ملخص

تبحث هذه الدراسة، في حالات من سلوك وهم التفاوض بين المقاومة في غزة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، وما جرّه هذا السلوك من ضغط عسكري، اقترن بسوء معاملة الأسرى، وسياسة التجويع بإغلاق المعابر، ونهب أموال النازحين، وسرقة المصارف وتدمير مقارّها، وتمدد استيطاني أنهى فكرة حل الدولتين، أيدته تصريحات من قيادات سياسية إسرائيلية، وانجرار عربي مطبع، وسلطة فلسطينية تحمي قوات الاحتلال بتنسيق أمني تعتبره مقدسًا.

الكلمات المفتاحية: طوفان الأقصى؛ وهْم التفاوض؛ سياسة التجويع؛ الضغط العسكري؛ تمدد الاستيطان؛ فكرة حل الدولتين.

هدير المعركة ما يزال صاخبًا صوته؛ تتلاطمه أمواج ضربات المقاومة ووحدة ساحتها؛ ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه، ومن ساندهم من قيادات عربية – ارتكست وانتكست للانصياع والإذلال، جعلت نتنياهو يتمادى في غروره بأن لا يرضى إلا بالنصر المطلق، وإن كان يستطيع أن يفعل ما يريد؛ ولكن ليس كل ما يريد؛ فصمود المقاومة وباسلتها غيرت معادلته فكرًا وميدانًا؛ في التخطيط وفي العمليات المركبة النوعية الأمنية والعسكرية، إذ أجهدته وأذهلته بتخطيط، بناء الأنفاق وسرعة تغيير قيادتها…، ففقد صوابه العملياتي بالهجوم عليها من المسافة صفر، ومن كمائن الموت والمسيّرات الانقضاضية، فصار تائهًا في يومه التالي، من منصات صواريخ تطلق من غزة، على الرغم من أن سمائها مراقبة إلكترونيًا، هو يتفوق بمعداته؛ وتتفوق المقاومة عليه بإرادتها الصلبة، يقول نتنياهو في رده على وزير دفاعه يو آف غالانت الذي قال: لا تكون حكومة عسكرية في غزة؛ بقوله: “لست على استعداد لاستبدال حمستان بفتحستان”[1]، ويرد بني غانتس عن مطالب عائلات الأسرى: “إننا أخفقنا في الامتحان ولم نتمكن من إعادة أبنائكم”[2]. وتقول المقاومة في غزة ما بعد حماس هي حماس، ونتنياهو تائه في غيه وهرطقته، يرحل عنه بني غانتس وآيزنكوت فيتفكك مجلس حربه “الكابينت”، وعن هذا التفكك يصرح موشيه يعلون* بأن: “الحكومة الوهمية الفاسدة فقدت شرعيتها”[3] وفي الحلقة الأولى من مسيّرة الهدهد تكشف عورة الإمكان والإمكانات لقوات الاحتلال.

بناء على ذلك المنطلق، فإن اشكالية البحث كانت على النحو الآتي: ما سيرة المفاوضات بين قوات الاحتلال والمقاومة من أجل إيقاف الحرب وتبادل الأسرى؟ وما هي سياسات الضغط العسكري التي استعملتها قوات الاحتلال لإرغام المقاومة بتقديم تنازلات؟ وماهي ردة فعل المقاومة؟ وما انعكاس هذا السلوك على فكرة حل الدولتين؟

تعرقلت المفاوضات في (باريس 1،2) فانعكست انتكاستها بضغط عسكري دمر الحجر والبشر؛ وانتهك حقوق الأسرى المعتقلين في سجون الاحتلال، ومارس الكيان المحتل على سكان القطاع سياسة التجويع إذ لم يتم التهجير، وألحقها بالأحزمة النارية على المربعات السكانية كإبادة جماعية؛ واصل إياها بانقطاع الغذاء والماء والكهرباء والدواء والوقود ومجازر يومية يندى لها كل جبين وضمير إنساني، في ظل حصار قائم على إغلاق المعابر، ونهب أموال النازحين وسرقة أموال المصارف وتدميرها. يقابل هذا الدمار صمود المقاومة وبسالتها، وشعب يحتسب أمره لله، ويقول: غزة أم الولد وبعد المقاومة في غزة المقاومة لأنهم: “شايفين عيالهم دهب وعشان ما يلمع زيادة لازم يدق النار”[4]، في مقابل سلطة فلسطينية تتعاون، وشركاء عرب يجتمعون في البحرين للتنسيق الأمني في اليوم التالي للحرب، وهو ما يعني أن فكرة حل الدولتين وهْمٌ، وصيحة في واد، وتمويه إعلامي، وإلهاء وإيهام للأغيار فريسة الخداع من المطبعين الشركاء، الذي فرطوا وتهاونوا في حقوق الأمة، فتم أكلهم يوم أُكل الثور الأبيض.

