يقدم هذا الكتاب السنوي صورة لأهم الأحداث والتطورات التي شهدها الوطن العربي ـ أنظمةً ومجتمعات ـ خلال عام 2013 والشهور الأربعة الأولى من عام 2014. وشأن أي كتاب سنوي فإن صفحاته تمثل مرآة يبدو على وجهها الأشخاص والوقائع والأفكار الذين أثروا في مسار الأحداث خلال العام، وبقدر ما يكون الرصد دقيقاً والتحليل متوازناً تكون صدقية الكتاب وسلامة تمثيله للواقع.
لكن الرصد والتحليل المباشرين للأحداث لا يكفيان بمفردهما، فالكتب السنوية عادة ما يكون لها أهداف ومرامٍ أعمق تتجاوز الرصد والتحليل المباشر، وهذا هو وضع كتاب حال الأمة العربية ذلك أن فلسفته تكمن في تلمس إلى أي مدى قاربت الأحداث في عام من الأعوام الوطن العربي من غاياته أو أبعدته عنها، فهذه السلسلة من الكتب تنهض على فكرتين أساسيتين:
أولاهما أن هناك غايات كبرى للأمة العربية يمكن إيجازها في: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي والتجدُّد الحضاري.
وثانيتهما، تحليل حصاد أحداث العام لحركة الفاعلين الأساسيين في الأمة على مستوى الحكومات والأحزاب والمجتمع المدني، واستنتاج إلى أي مدى مثّل هذا الحصاد اقتراباً أو ابتعاداً أو مزيجاً من الاثنين من تلك الغايات.
لا بد من تحذير منهجي هنا، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا تحدث بين عام وآخر، وعندما يحدث انفجار شعبي ثوري مثلما حدث في العام 2011، فإن جذوره وإرهاصاته تعود لسنوات سابقة. لذلك، تكمن أهمية الكتب السنوية في متابعة نتائجها من عام إلى آخر، والتعرف إلى مدى الاستمرار أو التغير فيها، وعما إذا كنا نستطيع تحديد اتجاهات عامة أو «خطوط استراتيجية» للتطور على مدى عدة سنوات.
ـ 1 ـ
يمثل تحليل النظام الدولي المقدمة الطبيعية لتحليل حال الوطن العربي أو غيره من مناطق العالم، وذلك لأن هذا النظام يمثل السياق الخارجي الذي تمارس فيه مختلف الدول سياساتها الخارجية، وتحافظ على أمنها الوطني والقومي، ولأن هذا النظام يفرض عليها «قيوداً» من ناحية، ويوفر لها «فرصاً» من ناحية أخرى.
ويشير الفصل الأول من الكتاب بعنوان «النظام الدولي: ارتباك أمريكي وفرص جديدة للعرب»، بجلاء إلى أن هذا النظام ما زال في طور التغير والتحول، وأنه لم يستقر بعد على شكل محدد وإنما يشهد علاقات متشابكة ومتداخلة من التعاون والتنافس، ومن التنسيق والاختلاف. فمن ناحية، تسعى الولايات المتحدة بشكل حثيث إلى الحفاظ على موقعها «المنفرد» على قمة العالم، الذي نجحت في شغله منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفياتي. وتستغل في هذا السعي قدرتها العسكرية ذات الامتداد العالمي، التي لا تدانيها أو تقاربها فيها أي دولة أخرى. كما تستغل حقيقة أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو الأول في العالم رغم تراجع نصيبه النسبي من الناتج العالمي الإجمالي، وأنها ما زالت المركز الرئيسي للابتكار التكنولوجي.
من ناحية أخرى، فإن هذا الموقع المتميز للولايات المتحدة يتهدده عدد من التطورات، أبرزها ازدياد الوزن الاقتصادي لقوى أخرى، أبرزها الصين وروسيا والهند، على مستوى مساهماتها في الناتج العالمي الإجمالي، ومشاركتها في حجم التجارة الدولية وحركة الاستثمار العالمي، وتصاعد قدراتها العسكرية، وخصوصاً الدور العسكري المتزايد للصين في آسيا. وقد أدى هذا الوضع إلى نوع من الالتباس في توصيف النظام الدولي الراهن، فلا هو بنظام القطب الواحد، ولا هو نظام تعدد الأقطاب. كما أن العلاقات القائمة بين أطرافه الكبرى تتسم بالجمع بين المصالح الاقتصادية المشتركة والتنافسات والصراعات السياسية والاستراتيجية. ويفرض هذا التداخل قيداً على حرية الدول الكبرى في حركتها وقراراتها، لأن أحد نتائج ترابط المصالح هو أن قيام أحد الأطراف مثلاً بالتوسع في فرض عقوبات اقتصادية على الدولة المنافسة سياسياً من الأرجح أن يؤدي إلى إلحاق الأذى بنفسه. في هذا السياق، يمكن فهم حدود السلوك الأمريكي والروسي في معالجة الأزمة الأوكرانية التي نشبت في نهاية العام 2013، واستمرت في الشهور الأولى من 2014.
وظهر هذا الموقف الملتبس في مواقف الدول الكبرى تجاه الوطن العربي. فرغم الاختلافات الاستراتيجية بين موقفي واشنطن وموسكو تجاه الأزمة السورية، فإن ذلك لم يمنع الدولتين من التعاون سوياً بشأن تفكيك ترسانة السلاح الكيميائي السوري، وكذلك تعاونهما في الدعوة إلى مؤتمر جنيف 2.
ووفر هذا الوضع «فرصاً» استراتيجية للبلدان[1] العربية، فقدمت السعودية والإمارات والكويت الدعم المالي والسياسي إلى نظام الحكم الجديد في مصر بعد حزيران/يونيو 2013 في تعارض واضح مع موقف الولايات المتحدة. كما التزمت السعودية والإمارات بتمويل صفقة السلاح التي أبرمتها مصر مع روسيا. وأفصحت السعودية بشكل واضح عن مخاوفها تجاه تداعيات الاتفاق الأمريكي الغربي مع إيران بشأن برنامجها النووي وتأثيراته في الأمن الإقليمي وحالة التوازن في منطقة الخليج. وفي هذا السياق، تنامت العلاقات العربية مع روسيا والصين والهند.
ـ 2 ـ
تناول الفصل الثاني تطور الأوضاع في دول الجوار الجغرافي، وهي: إيران وتركيا وإثيوبيا، وتأثير هذا التطور في علاقاتها بالبلدان العربية.
