تقع الهوية في قلب الصراع الهادف إلى صياغة تعريف نهائي للإنسان، لذلك كان سؤال الهوية وبالتالي الثقافة والمعرفة فلسفياً بالأساس، انشغل به مفكروها منذ بدء التفكر بالذات والجوهر والماهية والكينونة؛ لذلك يقع الخلط بين فلسفة الهوية وسوسيولوجيا الهوية. وبقدر ما شغل سؤال الهوية الفلاسفة، فقد شغل أيضاً السوسيولوجيين والأنثروبولوجيين ولا يزال، وهم لطالما رددوا أن الثقافة هي لحظة ما بعد الطبيعة، ولأنها كذلك فهي طريقة في معرفة الأشياء وفي إدراكها، وأن الهوية لا تدرَك إلا من خلال المعرفة ومن خلال إنتاج صور ذهنية تسبغ المعنى على الأشياء والظواهر وتؤسس معايير لفهمها من خلال ترتيب العلاقة بين عناصرها بحيث تتضح الغاية منها.

ولماذا يحتاج الإنسان إلى معايير ورموز للعقل والفعل والسلوك؟ لسبب بسيط وهو أن السلوك لا يحدث إلا إذا كانت هناك غاية للفعل ومعنى له. لا تحدث الأفعال الغريزية من خلال غايات ذهنية مدركة وواعية، لذلك تميّز الإنسان بأنه كائن ثقافي، خلاف غيره من الكائنات، إذ استطاع أن يغادر حقل الأفعال الغريزية متجاوزاً لحظة الطبيعة إلى ما بعدها، إلى الثقافة التي تعطي معنى لكل ما حوله. هنا تكمن جينات الثقافة الأولية، حيث القدرة على السلوك المجاوز والمفارق للفعل الغريزي. واختلاف الثقافات الإنسانية مرجعيته اختلاف المعاني والغايات التي يتصورها العقل الجمعي الإنساني في أزمنته وأمكنته المختلفة وتفاعله واستجاباته المتعددة.

في البدء كانت الثقافة، وكانت الهوية والاختلاف أيضاً، فضـلاً عن التنوع والصدام؛ ومنشأ كل ذلك أن الواقع متنوع، واستجابات الإنسان وتفاعله وإدراكه هذا الواقع مختلفة، وهو ينشئ شبكة من المعاني والرموز و«طرق التفكير والشعور والعمل» كما يقول دوركهايم ليحدد غايته وسلوكه، لكن المشكلة الأعمق أن «الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه» كما يقول ماكس فيبر. وهذا التمسك يولد الانحياز لما يصنعه من معانٍ وطرق تفكير، وهو ما يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان ناسياً مرجعيتها وأصلها ونسبها، كونها حصيلة تفاعله مع الواقع، وهذا الواقع دائم التغير والتحول مما ينفي الثبات أو الجمود عن أي ثقافة وبالتالي أي هوية. هذا هو أساس الاختلاف بين الثقافات الذي يولد التمايز ومفاهيم الهوية والخصوصية والتمركز حول الذات.

في الخلاصة توجد طريقتان على الأقل لتصور الهوية الثقافية وإدراكها: الأولى، ماهوية ضيقة، تعتبر أن الهوية الثقافية حقيقة واقعة تشكلت بالفعل؛ بينما تعتبر الثانية، أن الهوية الثقافية شيء يجري إنتاجه على نحو متواصل في عمليات تفاعلية دائمة لم ولن تكتمل على الإطلاق. حدد ستيوارت هول المفهوم «الماهوي» في مصطلح «الذات الواحدة الحقة» المختبئة في داخل كثير من الأفراد، فهي تحبس البشر بوجه عام في تاريخ مشترك وسلسلة نسب أو عرق، فيها يتجمد التاريخ الأصلي بوصفه إرثاً وميراثاً وتقليداً. ويمكن لهذه الماهيات أن تكون تائهة أو غائبة، لكنها بالتأكيد مخزونة وثابتة أصـلاً. وفقاً لهذا التعريف، توجد ماهية تقدم معاني ثابتة ومرجعيات دلالية تفسر كثيراً من الاختلافات السطحية الظاهرية. هذه الماهية يجب اكتشافها والتنقيب عن المستودع أو المخزون الذي يمكن أن يكون خلف جماعة عرقية أو جغرافية أو دينية لفهمها على نحو صحيح.

أما المفهوم التاريخي فهو أكثر ملاءمة لتصور الهوية الثقافية، لأنه يفضي حسب هول إلى اعتبارها موضوع صيرورة (Being) شأنه شأن الوجود. إنها موضوع ينتمي إلى المستقبل بقدر ما ينتمي إلى الماضي. إنها ليست شيئاً موجوداً متجاوزاً أو مفارقاً للمكان والزمان، أو للتاريخ والثقافة. صحيح أن الهويات تنبثق من أماكن لها تاريخ، لكنها مثل كل شيء تاريخي، عرضة للتحول الدائم، ولا يمكنها أن تكون ثابتة ومحبوسة بشكل أبَدي في بعض الماضي الماهوي. والفاعلون بصفتهم حاملي الهوية هم صانعوها بالوقت نفسه، إذ يقومون بأدوار متواصلة في التاريخ والثقافة والسلطة. وهم بهذا أكثر من مجرد مؤسسين لصحوة الماضي واستعادته المنتظرة. فالهويات هي تعريفات نطلقها على طرق حياة وممارسات ووضعيات ومرجعيات مختلفة، لذلك تشهد تحولات جديدة ودائمة يجد الأفراد أنفسهم فيها، مما يضطرهم إلى التكيف معها، الأمر الذي قد يظنه البعض مولداً لإشكالية الاغتراب، لكنها في الحقيقة دينامية تغيّر دائم يفضي إلى إعادة تشكلها وتركيبها على نحو دائم.