وفقًا لتلك المعطيات، فإن هذا البحث يدرس تلك الإشكالية، متجهًا إليها بالوصف والتحليل، من خلال الرصد والمتابعة لما حدث في المفاوضات وتداعياتها في تعميق أزمة الوصول إلى حل تبادل الأسرى وإيقاف الحرب، وانعكاسها على النزوح والتطهير والإبادة لسكان شعب غزة، القائم على المجازر اليومية وتدمير المربعات السكانية بالأحزمة النارية.

أولًا: وهْم التفاوض وسياسة معاملة المعتقلين

ربما كانت المفاوضات من أجل المفاوضات، لمغزى فهم مطالب المقاومة وتسويق التهم بأن المقاومة هي من تعرقل التفاوض، لأن الذي حدث أن الطرفين لم يصلا إلى نقطة مشتركة، وإن كانت المقاومة خفضت من سقف مطالبها، ولكن نتنياهو يضع العصا في العجلة ليعرقل ما يتم التوصل إليه في أغلب الأحيان، على الرغم من أن المبادرة أعدّها الموساد وفق مسار مفاوضات باريس 1، 2 فإلى تفاصيلها.

1- المراوغة والمماطلة في المفاوضات

إن قراءة تفكير المفاوض، ودراسة شخصيته مهمة في العمل التفاوضي، وفهم حرية مساحة دينامية عمله، وقراءة الكلمات وتعديلها، وترحيل بعض الملفات أو تقسيمها إلى مراحل في غاية الأهمية، وإليك محادثات هذه المفاوضات ونتائجها:

أ- مفاوضات باريس1:

انعقدت بتاريخ 28/1/2024، يبدو أنها كانت جس نبض “للإصغاء”، لفهم سقف مطالب الطرفين “عروض افتتاحية”؛ وبداية ارهاصات عملية إنشاء إطار عام لاتفاق “التهدئة والإفراج عن الأسرى بين الطرفين”، إذ سلمت فيها حركة حماس الرد على المقترح بمطالب تتعلق: بوقف إطلاق النار المتعلق بإعادة التمركز “الانسحاب من القطاع”، وإعادة الإعمار “لشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والمستشفيات…”، وعودة النازحين إلى الشمال، وتوفير الإيواء العاجل “المساكن المؤقتة”، وإخراج الجرحى، ورفع الحصار بفتح المعابر.

في سياق الانسحاب تتحدث قوات الاحتلال عن إعادة التموضع فيما تستخدم المقاومة مصطلح  إعادة التمركز، والاحتلال يتحدث عن التموضع بعيدًا عن الأماكن المكتظة بالسكان والمقاومة تستعمل مصطلح الأماكن المأهولة بالسكان، في حين المعابر اقتصرت على إدخال المساعدات وتطالب المقاومة بالإضافة إلى ذلك حرية حركة المسافرين وإخراج الجرحى. أما عن سقف عدد الشاحنات فاقتصر على بند المساعدات الإنسانية وتجاوز كميتها التي طالبت بها المقاومة كحد أدنى هو 500 شاحنة يوميًا، أما عن سقف إدخال الوقود فحدد وفق الاحتياجات المحددة اللازمة، في حين تجنب تحديد استعمال جملة التزام قوات الاحتلال بمسؤوليتها في توفير الماء والكهرباء، وكانت عبارة عودة النازحين إلى شمال القطاع مجزأة ومشروطة ومستثنى فيها الشباب من الذكور والرجال من سن الخدمة العسكرية؛ وتم تحديد العودة بالإعداد والفئات والمناطق، بينما تطالب المقاومة بالعودة غير المشروطة، وتم الخلاف في تحديد عدد إطلاق سراح الأسرى[5]، هذه المماطلة والمراوغة والمد والجزر في رفع المطالب وخفضها ووضعها بما يتناسب مع مقاييس قوات الاحتلال تم ترحيلها للمفاوضات التالية.

