أولاً: في الإطار النظري

1 – طريقة إجراء المُقابلة

خلال المرحلة الأولى من إعداد هذه الدراسة، اعتمدنا على إجراء مقابلات مع ستة طلبة من الوطن العربي يُكملون دراساتهم العليا في تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية بالجامعات العربية. وقد ارتأينا اختيار المنهج النوعي، لكونه من بين طرائق جمع المعلومات التي تولي أهمية لوجهة نظر المُشاركين في إعداد البحث، وتُلبي مُتطلبات إنتاج معرفة بين – ذاتية، وهو القصد من إعداد هذه الدراسة. ولم نعتمد داخل المنهج النوعي، على المقابلة المُنظمة التي تُوجَّه وتُؤطَّر فيها الأسئلة بناء على وجهة نظر الباحث، والتي تجعل المُحاوَرين في وضع سلبي غير متفاعل، بل استندنا تحديداً إلى طريقة المُقابلة شبه المُنظمة (Semi-structured) لما تسمح به من تفادي علاقات السلطة ذات الاتجاه الهرمي بين الباحث والمشارك في البحث. ولكي نتمكن من تفادي السقوط في هذه العلاقة، اعتمدنا على التأطير الذي وضعته ألان بريمان للمقابلات شبه المنظمة‏[1]، حيث العلاقة بين الباحث والطرف الآخر تتميز بوجود نوع من الألفة؛ وتبادل أطراف الحديث عند إجراء المقابلة؛ ومنح مساحة أكبر للأفراد الذين أجريت معهم المقابلات، مع إعطاء أهمية لوجهات نظرهم في تحليل إشكالية الدراسة. مع ذلك، فإنَّنا نُدرك تماماً صعوبة التغلب على علاقات السلطة، ولعل الوعي بها يُساعدنا نهاية المطاف على التأمل في كيفية تأثيرها في عملية إنتاج المعرفة.

وجاءت خطة المقابلة لتُعالج ثلاث قضايا، شملت الأولى الحديث عما يتبادر في ذهن المُشارك عند سماع مصطلح الجندر، وكان الهدف من ذلك هو الوقوف على الكيفية التي يبني بها المُشارك تمثلاته حول الأدوار الاجتماعية؛ وجاءت الثانية لمناقشة مفهوم الجندر في السياق العربي وعلاقته بالغرب وبالاستعمار وبالبنى السياسية؛ أما القضية الثالثة فخُصصتْ لتمثلات المشاركين حول الجندر كوحدة للبحث وكحقل أكاديمي.

وقد اختار المُشاركون في المقابلة عدم ذكر أسمائهم، لذلك أعطينا لكل مُشارك اسماً مُستعاراً من أجل تسهيل الإحالة عليهم داخل الدراسة، مع الإشارة إلى التخصص الذي يدرسه بالجامعة: سعد يُكمل دراسته العليا في العلوم السياسية والإدارية؛ إلياس في الإعلام والدراسات الثقافية؛ عبد اللطيف وجعفر في التاريخ الحديث والمعاصر؛ حمزة في اللسانيات؛ جمال في الفلسفة السياسية والأخلاقية.

2 – التقسيم الجنساني للأدوار الاجتماعية بين الاجتماعي والأكاديمي

إنَّ انتشار النظام الأبوي داخل العديد من المجتمعات، وما صاحبه من تقسيم مُجنس للبنى المادية والاجتماعية، دفع إلى الاعتقاد أن التقسيم الجنساني للأدوار الاجتماعية هو مُعطى طبيعي وعادي. لقد أدى الأمد الطويل إلى بلورة معقدة للرموز والمجاز، جرى من خلالها دمج الفروق البيولوجية بين الذكر والأنثى بوصفهما تعبيراً عن واقع موضوعي. يرصد بيار بورديو في كتابه الهيمنة الذكورية، الانقلاب الكامل بين الأسباب والنتائج الذي ميّز النظام الأبوي‏[2]، من خلال تركيزه على الكيفية التي استطاع من خلالها أن تتحول فحولة الذكر – أو انتصاب القضيب – من مُعطى بيولوجي إلى دلالة رمزية ومجازية على القوة والفضيلة والشرف؛ ومن طريق هذه الآلية يُمكن الوقوف بشكل أكثر دقة على الكيفية التي يُصبح من خلالها الاختلاف التشريحي بين الأعضاء التناسلية؛ تبريراً طبيعياً وموضوعياً على الصعيد الاجتماعي‏[3]، وحقيقة موضوعية لا يُمكن تجاوزها. إنَّ الجنسانية مُعطى تاريخي _ ثقافي، تحول مع الأمد الطويل إلى هابيتوسات في لاوعي الفرد تفرض عليه أنماط السلوك وجنسانيته؛ وفي نفس السياق أيضاً، فإنَّ النظام الأبوي يقوم بإعادة إنتاج بنيته الذهنية والاجتماعية مُكرساً نفس الفروق والاختلافات رغم ما تتمتع به المرأة في تاريخنا المُعاصر من استقلال فكري واقتصادي وسياسي. ولم تكن المقابلات التي أجريناها مع المُشاركين في البحث استثناء عما قدَّمه بورديو في نظريَّته.