وبغض النظر عن السردية التاريخية البانية لـ «الهوية الثقافية»، فالمصطلح بحد ذاته يفضي إلى الاعتقاد بأن هناك صورة واحدة موحدة لهذه الهوية، ويسمح لفرد بأن يحدد بدقة ما ينتمي إليه وما يختلف عنه. إلا أن الواقع يثبت عدداً من الاختلافات في الممارسات الاجتماعية لشعب معيَّن أو جماعة محددة، وهي اختلافات تتضمن تبايناً ظاهراً مع ما يمكن اعتباره النموذج المثالي المؤسطر للهوية، والمتمثل بالسردية التاريخية العامة المشكِّلة لمحتوى النموذج الهوياتي السائد، وهي تباينات تظهر عملياً في أكثر من لحظة تاريخية، إن من حيث طرق الحياة أو من حيث التحولات والتطورات التي تداخلها.

ففي الأساس نجد المجتمع المركب، وفيه ثقافة تنمو في عمليات تفاعل ينتج منها تنوع ضخم لطرق الحياة والخبرات الاجتماعية، ومنها تتولد الاختلافات والتباينات العديدة والمعقدة للممارسات الاجتماعية والصور الثقافية لشعب أو لجماعة ما، بحيث تختلف عما يمكن أن نعتبره نموذجاً مثالياً للهوية السائدة فيها. وقد بيّن جونسون أن السردية التاريخية للهوية ونماذجها تنبني في قسمها الأعظم على روايات متخيلة ومصنوعة يتحول معها تعريف الجماعة أو الأمة لنفسها إلى خطاب معمم يجد في المؤسسات الثقافية (وسائل الإعلام، والمؤسسات الدينية، والسياسية، والتربوية) رعاية خاصة، بل وكثيراً من الدعم الذي يحول الهوية إلى نموذج مثالي يتمثل بسردية تاريخية تتمتع بقوة رمزية ومعنوية. لكن التنوع الضخم في طرق الحياة والممارسات الاجتماعية ينتج مخزوناً معقداً من الخبرات الثقافية تسمح بإعادة النظر ببعض عناصر تلك السردية. ذلك أن الأفراد ليسوا بالضرورة متلقين سلبيين، فالسرديات التاريخية للهوية هي بالأساس مبنية على وقائع كانت موضع صراع واختلاف وتباين، والنتيجة أن الهويات تتفلت من كونها سرديات وروايات تاريخية موروثة يتشكل منها مضمون الهوية، وبالتالي فهي ليست بناءً تاريخياً ثقافياً محضاً، بل هي بناء تتداخل فيه المنافع والمصالح والآراء والنزعات لبعض الطبقات والجماعات والفئات في المجتمع، وبواسطة الفاعلين الاجتماعيين والمؤسسات الثقافية المتنوعة ذاتها.

إن تنوع وتباين بعض عناصر الهوية الثقافية يمكن أن يجري طمسه بمهارة في السرديات التاريخية العامة، لكن الفرد يستطيع أن يجد عناصر الاختلاف والتباين ويقوم بالتالي، وبشكل نموذجي، في الانتقاء والاختيار من بينها، فالرموز والخبرات الجماعية، يتم تبني بعض عناصرها وتستبعد الأخرى وتختزل أو يتم تأويلها، تماماً كما تحصل عمليات إعادة تقويم بواسطة جماعات أو فئات جرى استبعاد قيمها أو اختزالها وطمسها بواسطة طبقات وجماعات أخرى، والتي من خلال عملية مضادة تقوم بتمثل خبرات وتصورات وأفكار كانت تعتبر خارجة عن السردية التاريخية العامة، وعندها تصنّف هذه باعتبارها هويات مضادة للمجتمع القومي. كل هذا يبين أن العمليات الديناميكية وغير المطردة لبناء الهوية الثقافية يمكن بسهولة أن تصبح أيديولوجيا، تخفي التعددية أو التنوع الحقيقي وتستبعد التناقضات والتباينات الاجتماعية بشكل مقصود. وكل محاولة لتثبيت محتوى الهوية الثقافية أو مضمونها تحت عنوان الحفاظ على الهوية الحقيقية للشعب، تصبح أشكالاً أو صوراً أيديولوجية تستخدم عند جماعات أو طبقات معينة من أجل تثبيت مصالحها.

يبين هذا التصور ثراء مفهوم الهوية وديناميته، وليس غموضه كما يفترض البعض؛ فالسردية التاريخية للهوية الثقافية تعمل على إخفاء الاختلافات والتباينات، لكنها من جانب آخر تخدم وحدة الجماعة والمجتمع كوسيلة أساسية للمقاومة. وعادة ما تكون السرديات التاريخية للهوية بنماذجها الأساسية من صناعة الطبقات الحاكمة، في حين تقع بوصفها وسيلة للمقاومة والوحدة في المجال الاجتماعي والشعبي. وهذا ما يؤكد خلاصات هابرماس، باعتبار الهوية الثقافية ليست معطى أو جوهراً محدداً مسبقاً، لكنها مشروع يتزامن بناؤه مع الوقائع والمستجدات. فالهوية انتقائية في تعاملها مع السردية التاريخية، يمكنها الاختيار أو الانتقاء من الموروث. وعلى الرغم من أنها لا تستطيع أن تختار تقاليدها، إلا أنها تستطيع على الأقل أن تنتقي أو تختار بشكل أساسي كيف تستمر أو لا تستمر مع بعض منها. هذه الفكرة عن الهوية بوصفها مشروعاً، هي فكرة خصبة وغنية بالإمكانات وتسمح كما قدمها هابرماس بافتراض تبلور هويات أكثر اكتمالاً وانفتاحاً. فالهوية ليست ما يكونه الفرد، بقدر ما هي، ما يريد الفرد أن يكون، وهي في الحصيلة كما يخلص هابرماس ليست مبنية بكاملها على تقاليد الفرد وميراثه التاريخي، حيث الوجه القبيح للتعصب الهوياتي العنصري، وبالتالي الطائفي والمذهبي.

