في القرن التاسع عشر، حين بدأت تلوح في الأفق علائم انهيار الإمبراطورية العثمانية، بدأت أوروبا من جهتها تفكر في تفكيك تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف، وكذلك بدأت ترسم ملامح الخريطة التي ستقرر مستقبل البلدان والشعوب التي تسكن تلك المنطقة، بما فيها بلداننا العربية. في ذلك الوقت ظهر كلام مختصر وواضح مع أبعاد استراتيجية لا تزال تتفاعل حتى الآن. قال السياسي البريطاني المخضرم دزرائيلي: الدول الجديدة التي ستحدث يجب أن تكون صغيرة «إلى الحد الذي لا تستطيع العيش من دون مساعدتنا» وأن تكون كبيرة «إلى الحد الذي يسمح لها العيش من دون أن تعتدي على أحد».

كانت سورية في بداية القرن التاسع عشر، تخضع للإمبراطورية العثمانية من خلال أربع ولايات عثمانية، تضم كلًا منها مدينة رئيسية: ولاية دمشق، وتضم شرق الأردن والجزء الشرقي من فلسطين أيضاً؛ وولاية حلب، بما فيها إسكندرون، وولاية طرابلس وعكا (عام 1887 أصبحت القدس مركزاً لسنجق)، وولاية بيروت (كانت ولاية مستقلة).

وقد توحدت هذه الولايات لحقبة قصيرة تحت حكم إبراهيم باشا، حين تم توحيد بلاد الشام ومصر، قبل استعادة السلطة العثمانية المنطقة بدعم أوروبي.

ونتيجة للسياسات الاستعمارية تم تقسيم سورية الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى، تحت عنوان اقتسام تركة «الرجل المريض»، أي الإمبراطورية العثمانية؛ فقد فصل لبنان والأردن وفلسطين عن سورية بموجب اتفاقية «سايكس – بيكو» عام 1916، ثم دشن تصريح (وعد) بلفور عام 1917 عملية (تهويد) فلسطين تمهيداً لإقامة (دولة إسرائيل) عام 1948 كسد منيع يعزل شرق البلاد العربية عن غربها. وبموجب التفاهمات المعقودة بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى توزعت المنطقة وفقاً لرغبات ومصالح تلك الدول بموجب اتفاقية سايكس – بيكو إلى دول خاضعة للنفوذ البريطاني (العراق والأردن وفلسطين) ودول خاضعة للنفوذ الفرنسي (سورية ولبنان).

تخلت فرنسا (الدولة المنتدبة) عن مناطق شاسعة شمال سورية لتركيا (18000 كم²) في إطار تسوية خلافاتها معها، ثم تخلت فرنسا عن إسكندرون ووافقت على ضمه إلى تركيا.

ولا بد لنا من ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن تشكل الدولة السورية في ضوء المستجدات الإقليمية والدولية بعد الحرب العالمية الأولى لم يكن نتيجة لعملية سياسية – اجتماعية – اقتصادية – ثقافية نابعة من الداخل السوري، بل كان، بدرجة محسوسة، نتيجة لسيرورة سياسية ومسار استراتيجي فرضته الظروف المستجدة من خلال المطامع والمصالح الأوروبية، بما تحمله من تكامل اجتماعي وثقافي، في سعيها إلى المركزية السياسية والتوحد القانوني والمساواة والمواطنة وسيادة الشعب، فالدولة الحديثة في أوروبا نشأت بوصفها كياناً ذا استقلال ذاتي نسبياً يتمثل فيه كامل المجتمع (لا فئة منه فحسب).

أما التطور الثاني الذي ساعد على تشكيل الدولة الحديثة في أوروبا، فهو توافر وضع إقليمي ودولي مساعد على إقامة علاقات سياسية واقتصادية متوازنة بين دول تتمتع بسيادتها واستقلالها. بعدما خاضت أوروبا حروباً دينية طاحنة في ما كان يدعى حرب المئة عام ثم حرب الثلاثين عاماً، فقامت الدولة الحديثة على قاعدة «الدولة – الأمة»، فانتهت تلك الحروب إلى عقد اتفاقية «وستفاليا» عام 1648 بين الدول الأوروبية المتصالحة بعد سنين طويلة من الحروب والدمار. وأقامت فيما بينها قواعد التعامل والعلاقات بين الدول الأوروبية التي كانت تشكل الإمبراطورية الرومانية المقدسة.

