بدأ المسرحيُّ الكبير روجيه عسّاف نشاطه المسرحي في وقت مبكر. كان عمره لا يتجاوز الثانية عشرة حينما صعد إلى الخشبة أوائل الخمسينيات وأدى دور ولد في إحدى المسرحيات التي كان يقودها هنري خياط الذي مات على الخشبة في مسرح فينيسيا.

التحق روجيه عسّاف بالمعهد العالي للفن المسرحي في فرنسا، وتفاعل مع المدارس المسرحية المهمة، وخصوصاً الأوروبية منها. ولم يكن هذا مستغرباً إذ كانت بداياته ممثلاً باللغة الفرنسية.

وعلى امتداد تجربته المسرحية الواسعة كان من بين الأعضاء المؤسسين للمركز الجامعي للدراسات المسرحية، وبعد ذلك انتقل إلى المشاركة في إنشاء «محترف بيروت للمسرح»، كما أسس أثناء الحرب اللبنانية «مسرح الحكواتي» الذي أدى دوراً مهماً في إطلاق حركة مسرحية مرتبطة عضوياً باللغة والقضايا الشعبية والسياسية المباشرة.

من خصائص لعبته المسرحية، نقلها إلى القرى والأرياف بهدف إشراك الناس العاديين في عمله، وإيجاد علاقة حيوية وعضوية عميقة بين الإنسان العادي والنص حركةً ومضموناً وأداءً. أي مشاركة الإنسان في صوغ النص وتأديته مسرحياً. وبهذا كانت له تجربته الخاصة والاستثنائية في تاريخ المسرح اللبناني الحديث والمعاصر.

كأنه كان يعرف ماذا يريد بالضبط وطرق الوصول إلى تحقيقه وإنجازه. لهذا وضع كل إمكاناته وتقنياته في خدمة المسرح الذي نشده.

وفي هذا السياق لا يمكن إهمال الأسئلة المتجاوزة التي طرحها في مسرحه وحول المسرح. فقد كان في أعماله كلها يراهن على لغة مسرحية جديدة تتجاوز اللغة المسرحية التي عاشها المسرح اللبناني حينذاك، والتي كانت مقصِّرة إلى حدٍ بعيد في تلبية حاجات التعبير الشعبي الواضح.

روجيه عسّاف مسرحيٌّ قلق، لا يمكن إلّا أن يتابعه المثقفون والمتذوقون والعاديّون على حدٍ سواء. وانطلاقاً من هذا الواقع كان همّه الأساسي إيجاد لغة مسرحية تتجاوز المسرح المحلّي والمحدد بضوابط معروفة في المسرح الكلاسيكي اللبناني أو العربي.

وفي حين كان المسرح اللبناني عموماً يراوح في صيغته التقليدية؛ كان همه الانخراط في لعبة تتجاوز مسارح الدراما والتراجيديا والفكاهة التي اعتادها الجمهور، فكان أن تميّز بالقبض على المعاني الجديدة والرؤى المتحفزة، وخصوصاً أنه التحم بعمق بالقضايا الشعبية، وقضايا التحرر وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

كانت مسرحية «مجدلون» قفزة نوعية في تاريخ المسرح اللبناني، كما كانت مسرحياته الأخرى كـ «أيام الخيام» و«بوابة فاطمة» وغيرهما.

صحيح أن روجيه عسّاف كان جزءاً من الطفرة المسرحية التي عرفها لبنان في الستينيات والسبعينيات، لكنه ذهب بعيداً في تجربة خاصة نقلت المسرح اللبناني من محاكاة المسرح الغربي إلى حيّز جديد أكثر ارتباطاً بالإنسان اللبناني والعربي شكلاً ومضموناً، تاركاً الإخراج عملية مفتوحة، وتاركاً للممثل حرية التعبير ضمن إمكانات الواقع… هذه التجربة استمرت حتى تأسيسه مسرح «دوار الشمس» الذي يضيف ويستكمل.

هنا مقابلة معه أجرتها مجلة المستقبل العربي.

منذ بداية ستينيات القرن العشرين قمت بتمثيل دور سنيور بانتالوني في مسرحية «أركان خادم السيدين» للمسرحي الإيطالي غولدوني، وكذلك مثلت في مسرحيتين هما مسرحية «الكراسي» ليونسكو من إخراج آن ماري ديهاي، ومسرحية «القاضي زلاميا» (Alcade de Zalamea) للإسباني كالديرون ومن ثم في مسرحية «زيارة السيدة العجوز» لدورنمات. لكنك انتقلت بعد ذلك إلى إخراج مسرحية «هنري الرابع». فكيف انتقلت إلى التمثيل والإخراج في آن واحد، وما الذي جذبك في هذا العمل؟

في هذه المسرحية يلجأ البطل إلى التمثيل ليجيب عن لغز الحياة عبر تمثيل الجنون. دوري كممثل كان أهم ما قمت به. أما عملي المسرحي فقد حاول في هذه المسرحية كسر النص واللعبة المسرحية.

كان نوعاً من الذهاب إلى نهاية الطريق لاكتشاف البعد التمثيلي المستحيل. وفي هذه التجربة انتهت علاقتي بالتمثيل التقليدي، أي المقتنع بنفسه ومجاله كهدف، إذ صار التمثيل عملية تقنية خاضعة لأمور أهم.

بعيداً من دورك كممثل، هل تحدّد بوضوح دورك كمخرج؟

لم أكن في هذا العمل مخرجاً إلا كمنظمٍ للعرض المسرحي. لقد وجدت أن الإخراج المسرحي هو الذي يفتح مجالاً للمعاني. الإخراج في رأيي آنذاك نظر إلى العملية التمثيلية كساحة حرة بلا قيود. من هنا بدأت مسرحية «هنري الرابع» كمسرحية في الصالة، واعتبرت الخشبة هي حيِّز اللعب. أي حيِّز «هنري الرابع».

يعتقد كثيرون أن روجيه عسّاف لم يتعامل مع المسرح تعاملاً تقنياً حيادياً؛ ففي الوقت الذي بلغ فيه ذروة موهبته كممثل تخلى عن التمثيل ذاهباً إلى الإخراج؟

لم أتدخل في خيارات الممثلين، فالممثل له الحرية في أن يعيش الدور من الداخل أولاً، وبقدر ما تسمح به المسرحية. لكنني كمخرج لا أحرِّض الممثل في هذا الاتجاه، بل أحرِّضه لاكتشاف عناصر أخرى.

هل العناصر الأخرى أخلاقية أم فكرية أم سياسية؟

ليس بالضرورة أن تكون كذلك، بل المهم أن تكون اللعبة المسرحية متصلة بعمق بالحركة الإجمالية والأدوات والجمهور. أي التناغم مع هذه العناصر كلها، ومع لذة الابتكار.

في أواسط الستينيات قدّمت مسرحية «السيد» لبيار كورناي، فهل كان هناك من إضافة على ما قدمته في «هنري الرابع»؟

الإخراج لغة خاصة وقراءة خاصة للنص. أي أن المخرج يقدم نصاً آخر غير النص الذي يلقيه الممثلون. وهو يملك الحرية في تقديم تأويل جديد للمسرحية. أي أن تقول ما لم يخطِر لمؤلفها قوله، بل ما لم يكن ظاهراً ولا متداولاً أو متفقاً عليه.

جرى تعاون بينك وبين الكاتب المسرحي غابرييل بستاني. فقد أخرجت عدداً من أعماله باللغة الفرنسية قُدمت على مسرح بيروت، ومنها «معتقل تانغو»، و«الجندب المهاجر» وغيرهما. ماذا أضفت في أعمالك هذه إلى تجربتك السابقة؟

تجربة تقدمّت كثيراً، ولها موقعها في سياق أعمالي المسرحية ككل.

في هذه المرحلة، وفي سياق نشاطك المسرحي تعرفت إلى الطيب الصديقي، المسرحي المغربي الطليعي. وقد شجعك على الانتقال إلى المسرح باللغة العربية. وفي السياق نفسه يسجل الكثيرون للشاعر اللبناني أنسي الحاج تشجيعه لك للانتقال إلى المسرح باللغة العربية. إلى أي حد أثر هذان التشجيعان في انتقالك إلى المسرح باللغة العربية؟

ما ذكرته صحيح. لكن هناك عوامل كثيرة لا مجال لذكرها أدت إلى الانتقال. وقد تحولت إلى المسرح العربي من خلال تقديمي مسرحية «الآنسة جولي» لسترندبرغ.

لماذا تميز هذا الانتقال؟

لقد كسرت هذه المسرحية الصيغة التقليدية، وكانت مدخلاً على العمل المسرحي الجماعي، والمسرح السياسي.

في نهاية الستينيات كانت لك تجربتك في محترف «بيروت للمسرح»، فماذا كان جديدك؟

في هذا المحترف كنت أحمل تجربة طويلة في التمثيل والإخراج نقلتها إليه. الأسئلة كانت تُطرح أمامي بازدياد ونهجي كان الارتماء الكلي جسدياً وروحياً في التجريب والاختبار.

تقول المسرحية الرائدة نضال الأشقر عنك: روجيه عسّاف منهجي، تقني، يبحث للأشياء عن قواعد وأصول؛ لديه حس التوقيت، أي الإيقاع؛ حسه اللغوي عجيب. كان يصحح للجميع على الرغم من أنه لم يكن يجيد العربية. يعرف أين يجب أن تقع العبارة، كما أنه بارع في تقطيع النصوص. ينظم البنية. روجيه ذوّاق موسيقي؛ مولع بالموسيقى وبارع في استخدامها في المسرح. إنه رجل مسرح متكامل.

شهادة كبيرة أعتز بها. عملنا معاً وكانت رائدة.

كانت مسرحية «مجدلون» مدخلاً إلى معالجة مسرحية مغايرة لقضايا كثيرة شغلت العرب ولا تزال. كيف انتقلت إلى مسرح القضايا العربية؟

موضوع فلسطين والفدائيين اختارته نضال الأشقر. لم أكن أعرف الكثير عن الفدائيين وفلسطين. ذهبت إلى الأردن وزرت المخيمات الفلسطينية لأنني لم أكن أكتفي بالمعرفة النظرية بعيداً من التجربة. ذهبت إلى منطقة العرقوب في جنوب لبنان وإلى الشريط الحدودي. درست خارطة الجنوب اللبناني. هذه التجربة بكل تفاصيلها هي التي قادت خطاي. وفي هذا لم أتعرّف إلى الموضوع والقضية الفلسطينية فحسب، بل تعرفت كذلك إلى نفسي. كنت أرى المسرح مسؤولية ومعرفة. لا أعالج موضوعاً في المسرح من دون أن أضع نفسي فيه، ليس فكرياً فحسب، بل جسدياً أيضاً. وهذا ما فعلته.

كيف تعرّفت إلى الإسلام؟

لم أتعرف إلى الإسلام في الكتب، بل من خلال التعايش في الأحياء الشعبية، واكتشفت أن هؤلاء الناس الذين أرى صورتي بينهم، هم مسلمون.

نعود قليلاً إلى «مجدلون» كونها مسرحية حرّكت الشارع اللبناني وأربكت السلطة في لبنان، كما حركت الشارع العربي، لأن السلطة منعتها بعد أيام قليلة على عرضها. لماذا كانت المسرحية ولماذا كان المنع؟

لقد علمنا: نضال الأشقر وأنا؛ أن المسرحية ستوقف بالقوة، فدعونا الصحافة لتكون شاهداً، وحتى لا يتم وقفها بصمت. وصلت قوى الأمن إلى مسرح بيروت وأبلغ المسرحيون بوقف العرض. لكن الممثلين صعدوا إلى الخشبة وبدأوا تقديم العمل. إلا أن رجال الأمن صعدوا إلى الخشبة وطلبوا من الممثلين التوقف عن التمثيل، فنزل الممثلون عن الخشبة وواصلوا العرض في الصالة. انتقلت مجدلون إلى الشارع وقدمها الممثلون بحرارة وحماسة مؤكدة نفسها كمسرحية سياسية وصرخة، إذ طرحت للمناقشة في أنحاء العاصمة ولبنان قضايا الحرية والتعبير، قضايا المقاومة والنظام الطائفي وفساد الحكم ومسؤولية المواطن.

ماذا قدمَت تجربتك في «محترف بيروت للمسرح»؟

قبل عام 1967 كنت خارج القضية تماماً. مع الهزيمة تضايقت من دون أن أفهم السبب. اهتماماتي كانت بلا ركيزة فكرية، الغربة نبّهتني إلى عروبتي. حين كنت أدرس في فرنسا أحسست لأول مرة معنى كوني عربياً. اللقاء بنضال الأشقر جاء في الوقت المناسب. شدَّني مباشرة إلى أرض البحث والتفاعل مع الجمهور الحقيقي. تجربة المحترَف كانت مبنية على قناعة مكتسبة، وهي أن المسرح الذي كنا نمارسه من قبل منقطع عن الجمهور ولا يقيم تواصلاً معه، على الأقل بسبب النصوص المعتمدة من ثقافات وتجارب مختلفة.

هل تذكر ملامح عامة لتجربتك في المحترف؟

أول خصيصة في عمل المحترف كانت قرارنا بأن تكون النصوص مرتبطة بعملية الإعداد، وأنه لا نص خارج الممارسة المسرحية. لكن عملية الإبداع في المحترف كانت محصورة داخل حدود العمل المسرحي. أي كنا في علاقتنا بالجمهور مؤهلين فقط لابتكار النص المسرحي. وطبعاً كانت تجربة المحترف غنية جداً، تعلمنا فيها صحة علاقة الممثل بالنص والإخراج واللغة المسرحية ككل مترابط.

إذا أردنا التوقف عند تجربتك في «محترف بيروت للمسرح»، فهل تحدّد العلامات الأساسية لهذه التجربة كونها شكلت تحوّلاً في مسار نمو الحركة المسرحية لبنانياً وعربياً؟

كان «محترف بيروت للمسرح» مسرح إبداع، لا يستند إلى نص مسبق. كان يرغب في التخلص من كل فكرة مسبقة في سبيل البحث عن جذور جديدة محتملة، عبر مسيرة أصيلة، كل خطوة فيها تستدعيها الخطوة السابقة.

من قاد هذا المسار؟

قاده أقطاب المحترف، وكانت حصيلة ثماني مسرحيات في خمس سنوات.

فلنعد إلى تحديد ملامح الرؤية الشاملة لهذه التجربة.

تحرَّكَ مسرح المحترف باتجاه الانتقال من التعبير الشعبي إلى النقد السياسي، ومن التندر والسخرية إلى محاولات التحليل، كذلك من إعادة النظر في الخلق المسرحي إلى إعادة النظر في الإنتاج المسرحي.

ولم يمر وقت طويل حتى تبلورت هوية المحترف وتميز بتحقيق عروض دينامية تحفِّز التعبير الجماعي وتتجاوب مع الشواغل والهواجس السياسية.

هل تحدد بعض مرتكزات هذه التجربة؟

اعتماد المحكية كأساس في بعض الأعمال، وأسبقية البحث الفكري على البحث الشكلي. هذا الخيار يرفض النصوص الموضوعة مسبقاً، ويرفض التحول إلى مسرح مستورد، كما يرتبط بضرورة الإصغاء لحساسيتنا، والانطلاق من مستوى إمكاناتنا الإبداعية. وفي هذه الحالة يصبح الشاغل المستمر هو سؤال «ماذا نقول» وليس سؤال «كيف نقول». واستناداً إلى هذا الخيار أصبح تنفيذ العمل المسرحي (أو ما يسمى الإخراج) قائماً على لعبة موجهة للابتكار، في حدود المعطيات المادية والتقنية والمالية والمكانية، وكذلك على تحريض المخزونات والمنابع الإبداعية لدى ممثلين غير محترفين، عبر مطالبتهم بالمشاركة في التأليف بدلاً من الاقتصار على التمثيل. ذلك بأن الرغبة في إقامة مسرح ينتمي إلى الجمهور تتضمن حكماً القرار بأن الممثل والمؤلف أو المسرحي ينتميان إلى هذا الجمهور نفسه.

أوقفت سنة 1972 عملك في محترف بيروت للمسرح فإلى أين اتجهت؟

مضيت إلى الالتحام بالجمهور، وأمضيت أربع سنوات بين المخيمات الفلسطينية وأحياء ضاحية بيروت الجنوبية وقرى الجنوب اللبناني. وأذكر أنني قدمت أثناء إقامتي في مخيم شاتيلا أعمالاً بالتعاون مع بعض الشبان. ومنها مسرحية «السبع في السيرك» لمحجوب عمر؛ كذلك تعاونت مع شبان لإعداد مسرحية من تأليف أهالي قرية لبنانية بعنوان «القانون ختم وبرنيطة»… وبعد ذلك ذهبت باتجاه إنشاء «اللجان الشعبية» التي كانت مبنية على قناعة مؤداها أن الناس يجب أن يكونوا مسؤولين عن حياتهم انطلاقاً من طاقاتهم الذاتية. وكان معنى كل ذلك أنني ضد المسرح للمسرح، لا ضد المسرح كشراكة واحتفال.

مضموناً، ماذا كان يشغلك في هذه المرحلة وأي اتجاهات قادتك؟

على الرغم من أنني ولدت في عائلة مارونية، فإني لم أشعر أبداً بانتمائي الطائفي. فقد تربيت تربية مسيحية وتأثرت بحركة توحيد الكنائس التي أطلقها البابا يوحنا الثالث والعشرون، إذ كنت آنذاك مناضلاً في صفوف «الشبيبة الطالبة المسيحية». وأنا مدرك اليوم أن الإيمان المسيحي من جهة، وحب المسرح من جهة أخرى، ساهما معاً في تحديد مسلكي القائم على ملاقاة «الآخر» على نحو ودي مجتهد (ذلك «الآخر» الذي هو محط المحبة المسيحية ومتلقي التعبير المسرحي). فيما بعد، وفي المناخ السياسي الثوري (بين عامي 1967 و1975) دفعتني تلك الاستعدادات النفسية الأخلاقية إلى التجربة النضالية السياسية إلى جانب المقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني (من خلال الالتقاء مع روجيه نبعة، وهو مفكر ومناضل نبيه في الحركة الثورية الحديثة في لبنان، ثاقب الفكر ومجاهد بصير). غير أن هذا الإنكار الظاهري لمنشئي العائلي وتربيتي الغربية لم يكن إلا إعراباً وفياً للقيم الروحية التي طالما حتّمت خياراتي المصيرية: النزعة إلى التوحيد والثقافة الإنسانية.

هل هذا ما دفعك إلى عدم الانتساب إلى أي حزب من الأحزاب أو التنظيمات الموجودة حينذاك؟

هذا هو المرجح، لكني تعاونت تعاوناً وثيقاً مع أهم المنظمات الموجودة: فتح والجبهة الشعبية والحزب الشيوعي، والأحزاب الماركسية، وحركة أمل وحزب الله…

هذا الاستطراد في سيرتي الذاتية يهدف إلى إلقاء الضوء على خزّان الأفكار والمفاهيم التي وجهت مسار التجربتين (المسرحية والسياسية) المطروحتين.

كيف كانت هذه المألفة أو هذا التأليف بين التجربتين؟

أفكار اتسمت بالنشاطية الماوية (Maoïste) والممانعة الفوضوية (Anarchiste). وفي ما بعد تكافلت مع التزام إسلامي انتقادي وتضامن عصيب مع المقاومة في الجنوب والوحدة الوطنية في لبنان.

هل تحدّد التيارات الرفضية التي تكافلت معها أيضاً؟

لقد تشعبت التيارات الرفضية والأشكال النضالية اليسارية في الجامعات والقطاعات الشبابية المسيّسة تحت تأثير أفكار وتجارب ثورية مختلفة، وأبرزها الماوية الصينية، وانبعاث الآداب والأمثلة الديمقراطية «الفوضوية» من عامية باريس 1870 إلى روزا لوكسمبورغ. هذه العلامات شخصتها في ما بعد كل الأنظمة اليمينية واليسارية، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفياتي.

