لعلّ أحد أشهر المفكرين المغاربة بين أقرانه عنايةً بموضوع «الحداثة» تعريباً وتقريباً وتنويراً ـ حتى صار لا يكاد يُعرَف إلا بها وصارت لا تكاد تُنسب إلا إليه ـ الأستاذ المفكر محمد سبيلا. يكفي الناظر إلى لائحة مؤلفاته أن يتنبّه إلى أن خمسة من بينها تشترك في ورود اسم «الحداثة» بعناوينها[1]، وذلك بما لم يتميز به ناظر في أمر «الحداثة» قبله. هذا فضلاً عن تلك الأعمال الأخرى التي لا ينبغي أن نسلب عنها فضل النظر في أمر «الحداثة» بما حدث لها من غياب التنصيص عليه في العنوان. وإذ رأى سبيلا أن الفكر المغربي اندفع بديناميته الإبداعية الخاصة إلى نقد الفكر الغربي، ومن ثم إلى النظر في شأن «الحداثة» اعتباراً واستبياناً واستشكالاً، فإنه لاحظ أن «عملية النقد والتقييم لا تتأتى إلا بعد تحقق عنصر الفهم والاستيعاب. فمن دون فهم لمعطيات هذا الفكر ومكوّناته وعلاقته بظروف إنتاجه يظل هذا الموقف النقدي متعذراً. كما أن خلق حوار بنّاء مع هذا الفكر يقتضي العمل على استيعابه بدقة وعرض محتوياته بأمانة لا يشوبها تحامل مجانيّ أو تمجيد مُبالَغ فيه، وذلك بتوفير شروط حوار حضاري يتخذ فيه الفكر العربي موقفاً ناضجاً وحضارياً مسؤولاً تجاه الفكر الغربي، دون إحساس بالدونية أو التعالي التعويضي»[2]. بهذا صار الاكتشاف عنده إجلاءً والفهم تفهمياً والتعريب تقريباً.
إن من يقرأ أعمال محمد سبيلا، قراءة الوهلة الواحدة، من شأنه أن يشهد أن لغزير هذا الفكر «نظيمة» تلمّه ـ فإنه كالنبع من الماء الغزير ما يفتأ يجد له مجرى ثابتاً، وليس يحار فكره هذه النظيمة، إذ يعتبر سبيلا أن ما سمّاه ذات مرة «رحلاته الفكرية»، مترجماً بذلك عن أنه «مفكر رحالة» لا «يقيم» لبادي رأي بل «يظعن» لجديده، ويفضل السفر بين الأفكار على الحضر: من الاهتمام بالماركسية إلى العناية بالتحليل النفسي ومنه إلى البنيوية والأيديولوجيا ـ كل هذه إنما هي مباحث كانت تتلمّس، بدءاً، طريقها فتتيه ولا تعيه، وكلها كانت عبارة عن «ملامح نظرية تحديثية للمجتمعات» و«بوادر» انشغال بشأن «الفكر الفلسفي الحديث»، وإرهاصات الاهتمام بأمر «المعطيات الفكرية الحديثة»… فهذه «الرحلات الفكرية»، التي قطعت ما بين ضفتي البحر المتوسط جيئة وذهاباً، إنما عدّها صاحبها «تدرجاً في التعرف إلى مكوّنات الفكر الفلسفي الغربي الحديث». والحق أن هذا التدرج ـ يقول سبيلا متحدثاً عن نفسه ـ «هو الذي جعلني اكتشف، في يوم من الأيام، أن ما أحاول التعرف عليه من خلال ملاحقة وتتبع مفاصل الفكر الغربي الحديث هو جوهره الفكري المتمثل في الحداثة كروح والحداثة كرؤية والحداثة كنظام». ثم ما يلبث أن يضيف في ما يجري مجرى هذا الكلام ولا يشط عنه: «فلعل ما يجمع تيارات الفكر الحديث ويشكل بؤرتها وصميمها هو بالضبط مفهوم الحداثة»[3]. ذاك هو الذي صار يسميه محمد سبيلا اليوم: «الموضوع الأثير لديّ الآن: موضوع الحداثة الذي صار يستجمع روح وكافة اهتماماتي الفكرية السابقة»[4].