أن تكون الهوية إدراكاً للعالم وللأشياء، فهذه بداية طبيعية. أن تكون صوراً ذهنية تنشأ بواسطة الاتصال والتفاعل ثم تصبح كـلّاً متكامـلاً من طرق التفكير والشعور والعمل كحصيلة للوعي بالعالم والأشياء والتكيف معه وتحقيق شروط البقاء فيه، فهذه هي لحظة ما بعد الطبيعة، حيث بدأ فيها الإنسان صناعة التاريخ، وفي الانتقال إلى بناء النظام الاجتماعي من قلب النظام الطبيعي، مدشناً عملية البناء وإعادة البناء في شكل جديد تمثل في كل مرة الانعطاف نحو الحالة الأرقى التي تتمثل بتكييف العالم والأشياء وإخضاعها، وإعادة بنائها في حلّة جديدة.

تعني هذه الدينامية أن الهوية حركة دائمة لتوليد الفوارق والاختلافات بالقدر الذي تولد أيضاً المشتركات والائتلافات. فالإنسان بصفته فاعـلاً اجتماعياً – ثقافياً: يدرك، يتفاعل، يفعل. والفعل هو ذروة الإفصاح المادي عن الهوية. ولأن الأمر كذلك لا يمكن إدراك الهوية دون رؤية هذه الحركة الجدلية بين التصور الذهني والفعل العملي.

أولاً: صعود الهويات… الدينامية والمحددات

من هذا المنطلق تبدو الهوية الثقافية بناء ديناميكياً وعلائقياً مركباً يتشكل في سياقها الوعي أو يعاد بناؤه، وهو في الوقت نفسه حصيلة ديالكتيك يتم على أرضية المغايرة. ولذلك تبدو الهوية الثقافية بالتالي متعددة الارتباطات ومتنوعة الأبعاد، تكتسب في الواقع أبعاداً رمزية كما تكتسب وضعيات عملانية تعبِّر عن نفسها بما يسمى «استراتيجيات الهوية». وهي على الرغم من كونها أحد أبرز تعبيرات الانتماء وتعريف الذات، وكانت على الدوام أحد المجالات المصاحبة للصراع بين الأمم والحضارات، إلا أنها في عصر العولمة أخذت صوراً مختلفة، حيث تغيّر براديغم تشكل الهويات وتغيّرت بالتالي معطياتها مع الانفجار الهائل في الإنفوميديا والمعلوماتية، حيث أصبحت أكثر شبكية وأكثر فعالية ومرونة وأكثر تدفقاً.

نشهد اليوم تحولاً جذرياً في مفهوم الهوية ناتجاً من التغيرات التي طرأت على مفهوم «القوة»، فقد أصبحت الثقافة البانية للهويات من الأسلحة الثقيلة في الحروب الناعمة في عالم اليوم، وبخاصة في ميدان إنتاج المعارف والأفكار والرموز والقيم، وما الحديث عن صدام الحضارات الذي دشنه هنتنغتون إلا دليل على المكانة التي أخذ يتبوأها هذا الرأسمال الرمزي المتمثل بالثقافة والمعرفة، باعتباره منظومة تنتج خصوصيتها وأدواتها.

لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ، إنها حصيلة ديالكتيك اجتماعي وسيرورة انبنائية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة من غيرها، وهي سمات تتحدد ضمن علاقات التماثل والاختلاف وتعكس ارتباط الإنسان بالآخرين وتميزه منهم في الوقت نفسه. وهي بقدر ما تكون تعريفاً للذات، تكون أيضاً تعريفاً تستدمجه الذات في علاقتها بالآخر حسب تالكوت بارسونز واستناداً إلى إميل دوركهايم وجورج ميد.

لقد شغلت إشكالية الهوية، منذ كانت مبحثاً فلسفياً، العقول واستقطبت الكثير من الأقلام والمفكرين، ونشأت حولها مدارس واتجاهات ومناهج للنظر والتحليل، ومع ذلك بقينا على هامش تلك المناظرات، نكتفي بالقليل الذي يصل إلينا من هذا النتاج الفكري الضخم. وحتى عندما انخرط علم الاجتماع وعلم النفس والسياسة والتربية في دراسة مسألة الهوية، وممارسة مهمات التأصيل النظري لهذه المسألة في أرقى الجامعات، لم نتنبه إلى أن المكتبة العربية تكاد تكون خاوية إلا من بعض التراجم المتناثرة وبعض المؤلفات النادرة، التي اكتفت في الغالب، بالعرض دون التحليل والنقد، بدافع الاختصاص والحاجة الأكاديمية، ودون أي ربط أو تشبيك معرفي أو تكييف فكري لها مع البيئة الثقافية العربية التي كانت ولا تزال بأمسِّ الحاجة للبحث النظري والأكاديمي الهادئ والعقلاني في مسائل وإشكاليات الهوية وأبعادها المختلفة.