ولا تعمل الأكاديميا بمنأى عن ديناميات الهيمنة الذكورية، فإذا ما أردنا الانطلاق من السياق الغربي، فإنَّ المهن والإدارة والمناهج وحتى معايير وقيم الفكر العلمي، وكذلك الممارسة الأكاديمية اليومية مجندرة. ويُمكن في هذا الصدد الإحالة على العمل الذي حرره كل من ليريس ألتيو وألبيرت ميل، حيث أجريا دراسة على المؤسسات – بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية والتعليمية – باعتبارها مُكرسة للتقسيم بين الجنسين، وجرى التركيز على الكيفية التي يتم من خلالها بناء الهوية المؤسساتية وأثر ذلك في الفرد وفي استمرار التمييز الجندري‏[4]، إذ إنَّ تصورات الذكورة المهيمنة (Hegemonic Masculinity) تجد تعبيراً عنها في مصطلحات ومجازات اللغة السائدة في الأكاديميا. فلنأخذ على سبيل المثال التقسيم اللغوي للعلوم إلى: علوم صلبة أو قاسية (Hard) كالعلوم الطبيعية المتسمة بـ «الموضوعية» و«الحيادية»؛ وعلوم ناعمة (Soft) كدراسات الجندر. وهو تقسيم يستمد جذوره من توصيف جنسي أُلحق بالذكر والأنثى، مُستغرقاً أمداً طويـلاً حتى ينتقل من المجاز إلى الحقيقة، فالذكر يتصف بالصلابة والخشونة والقوة والعقلانية، فيجعله أقرب إلى الموضوعية من الأنثى التي تتصف بالهشاشة والنعومة والضعف والعاطفة. ثم جاءت العلوم التي تأخذ منحى عقلانياً لتصنَّف كعلوم ذكورية، في حين صُنِّفتْ العلوم التي تتسم بجانب من اللايقين لتُلحق بالأنوثة. مثال آخر يعكس تغلغل الذهنية الذكورية المهيمنة في الأكاديميا هو الفصل بين الحقائق والمشاعر وربط الأولى بالعلوم الصلبة – وبالتالي بالذكورة – بينما ترتبط الأنوثة بالذاتية (Subjectivity) وبالعواطف، التي تقع خارج نطاق المعرفة العلمية النقية أو الخالصة، كونها تتناقض مع صورة العلوم في الأكاديميا، مُفتقرة إلى الحياد، سواء في الجانب العاطفي أو الجنسي‏[5].