أين تتوقف عند هذه الظاهرة؟

أحدثت الموجة الرفضية تجارب نضالية تجذّرت في الأوساط الشعبية المحرومة، كما أحدثت أبحاثاً علمية مركزّة على الانتفاضات الشعبية المطموسة في تاريخنا من القرامطة إلى طانيوس شاهين وانتفاضات جبل عامل.

جمعت بعد المرحلة التي تتحدث عنها بين تجربتين لا ترابط بينهما على ما يظهر: تجربة اللجان الشعبية في المريجة (أثناء الحرب الأهلية) وتجربة «مسرح الحكواتي» (إبان الاحتلال الإسرائيلي) كيف كان لك ذلك؟

المرَيجة حي مسيحي مكتنف بأحياء شيعية في ضاحية بيروت الجنوبية. وسنة 1975 كان هذا الحي على وشك أن يتعرض لما تعرضت له مناطق مماثلة (النبعة، الكرنتينا، الدامور، قرى الشوف…) حيث أجبرت الميليشيات الطائفية الأهالي على النزوح مستخدمة كل أنواع الترويع من النهب والخطف إلى ارتكاب المجازر. وحدث أن تشكلت «لجنة الشرفاء» للوقوف في وجه الاقتتال والتهجير.

هذا جزء من تجربة تأثرت بها عميقاً. أما الجزء الآخر فقد كان نشوء «مسرح الحكواتي» في سياق حركة فنية لمسها كثيرون مجددة وثائرة في السينما والموسيقى والرسم والمسرح (جان شمعون، مارسيل خليفة، زياد الرحباني، ناجي العلي، سمير خدّاج، إضافة إلى «مسرح الحكواتي» الذي تميز من حيث الحضور القوي ومن حيث إنه أقام صلة عضوية مع الحياة السياسية).

من أي زاوية تقصد العلاقة العضوية مع الحياة السياسية؟

تجربة التصقت بالوسط الطلابي المسيّس، وكانت منهجيتها الفنية منصاعة لأسس فكرية، إضافة إلى التزامها قضية جنوب لبنان المحتل منذ الاجتياح الإسرائيلي 1978.

ما هي الملامح الأساسية لتجربة «مسرح الحكواتي»؟

لقد جهد في استقصاء الذاكرة الجماعية المتصلة بالحروب المتتالية التي وقعت في لبنان منذ الحرب العالمية الأولى؛ كما جهد في استيعاب تراث فن الراوي (أي الحكواتي) الذي لا يزال يتمتع برونق حيوي في الذهنية الشعبية. وبهذا عزّز «مسرح الحكواتي» فكرة الترابط العضوي بين «الثقافي» و«السياسي» خصوصاً من خلال تقديمه «حكايات 1936» (انتفاضة جبل عامل ضد الانتداب الفرنسي في إطار العصيان الوطني الذي شمل سورية وفلسطين سنة 1936)، و«أيام الخيام» (ذكريات بلدة الخيام قبل وأثناء الاجتياح الإسرائيلي سنة 1978). من ملامح هذه التجربة أيضاً أنها ساهمت، أو حاولت أن تساهم، في إحياء الهوية الجماعية التي يبحث الناس عن صيغة معبرة لها في وقت تهددها الحروب والنزاعات الداخلية، وكذلك الانطلاق من أن تحقيق مشاركة الناس في الإنتاج الثقافي وإبطال الحواجز الاعتيادية بين الواقع والتعبير الفني عن الواقع… وهذا ما يقتحم اللغة السياسية السائدة ويضعها على بساط النقد، وذلك عن طريق دمج الذاكرة المستحضرة في الواقع الحاضر. أي المعرفة الجماعية الفطرية في الديباجة السياسية.

إن مقاربة التجربتين (اللجان الشعبية، ومسرح الحكواتي) والمقارنة بينهما تسمح باستدلال نوع من النشاط التطبيقي (Paraxis) المرتبط بخصوصية واقع معيَّن (الواقع الطائفي النزاعي اللبناني)، والتابع لغائية خلقية سياسية مستوحاة من القيم الدينية التوحيدية والمبادئ الإنسانية التحررية.

