الغربيّة»، فنضعها على المحك، ونتعامل معها تعاملًا نقديًّا بالتّفكير في واقعنا المحلّي بعيوننا وبألسنتنا، لا بعيون غيرنا وبألسنتهم (بلغاتهم). وفي الحدّ الأدنى، أن لا نعتبر أن المعرفة الغربيّة هي المعرفة الوحيدة الجديرة بالاستعمال. وأهمّ مدخل لكلّ هذا هو النّقد، الذي يبيّن لنا أن ما يبدو بداهة قد لا يكون كذلك في العمق، وأنّ أنماط التّفكير تتغيّر بتغيّر واقعها وسياقاته.
لعلّنا بعد الحرب على غزّة، وفكّ السّحر عن المعرفة الغربيّة، في أشدّ الحاجة إلى استعارة المطرقة لفريديريك نيتشه، ومعركته مع ما يسمّيه الأكاذيب الكبرى التي تنشرها الثّقافة الغربيّة بمرجعيتها المسيحيّة. هذه الثّقافة لا يرى فيها محاورًا حسن النيّة ضمن عالم حقيقيّ تشتبك فيه الأفكار، ولا حتّى خصمًا، بل مرضًا يستهدف القوّة الحقيقيّة للإنسان، فيقتل فيه معنى الحياة (Nietzsche, 1993: 1034). لعلّنا نستطيع اليوم أن نفهم أكثر فأكثر وضوح الدّافع إلى اللجوء إلى مثل هذه الاستعارة حين نرى كيف يبرّر مثقّف الحداثة وعلوم الإنسان قتل الأطفال في المستشفيات تحت ذريعة الدّفاع عن «ديمقراطية إسرائيل»، التي تنتمي إلى العالم المتحضّر ضد «وحوش بشريّة». لقد جعل نيتشه مطرقته تتكلّم لأنّه انتبه إلى زيف ما يسمّى «العالم الحقيقي»: «العالم الحقيقي، فكرة لا جدوى منها» (Nietzsche, 1993: 968)، وقياسًا على هذا تبدو فكرة القيم الإنسانيّة فكرة للهيمنة وخلق التّفاوت بين عالم عُدّ، بروابط من الهيمنة والقوّة، إنسانيًا، وآخر أقلّ إنسانيّة منه، وهذا في الحدّ الأدنى. هذا يعني أنّ استعارة المطرقة تضعنا أمام الحاجة إلى نقد جذريّ لِما كنّا نتداوله، ونسلّم به من مفاهيم وقيم أنتجها الفكر الغربي حول المعنى الغربي للقيم الإنسانية، ولمفاهيم أخرى من قبيل العولمة والحداثة والحقوق الإنسانيّة. هذا المدخل النيتشوي يأخذنا إلى العبرة التي يمكن أن نأخذها من الحرب على غزّة وتشريع بعض المثقّفين من الغرب لما تفعله آلة القتل الإسرائيليّة من تدمير لمعنى الإنسان ذاته، ولوهم ما يسمّى المعرفة الإنسانيّة. غير أنّ هذا النقد الجذري لا يعني انغلاقًا هويّاتيًّا على ذات لم تفهم بعد ذاتها، بل على الأقل، وهذا في الحدّ الأدنى، الاشتباك مع مفاهيم المعرفة الغربيّة عند تسليطها على واقع محليّ مغاير.
هناك استعمار معرفي اعتباطيّ، واعتباطيته تأتي من قبول الضّحية به. وطالما أنّه، كما توحي به حرب غزّة، ليس هناك عالم واحد مسيطر وليست هناك عولمة، إلا كتقنية من تقنيات السّيطرة، فلا بدّ، إذًا من مقاومة أطروحة المعرفة المتعالية على كلّ الحقب وعلى كلّ الأمكنة. فلكلّ حقبة إيبيستيميتها، كما بيّنا سابقًا، مع ميشيل فوكو. فبنى التّفكير وأنساق المعارف تتغيّر بتغيّر سياقاتها. ولعلّنا في حقبة المعرفة الملتزمة بمقاومة مختلف أشكال الهيمنة، في حقبة اتّسمت بسطوة رأسمالية متوحّشة، تحتاج إلى استراتيجيات مقاومة تكون ضديدة لهذه الهيمنة.