شهدت إيران أكبر قدر من التغيير عقب انتخابات الرئاسة ـ وتولي حسن روحاني السلطة ـ التي مثّلت بداية جديدة في سياسة إيران الخارجية، تحكمها من الناحية النظرية مبادئ الاعتدال والواقعية والابتعاد عن المزايدات الأيديولوجية. وكان من شأن انتهاج هذه السياسة إعطاء دفعة قوية للمحادثات غير العلنية بين الولايات المتحدة وإيران، التي بدأت بوساطة عُمانية في آذار/مارس 2013، وأسفرت عن المحادثة التليفونية الشهيرة بين الرئيسين أوباما وروحاني في أيلول/سبتمبر، ثم في إبرام الاتفاق المرحلي بشأن البرنامج النووي الإيراني في 24 تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه.
وفتح هذا التطور الباب لبدء إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، وتطوير علاقات التجارة والاستثمار مع بعض الدول الأوروبية. ونجحت إيران في تحقيق ذلك دون التنازل عن حقها المبدئي في تطوير التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية، ودون تهديد لعلاقتها مع روسيا والصين.
ومن المرجّح أن هذا التطور أعطى إيران ثقة أكبر، ووفر لها الظروف المناسبة لدور خليجي وإقليمي أكثر تنوعاً ونشاطاً، مستفيدة في ذلك من اختلاف المواقف بين الأنظمة الخليجية والعربية إزاءها. وفي ضوء ذلك يمكن فهم ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ التقارب المتزايد بين مصر من ناحية، والسعودية والإمارات والكويت والبحرين من ناحية أخرى، ودلالة المناورات العسكرية المشتركة بين مصر والإمارات في آذار/مارس، ومع البحرين في نيسان/أبريل 2014.
أما بالنسبة إلى تركيا، فقد كانت حصيلة أحداث السياسة الداخلية ملتبسة وتمثل خليطاً من الإخفاق والنجاح، أما السياسة الخارجية فكانت خاسرة بامتياز. إذ أدت تظاهرات تقسيم ـ غيزي، والكشف عن فضيحة الفساد المالي التي طاولت عدداً من الوزراء، والتدخل الحكومي السافر في شؤون القضاء والشرطة للتأثير في مسار التحقيق والعدالة، وتواضع مقترحات الإصلاح التي تقدم بها رئيس الوزراء أردوغان إلى اهتزاز صورته. كما أدت الانتكاسة التي أصيبت بها السياسة الخارجية التركية في سورية ومصر، وتوتر العلاقات مع السعودية وعدد من الأنظمة الخليجية إلى تراجع دور تركيا الإقليمي. وحاولت أنقرة تجاوز ذلك بتجديد علاقاتها مع إيران، ولكن طهران حرصت على إبقاء العلاقة داخل حدود دون زيادة. وأدت الإجراءات التركية بشأن حرية تداول المعلومات على الفضاء الإلكتروني إلى توترات في العلاقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
مع ذلك، وبسبب مهارات أردوغان السياسية والتنظيمية، واختلاف خصومه الحزبيين وانقسامهم تمكن حزبه ـ حزب العدالة والتنمية ـ من الفوز بالانتخابات البلدية التي أجريت في 30 آذار/مارس 2014 وحصل حزبه على نسبة 46 بالمئة من مجموع أصوات الناخبين وتلاه حزب الشعب الجمهوري المعارض بنسبة 27.8 بالمئة، فحزب الحركة القومية بنسبة 15.2 بالمئة. وشهدت الانتخابات أعمال عنف نتج منها سقوط 12 قتيلاً و39 مصاباً، وهو الرقم الأعلى في تاريخ الانتخابات التركية. كما تعرضت نتيجة الانتخابات لاتهامات بالتزوير من جانب حزب الشعب الجمهوري الذي طالب بإعادة فرز الأصوات في أنقرة، وهو ما رفضته اللجنة المشرفة على الانتخابات.
وهكذا، كان عام 2013 هو عام الأزمات بالنسبة إلى تركيا، وعام تراجع قوتها الناعمة، وتطلعات نظامها الحاكم لإعادة بناء «العثمانية الجديدة»، وفشلها السياسي في حل المشاكل التي كانت قد التزمت بحلها سابقاً.
أما بالنسبة إلى إثيوبيا، فقد طورت دورها الإقليمي على الصعيدين العسكري والسياسي. فعسكرياً، انتشرت قوات إثيوبية في الصومال وعلى الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان كجزء من قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي. وسياسياً، أدّت أديس أبابا دور الوسيط في الخلاف الحدودي بين السودان وجنوب السودان، وفي داخل جنوب السودان بين الرئيس ومعارضيه. ونجحت إثيوبيا أيضاً في الاستمرار في تشييد سد النهضة الذي تعتبره عنواناً لتقدمها و«مشروع القرن» بالنسبة إليها، وذلك وفقاً للمخطط الذي وضعته رغم كل الاعتراضات المصرية والعربية.
من الواضح أن كلاً من إيران وإثيوبيا حققتا مكاسب على حساب الجانب العربي، فنجحت إيران في الوصول إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، وبدأت مباحثات الاتفاق المرحلي الثاني دون أن يكون على جدول الأعمال تأثير ذلك في دورها الإقليمي، ولم تأخذ في الحسبان مخاوف أغلب أنظمة مجلس التعاون من «تمدد» هذا الدور. ونجحت إثيوبيا ـ من جانبها ـ في تنفيذ خطة تشييد سد النهضة دون اعتبار للمخاوف المصرية على مواردها المائية.
ـ 3 ـ
يتناول الفصل الثالث تطور النظام العربي، والحجة الرئيسية لهذا الفصل هي أن النظام يمر بمرحلة انتقالية يشهد فيها محاولات للتغيير في هيكله وعقيدته ليتحول من نظام تسوده التفاعلات الرسمية بين الدول والحكومات إلى نظام تفاعلي تشغل فيه المنظمات والجماعات غير الرسمية والفاعلين من غير الدول حيزاً أكبر من تفاعلاته، يعوضون بها قصور التفاعلات الرسمية، وإن كانت الشهور الأخيرة من عام 2013 والأولى من عام 2014 تشير إلى حدود تلك المحاولات وعودة التفاعلات الرسمية إلى صدارة المشهد.
عرض الفصل مظاهر مراوحة النظام بين التفاعلات الرسمية وغير الرسمية، ومنها: استمرار الانقسام والضعف في وحدات النظام الرسمية، وتبلور ظاهرة الثورات المُعطلة وغير المكتملة، وتكاثر قوى عدم الاستقرار داخل النظام، والمفارقة بين تعثر عمليات التكامل بين القوى الرسمية وازدهارها بين القوى غير الرسمية، والانتقائية وعدم التماثل في موقف النظام تجاه الانتفاضات والثورات العربية، وظهور مركز ثقل جديد لصنع القرار المؤسسي ـ هو مجلس التعاون الخليجي ـ مع وجود انقسامات داخل هذا المركز تؤثر في دوره.