والأخطر من ذلك أن أغلبية الكتابات التي تناولت الموضوع وقعت أسيرة الفخ المنهجي للرؤية التي غلّبت المقاربة التاريخية للهوية، حاصرة مباحثها ضمن ثنائية الأصالة والمعاصرة، بل إن بعضها في الأغلب الأعم أضاف إلى تلك المقاربة جرعة قيمة مضافة من التسييس والأدلجة أسهمت في إنتاج وتعميم وعي هوياتي مزيف ومؤدلج. وهكذا أصبحت مباحث الهوية مجرد فائض تكميلي، هدفه التعبئة والتحريض وبيان التمايز والخصوصية والاختلاف وليس التحليل والتفسير والنقد وإعادة التشكيل وبناء الجسور والتواصل، وللأسف اكتشفنا متأخرين كم هي الحاجة ماسة وضرورية لمقاربات سوسيولوجية علمية وعقلانية لمشكلات مجتمعنا العربي وتحدياته الثقافية والحضارية، وكم أن هذا القرن الآفل لم يكن قرن الاقتصاد والسياسة فحسب، بل قرن الثقافة والصراع الهوياتي أيضاً.

يقود التفحص الدقيق حول الهويات المتشددة وتكوّن النزعة المتطرفة إلى دراسة ديناميات التفاعل المنتج والمغذي لمثل هذه الاتجاهات، وقد تكثفت مثل هذه الدراسات في إثر صعود الهويات النازية والفاشية والعنصرية وما تركه ذلك من آثار كارثية على العالم الحديث. وقد ارتبط ذلك مع هيمنة مفهوم الدولة القومية وانتشار النزعة الهوياتية القومية التي تفيد بالتقاء وتطابق البعد الجيوسياسي مع الثقافي والإثني للأمم والشعوب وما سبَّبه ذلك من إعادة رسم خرائط هوياتية سياسية جديدة على مستوى العالم، صاغها الأقوياء والمنتصرون وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى.

تأسست منذ ذلك الحين الهويات المشرعنة (Legitimizing Identity) التي صاغتها الكيانات المهيمنة والأيديولوجيا المظفرة بغرض فرض رؤيتها على الآخرين من جهة، وتحديد علاقات القوة والسلطة وآليات الإدماج والاقصاء والهيمنة والخضوع وتبرير ذلك كله. في مقابلها تشكلت الهويات المقاومة (Resistance Identity) لأمم وشعوب وكيانات جرى تمزيقها واقتسامها خلافاً لإرادتها. وقد تأسست هذه الهويات على معارضة الخضوع والإقصاء والاندماج في نظام عالمي يعمل على تذويبها أو ترويضها واستدماجها.

في فضاء الهويات المقاومة نشأت أوجه متنوعة من الاعتراض، منها ما عبر عن نفسه كهويات ناعمة (Soft Identity) مستأنسة وموادعة، بمعنى أنها بقيت هويات صامتة وكامنة لكنها تحرص على إعادة إنتاج نفسها، وبعضها الآخر عبر عن نفسه كهويات صاخبة ومشاغبة (Tumultuous Identity) متخذة الطابع الشعبوي، أو الوطني المتلازم مع نزعة قومية تحررية كما حدث في العديد من الحركات الاستقلالية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والوطن العربي.

لكن الهويات المقاومة بوجه عام استندت إلى إرث ثقافي محلي عميق الجذور، استعصى عملياً على كل محاولات الاستلاب، وهي اكتسبت مع العولمة ديناميات خاصة أفضت إلى تشويه سيرورة تطورها وتشكلها الحديث، بل أدى ذلك مع توحش النظام العالمي وإفراطه في عمليات الإقصاء والهيمنة في المرحلة الاستعمارية، ثم بفعل تفلت النزعة المادية الرأسمالية من أي معايير سبق أن صاغتها الثقافة الليبرالية حول حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب في سياق التعولم، إلى تمحور الهويات المقاومة حول «النواة الصلبة» في بنيتها الثقافية، فظهرت الأصولية الدينية والهويات الإثنية وازدهرت عقب انهيار الاتحاد السوفياتي والأيديولوجيات الشمولية متزامنة مع انبثاق نظام عالمي جديد، أُحادي القطب من جهة، ومعولم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً من جهة أخرى.