هذا ما أقصده بنزع الهيمنة عن المعرفة. يجب أن ننتقل إلى شيء آخر غير المعرفة الغربيّة، تخرج فيها رؤى العالم من أمكنتها. لا يحتاج هذا إلى أكثر من نوع من التموضع المعرفي والأخلاقي والسياسي المختلف، يسمح بممارسة تمارين معرفيّة تأتي من الأسفل، وتنطلق عند الضّرورة، كما تفعل الفينومينولوجيا من صفر في المعرفة، لتبني معرفة جديدة تنطلق من تحليل الواقع المحلّي. وهنا يتحدّث أشيل مبامبي في كتابه: الخروج من اللّيلة الكبيرة عن تصاعد ضرب من الانعكاس الآلي صوب التأصيل (Reflexe indigenisme) في أفريقيا الديكولونيالية، حين تسعى إلى الوجود بذاتها (Mbembe, 2013: 229). والديكولونيالية، أو نزع الطابع الاستعماري، كما نفهمه، هنا في هذا السّياق التّحليلي، تشير إلى نزع الهيمنة على المعرفة وعلى معنى القيمة. هناك عنف إيبيستيمي وثقافي يمارس ضدّ المعرفة المحليّة والممارسات الثّقافيّة بتواطؤ من الضّحية. يتعلّق الأمر بإعادة تكوين إيبيستيمي لننتج معرفة محليّة مبتكرة. ولعلّ حرب غزّة يمكن أن تكون منطلقًا للتفكير في إعادة تكوين النسق العالمي، الذي بني مؤخّرا على فخّ العولمة، من قوّة الضعيف وقدرته على التموضع. هذا يتطلّب تمرينًا على تجربة معرفية جديدة تجعل الذات تخلّص ذاتها من نظرة الآخر إليها. فنحن نرى أنفسنا بعيون الآخرين، فلا نرى، أو لا نكاد نرى إلا ضعفنا وتفوّق الآخر علينا. هنا تأتي عبرة غزّة التي تحاول أن تبني القوّة من الأنفاق ومن تحت الرّكام. وما قولنا غزّة دون تمييز بين فصائلها، إلّا لأنّ مقاومتها للاحتلال أنستنا تمايزات يسارها عن يمينها. فلم نعد نذكر، على سبيل المثال أن حماس حركة إخوانيّة، أو أنّ الجهاد الإسلامي حركة جهاديّة، أو أنّ الجبهة الشّعبيّة حركة يساريّة، فها إنّها تترك على توقيعها الحديث التالي: «وعند الله تجتمع الخصوم». غير أنّ المقاومة المعرفيّة، إن جاز التّعبير، لم تبلغ بعد وعيَ المقاومة المسلّحة التي تعمل على نزع الاحتلال من أرضها. ويمكن أن نلاحظ هذا الخضوع المعرفي حتّى في أطاريح الدكتوراه المنجزة من قبل بعض الطّلبة الفلسطينيين[7].
ما نريد أن نوضّحه هنا أنّ المعرفة الغربيّة، مثلها مثل الخطابات الأخرى، كالخطاب الإعلامي، هي أيضًا قابلة للتوظيف والتّلاعب بها. وأخطر ما فيه تبرير الشّر، وتشريعه، وجعله مألوفًا ومبتذلًا واعتياديًّا. إنّ ازدواجيّة الخطاب الفكري الغربي إزاء الإبادة العرقيّة في غزّة تجعلنا في حيرة إزاء ما كنّا نتبنّاه وندافع عنه وندرّسه لطلبتنا من مفاهيم صاغها هذا الفكر، كالحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطيّة. أيّ حداثة تشاهد الموت ولا تراه شرًّا؟ أيّ حقوق للإنسان تبرّر القتل وحتّى الإبادة، فلا تدفع أهلها حتّى إلى الدعوة إلى إيقاف الحرب؟ إنّ هذه الخيبة التي نعيشها اليوم إزاء معاني الحداثة التي خلقها الغرب تدفع إلى الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، وهذا في الحدّ الأدنى: كيف نحرّر أنفسنا من أن نرى ثقافتنا بعيون غيرنا؟ كيف نعيد الكلمات إلى الأشياء في ثقافتنا العربيّة؟ كيف نعْقِد مجدّدًا أواصر القربى بين الثّقافة والمجتمع بعد أن تعطّلت، بفعل هيمنة الثقافة الغربيّة، قدرتها على توليد المعنى من ذاتها، من داخلها؟ إنّ ما يحدث اليوم من تبرير للشّرّ وتشريع للاحتلال يبدو عصيًّا على الفهم.