ثم يدرس الأداء المؤسسي لجامعة الدول العربية، فيتناول مشروعات تطوير الجامعة وما آلت إليه من قبول أو إرجاء من جانب مؤتمر قمة الكويت في آذار/مارس 2014، وأداء مجلس الجامعة تجاه الأزمات والقضايا العربية في سورية وليبيا ومصر ولبنان واليمن وغيرها، وكذلك تجاه موضوع التعاون العربي ـ الأفريقي، ودور المجتمع المدني العربي.
ثم يناقش ملامح تشكل نظام عربي جديد في ضوء آثار الانتفاضات والاحتجاجات العربية وتداعياتها، وتمدد دور مجلس التعاون الخليجي، وتأثير رئاسة قطر للقمة العربية في عام 2013، وهو ما أعطى لها دوراً متميزاً في قيادة العمل العربي. وبينما أدى ذلك إلى بروز دور مجلس التعاون في توجيه النظام العربي، فإن الخلافات المتزايدة بداخله بين السعودية والإمارات والبحرين وبين قطر، والمواقف المنفردة لسلطنة عمان أدت إلى إضعاف هذا الدور.
تمّت هذه التفاعلات في بيئة اتسمت بتزايد المخاوف والتحفظات لدى أنظمة مجلس التعاون الخليجي، ما عدا قطر وسلطنة عمان، تجاه الولايات المتحدة، ومدى الركون إليها في مواجهة التهديدات الإقليمية المحتملة بعد انفراج أزمة البرنامج النووي الإيراني. وأدى ذلك إلى تزايد الإدراك بالحاجة المتبادلة والمصلحة المشتركة بين هذه الأنظمة ومصر.
ويثير الفصل التساؤل عمّا إذا كان هذا التحالف الخليجي ـ المصري، الذي يمكن أن يقود إلى بناء نظام عربي جديد، سيستمر على مدى السنوات القادمة، أم أن «التطمينات» الأمريكية للسعودية وأنظمة الخليج ستؤدي إلى عودة الأوضاع القديمة.
ـ 4 ـ
بعد الانتهاء من عرض التطورات الدولية والإقليمية والعربية، يتناول الفصلان الرابع والخامس تطور الأوضاع السياسية الداخلية في الأقطار العربية.
يركز الفصل الرابع على أزمات المرحلة الانتقالية في بلدان الربيع العربي، وهي تحديداً: مصر وتونس واليمن وليبيا. وقد أكدت التطورات الدرامية التي شهدتها هذه البلدان خلال العام أنها تعاني أزمات حادة ومتزامنة ومترابطة، الأمر الذي جعل المرحلة الانتقالية التي تمر بها تتسم بدرجة عالية من الصعوبة والتعقيد. وتتجلى أبرز تلك الأزمات في: استمرار حالة الانفلات الأمني مع تصاعد أعمال العنف والإرهاب، وتفاقم حدة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بسبب تدهور أداء السياسات العامة، وتطور العلاقات المدنية ـ العسكرية وما يقترن بها من مخاطر عسكرة السياسة وتسييس الجيش، وتزايد الاختراق الخارجي بما يمثل تهديداً للأمن الوطني والقومي، هذا فضلاً عن أزمة بناء مؤسسات الدولة في ليبيا واليمن، وإصلاح أجهزتها ومؤسساتها في مصر وتونس.
تأتي الأزمات السابقة كافة في سياق أزمة بنيوية تتعلق بالفاعلين السياسيين في هذه الأقطار، وهي تتمثل بغياب أو ضعف القدرة على بناء التوافق الوطني بشأن أولويات المرحلة الانتقالية وأساليب إدارتها، وهو ما يرتبط بالأزمة الأعمق التي تعانيها النخب السياسية بمختلف أطيافها وانتماءاتها.
ويصل الفصل إلى أن مستقبل هذه الأنظمة خلال الأجلين القصير والمتوسط يعتمد على كيفية معالجتها لثمان قضايا:
أولها، قدرتها على صوغ برامج للتكامل الإقليمي مع الأقطار العربية الأخرى وتطبيقها على كافة الصعد الاقتصادية والدفاعية والثقافية والتربوية بعد أن اتضح عجز الأنظمة القطرية عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المطروحة.
ثانيها، التزامن بين معضلتي بناء مؤسسات الدولة الوطنية وتأسيس الديمقراطية. ففي حالة ليبيا واليمن هناك أخطار محدقة على وجود الدولة ذاته، وبدرجات مختلفة، يمكن أن تؤدي إلى التفكك والتقسيم، وفي حالتي مصر وتونس فإن شبح الفشل الوظيفي يحاصر أجهزتها ومؤسساتها، بدرجات مختلفة، وهو ما يفرض في كل الحالات أهمية الاستمرار في الإصلاح المؤسسي وبناء دولة ديمقراطية قوية.
ثالثها، قدرتها على اتباع سياسات التعاون والتفاعل مع دول الحوار العربي، لا سيّما الحوار الحضاري منها، على قاعدة الاحترام المتبادل لمصالح وسيادة الجميع، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول كافة.
رابعها، قدرتها على استشراف التطورات المتسارعة على الصعيد العالمي وإعادة تموضع الأمة العربية في علاقاتها الدولية بما يعزز من أمنها، ويطور من اقتصادها، ويحررها من الهيمنة، ويصون أمنها القومي على قاعدة «نصادق من يصادقنا، ونعادي من يعادينا».
خامسها، أن الديمقراطية ليست مجرد إصدار دستور وإجراء انتخابات. فمع التسليم بأهمية الدستور والانتخابات كمرتكزين للديمقراطية إلا أنهما بمفردهما ليسا كافيين لتحقيق الانتقال الديمقراطي، إذ إنه من المهم أن يصدر الدستور بشكل توافقي وأن يتم احترامه في الممارسة، وأن تتعزز شرعية الصندوق بشرعية الإنجاز.
سادسها، أن الأسلوب الأمني لا يكفي بمفرده لمواجهة التطرف والإرهاب، حيث يتطلب الأمر استراتيجية متكاملة تأخذ في اعتبارها تجفيف منابع التطرف والإرهاب المادية والفكرية، وتحقيق التنمية في المناطق الفقيرة والمهمشة ومعالجة المظالم والاختلالات التي تعانيها بعض الأقاليم.