تُستخدم هذه التقسيمات على أنَّها حيادية وبريئة، بيد أنَّها في واقع الأمر تخدم إعادة إنتاج نمط علاقات القوة السائد في المجتمع والأكاديميا من خلال رفع مكانة الحقول المعرفية التي يشكل الرجال فيها القسم الأكبر من الباحثين فوق مكانة المجالات الأكاديمية التي يكون أغلب باحثيها من النساء‏[6]. يجب هنا أن لا ننسى أنَّه إلى حدود السبعينيات كان الحقل الأكاديمي، حقـلاً ذكورياً بامتياز، ولا يعني هذا التوصيف أنَّ نسبة الرجال أعلى من نسبة النساء داخل الجامعات – وهو أمر حاصل -، غير أنَّ الجدير بالإشارة هنا هو أنَّ إنتاج المعرفة كان يتم بوصفه بلورة لرؤية الرجل، وهو ما انتقدته العديد من الباحثات النسويات. فإنْ كانت الموجة الأولى قد حققت مجموعة من المكاسب، من أبرزها الوعي بتاريخية الدور المنوط بالنوع الاجتماعي، فإنَّ الموجة الثانية التي بدأت مع السبعينيات امتازت بمُحاولات على نطاق أوسع، وبتنوع قضاياها وموضوعاتها؛ وكان من أبرزها الوعي بالنظرة الذكورية داخل التخصصات الأكاديمية للعلوم الاجتماعية والإنسانية‏[7]، وعما إذا كانت الأبحاث داخل المؤسسات الجامعية، مُكرسة للمركزية الذكورية‏[8]. لقد ساهمتْ مثل هذه القضايا في بلورة دراسات نسوية رامتْ إعادة إنتاج المعرفة الأكاديمية، وتخليصها من نظرة الرجل أو الهيمنة الذكورية المعرفية. تقول ريتا كروس مُعلقة على واقع الدراسات الأكاديمية: «من أبرز المُعوقات الأساسية، أنه عندما تُطرح إشكالية المرأة، تُعالج كما لو أنَّ المرأة جزء من حياة الرجل وشيء من بين باقي أشيائه التي يتعرف إليها داخل العالم. وهذا ما يجعل من المرأة لا تملك كينونة إلا من خلال اعتبارها موضوعاً يرتبط بذاتية الرجل، وبالتالي لا تُعتبر إنساناً إلا من خلال هذه الرابطة»‏[9].

إنَّ هذا التمييز وبناء النُظم المعرفية على نظرة الرجل للأشياء – التي من جُملتها النساء – هو ممارسة قديمة يُمكن رصدها مع بداية سيطرة المؤسسة الأبوية على البنى الصغرى للمجتمع مثل الأسرة؛ والبُنى الكبرى من قبيل الإمبراطوريات والمملكات‏[10]. وتختلف درجة هذه السيطرة من ثقافة إلى أخرى، لكن تظل الأنظمة الدينية بما تُنتجه من خطاب من أبرز المؤسسات الاجتماعية التي تُكرس التمييز الجندري وتسعى لإعادة إنتاجه‏[11]، وقد لاحظنا على طول الحوار مع المُشاركين في البحث، كيف استُعمل الخطاب الديني من أجل تبرير التفاوت بين كل من الرجل والمرأة، سواء في الجانب الاجتماعي أو الأكاديمي.

إنَّ هذا التفاوت في علاقات القوة يؤدي إلى استمرار التمييز على أساس مجندر في تقييم الكفاءة العلمية، وهي ممارسة لا تزال شائعة في العديد من الجامعات، سواء في العالم العربي أو في الغرب؛ هذا بالإضافة إلى تفضيل أغلب المؤسسات الأكاديمية القيم الثقافية المرتبطة بالذكورة من قبيل التنافسية والعقلانية، وتحديد فرص قبول النساء كجزء من هذه المؤسسات‏[12]؛ الأمر الذي يجعل العديد من القيم الأساسية لإنتاج المعرفة العلمية – على سبيل المثال الموضوعية والحيادية -، عبارة عن أساطير تستخدم لإنتاج علاقات قوة غير مُتكافئة، ومن ثمَّ تؤدي إلى ترميم النظام الأبوي وإعادة إنتاج الواقع والسيطرة عليه، وليس لشرحه أو لفهمه، وهو ما أشار إليه ميشيل فوكو‏[13] الذي حلل علاقات القوة وأثرها في إنتاج المعرفة.