فقد تحصّل لنا بهذا، أن هذه المعطيات الفكرية الحديثة التي اشتغل عليها محمد سبيلا ـ السوسيولوجيا، السيكولوجيا، الأنثربولوجيا ـ إنما هي، إن حقق أمرها، معطيات للفكر الحديث وموارده ومنابعه وعيونه. فهذه البحوث التي استفاء فكره بظلها شملت؛ أولاً، النظرة إلى «المجتمع» باعتباره مجموعة آليات سيكولوجية تتصارع ودوافع ملموسة تغلي غليانها، محاولة إرجاع الأحلام والمتخيّلات والاستيهامات والهلاوس إلى هذه الدينامية النفسية ذاتها؛ وشملت، ثانياً، محاولة لفهم «التاريخ البشري» فهماً معقولاً وفهم «البنى الاجتماعية» بفهم جدلي. ومع هذه المحاولات ـ يقول سبيلا ـ «وجدت نفسي في خضم وفي قلب الفكر الحديث، وما كان يعوزني هو ذلك المفهوم الأساسي الذي يضم هذا الشتات. لذلك، فحينما اكتشفت مفهوم الحداثة، شعرت وكأني توصلت إلى المفتاح السحري لكل هذه الأشياء، المفتاح السحري التصنيفي الذي يجمع ويؤطر كل هذه التحولات. بمعنى أن كل التحولات الاجتماعية والفكرية في مجتمعنا وفي العالم العربي والثالثي بل وحتى في العالم الغربي، تندرج في إطار منظور استراتيجي، هو ما يمكن تسميته بالحداثة والتحديث، أي التحولات الكبرى التي بدأت تحدث في العالم منذ القرن الخامس عشر»[5]. وبهذا صار موضوع «الحداثة» هو ما «يستجمع روح وكافة اهتمامات الأستاذ الفكرية السابقة». ولئن أقر هو بأن من شأن «المرء في مجال الفكر [أن] ينتقل من فتنة إلى أخرى»، بما رسخ في الأذهان صورة «المفكر الظاعن» أو «المفكر الرحالة» (Le Penseur Nomade) وطمس معالم «المفكر المقيم» (Le Penseur Sédentaire)، وبما أوحى أن المفكرين على قسمين: مستوطن ومسافر، فإنه أضاف: «وقد وجدت ضالّتي في التفكير في الحداثة»[6].
وهكذا، لئن عبّرت اجتهادات محمد سبيلا عن «هجرة دائمة بين الأفكار والمذاهب والمدارس»، فما عبرت عن «هجرة الروح» من هذه الدراسات أو «قلقها» أو «تيهها»، وإنما لأن أسئلة «الحداثة» كما يقول مترجماً عن حال نفسه: «كانت دائماً تثيرني وتستفزّني دون أن أجد الإطار الفكري لطرحها إلا بعد أن خطوت خطوات في درب الفلسفة، الآن أستطيع أن أقول فقط وجدت نفسي»[7].
ههنا في هذا الحوار يجدد سبيلا القول في أنظاره في الحداثة الفكرية، ويزكي نقوده للمثقفين العرب، كما نستقصي جديد أنظاره في ظل الواقع العربي الراهن، ونتتبع سبل اهتدائه إلى الفلسفة وإلى الحداثة معاً في إسرارات وإفضاءات نادرة.
*****
ما من مهتم بالفلسفة في الوطن العربي إلا ومن شأنه، إذ يقلّب دفتر أيامه صفحات صفحات، أن تستوقفه صفحات اهتدائه إلى الاهتمام بالفلسفة، ولا سيَّما وهو يحيا في بيئة عربية محافظة الكلمة الأخيرة فيها للّافلسفة بمختلف تلاوينها، من عوائد محافظة وتقاليد مستثقلة وطقوس فاشية… ولا شك في أنكم لا تشكّلون بهذا الصدد استثناء. كيف لتلميذ الكتاتيب القرآنية الذي كنتموه، ولطالب المدارس الأصيلة المعرّبة الذي تضرّس على اللوح بين الكتابة والمحو، وعلى التلقين وحفظ المتون والتكرار، أن يهتدي إلى الفلسفة؟ ما الذي قادكم إلى اكتشاف الفلسفة؟ وكيف عشتم سنوات تتلمذكم المباشرة الأولى بين يدي أساتذة الفلسفة؟ وكيف خبرتم سنوات التتلمذ الثانية على تصانيف الفلاسفة؟
إن سؤالك الأول هذا هو تساؤل حول كيف يقع المرء في الفلسفة. في التحليل السطحي يمكن أن أتحدث عن كيفية وحيثيات «اختياري» للفلسفة كتخصص في الجامعة، لكن النبش في الأعماق يقلب العلاقة تماماً. فالفلسفة هي التي وجهتني إلى اختيارها عبر مسارات متدرجة.
أذكر أني كنت في طفولتي شخصاً منطوياً مهموماً ومداهَماً بأسئلة وتساؤلات أكبر مني حول الموت والمصير والعذاب الأخروي والشر. هذا معطى أول، وهو مرتبط بمعطى ثانٍ هو علاقتي المتوترة مع الوالدة التي كانت حالة باثولوجية خاصة. فقد نَقَلَتْ إليّ ـ دون وعي ـ توتراتها العميقة. هذا إضافة إلى تربية دينية متشددة في «الكتّاب»، سواء بسوط الفقيه الذي لا يزال مرسوماً على ثنايا جسمي إلى الآن، أو على التأويلات الترهيبية حول النار وعذاب القبر والشيّ ومظاهر الرعب الأخروي التي كان المعلمون الفقهاء يتفننون بشكل سادي في «عرضها» على التلاميذ الأطفال.
يمكن أن أقول إن هذه المعطيات التراجيدية شكلت لديَّ شخصية قاعدية قلقة، متوترة، متسائلة، لم تجد إلا في المطالعة والمتخيل بعض ما يلطف من غلوائها سواء في مجال العلوم والفلكيات أو في مجال الفلسفة والميتافيزيقا أو في مجال الأدب.