سابعها، أن الحركات والأحزاب الإسلامية سوف تظل فاعلة على الساحة السياسية بشرط التزامها بقواعد الدستور والقانون وبمبادئ الديمقراطية وتداول السلطة من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة. وينطبق ذلك بالدرجة نفسها على الأحزاب والقوى القومية والليبرالية واليسارية.
ثامنها، احتمالات تزايد التدخل الخارجي واستغلال الثغرات التي توجدها الأزمات الداخلية الممتدة بما يمثله ذلك من انكشاف واضح للأمن الوطني والقومي.
ما لا شك فيه أن بلدان الربيع العربي تعيش أوضاعاً استثنائية، فقد نشبت فيها انتفاضات شعبية جارفة، وأسقطت نظماً تسلطية كان الاعتقاد السائد بسطوتها وبأسها وقدرتها على الصمود. وخلال عملية التعبئة الشعبية تحركت قوى وجماعات مهمّشة، وشاركت في الحياة السياسية بعد عزوف ولامبالاة استمر لعقود. ما حدث ـ ويحدث ـ في هذه البلدان ليس مجرد تغيرات في البناء الدستوري والقانوني وهيكل نظام الحكم، ولكنه يتجاوز ذلك إلى مفهوم الحكم ذاته وغاياته ومصدر شرعيته ليؤكد انتهاء فلسفة «دولة الوصاية» واحتكار «فاعل واحد» أو «قوة واحدة» السيطرة على مقاليد الحكم، وبدء الانتقال إلى «دولة المواطنة والقانون». كما يُغير من إدراك المواطنين للعلاقة بين المجتمع والدولة، ولمفهوم العدل والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ينبغي أن يتمتع بها كل مواطن. ومثل هذه التحولات الجذرية، التي سبق لمجتمعات أخرى أن اختبرتها، تستغرق بالضرورة سنوات. وفي هذا السياق، فإن الأزمات والاختناقات التي تشهدها بلدان الربيع العربي هي مظاهر وعلامات للتحول من تنظيم اجتماعي وسياسي تسلطي إلى آخر ديمقراطي.
ـ 5 ـ
يتناول الفصل الخامس بقية البلدان العربية، فيدرس خطوات الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي فيها، وذلك من خلال بحث خمسة مؤشرات، هي: الإصلاح الدستوري ومبادرات الحوار الوطني، والتقدم في المشاركة السياسية، والقوانين المنظمة لممارسة الحقوق والحريات العامة، وسيادة حكم القانون واستقلال القضاء، ونزاهة الانتخابات من واقع الخبرة الفعلية للانتخابات الرئاسية والنيابية والبلدية. ويعرض لما شهدته هذه البلدان من تطور في هذه المجالات.
ومع أنه من الصعب إطلاق حكم إجمالي على الإصلاحات السياسية في هذه الأقطار، ومدى تقدمها على طريق الانتقال إلى الديمقراطية، بسبب التباين الكبير في سياقاتها الاجتماعية ـ السياسية التي أفضت إلى تفاوت نقطة البداية للإصلاح؛ مع ذلك، فقد كان التقدير أن هذه الإصلاحات ظلت في مجملها ذات طبيعة جزئية وانتقائية، ولم تمس توزيع موارد القوة والنفوذ في المجتمع، وأنها قابلة للنكوص والارتداد، وأنها لم تغُص في عمق المشكلات التي أدت إلى الحراك السياسي والانتفاضات والثورات الشعبية التي شهدتها المنطقة.
يعود هذا التقييم إلى عدة أسباب: أولها نقص الإرادة السياسية للإصلاح، وضعف قوى المعارضة وعجزها عن طرح مشروعات للتغيير والتقدم تأخذ في اعتبارها مطالب الحراك الاجتماعي بشكل واقعي يوازن بين الموارد والإمكانات. وثانيها، الفهم الخاطئ من جانب هذه النظم لطبيعة الحركات الاحتجاجية، إذ اعتبرتها معظمها مجرد شغب تحركه أياد خارجية لتقويض الاستقرار وتحقيق أهداف و«أجندات» خارجية. وثالثها، عجز هذه النظم عن التكيف مع متطلبات الانتقال الديمقراطي، ومنها خضوع الحاكم للقانون والمحاسبة. ففي الكثير من هذه الدول، يكون للحاكم سلطات واسعة بدون رقابة أو محاسبة كما يكون له مكانة دينية، أو حصانة سياسية. وأدى هذا الفهم لدور الحاكم إلى فرض قيود على حرية الرأي والتعبير. ورابعها، تعثر الإصلاحات التي اعترت بعض الانتفاضات والثورات التي نجحت في إسقاط النظم الحاكمة في بلدان الربيع العربي، وانزلاق بعضها إلى نزاعات مسلحة أو تزايد النزعات الانفصالية أو اجتذاب التدخل العسكري الأجنبي أو استمرار الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار الاجتماعي والتدهور الاقتصادي. وخامسها، تفشي مظاهر التطرف الفكري والإرهاب السياسي والعنف المجتمعي، وهو ما أعطى النظم الحاكمة مبرراً لتعطيل عملية الإصلاح، وإعطاء أسبقية لمكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن والاستقرار.
ويحذّر الفصل في النهاية من أن إعادة تجربة السياسات الشكلية في الإصلاح لن تجدي في إشاعة الاستقرار، وأن البديل هو إصلاح جاد لا يهدف إلى كسب الوقت، وأن يستهدف التفاعل مع المطالب المشروعة للحراك السياسي الاجتماعي العربي.
والملاحظة العامة على تطور الأوضاع السياسية الداخلية العربية، سواء في البلدان التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية أو تلك التي لم تختبر ذلك بعد، هي ضعف الثقة المتبادلة بين الفاعلين السياسيين وتراجع قدراتهم على بناء التحالفات والتوافقات الوطنية، باستثناء تونس؛ ومن مظاهر ذلك في الأقطار الأخرى، عدم الثقة بين النظم الحاكمة والمعارضة، وبين القوى السياسية المستندة إلى أساس مذهبي ديني مثل «السنة» و«الشيعة»، وبين قوى المعارضة ذاتها، سواء كانت مدنية أو إثنية ـ طائفية، وبين تنظيمات المعارضة المسلحة وبعضها ببعض. ويرجع ضعف الثقة السياسية إلى انتشار ثقافة الاستحواذ والانفراد بالسلطة من ناحية، والخبرات السلبية السابقة في التعاون، وتأثير التدخلات الخارجية، وتعقيدات المراحل الانتقالية.