علامَ ترتكز هذه المنهجية؟

ترتكز على الاختلاط الطائفي الإيجابي (الذي يختلف عن المشروع العلماني، بل يتعارض معه)، ثم المشاركة في المسؤوليات، أي المشاركة في صنع القرار والتنفيذ. هذه المشاركة في المسؤوليات تولِّد مناقشات ومجادلات ومواجهات وحتى خلافات، لكن ذلك يجري على أساس المصالح الحقيقية وليس انطلاقاً من انحياز حزبي أو طائفي. أما العنصر الثالث الذي ترتكز عليه المنهجية المذكورة فهو الديمقراطية الثقافية التي تختلف كلياً عن جعل التثقيف ديمقراطياً، وهي منسجمة مع الديمقراطية السياسية، إذ إنها تقترح على الأفراد والجماعات إدراك ثقافتهم الخاصة ومعرفتهم المميزة وتوظيفهما بغية اكتشاف دورهم (الفردي والجماعي) ومسؤوليتهم (الفردية والجماعية) في مواجهة الحاضر وتوجيه المستقبل.

أشرت إلى خصوصيات «مسرح الحكواتي» في أثناء الحرب، فهل كان لهذه التجربة خصوصيات أخرى بعد توقف الحرب؟

لم يكن للذاكرة الدور الذي تؤديه في «مسرح الحكواتي» في فترة الحرب؛ بل انصب العمل على إظهار عوارض الشقاق الاجتماعي وكشف الخرّاج الخبيث الذي يضني الجسم الوطني ويعوِّد الناس الحياة في إطار ادعاء ديني كاذب، خارج الآخرين، بل ضد الآخرين، وحسب الرهانات «الطائفية» وتقلبات المضاربات السياسية.

كيف تنظر وتقيِّم عملية الإبداع المسرحي وغير المسرحي في مثل هذه التركيبة؟

عملية الإبداع الجماعي في هذه الأحوال وضمن هذه الشروط تجربة شاقة وأليمة، إلا أنها ناجعة ومنعشة، لأنها تشكل من خلال التداعي الحر للأفكار المطمورة تحت الكياسة الرسمية، واستبصار الحالة المرضية والدوافع المكبوتة في المجتمع المنقسم، حيزاً نموذجياً للتلاحم الثقافي المحتمل ضمن اختلاف المذاهب أو الانتماءات الفكرية.

هل تأتي مسرحيات «مذكرات أيوب» و«جنينة الضايع» و«بوابة فاطمة» في سياق كلامك السابق؟

هذه المسرحيات دعمت بجلاء وصراحة الفرضية المذكورة، وأنتجت بين الأفراد المتباعدين أصلاً شبكة صداقات شخصية وعلاقات ودّية، وعلى صعيد الجمهور حوارات ومجادلات منفتحة ومنشطة من داخل التفرقة الطائفية والانقسامات السياسية.

إلى أي مدى تختلف ذاكرات «مسرح الحكواتي» في فترة ما قبل الحرب، عن ذاكرة بيروت على سبيل المثال في فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982؟

بعد رحيل الانتداب الفرنسي وإقصائه عن لبنان أصبحت بيروت خلال عشر سنوات مركز حركة الممانعة المحلية والإقليمية، العاصمة العربية الوحيدة حيث تجد المطالب الديمقراطية والتحريرية والقومية والاجتماعية حيزاً للتعبير عنها ومنبراً لمخاطبة العالم. كل ذلك أضفى على بيروت قامة أسطورية قد يسهل استغلالها الغوغائي، إنما في الحقيقة لا ريب أن البعدين المتناميين: الوطني اللبناني والقومي العربي، أنتجا عقلية جماعية عاصية هي في نظري ذات أهمية ثقافية تتخطى الاحتمالات السياسية. ويمكن القول إن بيروت بمنزلة مسرح لتمثيل «اليوتوبيا». على سبيل المثال، عندما حاصر الجيش الإسرائيلي العاصمة سنة 1982، تماثل سكانها الصامدون مع أسطورة المدينة وتفوقت طاقتهم المعنوية على قدرة إسرائيل العسكرية الرهيبة.

لم يكن شارون قادراً على قهر بيروت لولا مساومة القيادات التي سلمت المدينة للعدو لقاء صفقة مخزية، وأنا شاهد على ذلك.