تمثل اللحظة التاريخية البانية لـ «الهويات الصلبة» (Hard Identity) المحافظة والمتشددة، ذات الطابع الديني والإثني على مستوى العالم، نقطة تحول فارقة في سيرورة توحش النظام العالمي الجديد وسعيه الدؤوب لإدامة الإقصاء والهيمنة وإعادة ترسيم الخرائط الهوياتية والقومية من جديد. إنها لحظة تفلُت النظام العالمي الجديد من القواعد التي سبق ورسمها بداية القرن الماضي، وانهيار صيغة الدولة – الأمة التي انبنت وفق مصالح ورغبات المنتصر حينها بغض النظر عن افتراق منطق الدولة عن الأمة وفشل الأولى في تحقيق وعودها ببناء المشتركات الجامعة والولاءات البانية لانتماءات جديدة على أساس الهوية «الفردانية» التي شكلت جوهر منطق الحداثة بمضمونها الليبرالي. حطمت سيرورات العولمة تلك الوعود من جهة، وشيّدت منطقاً جديداً وصياغة مستحدثة للنظام الدولي المعولم من جهة ثانية، نشهد ملامحه منذ مطلع القرن الحالي، حيث تفككت دول وأعيدت صياغة خرائط في أوروبا الشرقية والبلقان، وتجسّد ذلك بأبشع مظاهره في غزو العراق وأفغانستان والشيشان وتحطيم إمكانات الحق بتقرير المصير في أغلب بقاع الأرض. ولعل الأمر في ما يتعلق بالشعب الفلسطيني يمثل ذُروة ذلك المشهد الكارثي، الذي لم تتوقف فصوله في تداعيات متصاعدة على وقع مقاربة غربية وجدت في استراتيجية مكافحة الإرهاب، من دون أي تعريف لماهية الإرهاب، طريقة ملائمة لحفظ استقرار النظام العالمي الجديد. لكنها عملياً لم تؤد إلا إلى المزيد من الإرهاب على مستوى العالم، ذلك بأنها تعاملت مع النتائج لا المسببات، بل حتى وهي تتعامل مع النتائج لم تفرق بين الحركات المطالبة بحق تقرير المصير والمدافعة عن هويتها، وهو حق معترف به في الشرائع والقوانين الدولية التي جرى الانقلاب عليها، وبين الإرهاب الأعمى، سواء صدر عن دول أو منظمات وشبكات.

الهويات المقاومة تأسست في التخوم وترسخت في المجالات الأضعف بفضل تقاسم النظام الدولي القديم الذي صاغه ورسمه المنتصرون أوائل القرن الماضي، وعلى وقعه قامت حركات التحرر الوطني المطالبة بحق تقرير المصير في كل مكان (في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والوطن العربي) ونجح بعضها في تأسيس هوامش وطنية مستقلة، لكنها بقيت محاصرة ومستنزفة وجريحة، وتعرضت تجاربها في بناء الدولة الوطنية للإجهاض والإضعاف المستمرين. وفي الحلقة الأضعف، والأكثر هشاشة، تركز الحصار بل ظهر عنف النظام الدولي وتوحشه ليستولد بالمقابل الهويات الصلبة، المتشددة والمتطرفة، بل والقاتلة، في تداعيات لا تزال تفعل فعلها الكارثي في العراق وسورية وأكثر من مكان في وطننا العربي.

ثانياً: في ديالكتيك الهوية والمغايرة

وفي المجال العربي والاسلامي ظهرت في العقد الأخير إشكالية الهوية بقوة من خلال الإحياء المنتظم الذي نشهده للمكبوت الإثني والعشائري والديني والمذهبي والقومي، وتحوّلت بالتالي جماعات وقطاعات واسعة نحو الهويات المتمذهبة والمسيّسة التي تتجه بشكل متزايد نحو إحياء نرجسياتها، إما بحجة التعددية أو الخصوصية الثقافية، أو بدعوى الحفاظ على الموروث والنقاء الثقافي بالعودة إلى الأصول. الهوّيات المسيّسة والمؤدلجة (مذهبياً، قومياً، طائفياً..) تعمل قبل أي شيء، من طريق منطق ثنوي (مانوي) قائم على الإقصاء، ليس فقط من حيث الحقوق والامتيازات، وإنما على مستويات الفكر والقيم والثقافة والرموز. فنقاء الهويات بالمعنى المسيّس والمؤدلج يتطلب إقامة «الحد الفاصل» مع الآخر قبل إقصائه، وهو يستحضر من التاريخ وسردياته، ومن النصوص وتأويلاتها ما يتناسب ومهمة تحصين الهوّية وتصليبها، لكي تصبح أكثر دوغمائية في مواجهة الآخر.

ديالكتيك إعادة إنتاج الهوية بصيغتها الدوغمائية في عالمنا العربي والإسلامي اليوم، لم يولد فجأة، ولم يهبط علينا من فضاء المجهول، فهو يتغذى من مصادر عديدة، ليست كلها قابعة في حقل الأيديولوجيا، وإن وظفت الموروث الديني والسرديات التاريخية بفعالية، إلا أن هذا الموروث ما كان له أن يكتسب طاقة وحركة ودينامية، وأن يتحول بالتالي إلى أيديولوجيا، إلا في إطار سياسي – اجتماعي وسياق سوسيولوجي معاش، فشلت فيه الدولة الوطنية في إدماج مكوناتها الاجتماعية واحتكمت في الغالب إلى منطق الاستيلاء على السلطة بقوة العسكر والقبائل والطوائف، لتكرس زعامات وحكام أشبه بالآلهة، فتكرست معهم حياة سياسية فارغة من أي مضمون سياسي أو أخلاقي، وفاشلة إلى حد الإفلاس على المستوى التنموي والاجتماعي، ومدمرة إلى حد سحق كرامة الإنسان العربي على مستوى الحريات، ما شكل البيئة المناسبة لتشظي الهوية الجامعة، وبالتالي يمكن القول، في استعادة للتقليد التحليلي الدوركهايمي، أن المغذيات الحقيقية للهويات المتمذهبة والمسيّسة، لا يعبر عنها ما يظهر على السطح بل هي كامنة في السياقات السوسيولوجية بكل أبعادها (السياسية والاقتصادية والاجتماعية…)، وليس ضجيج الأيديولوجيا والشعارات الهوياتية المتمذهبة والمسيّسة، إلا مظهراً من مظاهر، وعرض من أعراض، ديالكتيك إنتاج الهوية والمغايرة، والتي تعمل وفق قانون هذا الديالكتيك: التوحد والانقسام، التوحد مع المتماثلين، والتمايز عن المختلفين، وهذه هي إحدى «استراتيجيات الهوية» التي يتم تفعيلها بحفاوة بالغة على وقع التحديات والصراعات، وعلى تخوم التنوع والاختلاف في محيطنا العربي وعلى مستوى أبعد من ذلك أيضاً.