ثانياً: تمثلات الجندر بين الطبيعي والاجتماعي

«إن جسد المرأة خُلق ضعيفاً ولا يسمح لها بمُزاولة بعض المهن التي تتطلب قوة جسمانية، من قبيل الجُندية أو العمل في سلك الشرطة أو كعاملة بناء»، بهذه العبارة برَّر سعد رأيه عن عدم قدرة المرأة على مزاولة وظائف خاصة بالرجال. ويتضح من خلال المقابلات مع المُشاركين الستة، أنَّهم يبنون رؤيتهم عن الدور الاجتماعي باعتباره مُعطى بيولوجياً وليس اجتماعياً. فالأدوار الاجتماعية للمرأة، أوكلتْ لها لأن طبيعتها الجسمانية هي الأنسب لهذه المُهمة، وقد اختلفت الحُجج المُستعملة من مشارك إلى آخر، غير أنَّها جميعاً تصب في نفس المعنى. فما ذهب إليه سعد، هو قراءة خارجية لجسد المرأة باعتبار كتلتها العضلية لا تسمح لها بمُزاولة مهام شاقة؛ في حين يذهب جمال إلى القول إن العمل الليلي غير مناسب للنساء: «إنَّ الأعمال التي يكون دوامها في الليل لا تُناسب النساء، نظراً للمخاطر التي قد تُواجههن في هذا الوقت من اليوم»؛ بينما يرى جعفر أن العمل المناسب للمرأة هو الذي يكون في بيتها: «في نظري أفضل عمل للمرأة الذي يُجنبها العديد من المخاطر هو العمل داخل بيتها».

يُمكن في هذا الصدد رصد ثلاثة عناصر تحكم التقسيم المُجندر للعمل حسب ما قدَّمه المُشاركون من أمثلة، الجسد والزمان والمكان؛ فهذه العناصر جميعها حاضرة بوصفها مُعطيات ذات بُعد بيولوجي موضوعي يتم من خلالها تحديد الأعمال والمهن المُناسبة للمرأة أو غير المُناسبة لها. ولكي يتسنى الانتقال من البيولوجي إلى الاجتماعي دون أن يُشكل ذلك أي تناقض على تقسيم الأدوار، استخدم أغلب المُشاركين المُعطى السيكولوجي، حيث وُظِّفت العاطفة باعتبارها ذات طبيعة أنثوية، في حين اعتبروا العقلانية ذات طبيعة ذكورية، وقد اعتمد جمال على هذا المُعطى لتفسير نُدرة التفلسف عند النساء، إذ يقول: «إذا نظرنا إلى التاريخ، سنجد ندرة في وجود فيلسوفات، أظن أن طبيعة المرأة العاطفية تُبرر هذا الأمر». ومن ذلك أيضاً ما ذكره عبد اللطيف عن مهنة القضاء ومديري المؤسسات والمهن المُرتبطة بالجيش، التي يرى أنَّها جميعاً تتطلب جانباً كبيراً من الحزم والعقلانية والشدة تفتقده المرأة، التي تتمتع بالعاطفة والليونة. مع ذلك، فإنَّ عبد اللطيف ينتقد اشتغال المرأة كمضيفة في الطائرة أو عاملة في الاستقبال أو في الفنادق أو عارضة للأزياء، حيث يؤكد أنَّ هذه الوظائف ذات بُعد جنسي تُخاطب الغرائز، وهي تعبير عن هيمنة ذكورية، إذ العمل فيها يتم داخل شبكة من العلاقات يُسيطر عليها الرجال ويستغلون ضعف النساء لأغراضهم الخاصة. وعلى الرغم من هذا الانتقال من جندرة الوظائف إلى انتقاد استغلال الرجال للنساء، فإنَّ المُهم بالنسبة لنا من ذكر هذا المثال هو الكيفية التي ترتبط بها العقلانية والقوة الجسمية بوظائف خاصة بالرجال في حين ترتبط العاطفة ونعومة الجسد – وأحياناً شهوانيته – بوظائف خاصة بالنساء. وإن حصل أن زاولتْ إحدى النساء مهناً خاصة بالرجال، فدائماً ما يتم عزوها إلى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ إذ القاعدة ههنا هي ثبات الأدوار الاجتماعية، ما دام جسد الإنسان ثابتاً بما في ذلك الزمان والمكان.