ـ 6 ـ
يناقش الفصل السادس أداء الاقتصادات العربية خلال الفترة التي يغطيها التقرير في سياقها الإقليمي وعلاقاتها بالاقتصاد العالمي. وبصفة عامة، يشير الفصل إلى عجز تلك الاقتصادات عن أداء مهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقلة، واستمرار قصور التكامل الاقتصادي العربي والعجز عن تحسين شروط التعامل مع الاقتصاد العالمي. ويمكن إرجاع هذا الوضع إلى عدة أسباب منها: إعطاء أغلب الأقطار العربية الأولوية لمقتضيات الالتحاق بالعولمة بشكل فردي قبل تمكين الاقتصاد الوطني وتعزيز قدراته على التعامل مع النتائج السلبية لهذا ذلك الالتحاق؛ ومنها ازدياد دور المؤسسات المالية الدولية والشركات متعدية الجنسية، وكذلك الاستمرار في اتباع سياسات الليبرالية الجديدة أو ما يعرف بإجماع واشنطن. وأدى ذلك كله إلى تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة أمام منطق السوق والمنافسة والاقتصاد الحر، وتزايد درجة الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج.
وفي ظل هذه الأوضاع أصبح الاقتصاد الوطني، وبدرجات مختلفة، أسيراً للمصالح الخارجية، وأكثر عرضة للتأثيرات السلبية للأزمات الاقتصادية والمالية العالمية، كما أصبحت الصعوبات الاقتصادية الداخلية أكثر خطورة مع تزايد نسب البطالة والفقر وتراجع جودة التعليم وانتشار ممارسات الفساد المؤسسي، وهو ما يهدد التماسك الاجتماعي بحكم الصلة الوثيقة بين الأوضاع الاقتصادية والحالة السياسية.
ينطلق الفصل من الطابع الريعي للاقتصادات العربية، إذ إن أهم ما يميز البنية الاقتصادية في البلدان العربية هو اعتمادها على القطاعات الريعية وأساسها القطاعات الاستخراجية، الأمر الذي يجعل الريع هو المصدر الرئيسي لتكوين الثروات. وكان لتلك السمة الريعية أثرها في تشكيل هيكل تلك الاقتصادات من حيث أداء الناتج المحلي الإجمالي والهيكل القطاعي له، وهيكل الإيرادات الحكومية. وأفضى ذلك إلى النمو غير المتوازن للقطاعات الاقتصادية، وتغييب العناصر المتعلقة بسياسات العدالة الاجتماعية، وكان من شأن ذلك تهيئة البيئة المناسبة للانتفاضات والاحتجاجات والثورات.
وتأسيساً على ذلك، يطرح الفصل تصوراً «لاقتصاد اليوم التالي»، الذي يربط بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وينهض على مبادئ تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين، واستقلالية القرار التنموي، واستدامة الجهود التنموية، والمشاركة الشعبية من خلال العملية الديمقراطية والسعي إلى بناء علاقات أوثق وأكثر تكاملاً بين الاقتصادات العربية.
ـ 7 ـ
يناقش الفصل السابع تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، ثم يعرض مسار المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية التي تمّت بمبادرة ورعاية ومشاركة أمريكية شملت زيارة الرئيس أوباما إلى رام الله في 21 آذار/مارس 2013، وقيام وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بزيارة إسرائيل وفلسطين أكثر من عشر مرات في أقل من عامين. ويعرض العقبات التي واجهت هذا المسار، التي كان أبرزها طرح إسرائيل شروطاً جديدة كشرط الاعتراف بالهوية اليهودية للدولة، وشرط الاستمرار في احتلال غور الأردن، إلى جانب رفضها القبول بحق العودة للاجئين الفلسطينيين والانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها في العام 1967. ومن ناحية السلطة الفلسطينية، فهي باتت عاجزة عن الاستمرار في المفاوضات، لأن ما هو مطروح عليها هو أدنى كثيراً من الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية. وأدى هذا الوضع، مقابل عدم رغبة الولايات المتحدة في الضغط على إسرائيل لتغيير موقفها، إلى دخول المباحثات في طريق مسدود، وإعلان واشنطن فشل هذه الجولة من دون تحديد الخطوة القادمة.
وخلال العام أيضاً، برز تأثير التطورات السياسية في بلدان «الربيع العربي» على الفلسطينيين، خصوصاً في مصر وسورية. فقد ترتب على تغيير الوضع السياسي في مصر وسقوط حكم الإخوان حالة من التوتر بين النظام الجديد وحماس بعد اتهامها بالتدخل في الشأن الداخلي المصري بما في ذلك دعم جماعة الإخوان وتأييد الأعمال الإرهابية ضد مصر، وترتب على ذلك إضعاف المركز النسبي لحماس تجاه فتح، والتضييق على أوضاع سكان غزة نتيجة تدمير الأنفاق، وعدم فتح معبر رفح البري بصورة دائمة كما كان في فترة حكم الإخوان. أما الوضع بالنسبة إلى فلسطينيي سورية، فقد كان أكثر قسوة ومأساوية، وقام الجيش السوري بقصف المخيمات وحصار بعضها بسبب سيطرة الجيش الحر أو بعض قوى المعارضة الأخرى على أجزاء من تلك المخيمات واعتبارها ملاذاً آمناً للمعارضين، أو بسبب قربها الجغرافي من مناطق تسيطر عليها المعارضة.
كما حمل عام 2013 مفارقة نوعية بين سلوك النخبة وسلوك الشعب الفلسطيني، فبينما استمرت النخبة السياسية الحاكمة في الضفة والقطاع في مسلكها السياسي الاعتيادي الذي التزم بالمفاوضات كخيار وحيد (السلطة)، أو استمر في رفع شعارات المقاومة مع تطبيق فعلي للهدنة مع إسرائيل (حماس)، فقد حدث تطور مهم على المستوى الشعبي، وخصوصاً الشباب في الضفة الغربية وبين فلسطيني 1948 تبلور في قيام عدد من شباب القرى بمبادرات سياسية استقطبت بعض اليهود والمنظمات الدولية، وقاموا بمحاولات لإعادة بناء القرى التي دمرتها إسرائيل، وبشكل يشير إلى تطبيقهم لحق العودة.
ويعرض الفصل لتطورات عملية المصالحة بين حركتي فتح وحماس خلال العام 2013، وفشل الوصول إلى تحقيق أي تقدم حقيقي. وبعيداً من الحجج التي استخدمها الطرفان، فإن السبب الحقيقي هو أنه يترتب على المصالحة فقدان إحدى الحركتين لسيطرتها على السلطة وما يرتبط بها من مزايا وامتيازات.