المفارقة في هذا الأمر أن بعض الناس، والجماعات تقاتل في سبيل ما تظنه حريتها وهو ليس إلا الطريق السريع لاستمرارية تبعيتها، وتتمسك بما تعتقد، ولو أدى ذلك إلى تخريب حياتها وحياة الآخرين. والواقع أن المشكلة ليست في أن تتمسك بعض الجماعات بما تعتقد، أو حتى أن تقاتل في سبيل حريتها، بل فيمن «تقاتل» وكيف تتمسك بما تعتقد من دون إلغاء أو إقصاء للآخر. إن العجز عن التعرف إلى «العدو» الحقيقي وليس الوهمي، الكامن وليس الظاهر، هو الذي يؤدي بتعبيرات الهوية نحو الانحراف وتبلور «وعي هوياتي مزيف ومؤدلج» ومصاب بالعطب البنيوي وبالعمى السوسيولوجي. إن أحد أبرز قوانين ديالكتيك الهوية والمغايرة في حالة انبنائها المؤدلج والمسيّس أنه ينظر إلى العدو باعتباره جزءاً من الحياة نفسها، وهذا العدو يصبح دائماً هو «الآخر»، ومحددات «العداوة» تفرضها غيريته نفسها، والمفارقة البائسة في هذه الحالة أن وجوده يصبح ضرورة حتى ولو كان على شكل أشباح وأوهام مصطنعة، فهي عداوة مفيدة، إذ بقدر ما هو عدو متخيّل أو حقيقي ومجال تهديد دائم، هو أيضاً مفيد لأنه يرسخ أواصر التضامن والوحدة في الجماعة. أما مسألة إدارة الصراع وتحديد الأولويات في العلاقة مع الآخر وبناء استراتيجيات الهوية وسياساتها فتحددها المصالح بقدر ما تحددها التحديات، ولكن دائماً على قاعدة أن الضفة الأخرى هي أرض المغايرة والاختلاف. تلك هي إشكالية الوعي الهوياتي البائس والمزيف.

والحصيلة اليوم أن هذا الوعي الهوياتي المزيف والمؤدلج، قد تسيّس وتمذهب وفي بعض جوانبه تمأسس وتشرعن في أحزاب ومؤسسات أصبحت شريكة في الحكم، مما أنتج نوعاً من «الوعي القطيعي» حيث عصبيات انفجرت، وهويات طائفية ومذهبية وإثنية تضخمت حتى بدأت تتحول إلى سياج لا يسمح للعقل أن يخترقها، ولا لـ «الجماعة» أن تخرج عن طوقه. الهويات المتشظية في الوطن العربي أطاحت الهوية الجامعة وأصبحت محرك العقل الجمعي، وهي أصابته في صميم بنيته، حيث وقعت أنظمة ومنظمات ودول في فخ الوعي الهوياتي – القطيعي المتمذهب والتي يتغذى في فضائها الخطاب الديني والإثني المتشدد والمتطرف، الذي يشيطن الآخر متناغماً بذلك مع مقولة صِدام الحضارات وانقسام العالم إلى محوري الشر والخير، متمدداً بتأثيراته إلى مختلف أنحاء العالم.

ثالثاً: المجالات الهوياتية وإعادة تعريف المشتركات

منذ أن كتب برتراند بادي عن «أثننة العالم» حيث تتعرض ثوابت الهويات في كل مكان للزعزعة والتفكيك بفعل تأثيرات العولمة التي تذوّب في الإنسان الكثير من الخصوصيات من جهة وتؤدي إلى انبثاق هويات كان يعتقد أنها تلاشت من جهة أخرى، رأينا كيف انقلبت إحدى أدوات العولمة ضدها، وأصبح خطاب الخصوصية الثقافية والهوية مدخـلاً أيديولوجياً تحتمي به الجماعات المهمشة لتحصين نفسها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الآخر. وما يذهب إليه ستيوارت هول في تتبعه الدقيق لتحولات الهوية في «ما قبل الحداثة»، و«ما بعدها»، وما برز معها من هويات جزئية، وما حدث بفعل العولمة من استجابات وترددات، جعله يستنتج أن المسألة تتخطى إنعاش الإثنية كمصدر للهوية، وعلى نحو معارض للقومية السائدة، ليتحدث عن هويات جديدة تنبني كنتيجة لعلاقات القوة الآخذة في التغيّر والتحول، محذراً من هذه النزعة المتزايدة نحو الهويات الصافية، أياً كان مرتكزها، إثنياً أم دينياً أم وهمياً.

في الواقع تشكل هذه الكتابات وغيرها الكثير مما أُنتج في هذا المجال مقاربات نظرية عرضنا لأهمها في سياق بحثنا، إلا أن ما شهدناه في وطننا العربي من «صراع على الهوية»، وإن لم يكن حديث الولادة وجذوره تتصل بطبيعة تكوّن السلطة والشرعية في بلادنا، وكيفية تمثل الموروث وتجلّيه في الواقع المعاصر، إلا أن تأثيرات الحداثة والعولمة وسياسات الهيمنة من جهة ووقائع التراجع الحضاري والثقافي والاجتماعي من جهة أخرى، كان لها تأثير كارثي في التحولات الخطيرة التي طالت المفهوم الهوياتي العروبي الجامع.