ب- مفاوضات باريس2

انعقدت في 23/2/2024، أرسل نتنياهو مستشاره السياسي الخاص أوفير نيتسان لكي لا يتم اجتياز الخطوط الحمراء لـــ”النصر المطلق*” ميدانيًا[6] وفي هذه المفاوضات يصعب الجزم بأن الأطراف وصلوا لنقطة مشتركة في ما يتعلق بالوقف المستدام لإطلاق النار، فالحديث كان يدور عن تجزئة الصفقة إلى مراحل – ومن العجيب أن المفاوضات ليست مباشرة إذ المقاومة يمثلها الوسيط المصري والقطري وهي مكثت في القاهرة، في مقابل انتقال المفاوض الإسرائيلي والأمريكي إلى باريس الي جانب الوسيط المصري والقطري “مفاوضين ووسيطين”، وعلى الرغم من تقسيمها لمراحل؛ إلا أن الخلاف فيها قائم على مستويات ثلاثة: المستوى الإنساني الخلاف قائم في عملية زيادة المساعدات الإنسانية، وفي المستوى السياسي تعلق الخلاف في مدة وقف إطلاق النار “دائم أم مؤقت”، أما عن المستوى القانوني فكان بخصوص عدد الأسرى المفرج عنهم “التجزئة بين المدني والعسكري أم الكل مقابل الكل”[7]. هذه المستويات الثلاثة مرتبطة ببعضها فأي مستوى منها هو جزء من كل، ويعرقل هذه المستويات مطالب نتنياهو بمصطلح اليوم التالي، والنصر المطلق، ومن يحكم القطاع بعد حماس، يبدو أنه بعد الاصغاء لمطالب الطرفين في باريس 1، كانت المفاوضات في باريس 2 قائمة على تأزيم الأزمة وتسخينها من أجل إيجاد حل لها بإرهاق المقاومة واستنزاف جهدها بتسخين الحوار بالضغط العسكري والتجويع والحصار من أجل مزيد من التنازلات؛ لكن المقاومة لم تفقد التوازن في “الفكر والميدان” فكانت نتائج التفاوض شراء الوقت وبيع الوهم وخلط الملح بالسكر.

وتجدر الإشارة إلى أنه بعد استلام حماس مسودة اتفاقية إطار باريس2، يقول نتنياهو: “لن نخرج قواتنا من غزة ولن نفرج عن آلاف الفلسطينيين”[8]، ويرد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة: “لن ننخرط في أية تفاهمات دون أن نضمن وقفًا شاملًا لإطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال…”[9]. أما عن رد الناطق باسم سرايا القدس أبو حمزة فيقول: “لو فتش الاحتلال رمال غزة، لن يعود أسراه إلا بقرار من المقاومة”[10]، وفي تصريح للقيادي في حركة حماس أسامة حمدان قال: “لا يمكن قبول أي حل لا يوقف العدوان ويؤدي لرفع الحصار … ولن نسمح أن يكون مسار المفاوضات مفتوحًا بلا أفق”[11]، وبعد فشل المفاوضات في سد الثغرات وتقديم الضمانات، يقول رئيس المعارضة يائير لابيد إذا لم يعد المختطفون فإن إسرائيل تكون قد خانت مواطنيها وهذا يجب أن لا يحدث” [12] تلاه في التصريحات إيهود باراك الذي قال: “عدم تحرير الرهائن وصمة عار جماعية للقيادة الإسرائيلية، ووصمة عار للمجتمع وأجيال إسرائيل”[13]، والخلاصة في هذا المقام، الكيان المحتل يراوغ، والمقاومة متمسكة بالثوابت، لأن الميدان والمفاوضات خطان متوازيان كما قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية[14].