لذلك ما إن اطلعت على الفلسفة كمادة دراسية حتى ارتبطت بها ووجدت فيها ضالتي، واستبدلت التخصص العلمي والرياضي بتخصص أدبي. وربما كانت حياتي هي التقلب والتقليب في المذاهب والاتجاهات الفلسفية، وكأني في رحلة رهيبة في بلاد العجائب.
لا شك في أن هذه التجربة التي تشتركون فيها مع جيلكم أشبهت، بمعنىً ما من المعاني، تجربة يمليخا، من أهل الكهف، ذاك الذي أراد أن يشتري ما به يسدّ رمقه ورمق أصدقائه بنقود صارت مهملة نسيّة منسية منذ أمد طويل! فكذلك السبب لانقطاع جيلكم عن التراث الفلسفي العربي القديم، لا يستطيع إليه عودة بأي حال، ولم نكن قد اطلعنا على التراث الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر، إذ حصل ضرب من الانبهار بالفكر الفلسفي الغربي الحديث والمعاصر. هُوَ ذا قدر جيل دأبَ على «التقلّب» بين شتى المذاهب حتى صار أمره كأمر الحارث بن قيس بن عدي الكعبي الجاهلي المعروف باسم «صاحب الأوثان»: كان يعبد الأحجار، وكان إذا مر بحجر أحسن من الذي عنده أخذه وألقى بالذي عنده، وفيه نزل ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلـــَـــٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ [«سورة الفرقان،» الآية 43]! كذلك كان الواحد منكم يبدأ «ماركسياً»، فإذا هو صادف «الوجودية» ألقى بما بين يديه و«تَوَجَّدَ»، فإن هو استمكن من «البنيوية» خلع ربقة «الوجودية» كما يخلع الواحد معطفه و«تَبَنْيَنَ»! وقد «يتقلب» هو العمر الواحد في خمسة مذاهب أو ما يزيد أكثر! فهلَّا خبّرتمونا كيف عشتم هذه التجربة؟
أنا في مجال الفكر كالمشتاق الملهوف الذي يجمع ويُراكم الأصداف الثمينة. إنها تجربة انضيافات لا تجربة حذوفات وانخصامات. فأنا وضعي، وتحليل نفسي، وماركسي، وبنيوي، ووجودي، وهيدغري، ونيتشوي، اشتراكي وليبرالي في الوقت نفسه، بدرجات متفاوتة وبنسب متباينة ضمن الأفق الكوني الحديث. لا تتعلق المسألة بخلع أو بإلقاء أو بتقلُّب، بل بتراكم، وبتمثُّل، وبرحلة تجميع واستيعاب وراءها اللهفة والحاجة. لا يمكن أن تتحول القوالب الفكرية إلى قوارير فارغة نقذف بها حال الانتهاء منها، إنها ليست «متلاشيات» (Jetables)، بل هي مصابيح. نعم! قد تتوهج أحياناً، وقد تخبو أحياناً، لكنها لا تنطفئ.
وهنا يجب أن نميز أيضاً بين الاختيارات التاريخية الكبرى المرتبطة بالضرورة التاريخية، وبين الاختيارات أو الانحيازات المذهبية الصغرى التي تبدو نوعاً من الاختيارات التَّرَفية أو الترفيهية (De luxe) أكثر مما هي «اختيارات» تحكم المصائر الجماعية.
… والشيء بالشيء يذكر، لئن كان لهذا التداخل بين الأيديولوجي والمعرفي في الفكر الغربي المعاصر من فائدة، فإنما كانت ثمرته: دورة النقد الذاتي. لقد دخل الفكر الغربي المعاصر في دورة نقد ذاتي خصيبة، إذ إن أغلب المفكرين الماركسيين – بمختلف توجهاتهم – قاموا بضرب من النقد الذاتي، على نحو ما فعل إدغار موران «نقد ذاتي» (1959) وهنري لوفيفر في كتابه «المجموع والبقية» (1959) ولوي ألتوسير «عناصر من النقد الذاتي» (1974) وغيرهم كثير. لكن، يلاحظ أن الفكر العربي المعاصر نادراً ما فعل ذلك، ونادراً ما أنت واجد مفكراً عربياً يعلن ما أعلنه فوكو، مثلا، حين اكتشف خطأ مساندته الشديدة الحماسة للثورة الإيرانية، فكان أن صرح: «كلا، ما أنا بالمفكر الاستراتيجي، وليس بمستطاعي أن أكون كذلك!» لا نكاد نسمع عن مفكر عربي انتقل من الماركسية إلى الليبرالية، مثلاً، وأعلن بشجاعة تخلّيه عمّا كان يؤمن به. أَوَلا ينطبق علينا قول نيتشِه بهذا الصدد: «عادة ما تكون القناعات سجوناً»؟
السمة الغالبة على الثقافة العربية، بما فيها الثقافة العربية الحديثة، هي اليقينية بل الدغمائية. وهذه سمة للمنظومة الثقافية عامة ترثها وتتمثلها الثقافات الفرعية. فبنية اليقين هي بنية دينية في الأصل، ثم اكتسبت بالتدريج طابعاً أيديولوجياً. فالأيديولوجيا هي البنية العقدية الجديدة (المدهرنة) التي تجمع بين «البيوس» و«اللوغوس»، بين الحياة والعقل. لا عجب إذن يمكن إبداؤه حول هذا الخليط المزيج من اليقين والعقل، من الإيمان والعلم.