إنَّ هذا التقسيم حسب تمثلات المُشاركين، يأخذ بالاعتبار بُعدين أساسين: الأول أنه اختيار حر؛ والثاني أنه اختيار يتناسب مع طبيعة المرأة؛ إذ ليس المُجتمع أو النظام الأبوي أو حتى الدولة في امتداداتها التاريخية، هي من فرضت على المرأة أن توجد في أدوار اجتماعية مُعيَّنة، وإنَّما طبيعتها الجسمانية واستعداداتها النفسية. يُعبر جمال عن هذه الفكرة قائـلاً: «المجتمع ليس هو الذي يُحدد دور المرأة، لكن المرأة لها بعض المميزات التي تتلاءم مع الدور الاجتماعي». يبرز أيضاً هذا المزج بين المستوى البيولوجي والمستوى الاجتماعي في المزج بين الجنس والجنسانية؛ الشيء الذي يُبرر رفض المُشاركين لمقولة سيمون دي بوفار «الشخص لا يولد كامرأة بل يُصبح كذلك»‏[14]، إذ على العكس من ذلك يرون أنَّ المرأة تولد كامرأة، وهو ما عبَّر عنه جمال قائـلاً: «دور المرأة في نظري يميل إلى ما هو طبيعي، إنَّه انسجام الطبيعي مع الثقافي».

تُؤكد جوديث بيتلر أنَّ الدور الاجتماعي يتحول إلى مُعطى بيولوجي وهوية ثابتة نتيجة عمليات تكرار مستمرة‏[15]، ليتحول بعده إلى شيء طبيعي ومألوف؛ وهو ما يتوافق إلى حد ما، مع نظرية بورديو عن الهابيتوس التي يتم من خلالها رسم الهوية الاجتماعية للفرد‏[16]؛ مع الإشارة إلى أنَّ مقاربة بتلر تمنح قدرة على التخلص من هذا الثبات من خلال اعتمادها على مفهوم الفاعلية (Agency)، خلافاً لبنيوية بورديو التي تجعل الهابيتوس نسقاً من الاستعدادات اللاواعية.

إنَّ عمليات التكرار المُستمرة للدور وارتباطه في العديد من المجتمعات بالمرأة، جعل منه أمراً طبيعياً، يصعب معه التمييز بين المُستويين البيولوجي والاجتماعي؛ يتضح ذلك من خلال مجموعة من الأمثلة التي ساقها المُشاركون كتأكيد لرؤيتهم للنوع الاجتماعي، إذ أجمعوا على أن تربية الأبناء ورعايتهم هي من اختصاص المرأة، في حين زاد جمال تأكيد هذه الفكرة من خلال قوله: «وحدها المرأة لها القدرة على تربية الأطفال، ولا يُمكن أن يُناط هذا الأمر للرجل». سيكون إذاً من الطبيعي ألّا يرتبط هذا العمل بالرجل نظراً إلى خشونته وغلظته واستخدامه العقل عوضاً من العاطفة، في حين سيكون مناسباً للمرأة التي تتمتع بالأنوثة ومشاعر العطف والحنان.

سيسري هذا التقسيم الجنسي للدور الاجتماعي على الحيز المكاني أيضاً؛ فالفضاء الخاص هو المكان المُناسب للمرأة، في حين أن الفضاء العام هو مكان الرجل. وعند مُحاولتنا اقتراح تغيير هذا الدور بأن نفترض وضعية يتم فيها تبادل الأدوار، كأنْ يجلس الرجل في البيت لرعاية الأبناء، في حين تخرج المرأة للعمل وتتكفل برعاية الأسرة، كان جواب جميع المُشاركين هو الرفض، الذي عُبِّر عنه بصيغ مُختلفة، إذ أكَّد سعد وإلياس وجمال وحمزة أنَّ هذا الفعل مُخالف لقيم المُجتمع العربي وعبروا عنه بالقول إن جلوس الرجل في البيت لرعاية الأبناء هو انتقاص لرجولته؛ في حين اختار عبد اللطيف وجعفر استحضار الخطاب الديني من أجل التعبير عن رفضهم، على اعتبار أن القوامة هي من اختصاص الرجل، وهو ما نص عليه الدين، وأنَّ تربية الأبناء ورعايتهم هي من اختصاص المرأة.