ومع ذلك شهدت الشهور الأولى من عام 2014 تطوراً نوعياً مهماً، فقد تسارعت الاتصالات بين فتح وحماس، ثم جاءت المفاجأة بزيارة وفد يمثل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة عزام الأحمد غزة، وسماح السلطات المصرية للقيادي الحمساوي موسى أبو مرزوق بعبور الأراضي المصرية إلى القطاع. وسرعان ما أسفرت المباحثات عن اتفاق الطرفين في 23 نيسان/أبريل 2014 على تأليف حكومة توافق وطني، وتزامن الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ وتخويل الرئيس أبو مازن تحديد موعد الانتخابات بالتشاور مع القوى والفاعليات الوطنية، على أن يتم إجراؤها بعد ستة أشهر من تأليف الحكومة على الأقل، وتأليف لجنة لتطوير عمل منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل نشاطها. يعرض الفصل لهذه التطورات، ويطرح التساؤل حول مدى جدية الطرفين في تطبيق ما تم الاتفاق عليه، وعما إذا كان هذا الاتفاق يمثل تغيراً في رؤية فتح وحماس للواقع الفلسطيني والتحديات التي تحاصره أم أنه «اتفاق ضرورة» اقتضته تغيرات الواقع الإقليمي وتوازن القوة السياسية بينهما.
ـ 8 ـ
ووصل التحليل في الفصل الثامن الخاص بسورية إلى أن عام 2013 شهد تحولاً حاسماً في مسار الحرب كانت له بداياته في الشهور الأخيرة من عام 2012. فقد تبددت الأوهام بشأن هزيمة الجيش السوري وإسقاط النظام إضافة إلى انقسام المعارضة المسلحة واعتبار بعض أطرافها (النصرة وداعش) منظمات إرهابية من قبل الولايات المتحدة والسعودية نفسها. وكان من شأن ذلك تغيير حالة التوازن العسكري في الميدان، وانتقال الكفة إلى رجحان للجيش السوري وحلفائه، وأدى ذلك إلى زيادة الأمل في قدرة الجيش السوري على الفوز أو حسم المعركة لصالحه في ضوء التطورات الميدانية خلال الأشهر الأولى من عام 2014.
في هذا السياق، جاءت أزمة استخدام السلاح الكيميائي، وقبول واشنطن بالحل الدبلوماسي الذي اقترحته موسكو، وتراجعها عن صيحات التهديد والوعيد التي أطلقتها من قبل هذا في الوقت الذي كانت قد أقامت فيه «خطوط اتصال» مع إيران، ثم جاء انعقاد مؤتمر جنيف 2، والذي لم يسفر عن نتائج محددة، ومن المشكوك فيه أن يُعقد مؤتمر جنيف 3. ومن الأرجح أن واشنطن قد أدركت أن «الميدان» لن يكون مجال حسم الأزمة، وأنها لا بد من أن تُحل سياسياً ومن خلال التفاوض. وكان لهذه التطورات تداعياتها الإقليمية على مستوى الدول المعارضة للنظام السوري كان من تجلياتها تنحية الأمير بندر بن سلطان رئيس الاستخبارات السعودية والمسؤول عن الملف السوري من منصبه، وهزيمة التيار المتشدد في النظام السعودي بسبب الفشل في تحقيق الأهداف التي أعلنها ودعمه لقوى وتنظيمات متطرفة وتكفيرية. وبالنسبة إلى تركيا، فمع أن هدف إسقاط النظام السوري يبقى هدفاً مركزياً لحكومتها، فقد تزايدت هواجس أردوغان من إمكان تحقيق ذلك، ولا سيّما مع إعلان الرئيس السوري ترشحه لانتخابات الرئاسة في حزيران/ يونيو 2014، فقد رأى رئيس الوزراء التركي أن ذلك سيؤدي إلى تأكيد استمرار النظام رغم كل الضغوط السياسية والعسكرية التي مورست بهدف إسقاطه.
كان من تداعيات استمرار الصراع أيضاً بروز حجم التكلفة البشرية التي تمثلت في الأعداد الكبيرة من النازحين السوريين داخل سورية وخارجها، والمشاكل المعيشية والصحية التي ترتبت على ذلك، وبسبب عدم قدرة البلدان المستقبلة للنازحين السوريين على الوفاء بهذه الأعباء.
في أيار/مايو 2014 يبدو الصراع السوري في مراحله الأخيرة، فقد استمر تشرذم وانقسام القوى المعارضة للنظام، وظهر أن الخطر الذي تمثله على الأمن والاستقرار في المنطقة فادح. من ناحية أخرى، أثبت النظام تماسكه ووحدته وقدرته على الصمود والبقاء، كما نجح في ضمان استمرار الدعم الخارجي الذي مكنه من ذلك.
إن حل هذا الصراع بأبعاده الداخلية والإقليمية والدولية يتطلب تسوية تاريخية بكل هذه الأبعاد، أهمها اتفاق القوى السورية على عقد سياسي واجتماعي جديد يقوم على مبادئ المواطنة وسيادة القانون والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعدالة للجميع.
ـ 9 ـ
أما بالنسبة إلى العراق، الذي تناوله الفصل التاسع، فقد شهد خلال عام 2013 استمرار أزمة شرعية حكومة نوري المالكي بسبب فشلها في حل عدد من الملفات المتعلقة بكيان الدولة ونظام الحكم، وهو ما ترتب عليه استمرار العنف الإثني ـ الطائفي، وموجة التظاهرات التي شهدها عدد من المحافظات أبرزها الأنبار، التي دفعت الحكومة إلى تجريد حملة عسكرية ضدها بدعوى «مكافحة الإرهاب»، وكان من شأن ذلك إجبار نحو 300 ألف شخص قد أجبروا على النزوح من مساكنهم بحسب تقدير الأمم المتحدة في شباط/فبراير 2014.
ينبع المصدر الأول لغياب الشرعية من الطبيعة الإثنية ـ الطائفية للوضع العراقي، فقد تراجعت الأحزاب المدنية المؤسسة على الاختلاف الأيديولوجي والسياسي لمصلحة الأحزاب الطائفية. وترتب على ذلك أن اتسم التصويت الانتخابي في مجمله بالطابع الطائفي.