2- معاملة المعتقلين

صادق الكيان المحتل على قرار يمنع المعتقلين وأسرى السجون من غزة من لقاء المحامي لمدة أربعة أشهر[15]، ومن الأساليب الوحشية في إذلال المدنيين من قبل جيش الاحتلال في مظهر من مظاهر إعادة فضائح غوانتنامو جديدة كما وصفها المرصد المتوسطي لحقوق الإنسان، تجريد المدنيين من الملابس والضرب والسحل والركل بالأقدام، وتدوين أرقام على الأيدي عند القبض، وتكديس الأسرى على ظهور الشاحنات[16]، إضافة إلي سياسة التجويع كعقاب جماعي، وتدمير المستشفيات والمراكز الصحية وبيوت العبادة، ومنع المرضى والجرحى من العلاج في الخارج ودخول الأدوية والمستلزمات الطبية للقطاع، وأشارت هيئة شؤون الأسرى والمحررين التابعة لمنظمة التحرير ونادي الأسير إن المعتقلين من المنازل أو عبر الحواجز العسكرية، أو من اضطروا لتسليم أنفسهم ممن احتجزوا كرهائن تعرضوا للضرب المبرح وتخريب منازلهم وسرقة سياراتهم وأموالهم، وذكر المختص في شؤون الاسرى حسن عبد ربه: “إن أكثر من 30 بالمئة من الأسرى معتقلون إداريون بلا قرينة اتهام، وهذا هو منتهى الظلم والعنصرية”[17]، ويذكر رئيس هيئة شؤون الأسرى – فارس قدورة إن الأسرى يعانون الاختناق جراء التزاحم “الاكتظاظ” الشديد داخل الغرف” أكثر من 10 أسرى في كل غرفة” أي زيادة 4 أشخاص في كل غرفة عن المعتاد، وجراء هذا الاكتظاظ هناك مخاوف من انتشار الأمراض في أوساطهم “مرض الجرب، والقمل…”، ويستطرد لا نعرف شيئًا عن العديد من أسرى قطاع غزة الذين استشهدوا، والكيان يرفض التعاون مع المؤسسات الإنسانية الدولية في ما يتعلق بمصير آلاف المعتقلين من القطاع، وهناك أسرى مصابون في كل السجون بكسور وجروح جراء الاعتداءات، وتجرى لهم عمليات دون تخدير… فقوات الاحتلال تمارس الإهمال الطبي المتعمد[18].

ثانيًا: سياسة التجويع كإحدى أدوات الضغط العسكري

سلاح التجويع هو أحد أسلحة قوات الاحتلال الذي يعزز خططه الرامية إلي الضغط على السكان المحليين في القطاع لتهجيرهم أو إيذائهم وقتلهم. وقد صرح أكثر من مسؤول بهذا الأمر ومنهم: يو آف غالانت وزير الدفاع الذي طالب بحصار كامل لقطاع غزة وقال “لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق” مستطردًا “نحن نحارب حيوانات بشرية”[19]، وكذلك إيتمار بن غفير الذي طالب أيضًا بمنع إدخال المساعدات إلى غزة[20].

وفي هذا الصدد اتهمت منظمة أوكسفام قوات الاحتلال بعرقلة تأخر دخول المساعدات الإنسانية من خلال العمل ببرتوكول تفتيش المساعدات الذي يؤخر دخول المساعدات لمدة عشرين يومً في المتوسط، رغم أنها مسؤولة كقوة احتلال عن حماية المدنيين[21] هذه الأفعال جعلت سكان غزة يلجؤون إلى استخدام العلف الحيواني كبديل للدقيق للتمكن من الحصول على الخبز[22]، فهم بين المطرقة والسندان، إذا بقوا في البيوت ماتوا جوعًا، وإذا غادروها بحثًا عن الطعام واجهتهم قناصة قوات الاحتلال، وهذا ما حدث بالفعل إذ صار الحديث عن سلسلة من المجازر منها: مجزرة الطحين ومجزرة المظلات “صناديق المساعدات” التي سقطت ولم تفتح، وراح ضحيتها خمسة قتلى وعدد من الجرحى جراء سقوطها من الجو على نازحين[23]، على الرغم من أن الغزاويين اعتبروها سلوكًا غير إنساني في ظل وجود المعابر، مقابل تنديد عالمي بمجزرة قافلة المطبخ المركزي العالمي، التي قتل فيها سبعة من عمال المنظمة من دول “غربية”*، على الرغم من التنسيق مع قوات الاحتلال بإحداثياتها، وأنها تضع علامات على سقوف السيارات[24]، جراء هذا الفعل قررت تنحية قائد لواء ناحال وتوبيخ قائد المنطقة الجنوبية وضباط كبار آخرين[25]، ومن سياسات التجويع.