والفكر الغربي ذاته، على الرغم من رواج مقولة «النقد» منذ كانط والأنوار وشيوع مبدأ «النقد الذاتي» فيه، ظل يعاني، في مجال الفلسفة والإنسانيات، داء تصلّب الشرايين العقائدي، وذلك مع التغلغل التدريجي البطيء للروح العلمية وللتوابل الشكية التي تزرعها ـ على شكل قنابل عنقودية ـ عقول من صنف فرويد أو نيتشه أو فتجنشتاين أو هيدغر أو غيرهم.
فاليقينيات والوثوقيات دافئة ومريحة. والخروج منها أشبه ما يكون برحلة في اتجاه الجحيم. مصفوفة اليقينيات في الثقافة العربية متلاحقة: السياجات الدغمائية ذات الأساس الديني ـ الوثوقيات الماركسية المتلاحقة من صينية ومُسَفْيَتة [نسبة إلى الاتحاد السوفياتي] والوثوقيات الوطنية والقومية والإسلاموية اليوم.
اليقينيات هي جنّات عدن الفكرية وخارجها ينتصب الجحيم. أليست اليقينيات، كما صاغ ذلك نيتشه، هي تلك الأفكار التي نموت ونحيا من أجلها، أو ـ كما تفضلت أنت ـ اقتباساً من نفس المفكر، القناعات سجون. بل لعل الثقافة برمتها أكناف وسقوف من السجون المتناضدة بحيث لا تطل برأسك من سقف إلا وتجد سقفاً آخر وهكذا.
إلا أن حدة وشراسة اليقينيات هي اليوم، على الأقل في الصف الثقافي الحداثي، أقل حدة وشراسة. فالخطو في درب الحداثة الفكرية يعني تزايد منسوب العقلنة والنقد والنقد الذاتي ونسبية الأحكام وتاريخيتها. كمثال على ذلك، أذكر الموقف من الليبرالية الذي كان، تحت تأثير الموقف الماركسي الحزبي، حاداً وحاسماً، هذا بينما ينفتح الجميع اليوم على الليبرالية الثقافية والفكرية باعتبارها ـ كما يقول العروي ـ ركناً أساسياً للحداثة الفكرية. وهكذا تتم اليوم استعادة واستساغة الغزل الفاحش الذي سجله ماركس في البيان الشيوعي والذي تحدث فيه مطولاً عن ثورته البرجوازية الأوروبية وعن الليبرالية كسهم من أسهم الحرية.
إن الحدود الدغمائية تتهشم وتتهاوى تدريجياً… وتباعاً.
أنتم من أشدِّ المثقفين نقداً للمثقفين. لقد شرحتم في العديد من أعمالكم وضْع المثقفين العرب وصلتهم بالأحزاب السياسية وبالسلطة. وأعملْتم في ذلك مبضعَ التحليل النفسي. لو تحدثونا عن مدى إفادتكم من التحليل النفسي في تشريح أوضاع المثقفين.
التحليل النفسي أداة تحليلية نقدية راديكالية لكل الأوهام، بما فيها الأوهام الذاتية، والنرجسيات الفردية والجماعية. تتمثل أهمية التحليل النفسي بتعرية الكثير من الأوهام: أولها، النظر إلى النفس، لا على أنها وحدة أو جوهر، بل باعتبارها تفاعل عناصر بيولوجية غريزية همّها الإشباع والتغذية ومقاومة عوامل الموت والهدم ـ ولْنُسمِّ هذا الجزء بالثقافة البيولوجية أو الحيوانية أو ثقافة الطبيعة ـ وهي دوماً في حالة صراع واستعارة وكناية مع الثقافة الاجتماعية أو الدينية المليئة بالأوامر والنواهي والتحليلات والتحريمات، والتي تخدم النرجسية الذاتية والجماعية، وتذكي مشاعر التماسك الداخلي، بل مشاعر السمو والمثالية والطهرية التي تسوقها الثقافة عن نفسها والتي يستخدمها فرد أو كثير من الأفراد في إسناد أو إضفاء طابع مثاليٍّ على ذاته (الفردية والجماعية). إن النفس أو الذات، في المنظور التحليلي، ديناميةٌ وتفاعلٌ بين مكونات وأبعاد عديدة؛ ثانياً، السلوك من خلال هذا المنظور التحليلي مع ما يصاحبه من آليات نفسية (تماهٍ مع النموذج ـ إسقاط ما في الداخل على ما في الخارج ـ التمويه أو الكذب على الذات وعلى الآخرين «الكذاب البارع هو من يصدق أولاً كذبته على نفسه»). هذه الآليات هي جملة تحايلات ومرونات وبهلوانيات قد نسميها الفطنة أو الذكاء أو غير ذلك. فالنفس الإنسانية ليست مرآة صقيلة عاكسة بقدر ما هي آليات مركبة يغذيها الخيال واللغة والتعبيرات الرمزية وغيرها.