وأدى فشل الحكومة في صبغ نفسها بصبغة وطنية إلى مزيد من الاحتقان الإثني ـ الطائفي، وشعور قطاعات واسعة من العراقيين السنّة بالإقصاء السياسي والاجتماعي، وظهور حركات احتجاجية كان العنف سبيلها للتعبير عن مطالبها، ومثّل اندلاعها واستمرارها فرصة ذهبية لتغلغل تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات المتطرفة، وساعد في ذلك توافر السلاح واستمرار نشاط التنظيمات المسلحة من «السنّة» و«الشيعة». كان الاستثناء هو موقف الأكراد ـ مؤقتاً ـ الذي نأى التيار الرئيسي فيه ـ والرئيس جلال طالباني ـ عن الانخراط في هذا الصراع، وحرص على القيام بدور الوسيط. على أن هذا الدور تهدد هو الآخر في الفترة الأخيرة بالخلافات الحادة الداخلية بين الأحزاب الكردية نفسها، والتنافس بينها على مقاعد مجالس محافظات إقليم كردستان الثلاثة، وهو ما أسفر عن تغير موازين القوى بينها. فوفقاً لنتائج هذه الانتخابات التي أجريت في 30 نيسان/ أبريل 2014، تراجع وزن الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه طالباني إلى المرتبة الثالثة بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني وحركة التغيير.
دعّم من تهديد هذا الدور الخلافات الخاصة بالتنظيم الإداري للدولة، وتحدي «الأقاليمية». فمن ناحية كان هناك خلاف حول مصير عدد من المناطق المتنازع عليها بين أكثر من طرف، أحدهم الأكراد، وقيام وإصدار الحكومة المحلية في كردستان العراق قراراً يُحوّل بعض المناطق من «أقضية» إلى «محافظات». ومن ناحية ثانية كان هناك قضية تحويل عدد من المحافظات إلى أقاليم بما يعطيها قدراً أكبر من إدارة شؤونها الداخلية أسوة بإقليم كردستان. ومن ناحية ثالثة، تفاقمت مشكلة التنازع في الاختصاصات بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان، وخصوصاً في ما يتعلق بالسيطرة على الموارد النفطية، ودمج قوات البشمركة الكردية ضمن الجيش العراقي، ومصير المناطق المتنازع عليها التي اتهمت حكومةُ كردستان موقفَ الحكومة بشأنه بمخالفته للمادة 140 من الدستور التي تنظم كيفية حل هذا الخلاف.
كان من شأن الإخفاق في التعامل الإيجابي مع هذه التحديات السياسية اللجوء إلى العنف، وازدياد نشاط المنظمات الجهادية والتكفيرية على أرض العراق، وتنامي الدور الذي تقوم به «الصحوات» والعشائر في حفظ الأمن، وذلك في سياق ضعف القدرات العسكرية للجيش والشرطة.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية عاش النظام العراقي مشكلة التوفيق بين تزايد تبعيته لإيران، ورغبته في تحسين علاقته مع الولايات المتحدة وبلدان الخليج، التي كان لها مخاوف وتحفظات إزاء علاقة العراق بإيران، أثرت هذه العلاقة في موقف العراق تجاه تظاهرات البحرين في شباط/فبراير 2012، وفي الدور العراقي خلال انعقاد مجموعة «5+1» في بغداد في شهر أيار/مايو من العام نفسه. وقد سعى المالكي، من جانبه، إلى تحسين علاقة حكومته مع الولايات المتحدة، فزار واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، في أول زيارة له منذ كانون الأول/ديسمبر 2011.
شهد العراق انتخابات برلمانية في 30 نيسان/أبريل 2014 بلغت مشاركة الناخبين فيها نسبة 60 بالمئة «باستثناء المناطق الساخنة» وفقاً لبيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات. ولا يوجد من الدلائل ما يشير إلى أن هذه الانتخابات يمكن أن تغير على نحو جذري من توازنات الموقف السياسي في العراق، فالنتائج الأولية غير الرسمية تشير إلى فوز الائتلاف الذي يقوده المالكي بأكثرية المقاعد. وأياً كانت النتائج التفصيلية، فإن الكتلة الفائزة بأكثرية مقاعد البرلمان سوف تواجه مشكلة بناء الائتلاف الحزبي الذي يحظى بتأييد الأغلبية، ويتمكن من تأليف حكومة مستقرة. إلى جانب ذلك، هناك تحدي التوافق على رئيس جديد للبلاد في ضوء انتهاء الولاية الثانية لطالباني، في الوقت الذي لا يسمح الدستور بشغل الشخص نفسه منصب الرئيس لأكثر من ولايتين متتاليتين.
ـ 10 ـ
استطراداً لما تقدم، ماذا يمكننا أن نستخلص من هذه الفصول؟
يمكن الإشارة إلى عدد من التوجهات والاستنتاجات العامة على النحو التالي:
1 ـ عدم دقة الأطروحة الخاصة بتهميش الوطن العربي من المنظور الأمريكي أو انتهاء الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للنفط والغاز العربي، في ضوء اكتشاف الولايات المتحدة لكميات ضخمة من النفط والغاز الصخري، وأن ذلك يؤدي إلى انتقال الاهتمام الأمريكي من منطقة الخليج العربي إلى آسيا. فمثل هذه الأطروحات هي أقرب إلى أوراق «الحرب النفسية» منها إلى التحليل العلمي الرصين، فالعلاقة بين مناطق العالم في السياسات الخارجية للدول الكبرى ليست «علاقة صفرية» إذا زادت في منطقة ما فإنها تنخفض بالدرجة نفسها في منطقة أخرى. إضافة إلى أن هذه الأطروحة لا تأخذ في اعتبارها المصادر الأخرى للأهمية الاستراتيجية للمنطقة ولأهمية النفط لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا.
2 ـ تغير علاقة الولايات المتحدة بعدد من الدول العربية التي احتفظت مع أنظمتها بعلاقات صداقة استراتيجية لعقود، فتوترت العلاقات السعودية ـ الأمريكية بشأن الاتفاق النووي الإيراني وأفصح المسؤولون السعوديون عن ذلك صراحة، وكان للسعودية والإمارات والكويت والبحرين تقييماً وموقفاً تجاه تغيير نظام الحكم في مصر في تموز/يوليو 2013 مخالفاً لموقف الولايات المتحدة، كما أن مصر ذاتها سعت إلى الحصول على السلاح من روسيا، واتسع مجال التعاون بين عدد من البلدان العربية وكل من موسكو وبكين ونيودلهي وإسلام أباد.