ما نريد أن أصل إليه في هذا المقال هو أنّنا قد نكون إزاء براديغم يتكون أمام أعيننا ويخرج من رحم المقاومة، ليس فقط مقاومة الاحتلال، بل كلّ قوى الهيمنة في العالم، ومنها النيوليبرالية، ومنها سياسة العولمة. هناك معرفة اليوم بصدد التبلور في براديغم، في رؤية للعالم جديدة، وهذه المعرفة هي معرفة ملتزمة بالمقاومة بكلّ أشكالها. وأسمّيه براديغم المقاومة، في انتظار أن تكتمل ترسيمته التحليلية، وخطابه المعرفي. الذين يحتجّون اليوم على قوى الغطرسة في العالم، ومنها النيوليبرالية والصهيونية، وكلّ أشكال الاحتلال. هؤلاء هم بصدد إنتاج شبكة معرفيّة تفكّك ميكانيزمات الهيمنة عبر المقاومة. الخطاب الاحتجاجي في العالم اليوم هو خطاب معرفي، وينطلق بخاصّة من غزّة نقرأ فيه شعرًا مختلفًا كتلك القصيدة التي كتبها الشاعر الفلسطيني من غزّة رفعت العرعير: إذا كان يجب أن أموت لا بدّ أن تعيش أنت لتروي حكايتي. ونسمع فيها لحنًا جديدًا مقاومًا، ولغة طفل من غزّة يُحرج العالم بحقّه في قطعة خبز، وقد اشتاق إليها منذ شهور. ونرى فيها صورًا تصنع بلاغة جديدة للإنسانية. ونقرأ فيها خطابًا معرفيًّا عن شرعية العنف ضد الاستعمار منذ فرانز فانون، وهو يقول مثلًا: الحياة في نظر المستعمِر لا يمكن أن تستمر إلّا على جثث المستعمَر، في المعذّبون في الأرض. هذا الغرب، دائمًا حسب فانون، لا يجب ألّا نتّبعه فحسب، بل علينا أن نبتعد عنه، لأنّ لعبته بلغت حدّها. لقد آن الأوان للذّهاب إلى شيء آخر. هنا قد نحتاج إلى قلب روابط الخضوع إلى المعرفة الغربيّة بتأويلات ذاتية للحياة، وتدفّق من الدّاخل، حتّى نأخذ مكانًا في بنية العالم، كما يقول الفيلسوف الكمروني أشيل مبامبي. قد يكون هذا هو البراديغم الجديد، براديغم المقاومة. ونقرأ فيه، أيضًا، أعمال إدوارد سعيد وهو يفكّك أسطورة الهيمنة الغربيّة في الأدب، وغرامشي وهو يبيّن كيف أنّ السّلطة تُفتكّ في ميدان الأفكار. ونقرأ أيضًا أطروحة مدرسة التابع وهي تتحدّث عن الهيمنة وفنّ المقاومة، فترى القوّة في الأسفل، في طفل غزّة، مثلًا، وهو يجرح كبرياء العالم وغطرسته وظلمه، بكلماته التي تردّ العالم الغربي الذي فقد صوابه إلى رشده. فالاحتجاج هو أيضًا خطاب معرفي عبّر عنه الكثيرون، ومنهم الأمريكي نورمان فينكلشتاين (Norman Finkelstein) وهو يفكّك صناعة الهولوكوست واستغلال فكرة المعاناة اليهودية. وقبله نعوم تشومسكي وهو يصفع وعي العالم المغطى بالدّم. معنى هذا أنّنا هنا، لم نفعل سوى وضع اسم على ترسمية تحليلية كاملة بدأت تتشكل منذ غرامشي وفرانز فانون وإدوارد سعيد وميشال فوكو.
رابعًا: نزع الهيمنة عن القيمة
المعركة في وجه من وجوهها معركة قيم. وأهمّ ما يمكن فعله اليوم، وعلى غرار ما فعله إدوارد سعيد، أن نفكّك، لنفضح مظاهر الإمبريالية الثّقافيّة بما تفرضه من تراتبيّة قيميّة (Said, 2000). وعبرة غزّة، في هذا السّياق أن نضع مسلّمة القيم الإنسانيّة على المحك، فلا وجود لها في المطلق إلا بقوّة غالبة تضفي عليها كونيتها. إنّها، بهذا المعنى، تقنية للسيطرة على «إرادة الاقتدار». لقد رفض العالم الغربي، في أغلبيته، انتفاضة غزّة لأنّها مثّلت في نظره صفعة لمفهومه للقيمة، ولقوّته التي لا تُقهر بما لديه من طاقة على التّدمير. إنّ ذنب غزّة الذي لا يُغتفر، عند الغرب، هو إثباتها أنّ القيمة قد تأتي من الأسفل وتخرج من تحت الأنفاق لتواجه صلف القيم الفوقيّة «الإنسانيّة»، أو اللاإنسانيّة بالأحرى. لقد رأينا، بأمّ العين كيف يتلذّذ بعض ممّن تربوا على هذه القيم الكونيّة بطعن الموتى الذين فضحوا عجز القوّة الغاشمة على احترام معنى الحقّ وتعريتها. هذا العجز ولّد كرهًا مرعبًا كأشدّ ما يكون، جرّاء ما لحق كبرياء القوّة الغاشمة من إهانة.
إنّ ما يعَدّ، قيمًا إنسانيّة، هكذا في المطلق، يبدو غير إنساني. القيمة في المطلق لا وجود لها. وإذا رُمنا الاستفزاز بغرض تبليغ الفكرة، فإنّنا نختصرها في العبارة التّاليّة: لاإنسانيّة القيم الإنسانيّة. والمراد بها أنّها لا تخصّ الإنسان في المطلق، بل ترتبط، على نحو خاص، بقيم الإنسان الغربي المتفوّق بحداثته. هناك توظيف لاإنساني لما يسمّى القيم الإنسانيّة، وتلاعب دوليّ بها، تفرضه من روابط القوّة، بما في ذلك من تلويح بالقوّة النوويّة، كما صرّح وزير التّراث اليهودي. وهذا ما قد يحتاج منّا إلى مقاربة نقدية، حتى لا أقول جذريّة، تعيد النّظر في معنى القيمة الإنسانيّة، لتربطها بسياقات إنتاجها الفكريّة والثّقافيّة والتاريخيّة، وبخاصّة الاجتماعيّة. كلّ قيمة هي نتاج مجتمعها، وإذا ما تواضع العالم على قيم إنسانيّة مشتركة، فيفترض بعالم الاجتماع، وبالفيلسوف بدرجة أقل، أن ينتبه إلى ميكانيزمات الهيمنة التي تتخفّى وراء ما يبدو اتّفاقًا أو تواضعًا على نسق قيميّ كونيّ. ما هو سائد، حاليًا، قيمٌ مهيمنة تحوّلت بفعل القوّة والغلبة إلى قيم عالميّة مع حجب ما فيها هيمنة. يدافع إدغار موران، على سبيل المثال لا الحصر، عن إيتيقا عالميّة يراها اختنقت واحتجبت بأخلاقيات جماعات مغلقة تستّرت بالدّين (Morin, 2004: 180). ولكنّه ينسى أنّ هذه الجماعات ما كان لها أن تنغلق على أخلاقها وقيمها لو لم تحاصرها الثّقافة الغربيّة، باسم الكونيّة. ويبدو أنّ نيتشه كان أكثر وعيًا بميثولوجيا القيم الإنسانيّة كما تصوّرها الغرب المسيحي. إنّه يرى أنّ القيم تختلف باختلاف الثّقافات والمجتمعات. تمجّد كلّ ثقافة قيمها وتدين ما سواها (Reboul, 1974). تختلف هذه القيم بحسب الأزمنة والأمكنة. والقيم التي تفوّقت في مقاومة غزّة للاحتلال، هي بالضّبط ما لا تتوافق مع معنى الحداثة الغربيّة. وإذا أردنا أن نضع سلميّة للقيم التي قاتلت في هذه الحرب الغاشمة، سنجد أوّلها قيمة الأرض، ثانيها قيمة المقدّس، ثالثها قيمة الجماعة، رابعها قيمة الرّمز. وهي نقيض ما تقوم عليه الحداثة الغربيّة من قيم. تنتهك هذه الحداثة الأرض، اليوم في غزّة، ورمزيّة حدودها باسم القوّة، ومنها قوّة العولمة، وما فيها من فخاخ توسّعيّة. وتتجاوز المقدّس باسم الموضوعية والعقلانية. وتُنهي قيمة الجماعة باسم الذّاتيّة والفرديّة، والحال أنّ حرب غزّة أثبت أنّ الفرد يمكن أن يتحقّق أكثر وسط «النحن»، وليس بمعزل عنها. ورأينا كيف أنّ سياسة المحو والإبادة بغرض التّهجير لم تأتِ أكلها، لأنّ الجماعة تكاثفت من أجل البقاء على الأرض، ورأينا أيضًا كيف أنّ غرفة واحدة فاقت قدرة استيعابها الأربعين فردًا من أهل غزّة الذين تطاردهم أسلحة الدّمار الغربي والأمريكي، وليس الإسرائيلي فقط. كلّ هذا يدفع إلى إعادة تعريف الحداثة، فنسائلها، لنرى الوجه الآخر «المظلم» لقيمها، ومنه كفاءة تشريع الموت وتبريره، وبشكل مفارق باسم القيم الإنسانيّة. فدلالاتها الرّاهنة، قد لا تتكيّف إلا مع الحداثة الغربيّة، بما فيها من قيم متخفّية تحت معطف الإنسانيّة. فما يسمّى قيم إنسانيّة قد لا تعدو أن تكون سوى قيم الغرب، تحوّلت بقوّة الحداثة المنتصرة إلى قيم كونيّة. وهنا لا معنى لحداثة لا تستمد قيمها من ثقافتها المحلّيّة. لنقف قليلًا عند ما سمّيناه الرباعية القيميّة للمقاومة في غزّة: الأرض، المقدّس، الجماعة، الرّمز. وهي كلّها قيم لا تتوافق مع المشروع الحداثي الغربي. وهو ما يدفع نحو إعادة تعريف الحداثة في السّياق الثّقافي العربي:
1 – قيمة الأرض
هذه الأرض اللصيقة بالعدوّ، ليس لها غير مسام جلود مقاتليها وأطفالها لتتكلّم دمًا. وأهمّ ما فيها أنّها رمز يشير إلى آخر معاقل المقاومة، كأنّها من مواليد النّار، كما يقول عنها محمود درويش. وليس الغرض من هذا القول، أسطرة بطولات غزّة، لأنّ ذلك سيعرّضها للخيبة، بل التّذكير بأّن غزّة تدافع عن قيمة الأرض بلحم أبنائها. وإنّ ما رأيناه من حرب غزّة وتشبّث أهلها بها، رغم الموت والدّمار، يثير سؤال العلاقة بين الكينونة والمكان. الكينونة هي المكان عند أهل غزّة. ونعلم، سيميائيًّا، أنّ التقارب في الصّوت: كينونة/مكان، يحيل إلى تقارب في المعنى. فلا معنى للكائن خارج مكانه. لذلك آثر فلسطينيو غزّة الموت في أرضهم على التّهجير. أو ما صار يسمّى بنوع من المكر الإسرائيلي «الهجرة الإنسانيّة». فأرضهم هي البداية وهي النّهاية، المبتدأ والخبر: «سيّدة الأرض، أمّ البدايات، أمّ النهايات. كانت تسمّى فلسطين. صارت تسمّى فلسطين» (درويش، 2009: 181). لقد أدمن أهلُ غزّة تقديسَ الأرض، حتّى أنّ القيمة الأولى لأهلها، هي في المقاومة من أجلها. وها هي الأرض تُعلن، عبر حناجر أبنائها، حربها، فترتفع شعارات، وكتابات على ركام المباني بعد أن سويت بالأرض:
رغم النزوح لن نهاجر
– لا حدود لهويتنا
– الأرض لنا ولن نرحل
– فلسطين أرضنا، وحقّ العودة حقنا
– الأرض تاريخ، والأرض هوية.
أرض الأجداد لا تباع
– فلسطين ليست قطعة أرض بل هي روح تسكن القلوب.
وتظهر خصائص هذه الأرض المقاومة حتّى في شعرهم. ومن خصائصها رائحة الخبز، خبز الأمّ، ورائحة الزّعتر البلديّ. وحتّى الأيّام، حين تأتي، لا تأتي إلّا من باطن الأرض. ويقول المقاوم: «أنا الأرض»، وتزغرد أمّه حين يعود ابنها إلى رحم الأرض شهيدًا. كلّ خصائص الأرض تحضر في الشّعر، شعر درويش مثلًا، لتذكّر، هي أيضًا، بالملكيّة التّاريخية لها. وتُبنى عناصر الهويّة من التّين والزّيتون والعشب والسّرو والنّدى والبخور، ولون التّراب، وصلابة الحجر النّاسف لدبّابة أتوا بها غزاة مرتزقة. ومن هذه الأرض تُقتطف الحجارةُ سلاحًا يُرمى في وجه عدوّ غاشم. يقول درويش، مذكّرًا بالتصاق النّاس بأرضهم: «وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض. وفي شهر آذار تنتشر الأرض فينا … وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها … وفي شهر آذار زوّجت الأرض أشجارها (درويش، 2009: 154-155). ويحصل أن تخاطب الأرض أهلها، كما خاطبت من قبلهم أبو القاسم الشّابي في إرادة الحياة». فتخبرهم، على لسان درويش أسرارها الدّمويّة (درويش، 2009: 152).
2 – قيمة المقدّس
رفعت الحداثة الغربيّة، ممثّلة ببعض رموزها الفكريّة والفلسفيّة، شعار موت الإله. وقد بيّنت غزّة، وظيفيًّا، أن الإله حيّ لا يموت. لا نتحدّث هنا عن ذاك الإله الذي يصنّفه ماركس ضمن مختلف أشكال الوعي، أي البنية الفوقيّة، بل عن إله يرافق عباده في كلّ شيء، حتّى في رمية رصاص لعدوّ غاشم: (وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى) (الأنفال: 17). كلّ طلقة رصاص، وبخاصّة إذا نجحت في تفجير «دبّابة ميركافا»، يرافقه صوت يرتفع امتنانا: «الله أكبر ولله الحمد». معنى هذا أنّنا إزاء إله متجدّد، يرافق المؤمنين به. ولسنا إزاء إله يموت ويحيى، كما زعم إيميل دوركهايم في خاتمة كتابه: الأشكال الأوّليّة للحياة الدّينيّة، يقول: «الآلهة القديمة تهرم أو تموت، وثمّة آخرون لم يولدوا بعد» (Durkheim, 1970: 611). ولكنّه يضيف، في هذا السّياق نفسه، أنّ الدّين هو الرّوح الحيّة التي توحّد الرّجال والنّساء حول المشروع نفسه. وها إنّ الدّين الإسلامي يوحّد غزّة حول مشروع المقاومة ضد المحتلّ.
3 – قيمة الجماعة
كانت هذه القيمة وظيفيّة في حرب غزّة، ضاربة عرض الحائط النزعة الفرديّة المتجسّدة في ما يسمّى عبادة الحرّيّة، تلك التي صارت عقيدة من عقائد الإنسان الحديث، كما كان يقول نيتشه (Nietzsche, 1979: 275). ولكن ثمّة حريّة أخرى غير حريّة المؤسّسة الليبراليّة التي تُصَيِّر الإنسان ضئيلًا، مثل الوهن الذي ظهر عليه الجندي «الإسرائيلي»، كان هذا الجندي يَقتلُ من أجل انتصاره هو. الحريّة الأخرى التي نتحدّث هي حريّة الإنسان الفلسطيني الذي يقاتل من أجل المعنى، معنى الأرض وجماعته والدّين، وهذه وتلك، عنده، تمثّل أنساقًا رمزيّة يستمدّ منها القوّة. وهنا نجد أنفسنا في سياق ثقافيّ مختلف عن ذاك الذي عبّر عنه هيغل في فينومينولوجيا الرّوح، بما هو، في نهاية التّحليل، قصّة الأنا أو سيرة ذاتيّة عنها. هذه الأنا التي لا تصارع، أو لا تقاتل في مثل هذه الحالة، إلّا لإثبات ذاتها وتحقيق نزواتها. أمّا مع حرب غزّة، فنحن إزاء أنا إيثاريّة لا تحقّق كينونتها إلّا متى ما كان فعلها يُنجز من أجل معانٍ كبرى لا قيمة لها دونها، ومنها ما ذكرنا من رباعية قيميّة، منذ حين، على غرار قداسة الأقصى الذي يستمدّ رمزيته وقوّة حضوره من السّماء. نيتشه، رغم أنّه ابن الثّقافة الغربيّة نقد قيمة الذّاتيّة، وناقضها. وعَدّ نفسه الإنسان الأكثر تجرّدًا من الأنا (Nietzsche, 1990: 213)، هذه الأنا ليست سوى ادعاءٍ وزعمٍ وحذلقة لغويّة (Nietzsche, 1970: 126).
4 – قيمة الرّمز
كانت هذه الحرب حرب شهداء قضوا، وهم يدافعون عن أرضهم، فتحوّلوا، وهم ميّتون إلى طاقة رمزيّة محرّضة على القتال. وهنا يبدو الشّهيد أكثر خطرًا على العدوّ ممّن لا يزال على قيد الحياة.
يا أهالينا انضمّوا، انضمّوا … والعاروري ضحّى بدمّه
دمّ الشهداء بنادي … وينك يا شعب بلادي
ثوري يا ضفة ثوري … هيك وصّا العاروري
وبرمزيّة الشهيد وقوّة حضوره في المقاومة تتّضح معالم الطّريق ويزداد الإصرار على تركيع العدو:
ما فيه حلّ، وما فيه حل، إلّا بتركيع المحتل
ولكنّ، وكما يكون يعيش الشّهداء حياة أخرى في الرّمز، كعلامة اتّفاقيّة محرّضة على استمرار المقاومة، فإنّ للأحياء، أيضًا، سحر تأثيرهم في المقاومة، كما يأتينا من هذه الدّوال. ويبدو أنّ فلسطين، وبفعل الصّراع والمقاومة، هي أكثر مناطق العالم إنتاجًا للرّموز، وكلّما قضى رمز وسط المعركة، توالدت من معنى مقاومته واستشهاده رموز أخرى.
«حطّ السّيف قبال السّيف … إحنا رجال محمّد ضيف».
خامسًا: نزع الهيمنة على الصّورة
تحيل هذه الحرب إلى فكرة قوّة الضعيف وقدرته على التموضع. وهذا يتطلّب معرفة جديدة تجعل الذات تخلّص ذاتها من نظرة الآخرين إليها. نحن نرى أنفسنا بعيون الآخرين، فلا نرى، أو لا نكاد نرى إلّا ضعفنا وتفوّق الآخر علينا. هنا تأتي عبرة غزّة التي تحاول تبنّي القوّة من الأنفاق ومن تحت الرّكام.
لأوّل مرّة، وبفضل المقاومة في غزّة، يخلق العرب صورتهم، فلا يبحثون عنها في عيون الآخرين، بل يتصالحون مع تجلّيهم التاريخي. لقد استبطن العرب، منذ القرن التاسع عشر مع بداية الحقبة الاستعماريّة، صورة الإنسان الغربي الحداثي، ونظرته إليهم وصاروا يرون أنفسهم بعيونه، إلى الحدّ الذي فيه يتمّ التكيّف مع هذه النظرة. فهم، في تجلّيهم المثالي الخاضع، كما يراهم الآخر. الآن، ثمّة مقاومة، في الوعي أو اللاوعي للصورة النمطيّة التي رسمها الغرب للعربي الإرهابي «المتخلّف» الذي يصنّف على نحو إقصائيّ بتجلّيه. وفي هذه المرّة، ما دام الجهاد موجّهًا إلى الآخر الإسرائيلي المحتل، فتجلّيه يصبح، في حدّ ذاته، علامة مقاومة. هذا تحوّل دلالي يشير إلى بداية التحرّر من الصورة التي وضعنا فيها الغرب على نحو نمطي، إقصائي. صورة الشّاب المقاتل، الذي يرتدي ملابس رياضيّة، ملثّم، ومع ذلك يفجرّ أعتى تكنولوجيات الموت بتقنية أوّليّة، بسيطة، فتتغيّر موازين القوى في الصّورة. هذه الصورة يرافقها صوت خفيّ يرتفع خلفها: الله أكبر ولله الحمد. وهنا أيضًا حدث تحوّل في هذه العبارة من أيقونة الإرهاب، حتى لدى الغرب، إلى أيقونة المقاومة. فنُزع عنها ما علق بها من تشويه سببته السّلفيّة الجهاديّة. فاللّغة تقاتل إلى جانب الصّورة. حتّى اللحية الطويلة، التي كانت علامة السّلفيّة الأصوليّة، لم تعد تمثّل صورة الإرهابي، حتّى لدى بعض الغرب، بل صورة من يقاتل من أجل أرضه وثقافته وتاريخه.
خاتمة
إنّ غاية هذا المقال وحصيلته هي التأكيد أنّ أوّل خطوة لنعيد بناء رؤيتنا للعالم، هي أن نشتبك مع المعرفة الغربيّة، وألّا نرى أنفسنا بعيون غيرنا. هذا ما حسبناه عِبرة غزّة التي تحوّلت إلى علامة اتفاقيّة تشير إلى التحرّر من كلّ أشكال الهيمنة، رغم تفاوت موازين القوى، تفاوت سمّيناه «قوّة الضّعيف». هذه العبرة اختصرها المقال في ثلاثيّة أساسيّة: نزع الهيمنة عن المعرفة، نزعة الهيمنة عن القيمة، ونزع الهيمنة عن الصّورة. لقد تعوّدنا، وعوّدنا طلبتنا، أن نتعامل مع مفاهيم الواقع الغربي بنوع من القداسة، وآن الأوان أن نفكّ السّحر عنها، فنبني مفاهيمنا من رحم واقعنا، فنرى أنفسنا بأعيننا. وليس في هذا نوع من الانغلاق المعرفي على الذّات، بل التخلّص من عقدة المعرفة الغربيّة وقداستها عندنا، وامتثاليتنا لها. وهذه هي عين الإيبيستيمولوجيا التوليدية التي تخلق مفاهيمها على نحو بنائيّ في العلاقة بواقع ما. أمّا إسقاط المفاهيم على الواقع فليس سوى الارتباط بمعرفة هي أشبه بالأيديولوجيا المغلقة، منها إلى المعرفة التوليدية للواقع، إن جاز التّعبير.
ماذا سنجد إن قرأنا غزّة بعيون غيرنا؟ سنجد دراسات من قبيل ما كتبه ميشال سورات (Michel Seurat) عن سورية، التي لم يرَ فيها سوى الدوّلة المتوحّشة (Seurat, 2012)، فينتهي بها الأمر اليوم إلى ما هي عليه من تدمير ممنهج للدّولة وللمجتمع. وسنجد مؤلّفات أخرى لجيل كيبيل (Gilles Kepel)، مثلًا، وهو يخلط بين المقاومة وما يسمّيه الجهاد الدمويّ الكاسح. ومن مؤلّفاته التي لم يرَ فيها أصوليّة يهوديّة وإرهابًا صهيونيّا: النبيّ وفرعون (1984)، وضواحي الإسلام (1987)، ويوم الله (1991)، وجهاد (1994)، وفتنة (2004)، وغيرها. كلّ هذه النّصوص العلميّة وغيرها، على أهمّيتها، لا تساعد على فهم ما حدث في غزّة من هزّة في المفاهيم السائدة. إنّنا قد نكون إزاء مرحلة جديدة تتجاوز مقولة الإسلام السّياسي، أو الإسلاماتيّة، وتخلّص فكرة الجهاد ممّا علق بها من بُعد إرهابيّ كانت الحركات السّلفيّة الجهاديّة سببًا فيها. الإسلام السياسي مشروع سلطة، أمّا غزّة فمشروع مقاومة، حتّى الموت، تستهدف تحرير الإنسان الفلسطيني، مستندة في ذلك إلى الدّين بمعناه الثّقافي والرّمزي. فمنه تستمدّ شبكة من القيم تساعدها على تحمّل الموت، وحتّى الإقبال عليه طلبًا للشّهادة. وإذا افترضنا صحّة أطروحة أوليفيه روا حول فشل الإسلام السّياسي (Roy, 2015) في خلق مجتمع جديد، فإنّ حرب غزّة تنزع إلى خلق صيغة جديدة، تمرّ بالإسلام من بُعده السّياسي إلى بعده الثّقافي، لتجعل من المقدّس، بما فيه من منظومة قيميّة ورمزيّة، أحد أهمّ قيم التحرّر.
كتب ذات صلة:
المصادر:
نُشرت هذه الدراسة في مجلة إضافات (المجلة العربية لعلم الاجتماع)، العدد 65، صيف 2024.
[1] محسن بوعزيزي: أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس المنار، المعهد العالي للعلوم الإنسانية في تونس، وأمين عام سابق للجمعية العربية لعلم الاجتماع.
[2] تقول إحدى نساء غزّة نساء، أثناء مقابلة لنا معها عبر الواتساب: «بحيات ربّك تدعيلي أستشهد أنا والبنات، وحياة بناتي اللي صار أصعب من الموت».
[3] البركسات تعني المداجن التي يتمّ فيها تربية الدّجاج.
[4] كتب الشاعر رفعت العرعير قبل موت: «إذا كان لا بد أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطًا
فلتكن بيضاء وبذيل طويل
كي يبصر طفل في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظرًا أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودع أحدًا
ولا حتى لحمه
أو ذاته
المصدر: <https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id>.
[5] أستفيد هنا من محاضرة كان قد ألقاها الأستاذ فتحي المسكيني بتاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر 2023 عنوانها: «في أبستمولوجيا الشّمال: معارضات ديكولونياليّة، مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة بتونس.
[6] أطروحة ألان توران التي حاول الدفاع عنها في كتابين على الأقل، الأول عنوانه: Un nouveau paradigme صدر سنة 2006 وأيّد طبعه سنة 2008، والثّاني عنوانه «نهاية المجتمعات، وفيه يتحدّث عن فقدان المحتوى للمؤسّسات الاجتماعيّة، ومنها الأسرة والمدرسة وأنساق الضّبط الاجتماعي. ومن هذا الفقدان للمحتوى ينتهي ألان توران إلى نهاية الاجتماعي، وبطريقة أكثر تجسيدًا، نهاية المجتمعات. ويضيف معاينة أخرى تزعم إضعاف، أو حتّى اختفاء المعايير الاجتماعيّة والأخلاقيّة. انظر: (Touraine, 2013: 12). هذه الأطروحة قد تكون منسجمة مع واقع المجتمع الفرنسي الذي ينتمي إليه توران، ولكن ليس من اليسير الاستفادة منها في تحليل المجتمعات العربيّة، وبخاصّة في مجتمع غزّة اللصيق بعدوّ يسعى إلى إزالته.
[7] أشير هنا، على سبيل المثال، إلى الأطاريح التي أشرفت عليها في الجامعة التونسية، أو كنت عضوًا في لجان المناقشة.
المراجع
أوثوايت، وليام (محرر) (2022). قاموس بلاكويل للفكر الاجتماعي الحديث. مستشار التّحرير ألان توران؛ ترجمة معهد دراسات عراقيّة؛ إشراف فالح عبد الجبّار. المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار.
جيجيك، سلافوي (2022). فلسفة الفوضى. ترجمة عماد شيحة. بيروت: دار السّاقي.
درويش، محمود (2009). مختارات شعريّة ونثريّة. دمشق: صفحات للدراسة والنّشر.
لبيب، الطاهر (2010). «هل الديمقراطية مطلب اجتماعي؟ علاقة المشروع الديموقراطي بالمجتمع المدني العربي.» في: المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
Boudon, Raymond (1979). La logique du social. Paris: Hachette.
Bourdieu, Pierre (1993). La Misère du monde. Paris: Seuil.
Durkheim, Emile (1970). Les Formes élémentaires de la vie religieuse. Paris: PUF.
Fanon, Frantz (1952). Peau noire, masques blancs. Paris: Seuil.
Fanon, Frantz (2001). Les Damnés de la terre. Préface de Jean Paul Sartre. Paris: La Découverte.
Foucault, Michel (1966). Les Mots et les choses. Paris: Gallimard.
Gauchet, Marcel (1995). Le Désenchantement du monde. Tunis: Cérès éditions.
Gramsci, Antonio (2021). Cahiers de prison. Paris: Gallimard. (Cahiers numéro 25)
Habermas, Jürgen (1987). Théorie de l’agir communicationnel. Paris: Fayard.
Max Weber (2017). L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme. Traduit par Isabelle Kalinowski. Paris: Champs classiques.
Mbembe, Achille (2013). Sortir de la grande nuit. Paris: La Découverte.
Morin, Edgar (2004). Méthode 6: Ethique. Paris: Seuil.
Nietzsche, Friedrich (1970). Œuvres philosophiques complètes. Paris: Gallimard.
Nietzsche, Friedrich (1979). Fragments posthumes (automne 1885 – automne 1887). Traduit de l’allemand par Julien Hervier. Paris: Gallimard. (Œuvres philosophiques complètes)
Nietzsche, Friedrich (1990). L’antéchrist. Traduit de l’allemand par Jean Claude Hémely. Paris: Gallimard.
Nietzsche, Friedrich (1993). Œuvres complètes. Paris, Robert Laffont.
Reboul, Olivier (1974). Nietzsche, Critique de Kant. Paris: PUF.
Roy, Olivier (2015). Echec de l’islam politique. Paris: Points.
Said, Edward (2000). «Ma rencontre avec Jean Paul Sartre.» Le Monde diplomatique: septembre <https://www.monde-diplomatique.fr/2000/09/SAID/2409>.
Saïd, Edward (2000). Culture et Impérialisme. Paris: Fayard.
Sand, Shlomo (2008). Comment le peuple juif fut inventé? Paris: Fayard.
Sand, Shlomo (2010). «Les Israéliens croient aux mythes préfabriqués.» Propos recueillis par Driss Ksilkes. Revue La pensée de midi (Paris): no. 30 Actes Sud, pp. 125-134.
Seurat, Michel (2012). Syrie: L’Etat de Barbarie. Paris: PUF.
Touraine, Alain (2013). La Fin des sociétés. Paris: Seuil, 2013.
Weber, Max (2003). Economie et société. Paris: Collection Agora.
محسن بوعزيزي
أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس المنار، المعهد العالي للعلوم الإنسانية في تونس، وأمين عام سابق للجمعية العربية لعلم الاجتماع.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.