1- إغلاق المعابر وإنشاء رصيف بحري

وبتمهيد لسياسات التجويع كضغط عسكري، أغلقت قوات الاحتلال معبر رفح البري مع مصر، وكرم أبو سالم في جنوب القطاع، ومعبر إيريز في الشمال، ثم منعت دخول المساعدات، وبنقص الأدوية تفشت الأوبئة والأمراض، وبسلسلة المجازر والأحزمة النارية انجز التطهير والإبادة، وبها تحقق ثالوث مثلث الموت “منع الغذاء ونقص الأدوية والمجازر اليومية”. جراء هذا الإغلاق أنشئ رصيف بحري عائم قبال شواطئ غزة بهدف تسهيل وصول المساعدات بسبب قفل المعابر، والعجيب أن منطقة إنزال المساعدات تخضع لسيطرة قوات الاحتلال؛ تليها المنطقة التي تنقل إليها المساعدات؛ ثم منطقة التسليم الخاضعة لإشراف منظمات أممية. ويتصور بعض المراقبين – إن الغاية من هذا الرصيف ليس لأغراض إنسانية بل هو نقطة عسكرية أمريكية إسرائيلية بالقرب من منطقة شارع الرشيد غرب مدينة غزة[26]، وتفيد تقارير للأمم المتحدة والبنك الدولي أن نحو مليون شخص في غزة باتوا بدون مأوى؛ و75 بالمئة من السكان مشردون، وغالبيتهم يعانون انعدام الأمن الغذائي وسوء تغذية[27]. وفي هذا السياق ذكرت منظمة اليونيسيف للطفولة أنه يعاني طفل واحد من كل ثلاثة أطفال دون سن الثانية من سوء التغذية الحاد “فقر غذائي” في شمال غزة[28]. ولمنع تواصل الغزاويين مع الخارج أحرقت قوة الاحتلال مبنى المغادرة في معبر رفح ومنشآت أخرى[29].

2- جرائم سرقة أموال المصارف وتدمير مقارّها

ومن سياسات النهب والتجويع نشرت صحيفة لوموند الفرنسية تقريرًا أفاد بسرقة 70 مليون دولار من خزنات عدة فروع لبنك فلسطين؛ بعد أن طال التدمير الكامل والجزئي لمعظم فروع المصارف[30]، كما أن السرقات اتسعت لتشمل سرقة أموال وذهب من مدنيين بقيمة 90 مليون شيكل من قطاع غزة، من قبل جنود قوات الاحتلال عن طريق حاجز صلاح الدين؛ ومن نازحي شمال وادي غزة نحو الجنوب إذ تم سرقة حقائبهم والسطو على منازلهم[31] بذريعة محاربة الإرهاب، على الرغم من أن القانون الدولي ينص على توفير الحماية للمدنيين الواقعين تحت الاحتلال وحماية ارواحهم وممتلكاتهم إذ لم يشاركوا في العمليات العسكرية.

ثالثًا: التوسع الاستيطاني ينهي فكرة حل الدولتين

الغاية من إعادة تقديم فكرة حل الدولتين؛ هو تجديد الوعد ببيع الوهم وشراء الوقت، يتكرر هذا عن طريق فتح باب التطبيع مع السعودية ودول عربية أخرى، إذ صرح ترامب بأنه: “بدون السعودية “لماذا السعودية؟*“، ستكون إسرائيل في مأزق كبير”[32]، ماذا يعني هذا هل على “إسرائيل” أن ترحل لو لم تطبع مع السعودية؟، يرد بايدن أحد أسباب ما فعلته حماس هو أننا كنا على وشك التطبيع مع السعودية، واشراك ستة دول عربية أخرى[33]،إذا كان التعاون تحت الطاولة، فهم يردونه فوق الطاولة وعلنًا، ربما كشف معالم هذه الحقيقة يفند وجود فكرة حل الدولتين ويعتبرها تضليلًا وإلهاءً وإيهامًا ووهمًا، وهذا الوهم لم يكتمل بكيف ومتى، وحتى أين بسبب التمدد الاستيطاني، إذ تسعى قوات الاحتلال وسندها الأمريكي بالتمويه واللعب على السراب في الدعوة لإقامة كيان فلسطيني هزيل مجرد من السلاح كما يتصور بايدن عن طريق إعادة إنتاج سلطة فلسطينية جديدة أو اصلاح نفسها[34]، وموقف قيادات قوات الاحتلال من فكرة حل الدولتين والتوسع الاستيطاني هي على النحو الآتي:

1- تصورات قيادات قوات الاحتلال لفكرة حل الدولتين

التصورات الصهيونية في عدم السماح بإقامة دولة فلسطينية انحصرت بين قوى اليمين ويمين اليمين، فلن يسمح أبدًا بإقامة دولة فلسطينية وزير الثقافة والرياضة ميكي زوهار، بينما يعارض إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي ذكر مصطلح الدولة الفلسطينية ونكر وجودها، أما بتسلئيل سموتريتش وزير المالية فينصح البيت الأبيض بأن: “يتحرر من وهْم المفاهيم التي أدت إلى الكارثة الوطنية في إسرائيل”[35]، في حين يصرح وزير الخارجية يسرائيل كاتس “إن إقامة دولة فلسطينية مكافأة للإرهاب وخطر على دولة إسرائيل وسيشجع على قتل اليهود”، ولن تكون دولة فلسطينية نقلًا عن صحيفة إسرائيل اليوم عن نسيم فاتوري نائب رئيس الكنيست، وتعلن وزيرة التربية يفعات شاشا بيتون “أنه لن تكون سلطة فلسطينية في غزة”[36] أما زعيمهم نتنياهو فيرفض دولة فلسطينية، أو يسلم الأمن في غزة بعد الحرب لحمستان أو فتحستان ويقول: “إصراري هو منع قيام دولة فلسطينية لسنوات طويلة، وسأواصل التمسك به بحزم طالما بقيت رئيسًا للوزراء”[37]، ويعتبر أن الوقت غير مناسب لتوزيع الهدايا[38]. فلا جديد تحت الشمس لديه لأفق القضية الفلسطينية، فعن ماذا يتحدث السند والأصيل الأمريكي والحلفاء والشركاء في نطاق حل الدولتين، إنما هي مراوغة أمريكية لتسويق تمدد وتوسع قوات الاحتلال بالتطبيع مع دول الجوار كتكتيك اقليمي وجبر الردع، في حين قوات الاحتلال تكمل دورها الاستراتيجي السيادي الداخلي بالاستيطان في ما تبقى من الضفة والقدس.

2- التعاون الأمني بين السلطة “الفلسطينية وقوات الاحتلال

في ظل وجود سلطة فلسطينية تأكلت وترهلت من التنسيق الأمني، ويجب أن يكون دورها: القدرة على إدانة أفعال المقاومة وأعمالها بشكل صريح، وألّا يفسر عدم القدرة على أنه دعم لتلك الأعمال، ومن ضمن تماهي واستجابة “السلطة الفلسطينية” مع متطلبات القدرة على التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، وإضعاف الجبهة الداخلية للمقاومة، هو محاولة اختطاف أجهزة “السلطة الفلسطينية” القيادي قيس السعدي من جنين، وإطلاق النار عليه وإصابته بجروح[39]، بل قامت السلطة بتعيين رئيس حكومة جديد، رجل الأعمال محمد مصطفى؛ دون استشارة حماس وفصائل المقاومة ما اعتبرته حماس تصعيدًا بالتهميش وقرارًا فرديًا يعزز الانقسام، على الرغم من وجود اجتماع سابق بينهما لإنهاء الانقسام في موسكو، وردت حركة فتح على حماس في بيان بقولها: “من تسبب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبب في وقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصًا في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية… متسائلة: هل شاورت حماس أحدًا عندما اتخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر”[40]، كما أن ماجد فرج مدير مخابرات السلطة، يعمل على تجنيد العشائر في جنوب قطاع غزة لإنشاء قوة مسلحة، “استنساخ نموذج الصحوات في العراق”، واعتبر يائير لابيد أن فرج “من أكثر الشخصيات التي عملت معنا ضد حماس”[41]، ربما نتساءل هل التنسيق الأمني يعزز بناء دولة فلسطينية، في ظل التمدد والتوسع الاستيطاني؟ وإن كانت العشائر جبرت هذا الإذلال والتنسيق، برفضها العبث بصف الوحدة الوطنية في قطاع غزة[42].