فهل تؤدي هذه التطورات إلى قرب انتهاء مرحلة الهيمنة الأمريكية على تفاعلات الإقليم أم لا؟ وهل ستستمر في عام 2014 أم لا؟
3 ـ استمرار مشاكل عملية الانتقال الديمقراطي المتعثر بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الانتفاضات والثورات في بلدان الربيع العربي، ترتب عليها انتقال قطاعات ذات أهمية من الرأي العام من التفاؤل المفرط الذي رافق الحراك الشعبي في 2011 إلى قدر من الإحباط والتشاؤم بسبب المشاكل الراهنة. وفي مجال التعقيب على ذلك، من المهم اعتماد النظرة المقارنة لخبرات الانتقال الديمقراطي في العالم، وبخاصة تلك التي تتم من خلال التعبئة الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية. إن ما يحدث في البلاد العربية سبق وأن تكرر في عدد من البلدان الأخرى في شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، فعملية الانتقال الديمقراطي ليست خطاً بيانياً صاعداً، وإنما عملية تغيير متعددة الجوانب تشمل السلوك والممارسات وأنماط القيم وأشكال التنظيم، وأنها تشهد عثرات وصعوبات. وهكذا فإن حدوث المشاكل والعقبات ليس بالأمر المفاجئ أو غير المتوقع، وإنما العبرة بكيفية تعامل النخب السياسية ـ الحاكمة والمعارضة ـ لها، وأن المرحلة الانتقالية لم تنته وتستقر بعد.
من ناحية أخرى، يدور في البلدان التي لم تشهد انتفاضات شعبية كبيرة، جدل وصراع على المستويين الفكري والسياسي، على نحو ظاهر أو مستتر، بين دعاة التغيير المطالبين بخطوات جادة وحقيقية على طريق الإصلاح السياسي، وأنصار المحافظة والإبقاء على الوضع الراهن في النخب الحاكمة الذين يعترضون طريق ذلك إما بإجراء بعض التعديلات الشكلية التي تعطي الانطباع بالتغيير من دون أن تمس جوهر توزيع السلطة في النظام أو باستيعاب الجديد واحتوائه ضمن المؤسسات القائمة. هذا الجدل يمكن النظرة الثاقبة أن تتلمسه في عدد من البلدان العربية، ورغم جهود نخبها الحاكمة في احتواء قوى التغيير، فمن المبكر استنتاج أنها نجحت على نحوٍ حاسم في تحقيق هذه المهمة.
4 ـ تراجع تيار الإسلام السياسي، ذلك أن سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر ألقى بتأثيراته، بدرجات مختلفة، على وضع تنظيمات الإسلام السياسي في عدد من البلدان العربية الأخرى، سواء كانت تلك التنظيمات في الحكم أو في المعارضة. أثار هذا التطور أيضاً البحث في مستقبل الإسلام السياسي كنسق أيديولوجي وكممارسة سياسية في ضوء الخبرات المتنوعة في مصر وتونس والمغرب واليمن وليبيا والعراق وفلسطين (قطاع غزة)، إضافة إلى الأدوار التي تقوم بها أحزاب وقوى أخرى تنتسب إلى هذا التيار في سورية ولبنان.
5 ـ البحث عن نظام عربي جديد. فمنذ بداية عمل جامعة الدول العربية كان هناك شعور بقصورها عن الوفاء بالأماني القومية، وتم طرح مشاريع لتطوير نظام الجامعة منذ نهاية الأربعينيات. وعلى مدى العقود السابقة، تكرر الحديث عن قيام نظام عربي جديد، مثل ما تردد بعد توقيع مصر لمعاهدة السلام عام 1979 وانتقال مقر الجامعة إلى تونس، ثم عقب الغزو العراقي للكويت عام 1990، ثم بعد حركة الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية عامي 2011 و2012. والحقيقة أن مؤسسات النظام العربي الراهنة أظهرت قدراً فائقاً من القدرة على الاستمرار والتكيف مع الظروف المتغيرة من دون تغيير لجوهر النظام.
في هذا السياق، استمر السجال بين القوى الساعية إلى تطوير مؤسسات النظام وعلاقاته بحيث تعطى التفاعلات المجتمعية وغير الحكومية حيزاً أكبر، وبين حماة النمط الرسمي للتفاعلات والذي تقوم فيه الدول ومؤسساتها بالدور الرئيسي. بدا لفترة أن الفاعلين من غير الدول على المستوى العربي نجحوا في شغل مواقع مؤثرة في تفاعلات النظام، ولكن الشهور الأولى من عام 2014 أشارت إلى حدود هذا التوجه.
6 ـ تبلور حالة التعددية السياسية والاجتماعية في عدد من الأقطار العربية المهمة، وهو ما يضع تحدياً مهماً أمام النخب الحاكمة، وهو إدارة التعددية. هذا الوضع وصفه الصحافي توماس فريدمان بانتقال السياسة العربية من حالة «تجارة الجُملة» التي يسيطر عليها شخص واحد أو حفنة محدودة من الأفراد إلى حالة «تجارة التجزئة» التي يزداد فيها عدد الفاعلين والمؤثرين.
والتعددية ليست خيراً أو شراً في حد ذاتها، وإنما يتوقف الأمر على كيفية التعامل معها وإدارتها. ففي حالة حسن الإدارة، تصبح التعددية مصدر تنوع وثراء للجماعة السياسية؛ أما في حالة سوئها، فإنها تتحول إلى انقسامية شرسة وعنيدة تقود إلى التشرذم والتفتت والضعف السياسي، وهو ما يهدد بنمو مظاهر الاحتقان المجتمعي والصراعات المسلحة التي قد تسفر عن تراجع سلطة الدولة لحساب الأقاليم والجماعات المكونة لها أو لصالح تدخلات خارجية، أو لمزيج من الاثنين.
المحك هو كيفية إدارة التعددية السياسية والاجتماعية، ومدى وجود قواعد واضحة وشفافة ومُنصفة تُطبق على الجميع. فإلى أي مدى سوف تستمر هذه التوجهات في عام 2014 ماذا سيكون تأثيرها في الأنظمة العربية التي لم تصلها موجة التغيير بعد.
إطّلعوا أيضاً على حال الأمة العربية 2012-2013
المصادر:
(*) هذه هي خلاصة تقرير حال الأمة العربية 2013-2014 مراجعات ما بعد التغيير الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في حزيران/يونيو 2014.
احصلوا على نسختكم من الكتاب حال الأمة العربية 2013-2014 مراجعات ما بعد التغيير
[1] تستخدم فصول الكتاب أساساً تعبيري البلدان والأقطار العربية، وتعبير الدول العربية عندما يستوجب المقام ذلك.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.