التحليل النفسي، إذن، نافذ في فهمه للسلوك الفردي والجماعي، وكاشف للأوهام الفردية والفئوية والجماعية، ومفكك لتماهيها مع ذاتها.
نجد لدى بعض الفلاسفة والسوسيولوجيين هذا الحذر والفطنة التحليلية دونما انتماء إلى التحليل النفسي. فعندما يقول أحد السوسيولوجيين الكبار إن المجتمع يجازي نفسه؛ أي يؤدي لنفسه الثمن عبر العملة الزائفة لحلمه أو أحلامه (La société se paye elle-même de la fausse monnaie de son rêve) فهو إنما يمارس نوعاً من التحليل النفسي على المجتمع. وقلْ نفس الشيء عن نيتشه، الذي يذكر مؤرخو الفكر أن الجذور العميقة للتحليل النفسي تعود إليه.
وقد سبق للصديق عبد الإله بلقزيز أن استعمل مبضع ـ أو مباضع ـ التحليل النفسي في تحليل المظاهر المرضية في سلوك المثقفين، وذلك في كتابه الجميل نهاية الداعية لأن التحليل النفسي، كما قلت، كشاف أوهام فردية وجماعية.
بالمناسبة، مالَ أغلب من رافقوا ثورات «الربيع العربي» بالتحليل إلى ملاحظة غياب المثقف عن هذه الثورات. هل تشاطرون أصحاب هذا التحليل ما ذهبوا إليه من رأي، ولئن كان ثمة من غياب للمثقف فلأية أسباب تعزون ذلك؟
المثقفون أنواع وفئات ومستويات وتوجهات مختلفة. إن المثقف الأكاديمي، المرتبط برؤية تحليلية تندرج في سياق المدى التاريخي (الزمني والفكري) الطويل، يجد نفسه محكوماً بالتريث في إصدار الأحكام والتوجيهات في انتظار نضج و«اكتمال» بعض عناصر المشهد التاريخي الكلي، وهذه حال أغلب المثقفين الأكاديميين الذين لا يستطيعون الاكتواء بجمرة التاريخ الحيّ، ولا يمكن أن يكونوا «مثقفين عضويين». وهناك المثقفون بمعنى أوسع، وهم الساسة المحللون والصحافيون والإعلاميون بعامة، وهم تلك الفئات الجديدة التي أقحمها التطور في متابعة ورصد وحكاية ما يحدث هنا والآن. نعم! لقد توسعت فئة المثقفين كثيراً بحيث ما عاد من الممكن استعمال المقولات التحليلية المتوارثة نفسها. فالمثقف العضوي هو المثقف المكتوي بنار الأحداث والموجود في أتونها، فهو من موقعه، وبحكم ثقافته النظرية وخبرته العملية، قادر على إفراز تحليلات وخطاطات نظرية وتوجيهات أخلاقية وأيديولوجية أكثر من غيره.
أما «المثقف» بالمعنى الأكاديمي والكلاسيكي فيجد من التنافي والتناقض أن يتخلى عن شرطه أو شروطه النظرية ليتحرك في الميادين ويحاور الجماهير ويشارك في التظاهرات والإضرابات والاحتجاجات. الفكر له محرابه وشروطه ومقولاته… من موقع آخر وبرؤية أخرى.
انصبّ اهتمامكم كثيراً على مسألة «الحداثة»، حتى لا تكادون تُعرفون في المغرب، والوطن العربي بعامة، إلا بها، ولا تكاد تُعرَف إلا بكم. ومن المعلوم أنكم ما وقفتم قَط عند «أواني الحداثة» (الحداثة التقنية) وإنما رمتم الحفر في «معاني الحداثة» (الحداثة الفكرية)؛ كيف اهتديتم إلى النظر في هذه المسألة؟ وما هي النتائج التي أسفر عنها اهتمامكم بمسألة «الحداثة» لثلاثة عقود متتالية من الزمن أو يزيد؟
إن اكتشاف معالم «الحداثة» ومقولات «الحداثة»، بل لفظ «الحداثة» ذاته، جاء متدرجاً. فقد عشت، أولاً، في الطفولة مشهدين متعارضين: البادية التقليدية بجمالها ومياهها وربيعها وأزهارها وأصواتها وألوانها الطبيعية المنبعثة منها، لكن في الوقت نفسه عشت مع الوالد، في أربعينيات القرن الماضي، صخبَ الآلات وضجيج الميكانيكا. كانت عائلة الوالد آنذاك تملك سيارة «جيب» وكانت لديها طاحونة آلية، وهو ما جعل الوالد يتعلم الميكانيكا. أضفْ إلى ذلك، أني في مرحلة معينة في المدرسة العمومية التي أنشأها الاستعمار وجدت نفسي على صلة وثيقة بأستاذتي الفرنسية التي عرفت من طريقها الشوكولاته وآلة التصوير والراديو أو المذياع والدراجة النارية ورسوم ميكي والمروحة أو الفرفارة الميكانيكية المستخرجة للماء، علاوة على منجزات ولباسات العساكر الفرنسية…
سيميولوجياً، يمكن أن نقول إنه كانت هناك مواجهة صامتة بين عالم تقليدي طبيعي تكراري وآسن وعالم متحرك ميكانيكي عصري تملؤه الآلات والأضواء وألوان من صنف آخر.
وعلى مستوى ثانٍ، عشنا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته في سياق الفكر التحرري للعالم الثالث الطامح إلى التحرر والتقدم. ومن بين المقولات التي كانت رائجة آنذاك مقولة «التخلف» (إضافة إلى مقولات مماثلة شأن «الرجعية» و«البدائية»…) ووجهها الآخر المثالي: «التقدم»، «التطور»… وحتى ولو لم يكن التعارض بين التقليدي والعصري، بين القديم والحديث، قد نضج وتبلور بشكل فكري واضح، إلا أن هذا التعارض ظل راسخاً في الوعي والإدراك.
المرحلة الثالثة، هي مرحلة نضج وتبلور مفهوم «الحداثة»، الذي بدأ يُتداول بشكل أوسع في السوسيولوجيا التي بدأت بدورها تتحرر من بعض الكليشهات والمقولات الماركسية المُسَفْيَتة. وساهم مفكرونا الأفذاذ العرب والمغاربة ـ وأخص بالذكر أيقونة استثنائية في تاريخ الفكر في المغرب هو عبد الله العروي ـ في البلورة التدريجية لمصطلح «الحداثة» ومعناه.
لكن ذروة البلورة الفكرية لمفهوم «الحداثة» نجدها في الفلسفة والسوسيولوجيا الألمانيتين: نجدها أولاً لدى ماكس فيبر الذي اعتبر التحديث في جوهره عقلنةً وتنظيماً للمجتمع والاقتصاد والسياسة، لكنه من الناحية الفكرية نزعٌ للطابع السحري عن العالم. وأذكر هنا العديد من الفلاسفة الذين ساهموا في بلورة معنى «الحداثة» وديناميتها، وأخص بالذكر الفيلسوف الألماني بلومنبرغ الذي تحدث عن مشروعية العصور الحديثة من حيث إن هذه المشروعية مستمدة من الذات ومن القطيعة مع العصور السابقة… وكذا فيلسوف ألماني آخر أسهم ـ على الرغم من نقده الراديكالي للحداثة وبالخصوص لخلفياتها ومرتكزاتها الميتافيزيقية أو الفلسفية ـ في الحفر في أعماق الحداثة الفكرية ليبرز بنيتها الفكرية العميقة، وهو هيدغر.
لعل أحد أنبه أنظاركم في الحداثة اكتشافكم لهذه الجدلية التي تربط الحداثة بالتقليد، إذ ما تفتؤون تلاحظون أن التقليد عادة ما يتوسل الحداثة، وأن الحداثة عادة ما تستخدم التقليد، كل يمكر بصاحبه، فيتوسله لتحقيق بغيته. ومن ثم جَمَعت بين الحداثة التقنية والأصولية صلة غريبة. هل توضحون لنا هذه الفكرة أكثر؟
لا أكتمك أن الانبهار بمنتجات الحداثة التقنية (الراديو، السيارة، الطاحونة الميكانيكية، آلة التصوير…) يعود لديَّ إلى مراحل الطفولة الأولى، فالطبيعة في البادية تتميز بالخضرة والهدوء وأصوات العصافير والحيوانات، لكن تظهر فيها كذلك آلات تقنية تتميز بالحركية وبنوع من الصخب الدوري المتواتر الذي يرمز إلى نوع من العود التكراري الأبدي، ناهيك بالألوان الكهربائية المتعددة المنافسة للنجوم في لمعانها. هذه الأحاسيس نمَت وتوسعتْ بالتدريج وبدأت تتأطر ثقافياً وفكرياً بشكل تدريجي. هذه مرحلة أولى؛ أما المرحلة الثانية، فهي الانتقال التدريجي لهذه السيرورة إلى مجال الثقافة. فاختيار الفلسفة كمجال للدراسة كان استجابة لقلق ميتافيزيقي عميق، لكنه كان يضمر نوعاً من الحاجة إلى أجوبة على المستوى الفكري والفلسفي، وكذلك على المستويين الأنثروبولوجي والسوسيولوجي. وكان اكتشاف مفهوم «الحداثة» حاسماً من حيث إنه قدّم المقولة النظرية الجامعة لكل هذه المظاهر والتجليات.
ومع إمعان التفكير في مظاهر الحداثة والتحديث، إما عبر الاكتساب النظري والمعرفي في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، وإما من خلال التأمل في بعض الظواهر؛ كالتأمل في مسار فتاة قروية تمتطي الدراجة لتتنزه أو لتذهب إلى المدرسة، بدأ يتبين لي أن العلاقة بين الحداثة والتقليد، هي علاقة مركَّبة معقّدة وذات أبعاد متعددة، بل شائكة، وأنها ليست مجرد علاقة استعارة متبادلة بالمعنى اللغوي العادي؛ أي الاستلاف، بل هي «علاقة استعارية» (Relation metonymique) بالمعنى البلاغي أو السيميائي.
وهكذا، بدا لي أن هناك طيفاً كاملاً من العلاقة بين الحداثة والتقليد يمتد من الاستعارة الاستلافية إلى الاستعارة بالمعنى الدلالي. وهو ما وسع هذه العلاقة ونضّدها لتشمل العديد من المستويات التي يتعين التمييز بينها. الوظيفة الأولى لهذه العلاقة الاستعارية هي التمييز بين الظاهر والباطن، والتمييز بين النية (أو المقصد) والمآل، بين الآلية (أو البراغماتية) وبين الغائية.
كما أن جوهر هذه المخاتلة هو المكر الماكر. فالحداثة تتجه نحو اختراق المعطى التقليدي والهجوم عليه بغاية تسخيره (مما يتطلب تحويله أو تشويهه) أو تدجينه، بينما يسعى التقليد بدوره إلى امتطاء أو اقتباس التحديث ليضفي على ذاته طابع القدرة على التطور وعلى الاستمرار في الحياة وحتى يحمي نفسه من قسط «التاناتوس» (نازع الموت وحظه) الذي يترصده.
إنها علاقة أداتية ـ استعمالية ـ ماكرة يتعيّن فحص حالاتها وقراءتها قراءة تشخيصية أو تعبيرية.
ومن المؤكد أن مقولة «المخاتلة» هي مقولة هامة واستيفائية لأنها تستدمج مقولة «مكر التاريخ» الهيغلية الشهيرة، كما تستلهم كل عطاءات الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية الحديثة نظير التحليل النفسي والأنثربولوجيا (وبخاصة بعض مساهمات الأنثروبولوجي الفرنسي جورج بالاندييه) وفلسفة التوجس، وغيرها كثير.
انقسم المفكرون العرب في شأن «الحداثة» إلى أصحاب مقالات: من مُقبلٍ على التقليد لافظٍ للحداثة، ومن مقبلٍ على الحداثة قاطعٍ مع التقليد؛ وبين هذين الموقفين من يريد «تأصيل الحداثة»، ومن يرمي إلى «تحديث التقليد». أين تضعون أنفسكم بين هؤلاء؟
دونما أدنى تردد أنا في المابين أو البين بين. تأسست في الحقل الفكري المغربي رؤيتان قويتان: رؤية العروي ذات الاختيار الراديكالي. وهي أطروحة قوية راجعة أولاً إلى أن صاحبها مؤرخ؛ أي مرتبط بالأحداث والوقائع أكثر مما هو مرتبط بالمثل والنماذج، وثانياً إلى أن صاحبها مفكر من الطراز العالمي. فهو بالإضافة إلى معرفته التاريخية الدقيقة للحداثة كوقائع يعرفها كبنية فكرية بعمق. فمعرفته بالحداثة الكونية والعربية، تاريخاً ونظراً، معرفة عميقة ونادرة. وبالمناسبة، تتضمن كتاباته نظرية كاملة ومتكاملة عن الحداثة لم تقيّض لها الدراسات الكافية. عناصر نظرية الحداثة عند العروي هي: مفهوم الحداثة ـ الحداثة والتحديث ـ سمات الحداثة ـ آلياتها ـ مستوياتها ـ فواعل الحداثة ـ الحداثة والتقليد ـ الحداثة والدين ـ الإسلام والحداثة ـ عوائق الحداثة ـ الحداثة وما بعد الحداثة ـ المغرب بين التقليد والتحديث.
أما المرحوم الجابري، فلم يول التحليل النظري للحداثة الاهتمام الكافي، بل اختزلها في العقلانية والديمقراطية، لكن قوة الجابري تكمن في حدسه العملي بأن التراث مكون عضوي لا يمكن إزاحته بمجرد موقف أو وجهة نظر. التراث ليس نظارة يمكن أن نخلعها بسهولة، بل هو رؤيتنا، وربما عيننا، ذاتها.
وهذا ما دفعه إلى تحليل البنية الفكرية والمنطقية للتراث، وإلى تحليل بناه الثقافية المهيمنة، مع التركيز على ضرورة تطوير العناصر الإيجابية في التراث وعلى تبْيئة المفاهيم والأدوات المستعارة من التراث الكوني.
فأنا إذن بينَ بين. لكن إلحاحي يتجه إلى تعميق تحليل المكونات الفكرية للحداثة اعتماداً على السوسيولوجيا وعلى الفلسفة الألمانيتين، وبخاصة ماكس فيبر ومارتن هيدغر، على الرغم من أن موقف هذا الأخير يصب في النهاية في نوع من «مناهضة الحداثة» (Antimodernisme) وفي المجادلة في أسسها الفكرية والميتافيزيقية.