3- تماهي بعض القيادات العربية مع تصورات قيادات الاحتلال

في مؤتمر ميونيخ للأمن المنعقد بتاريخ 17/2/2024، صرح وزير الخارجية المصري سامح شكري، في جلسة حوارية بعنوان “نحو الاستقرار والسلم في الشرق الأوسط”؛ ردًا على سؤال تسيبي ليفني وزيرة الكيان المحتل السابقة التي وصفت الحركة بأنها “جزء من المشكلة وليس الحل”، وبخصوص الإجماع الفلسطيني حولها، رد الوزير على السؤال في توقيت بالغ الحساسية للحرب بقوله: “استحالة السلام في ظل وجود حماس، وحركة حماس من خارج الأغلبية المقبولة للشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، وطالب بمحاسبة تمكين حماس في غزة وعملية تمويلها[43]، يتبادر إلى الذهن سؤال “من مع من؟”، فأين جامعة الدول العربية الآن، ولمن استعراضات الجيوش العربية، يبدو أن دور هذه الجيوش انكشف في الاجتماع العسكري الأمني في البحرين بخصوص اليوم التالي للحرب، بشأن تأمين القطاع بإرسال قوات عسكرية عربية بعد انتهاء الحرب[44] وأبدت القاهرة المشاركة في قوة عربية تحت مظلة الأمم المتحدة، شريطة انسحاب كامل لقوات الاحتلال[45]، كما يتبادر إلى الذهن سؤال آخر، لماذا اختفت الصحوات والمتدينون من الفرق والحركات الإسلاموية في حرب غزة…؟ وتلاشت فتاوي الجهاد التي صدعت رؤوسنا في أفغانستان والشيشان والبوسنة …، يرد الغزاويون عن تلك التساؤلات: “إذا كنا ما نحب المقاومة صرنا انحبها، وإذا كنا نحبها فاليوم نعشقها”، لقد كشفت مقاومة استقلال وحدة الساحات الانخفاض للمطبعين والرفعة لقوى المقاومة، ومن يأكل مع الذئب ويبكي على الراعي، ومن يفصل له الأمريكي والصهيوني ويلبس؟ إنها مقاومة أوضحت أوهام حل الدولتين، وهشاشة وتبعية “السلطة الفلسطينية”، وعوار تدريبات الجيوش “العربية”، وأكذوبة عالمية حقوق الإنسان.

4- تهجير السكان وتوسيع بؤر الاستيطان

إقامة 9 بؤر استيطانية جديدة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من حرب الطوفان في الضفة الغربية من المنطقة “ج”، إضافة إلى 18 طريق غير قانوني[46] وبتاريخ 22/3/2024، أعلنت قوات الاحتلال مصادرة 8 آلاف دونم اضافية من غور الأردن بالضفة الغربية؛ لإقامة مئات من الوحدات السكنية والصناعية والتجارية، واعتبرتها أراضي دولة يحق لها الاستيطان فيها[47]. ويذكر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، أن قوات الاحتلال تخطط لبناء نحو 3500 وحدة سكنية في معاليه أدوميم وكيدار، ويستطرد بأن الاستيطان توسع من الفترة 1/11/2022 إلى 31/10/2023 ببناء 24300 وحدة سكنية داخل مستوطنات الضفة الغربية، معتبرًا أن هذا التوسع والسيطرة غير مسبوق، وهو يسير نحو تهجير الفلسطينيين عبر عنف المستوطنين[48] أو ما يسمون أنفسهم بـ “شباب التلال”، ويهدد عمليًا من اقامة دولة فلسطينية، وذكرت حركة الآن الإسرائيلية للسلام أن الحكومة تخصص 20 مليون دولار “75 مليون شيكل” لدعم تأمين المستوطنات في الضفة[49]، وإن كان سبقتها خطة سابقة لمضاعفة عدد المستوطنين في غور الأردن[50]. بل إن الاحتلال هدد بتعطيش الأردن ومنع المياه عنه في 17/11/2023 حينما أعلن أيمن الصفدي وزير الخارجية الأردني عدم التوقيع على اتفاقية لتبادل الطاقة بالمياه مع دولة الاحتلال، احتجاجًا على حرب غزة، رد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت: “إذا كنتم تريدون أن تموتوا من العطش فهذا خياركم”[51].

ويرد هارون هاشم رشيد

سنرجع يومًا إلى حيّنا    ونغرق في دافئات المنى

سنرجع مهما يمر الزمان         وتنأى المسافات ما بيننا

كتب ذات صلة:

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة