على رغم أن سورية، وربما في شكل غير مسبوق في الوطن العربي، شهدت تولّي 4 سيدات لوزارة الثقافة، ثلاث منهن في شكل متتالٍ. وعلى رغم أن 4 سيدات سوريات أيضاً أمكن لهنّ الوصول إلى منصب نائب ومستشار رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة والإعلام، إلا أن سورية في الوقت نفسه، وعلى مدى قرابة قرن من عمر سينماها، لم تستطع العثور على 4 مخرجات سينمائيات لأفلام روائية طويلة.

لعلها ظاهرة غريبة. فكيف يمكن للمهتمّ فهم هذه الحالة؟ ولماذا غابت المرأة السورية عن كونها صانعة أفلام سينمائية، طويلة وقصيرة، روائية ووثائقية؟ نسألُ على رغم معرفتنا بأن ثمة من درسن السينما خلال النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، في الاتحاد السوفياتي، مثال هند ميداني التي درست الإخراج في «المعهد السينمائي لعموم الاتحاد السوفياتي» (1976)، وريم حنا التي حازت دبلوماً في الإخراج السينمائي من موسكو (1974)، وربما غيرهما، ممن ذهبن إلى العمل في الدراما التلفزيونية في انقطاع شبه كامل عن العمل السينمائي.

وفي حين سجّلت هند ميداني مرورها السينمائي، من خلال فيلم وثائقي طويل «دمشق مسافة للنظر» (1986)، وأنجزت ريم حنا فيلمها «المرأة»، لصالح دائرة الإنتاج السينمائي في «التلفزيون العربي السوري»، وبرزت المخرجة رويدة الجراح في عدد من أعمال الدراما التلفزيونية، يبقى أن تاريخ السينما السورية، حتى العام 2003، عندما حققت واحة الراهب فيلمها الروائي الطويل «رؤى حالمة»، يُسجّل عدم وجود أي مخرجة سينمائية سورية قدمت فيلماً سينمائياً روائياً طويلاً، من إبداعاتها، إضافة إلى عدم وجود أيّ من الأعمال السينمائية المنقولة عن أعمال أدبية، روائية أو قصصية أو مسرحية، من إبداعات المرأة، وهذا الأمر مثار تساؤل جدّي حقيقي، وإشارات استفهام متعددة حول غياب المرأة بوصفها صانعاً للعمل السينمائي، كتابة وإخراجاً.

الظاهرة المضيئة في هذا المجال كان حضور المونتيرة أنطوانيت عازاريه، التي تميزت في ميدان المونتاج السينمائي، بعد أن تخرجت في قسم المونتاج في «المعهد العالي للسينما» في القاهرة (1976)، وحققت حضوراً لافتاً على مستوى عالٍ من التميز، مونتيرةً في أفلام من طراز وثائقي «الدجاج» للمخرج عمر أميرلاي (1977)، والروائي الطويل «نجوم النهار» للمخرج أسامة محمد (1988)، و«ليالي ابن آوى» للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (1989)، و«الطحالب» للمخرج ريمون بطرس (1991)، و«اللجاة» للمخرج رياض شيا (1995)… وكان لأنطوانيت عازاريه أن قدّمت فيلمها الروائي القصير «الأطفال ليسوا دائماً حمقى» (8 دقائق، 2003) عن قصة للروائي المغربي محمد شكري.

وفي حين ينبغي التنويه بحضور عدد من السينمائيات المساعدات، في أنواع من المهمات المتعلقة بصناعة الفيلم السينمائي، أمثال بانة باتع، وعلياء خاشوق، فينبغي التوقف أمام تجربة مديرة التصوير جود كوراني؛ أول مديرة تصوير سينمائي في سورية، التي درست التصوير السينمائي في فرنسا، وأثبتت حضورها وقدراتها المتميزة في تصوير عدد من الأفلام السينمائية السورية، منها «بوابة الجنة» للمخرج ماهر كدو (2009)، و«مرة أخرى» للمخرج جود سعيد (2009)، و«روداج» للمخرج نضال الدبس (2010)، و«مطر أيلول» للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (2010)، و«سلّم إلى دمشق» للمخرج محمد ملص (2013)، فضلاً عن العديد من الأفلام الوثائقية والقصيرة، ربما أهمّها «مونولوج» مع جود سعيد، و«حبيبي بيستناني عند البحر» مع ميس دروزة (2013)، و«عكر» مع توفيق خريش (2013)، من دون أن ننسى إخراجها لفيلم قصير «قبل الاختفاء» (2006).

واحة الراهب… رؤى حالمة

سواء على مستوى الفيلم الوثائقي، أو الفيلم الروائي الطويل، سننتهي إلى أن يكون الأمر متعلقاً ورهناً بمبادرات المخرجة واحة الراهب، التي ستفتتح في شكل رسمي وعملي مسيرة حضور المخرجة السورية في العملية السينمائية، بدايةً مع فيلمها الوثائقي المتوسط الطول «جداتنا» (27 دقيقة، 1991) انتقالاً إلى أول فيلم سينمائي سوري روائي طويل بتوقيع مخرجة سورية، وهو فيلم «رؤى حالمة» 2003، وانتهاء بفيلمها الروائي الطويل الثاني «هوى» (2011).

واحة الراهب (1964) ظهرت ممثلةً في فيلم «أحلام المدينة» مع المخرج محمد ملص (1983)، وأنهت دراستها في فرنسا، حيث أنجزت أطروحتها عن «المرأة في السينما السورية»، وعادت إلى العمل مخرجة مع وثائقي «جداتنا»، الذي تمزج فيه الوثائقي بالروائي، والواقعي بالأسطوري، مع مزيج من الخيال السحري، لتنتهي إلى إعلان صريح عن نفسها بوصفها مخرجة سينمائية واعدة بافتتاح مسيرة جديدة في السينما السورية، الأمر الذي عبّرت عنه، بعد عقد من الزمن، من خلال فيلم «رؤى حالمة».

كان أمراً مثيراً حقاً أن المخرجة واحة الراهب لم تبتعد في فيلمها الروائي الطويل الأوّل «رؤى حالمة»، عن عموم اهتمامات السينما السورية (سينما القطاع العام) المعروفة على مدى أربعة عقود حينها، أي منذ العام 1970، من حيث اشتغال هذه السينما على القضايا الوطنية والقومية، والتعلّق بأمجاد العصر الذهبي، وأبرز رموزه، من الزعيم القومي جمال عبد الناصر، إلى المقاومة والثورة الفلسطينية… مما جعل من الممكن النظر إلى الفيلم في معزل تام عن حقيقة أن المخرج امرأة، بل هي أول سينمائية سورية تتولى إخراج فيلم سينمائي روائي طويل.

مع فيلم «رؤى حالمة»، تؤكد واحة الراهب إمكاناتها وقدراتها؛ الفنية الإبداعية، والتقنية المهنية، على صناعة فيلم روائي طويل، من جهة أولى، تماماً كما تؤكّد، من جهة أخرى، أن لا فرق موضوعياً بين كون هذا الفيلم السينمائي، وفي هذه الحالة تحديداً، آتياً بتوقيع مخرج أو مخرجة، إذ إن الهموم التي انشغل بها الفيلم ذات شأن عام، يفيض عن خصوصية المرأة، ورؤيتها، ونظرتها، وحساسيتها… إنه تعبير سينمائي عن تكوين المخرجة ذاتها، في ترفّع واضح عن هموم المرأة الخاصة، لصالح الهموم العامة، التي هي ذات شأن فكري أيديولوجي، ووطني قومي.

يختلف الأمر تماماً مع فيلمها الروائي الطويل الثاني «هوى»، الذي ينهمك في قصة امرأة، وينشغل بها ما بين أحلامها وطموحاتها، ووقوعها في قبضة استغلال رجال أعمال، لا يأبهون في النهاية إلا بكونها جسداً فاخراً، يمكن لهم الاستمتاع بها، والتعامل معها بوصفها إضافة إلى الممتلكات الباذخة. «هوى»؛ فيلم قلق في توجيه أصابع الاتهام، هل إلى المرأة ذاتها (أدتها سلاف فواخرجي) التي ارتضت لعب هذا الدور، أو لرجل الأعمال (أداه عبد الرحمن آل رشي) الذي أراد أن يستمد من شبابها إكسير حياة يعينه على التشبث بآخر نبضات الحياة؟

يبقى من الجدير القول إن فيلمي واحة الراهب، وهما حتى الآن الفيلمان الروائيان الطويلان السوريان (الوحيدان) بتوقيع مخرجة سينمائية سورية، يثيران سؤال جدوى الحديث عن «سينما المرأة السورية»، على الأقل من حيث إمكانية لحظ خصوصية رؤية فكرية، بما يمكن تسميته «سينما المرأة»، أو الانتباه إلى ميزة فنية إبداعية، أو مهارة تقنية، أو سياقات سردية أو بنائية، لم يسبق مشاهدتها في أفلام سورية، قدمها مخرجون سوريون، تناولت في غالبيتها حضوراً سينمائياً متميزاً ومتنوعاً ومتعدداً للمرأة. وهو ربما ما يجعل سؤال هذه السينما غير سينمائي أصلاً.

سينمائيات سوريات… خارج السياق

في وقت اقتصرت السينما في سورية على سينما القطاع العام، التي تنتجها «المؤسسة العامة للسينما»، كان من المُنتظر أن تظهر تمردات سينمائية أخرى، خارج السياق، تحاول قولاً سينمائياً سورياً لم يكن من المُتاح له، لأسباب عدة، أن يظهر ضمن الإنتاجات السينما السورية، حتى لو لم يكن هذا القول السينمائي متمرداً فعلاً على مستوى الموضوع أو التناول أو حتى الشكل، إذ سنجد أن أهم وأجرأ الأفلام السورية التي تحققت حتى الآن إنما هي من إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» ذاتها.

ما كان في مقدور القطاع العام في السينما السورية استيعاب، ولا منح الجميع فرصة، لأسباب غالباً ما ظهرت في صورة إشكالية إنتاجية، ومحدودية الموازنة المخصصة للمؤسسة باعتبارها مؤسسة اقتصادية. ومع هذا، وفي إطار الهوامش المُتاحة حينها، كان ثمة ظهورات لأفلام بتوقيع سينمائيات كانت لهن أشكال سابقة مختلفة من التعاون مع «المؤسسة العامة للسينما»، فالمخرجة هالة العبدالله (1956) قدّمت في إنتاج خاص، بالاشتراك مع المخرج المتميز عمار البيك، وثائقي «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» (110 دقيقة، 2006)، أتبعته بوثائقي «هيه لا تنس الكمون» (66 دقيقة، 2008)، وأخيراً «كما لو أننا نمسك بكوبرا» (120 دقيقة، 2012)، مستمدة أشكالاً من الدعم والتمويل من صناديق تمويل عربية وأوروبية.

وأيضاً ينبغي الانتباه إلى الشاعرة هالا محمد (1959)، التي درست الإخراج السينمائي في «جامعة باريس الثامنة»، وكانت عملت مخرجة مساعدة ومصممة أزياء في عدد من الأفلام الروائية السورية الطويلة، من إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» في سورية، مثل «ليالي ابن آوى»، و«صعود المطر»، للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، و«الليل» للمخرج محمد ملص، و«صندوق الدنيا» للمخرج أسامة محمد، و«تحت السقف» للمخرج نضال الدبس.

في انتقالة جديدة لها، أخرجت هالا محمد مجموعة من الأفلام الوثائقية لصالح قناة «الجزيرة»، منها ما أتى ضمن سلسلة أفلام «أدب السجون»، مثل: «قطعة الحلوى»، و«رحلة إلى الذاكرة»، و«إذا تعب قاسيون»؛ وأخرى ضمن سلسلة أفلام «أدب المقاومة»، مثل: «مديح الكراهية»، و«كم لنا». و«كان يا ما كان»، وهي في مجموعها تبقى أفلاماً تحاول عبور الخيط الرفيع الفاصل ما بين الفيلم التلفزيوني، والفيلم السينمائي.

علياء خاشوق (1969) السينمائية السورية التي عملت سنوات في مساعدة المونتاج لأفلام سورية شهيرة، من إنتاج «المؤسسة العامة للسينما»، اختارت اللجوء إلى كندا مبكراً (2004)، حيث أمكن لها استكمال مسيرتها السينمائية هناك، ما بين فيلم روائي طويل «الآخر المُشتهى» (2010)، وأفلام وثائقية، تهتم في غالبيتها بموضوعات المهاجرين السوريين والعرب إلى كندا، وقصص التعايش هناك، كما في وثائقيها «أوتيل كندا» (30 دقيقة، 2012).

الثورة… سينما المرأة مجدداً

لم تنجب «الثورة» في سورية الكثير من الأفلام السينمائية الحقيقية، أو الجديرة بالاعتبار. وإن كان ثمة ما تحقق من أفلام، فهو لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، أهمها على الإطلاق «العودة إلى حمص» لطلال ديركي (90 دقيقة، 2013)، و«الرقيب الخالد» لزياد كلثوم (72 دقيقة، 2014). البادرة التي ينبغي لحظها، هنا أيضاً، أن محدودية حضور المرأة في صناعة هذه الأفلام السورية، أي منذ العام 2011 عموماً، بقيت على النحو ذاته.

هذه المرة تحضر الشاعرة لواء يازجي، وهي خريجة «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، بوصفها مخرجة لوثائقي طويل «مسكون» (117 دقيقة، 2014)، يقوم على فكرة تبدو على قدر من الشاعرية أيضاً، إذ يثير الفيلم سؤال البيت، والعلاقة ما بينه وساكنيه، وما الذي يصبح عليه هذا البيت في حال القسر على هجرانه، وأي فلسفة أو فكرة يأخذها، حينها، كما في حال «الحرب» السورية، التي أدت إلى هجرة الملايين من بيوتهم، واللجوء إلى أمكنة أخرى، داخل وخارج سورية. وربما فقدان الكثيرين الأمل في العودة إلى البيت الذي كان.

كما يمكن الانتباه إلى المخرجة الشابة ياسمين فضة، التي نالت جائزة أفضل مخرجة، من الدورة الأخيرة من «مهرجان أبوظبي السينمائي» (2014)، عن فيلمها الوثائقي «ملكات سوريات» (60 دقيقة، 2014)، الذي يرصد وقائع ورشة عمل لمجموعة سيدات سوريات في الأردن، وتدريبهن على عرض مسرحي يمكن له أن يكون شكلاً من أشكال العلاج النفسي.

خاتمة

ثمة مفارقة شاسعة ما بين حضور المرأة الواقع السوري على المستويات الحياتية والفعاليات كافة، ومدى مساهمتها بوصفها صانعة أفلام. إنه تناقض ليس من السهل العثور على تفسير له، خاصة بالمقارنة بالسينمات المجاورة في فلسطين ولبنان والأردن ومصر، وحتى السينمات العربية الأخرى في المغرب العربي والإمارات، مثلاً، حيث ثمة حضور سينمائي للمخرجة المرأة أبرز بكثير مما يجري في السينما السورية.

من نافل القول إن سورية واحدة من البلدان العربية التي حققت المرأة حضوراً في السلّم الاجتماعي والوظيفي والسياسي والديبلوماسي، وكذلك الإبداعي الأدبي والفني، ولكن الحضور السينمائي للمخرجة السورية ظل خطوة ناقصة، أقل بكثير ما ينبغي أن يكون، أو يمكن أن يكون… خطوة ناقصة تثير أسئلتها.