وهنا لا بد من الإضافة بأن مسألة الحداثة لا تفرض نفسها فقط من منظورات تقنية أو اقتصادية أو اجتماعية، بل من زوايا فكرية باعتبارها بنية فكرية تقوم على استجماع كل مساهمات الفكر البشري في فهم العالم فهماً موضوعياً بعيداً من الاستيهامات والأوهام.
انصبّ قدران على الفكر الفلسفي المغربي والعربي بعامة، كادا يصيبانه في مقتل: الأول، قدر فلسفة اللسان الواحد الذي يؤدي إلى إهمال بقية فلسفات الألسن الأخرى، وذلك بفعل ظاهرة الاستعمار الفرنسي والإنكليزي التي عرفها الوطن العربي؛ والثاني، قدر البداية من الصفر، بحيث كما لاحظ ذلك حسن حنفي بحق: «يبدأ كل جيل وينتهي، ثم يبدأ الجيل الثاني كما بدأ الأول من الصفر»! وذلك بحيث ما إن ينطفئ مفكر عربي ـ ولا سيَّما في السنين الأخيرة ـ إلا ويطرح التساؤل: أين الخلف؟ يتساءل المهتمون بالشأن الفكري في الوطن العربي: أين من يتمّم «رحمانية» زكي الدين الأرسوزي و«شخصانية» رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي و«جوّانية» عثمان أمين و«وضعية» زكي نجيب محمود و«أرسطية» يوسف كرم و«وجودية» عبد الرحمن بدوي و«أصالية» الجابري، من الأموات؛ بل أين من يواصل جهد «تاريخانية» العروي و«تداولية» طه عبد الرحمن و«حدودية» علي أومليل و«تأويلية» حسن حنفي و«استقلالية» ناصيف نصار و«حداثية» سبيلا…؟
كيف تحاولون مغالبة هذين القدرين الفتّاكين؟
الأقدار الفتاكة كثيرة؛ ذكرت منها اللسان الواحد والنزعة الصفرية ومسألة الاستمرارية. ويمكن أن نضيف إليها عوائق أخرى أهمها الغربة والاغتراب، بل الرفض الضمني والصريح في ثقافة مهووسة بحماية ذاتها من هجمات العقل والتساؤل النقدي. هذا، إضافة إلى النزعات الوضعية التي تنكر السياق الثقافي وتتصور الفكر آلية ميكانيكية وأوتوماتيكية… والرفض السياسي للفلسفة وللفكر العقلاني النقدي، والاستهجان الشعبي للفلسفة.
في ما يخص المرآة والصدى، يجب أن نميّز بين الاتجاهات المذهبية والاختيارات التاريخية الكبرى التي لا تتجاوز ثلاثة مواقف: الانحياز إلى التاريخ والتطور؛ ورفض التاريخ والتطور، والمواقف التوفيقية بحديها.
أما في ما يخص المواصلة والإتمام، فأنا أميل إلى عدم فرض وصاية على التاريخ. الفكر حاجة وضرورة تاريخية لا محيد عنها. والمجتمعات والنخب الثقافية والفكرية العربية ستتجاوب مع هذه الحاجة وستستجيب لها عاجلاً أو آجلاً؛ لأن قانون التطور الكوني يفرض الحركيّة ويفرض تكسير القيود وفك الشرانق ولو على مدى زمني طويل.
الطريف لدينا هنا في المغرب هو هذه المفارقة الطريفة في التوازي المستمر بين الندرة والعمق.
المصادر:
(*) نُشر هذا الحوار في مجلة المستقبل العربي العدد 424 في حزيران/ يونيو 2014.
(**) محمد الشيخ: أستاذ الفلسفة، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب، الدار البيضاء.
البريد الإلكتروني: ech_cheikh@yahoo.fr
[1] نذكر هنا مؤلفات محمد سبيلا التالية: مدارات الحداثة: مقالات في الفكر المعاصر (1988)؛ المغرب في مواجهة الحداثة (1999)؛ النزعات الأصولية والحداثة (2000)؛ الحداثة وما بعد الحداثة (2000)، ودفاعاً عن العقل والحداثة: حوارات (2003). وقد جمع سبيلا مجمل أنظاره في الحداثة في كتاب حافل جامع نُشِر بالمشرق العربي تحت عنوان: مدارات الحداثة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011).
[2] محمد سبيلا، مدارات الحداثة (الرباط: منشورات عكاظ، 1988)، ص 5.
[3] محمد سبيلا، دفاعاً عن العقل والحداثة: حوارات، سلسلة كتاب الجيب؛ 39 (الرباط: منشورات الزمن، 2003)، ص 39.
[4] محمد سبيلا، أمشاج: حوارات في الثقافة والسياسة (القنيطرة، المغرب: المطبعة السريعة، 1999)، ص 7.
[5] سبيلا، دفاعاً عن العقل والحداثة: حوارات، ص 101 ـ 102.
[6] سبيلا، أمشاج: حوارات في الثقافة والسياسة، ص 7.
[7] المصدر نفسه، ص 44.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.