فقد نجح العقل الهوياتي «الأداتي» المؤدلج والمتمذهب في اجتياح مساحات واسعة من المشتركات والجوامع الهشّة في الأساس، تفككت «الهوية القومية» وتشّظت «الهوية الوطنية»، وتقف الدولة كمؤسسة جامعة على تخوم التفكك والتشظي وإعادة التشكل وفق منطق «المجال الهوياتي» الذي يرتسم على أرض الصراع الدامي، في ظل تجاذبات دولية كشفت أيضاً عن صراعات ومصالح آخذة في التشكل وفق منطق تعددية المجالات الهوياتية في عالم استعصى على الأحادية القطبية التامة.

المجال الهوياتي المتمذهب والمؤدلج من طبيعة مختلفة عن «المجال الحيوي»، ذلك بأنه يوظف بكثافة عالية المعطيات الثقافية والدينية والأيديولوجية وبخاصة للأقليات، وقد أتاحت العولمة وما شكلته من ديناميات جديدة الفرصة التاريخية لامتداد وتغيًر طبيعة المجال الحيوي الأحادي القطب على مستوى العالم بصيغ جديدة وأشكال مختلفة، وهي تلازمت مع توظيف مكثف لأطروحة «مكافحة الإرهاب» من جهة ومخرجات التطور المعرفي والتكنولوجي الهائل على مستوى العالم من جهة أخرى. في الحصيلة تحوّل مفهوم المجال الحيوي التقليدي مع المقاربة المعولمة من الارتكاز على المعطى الجغرافي إلى الاقتصادي إلى فضاءات أخرى تتداخل فيها الأبعاد لتشمل أيضاً الثقافي والديني والإثني الذي يعد اليوم أحد مخرجات العولمة، لذلك لم يكن غريباً هذا الاحتفاء الغربي والمعولم بالتعددية والخصوصية والرعاية المنظمة وغير البريئة لإحيائها في مواجهة شموليات بائدة، وصولاً إلى استصدار قوانين لمراقبة الحريات الدينية في العالم ومنها ما صدر عن الكونغرس الأمريكي عام 1998 معطياً لنفسه الحق بالتدخل لحماية الأقليات في العالم وفرض العقوبات وهو حق ينفذ انتقائياً بطبيعة الحال وبعيداً من الأمم المتحدة.

يمكن تصور خطوط ممتدة يشتغل فيها ديالكتيك الهوية الثقافية في هذه الحالة بثلاث طرق، الاستيعاب والاندراج التام في معطيات الثقافة المهيمنة مما يؤدي إلى التجانس الثقافي، أو التثاقف حيث تحتفظ الهوية ببعض صفاتها، والنتيجة نوع من الهُجنة أو العولمة المتكيفة للهوية، أو القطيعة وهي تحدث عندما تحاول هوية ما إثبات أصالتها وخصوصيتها، والنتيجة السوسيولوجية في هذه الحالة عدم التجانس والتحصن بهويات وخصوصيات ثقافية، وفي كل طريقة من هذه الطرق ديناميات نشطة وقوانين صراع وسياسات واستراتيجيات هوياتية يصنعها الفاعلون واللاعبون في كل المجالات. المشكلة أن خطاب ثقافة العولمة ببعدها الاستيعابي المهيمن يلتقي بالعمق مع خطاب القطيعة والخصوصية الثقافية المغلقة، فكلاهما يقدم رؤية تقوم على التجانس الثقافي، وتنبني على رؤية خلاصية للعالم، متمركزة على الذات، قابلة للتصدير والتعميم، فكما قسّم خطاب القطيعة العالم إلى دار حق ودار باطل قسم الخطاب المعولم بطبعته المؤمركة العالم إلى محور للشر ومحور للخير. وكلاهما يقدم ديباجته القائمة على أشكال التمركز على الذات وادعاء المشروعية التي تلغي أو تقصي الآخر ولا تعترف به إلا كعدو. كلتا المقاربتين تدعي امتلاك الحقيقة، عبر سلطان العقيدة وإن اختلفت مرجعياتها، بين حاكمية إلهية فوق بشرية من جهة، وسلطان المال وسلطة السوق من جهة أخرى، وكلتاهما مع العولمة عابرتان للحدود والدول ولإرادة الناس فيها وغير خاضعين للمساءلة.

رابعاً: العولمة والصراع على الهويات

تنفجر مسألة الهوية الثقافية اليوم، وفي ضوئها جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء في كل مكان كتحديات وجودية تواجه المجتمعات التي تتعرض لمؤثرات نموذج عالمي يعتمد أحدث ما أنتجه العقل البشري من تقنيات، تتآلف فيها الصور والإشارات والرموز والنصوص المرئية والمقروءة على الشاشات الدائمة البث التي تجتاح الأمكنة، بحيث وجدت الثقافات الخاصة بالأمم والشعوب نفسها مكشوفة أمام تدفق الرسائل والمعلومات والمفاهيم والقيم الجديدة التي تجوب العالم على مدار الساعة حاملة معها أبطالاً ورموزاً تقتحم مخيِّلة المشاهد بدءاً برموز الفن والرياضة والأزياء والسينما وصولاً إلى الأعمال والأطعمة وأنماط السلوك والمفردات اللغوية المتكررة.