انبثقت الدول الأوربية الحديثة من سيرورة عضوية تتداخل وتتكامل فيها العوامل الاجتماعية والثقافية. وتقيم في مجتمع الدولة الحديثة علاقات للمساواة والتكافؤ بنيت أساساً على فكرة المواطنة والحقوق والواجبات وفقاً لما بات يسمى «النموذج التابوليوني».

هذا في حين كان الأمر مختلفاً في البلدان العربية، إذ تشكلت الدول القطرية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وفقاً لما أرادته القوى الكبرى عقب الحرب العالمية الأولى، وذلك على مرحلتين:

– المرحلة الأولى: مرحلة معاهدة سيفر (10/8/1920)، التي أرغَمت الدولُ الكبرى بموجبها الحكومةَ العثمانيةَ على توقيع تلك المعاهدة التي كان من بين نصوصها إقامة كيان كردي وآخر أرميني. إلا أن تركيا بزعامة كمال أتاتورك رفضت الانصياع للمعاهدة واستمر أتاتورك بالحرب على مختلف الجبهات، وهو ما أدى إلى انصياع الدول الأوروبية للأمر الواقع والدعوة إلى عقد مؤتمر دولي جديد للنظر في أوضاع المنطقة في ضوء المستجدات؛ فكان مؤتمر لوزان (1922) الذي نجم عنه معاهدة لوزان (1923).

– المرحلة الثانية: معاهدة لوزان ورسم مستقبل المنطقة العربية؛ فقد عقدت هذه المعاهدة تحت وقع الانتصارات التي حققها أتاتورك؛ فبعدما اجتاح جمهورية يرفان السوفياتية وقَّع السوفيات معه اتفاقية كانت إيذاناً لتحالف الاتحاد السوفياتي مع تركيا الكمالية (1921)، تنازل السوفيات بموجبها عن ما يعادل ثلثي أرمينيا التي رسمت معالمها معاهدة سيفر وأدى تحالف الاتحاد السوفياتي مع أتاتورك (بوصفه حركة تحررية) إلى إلغاء مشروع إقامة أرمينيا الكبرى الذي أقرته معاهدة سيفر، كما تم التغاضي عن إقامة الدولة الكردية، وقد حقق أتاتورك انتصاراته بعد إعلانه «حرب التحرير الوطنية عام 1919» في عام واحد، استند فيها إلى دعم واسع من الكرد، وكان لتحالفه مع الثورات السورية (وفي مقدمها ثورة الشمال بقيادة هنانو) أثر كبير في انتصاره، وقد عـبّر عن هذا التحالف بوصفه تحالفًا بين الشعوب ضد الاحتلال الأوروبي، إلا أن الأحداث التالية أثبتت تخلي تركيا الحديثة عن حلفائها تحقيقاً لمصالحها، الأمر الذي قاد إلى مؤتمر لوزان الذي نجم عنه:

– انحلال الدولة العثمانية قانونياً وقيام الدولة القومية المستقلة (الخاضعة لمرحلة انتقالية من خلال ما عرف بنظام الانتداب). وقد أوجدت معاهدة لوزان الأساس القانوني (الشرعي) من منظور القانون الدولي للدول الجديدة، وأنشأت الجمهورية التركية التي قامت على أنقاض مشاريع الكيانات الكردية والأرمينية واليونانية ومناطق النفوذ الغربي التي أنشأتها معاهدة سيفر. وبذلك تحدد التطور الجيوسياسي لنظام الدول في المنطقة العربية. وقد كانت «لوزان» وما نجم عنها تمثل نهاية فصل كامل من «المسألة الشرقية» في تاريخ العلاقات العثمانية – الأوروبية، وكان انهيار الإمبراطورية العثمانية بداية إعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالح القوى الكبرى.

– تشكلت مصالح القوى في منطقتنا العربية انطلاقاً من نظام الامتيازات التي كانت الدولة العثمانية تمنحها للدول الأوروبية وفق تفاهمات خاصة، وهو ما خلق وقائع جديدة على الأرض، فأصبح لكل طائفة دولة ترعاها، فخلقت مصالح تاريخية وآليات تحكم العلاقات الداخلية، وتشكلت بالتالي وقائع جديدة فرضت علاقات جديدة داخل البلد المعني.

في الأساس، نظرت الدول الأوروبية إلى المنطقة العربية كفريسة للأطماع الجيوسياسية العالمية منذ أقدم العصور. ويُعيد جورج قرم ذلك لثلاثة أسباب رئيسية دعاها (عن حق) بالنوائب، وهي: (1) وقوع المنطقة على تقاطع طرق جغرافي مثير للأطماع؛ (2) كونها مهدَ الديانات السماوية الثلاث واحتواؤها الأماكن المقدسة؛ (3) كونها خزانًا للطاقة في العالم.

ونتساءل هنا: هل كان ممكناً أن تترك القوى الكبرى (فرنسا وبريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة) العرب يتحدون في دولة واحدة تمتد من المغرب حتى عُمان ومضيق هرمز، وهو الأمر الذي سعى المشروع العربي النهضوي إليه ورفعت سورية شعاره، فكان بذلك من أسباب التآمر المستمر على سورية لمنع وحدة شعبها وأرضها وإضعافها اقتصادياً والعمل على تفكيك مجتمعها ومنع تنميتها وجعلها رهينة للتخلف ومنعها من تشكيل جيش قوي مسلح ومستعد للدفاع عنها وعن وحدة أراضيها وشعبها.

ومذ استطاع شعب سورية تحقيق الاستقلال، وتم جلاء آخر جندي فرنسي في 17/4/1946، بدأت المشاريع الاستعمارية تطرح على سورية من أجل تثبيت تموضعها في المعسكر الغربي. فدخلت سورية مرحلة جديدة من النضال من أجل المحافظة على استقلالها وسيادتها، وكانت قضية فلسطين في صلب قضايا النضال من أجل الاستقلال والسيادة، إلى جانب تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية؛ فقد كان على شعب سورية أن يحمل قضايا التحرر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما زاد من درجة خشية قوى الاستعمار من زخم الشعارات التي رفعها شعب سورية، والتي كانت تعني توافر شروط إقامة دولة عصرية مدنية ديمقراطية في مواجهة المشروع الصهيوني – الغربي. وقد حمل شعب سورية على مر السنين هذا المشروع الوطني السوري، الأمر الذي خلق حالة نضالية وطنية التقت حولها جميع الشعوب العربية بحثاً عن الأمل في تحقيق المشروع العربي النهضوي الذي يقف عائقاً أمام تحقيق المشروع الصهيوني – الأوروبي – الأمريكي.

وكانت آخر فصول سعي الصهيونية وأوروبا وأمريكا إعاقة تقدم سورية وبقية الدول العربية، وافتعال مشاريع وهمية على أنقاض فشل الدولة القطرية في إقامة كيان وطني قادر على تأسيس الدولة على أسس راسخة من العدل والمساواة والمواطنة الحقة التي تضمن الحقوق السياسية والمدنية، في مواجهة قوى الانحراف والتواطؤ مع القوى الخارجية، لمنع قيام دولة الحقوق والواجبات والمواطنة الحقة، فافتعلت أحداث ما دُعي «الربيع العربي». وفي سورية كانت فرصة لظهور أقسى حالات التوحش والعدوان، وبرزت مشاريع التقسيم من جديد، واستطاعت الفصائل المسلحة خلق وقائع على الأرض في شبه محاولات للتقسيم المدعومة خارجياً.

إن جميع محاولات التقسيم التي ترسم في الخارج ستقف مذهولة أمام إصرار شعب سورية على العيش المشترك ضمن حدود سورية المعترف بها (185000 كم²) يسكنها نحو 30 مليون نسمة، وهذا هو المطلب الحقيقي لشعب سورية.

يرافق هذا الحدث، أو يسبقه مشروع الشرق الأوسط الجديد والمتجدد الذي طرحه نتنياهو. الذي يرى في كل ما يجري مناسبة لإعادة صوغ الواقع الحالي للمنطقة العربية المراد إعادة تصنيعها بحيث تضاف إسرائيل كقوة مهيمنة، بحماية ورعاية الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي.

وهذا ما يُلقي على شعب سورية والشعوب العربية مسؤوليات إضافية، تتعلق لا بالوجود الحالي، وإنما بالمستقبل أيضاً.

كتب ذات صلة:

تدمير سورية وتشريد شعبها من المسؤول؟

الهوامل والشوامل : الحرب وأسئلة الهوية في سورية

مشروع سورية الكبرى: دراسة في أحد مشروعات الوحدة العربية في النصف الأول من القرن العشرين