يمثل التحالف بين الثقافة والتقانة ذروة القدرات التي تقدمها العولمة في الحقل الثقافي، فهي تمكنت فعلياً من اختراق الحدود الثقافية انطلاقاً من مراكز صناعة وترويج النماذج الثقافية ذات الطابع الغربي، وألغت بالتالي إمكانات التثاقف كخيار يعني الانفتاح الطوعي على المنظومات الثقافية المختلفة عبر آليات التأثر والتأثير والتفاعل المتبادل، لمصلحة الاستباحة الكاملة للفضاء الثقافي الذي يعزز قيم الغالب ويؤدي إلى استتباع المغلوب واكتساح دفاعاته التقليدية، وبالتالي لا تترك أمامه من خيارات خارج حدود الانعزال أو الذوبان، سوى هوامش محدودة في مواجهة تكنولوجيا الإخضاع وصناعة العقول وهندسة الإدراك لغرض الغلبة الحضارية وكسر الممانعة الثقافية، ودفعها إلى الانكماش والتحول إلى طقوس وأشكال فولكلورية تسجنها في مشاهد الأسطورة والتراث والتاريخ، وتدفعها إلى الغربة الحضارية والخروج من التاريخ.

لقد حطمت العولمة الأيديولوجيا وحولتها إلى سوق لترويج الاوهام فأصبحت أكثر ضبابية وأقل وثوقية ونجحت في زرع القيم الجديدة التي يحتاج إليها ازدهار الأسواق العالمية. إنها أيديولوجيا العولمة التي تفرض على الشعوب اختياراً مستحيـلاً: إما التقليد الأعمى للغرب الذي يقطعها عن ثقافتها الخاصة، وإما ثورة التشبث بالهوية التي تفصل هذه الشعوب عن الحداثة. لقد غدت الشركات المتنافسة على السوق لا تبيع المنتجات بل الرموز، بحيث لم تعد المنافسة قائمة على أساس نوعية البضاعة ومتانتها وجمالها وجدتها، بل أضحت المسألة، مرتبطة بالصورة والانتماء الرمزي. وهكذا يصبح اقتناء البضاعة والمنتجات انتماءً وهمياً لهويات رمزية (Symbolic Identity) تتفوق على القيمة بحد ذاتها، وهذا ما يفسر إنفاق المبالغ الخيالية على الإعلان الذي يهدف ليس فقط إلى التنافس على السوق بل أيضاً إلى «التلاعب بالرموز وتوظيف الأوهام والخيال والإغراء بالاستهلاك بما يمحو التمييز بين الصورة والواقع».

لقد باتت الميديا الجديدة بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها في قالب مشوِّق عبر «تكنولوجيا الإثارة والتشويق»، والمتعة، المؤسسة الثقافية الأفعل في عالم اليوم، وتراجعت أمامها مراكز البحث والجامعات ودور النشر والصحف وكل الترسانة الثقافية الهجومية التقليدية، عدنا إلى الصورة اليوم التي تبدو بحلتها المعولمة وكأنها المادة الثقافية المرشحة لأن تصبح الأكثر شعبية واستهلاكاً، والأقدر على الفتك بنظام المناعة الثقافي الطبيعي لدى مجتمعاتنا، وهي اليوم أصبحت تقوم مقام الكلمة في الخطاب التقليدي، مع فارق الفعالية التي تمثلها والقدرة الخارقة التي تتمتع بها الصورة على صعيد تعميم مضمونها وترسيخه لدى المتلقِّين، متعلمين كانوا أم غير متعلمين، الأمر الذي لم تستطعه الكلمة حتى في عز نفوذها الجماهيري.

وبسبب كثافة وخطورة الاختراق الثقافي الذي تتعرض له الهوية العربية ونسق القيم اللاحم لمكوِّناتها، فإن مؤسسات الاجتماع والثقافة التقليدية، وهما الأسرة والمدرسة، لم تعودا قادرتين وفق صيغ أدائهما الحالية على حماية الأمن الثقافي للمجتمع، والإيفاء بحاجات أفراده من القيم والرموز والمعايير والمرجعيات التي أصبحت تصاغ خارج حدود الجغرافيا والاجتماع والثقافة الوطنية. وهذا ما رتب استحقاقات إضافية تمس الأمن الثقافي ومكوِّنات الهوية، ولا تستطيع المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية مواجهتها ما لم تتخلَّ عن نظم عملها العنيفة وتتحرر من الذهنية الرقابية على الإنتاج الرمزي لأنها لم تعد مجدية من جهة، ولأنها عاجزة عن إشباع حاجات الناس الثقافية والجمالية المتزايدة والقادرة على المنافسة والتميز. لقد أصبح الإعلام صناعة ثقيلة تتطلب الكثير من الجهد والمال والصدقية، لكي يتمكن من المنافسة في عالم مفتوح على خيارات لا تنتهي.

ويخطئ كثيراً من يظن أن مناهضة خطاب العولمة وتداعياته الثقافية ممكن عن طريق رفض الحداثة والعقلانية والتنوير والتقوقع في سجن خطاب هوياتي تاريخي يعيش حالة قطيعة مع العالم. إن مناهضة العولمة الثقافية لن تكون مجدية ما لم تعتمد على القيم الإنسانية والعقلانية للحداثة ذاتها، من خلال الإقبال على قيمها والمساهمة في تطويرها لتصبح حداثة عالمية وعولمة إنسانية حقيقية. إن رفض الاحتلال والهيمنة والتبعية لن يكون مجدياً في مجتمعات فاشلة ومهزومة من الداخل، لذلك تصبح الدعوة إلى الإصلاح والتجديد، وبناء المجتمعات الديمقراطية القائمة على احترام حقوق الإنسان والحريات السياسية والمدنية الضامنة لحقوق المواطنة والمشاركة والمساواة والشفافية في إدارة الشأن العام، ضرورة من ضرورات المواجهة الناجحة.