وإن كانت هذه الوضعية السالفة الذكر حول تبادل الأدوار، يصعب تقبلها من طرف المجتمع كما أكد كل المُشاركين، فقد حاولنا في شق آخر من الحوار أن نتعرف إلى آرائهم إذا ما تقاطعت الأدوار الاجتماعية، وذلك من خلال عرض صور لنساء غجريات (الملحق الرقم (1))، حيث الاختراق لتمثلاتهم عن المرأة ودورها يتم على المُستوى الخارجي للجسد، وكانت ردود أفعالهم للوهلة الأولى عبارة عن انخراط في نوبة ضحك تعبيراً عن الرفض والاستهجان. ويبقى هذا المُعطى تأكيد على ما ذهب إليه موريس ميرلو – بونتي من كون الجسد «فكرة تاريخية»‏[17]، وهو ما يتقاطع أيضاً مع مقولة سيمون دي بوفار، إذ كل منهما يذهب إلى أن التمثلات التي يُكونها الشخص عن جسد المرأة أو الرجل – كما الشأن للاختلافات الجنسانية – ليست تعبيراً عن وضع طبيعي بيولوجي بقدر ما هو تجليات لحالات تاريخية‏[18].

إنَّ موقف المُشاركين من فكرة بقاء الرجل في الحيز الخاص، وصورة النساء الغجريات، يُشير إلى رفض التقاطع بين الأدوار الاجتماعية؛ أي بمعنى آخر، يذهب المُشاركون إلى ضرورة بقاء هذه الأدوار ثابتة كما هي دون أي تغيير. وإن تنوع التعبير عن الرفض، سواء بتوظيف خطاب ديني أو خطاب هوياتي عن الذكورة، فيوجد أيضاً أنواع أخرى من الخطاب يُمكن تضمينها في هذا السياق، من قبيل الخطاب السياسي وأيضاً الأكاديمي والمعرفي.

كما يُمكن الانتقال إلى مُستوى آخر من التحليل يسمح بتفكيك فكرة الذكورة والأنوثة في ردود الأفعال؛ فالاستياء في المثال الأول يُعبر عن رفض لفكرة بقاء الرجل في الحيز الخاص، وهو مِنْ ثمَّ دفاع عن المس بمركزية الرجل في المُجتمع، في حين قوبل المثال الثاني بنوع من الاستهزاء، كون اقتحام المرأة لدور الرجل وإن على مستوى الشكل الخارجي هو مدعاة للسُخرية ولن يُؤثر في مكانة الرجل داخل المُجتمع، إذ مهما فعلت المرأة من أجل التشبُّه بالرجل فهي دائماً موضوع يرتبط بذاتية الرجل.

وإنْ كانت هيمنة الذكر هي أساس البنية الذهنية داخل المجتمعات الذكورية، فإنها تقوم بشكل مُستمر بإعادة إنتاج ما يحفظ بقاء هذه البنية ودوام استمرارها، ويُمكن أن نقف على إعادة الإنتاج لهذه القيم من خلال ما ذكره جمال عند الحديث عن تقسيم الأعمال في المُجتمع: «المرأة بحكم البيولوجيا ليست قادرة على ممارسة الأعمال الشاقة. كما أنَّ الرجل غير قادر على ممارسة بعض الأعمال». بهذا الشكل يُصبح التقسيم مبنياً أيضاً على مُعطى بيولوجي، مما يُؤدي إلى ثباتها، رغم تغير السياقات الاجتماعية.

ثالثاً: تمثلات الجندر في السياق العربي

عند انتقال الحوار إلى تمثلات الجندر في السياق العربي وعن مدى تأثره بالغرب، ركَّز المُشاركون بشكل أساسي على علاقة مفاهيم الجندر بما سموه «الثقافة السائدة» في المجتمع، وبشكل ثانوي بالبنية السياسية وتحديداً الدولة. ولم يختلف استعمالهم لمفهوم الجندر عما سبق أن أكدوه من قبل؛ إذ يتم استحضار الجندر والحركة النسوية والمرأة وكأنها مُرادفات لنفس المعنى، بدا معه جلياً المماهاة بين الجندر كوحدة تحليل والحركة النسوية كنضال سياسي ذي بعد أيديولوجي. بيد أنَّ الإضافة تجلَّتْ في الربط بشكل مستمر بين الهوية العربية والهوية الإسلامية. فكانت من ثمَّ أهم التمثلات الواردة في الحوار هي غُربة مفهوم الجندر عن المجتمعات العربية والإسلامية، ثم ارتباط الحركة النسوية ومن يحمل مفهوم الجندر بالأنظمة السياسية العربية التي تستخدمهم للظهور بمظهر تقدمي وحداثي.

1 – مفهوم الجندر بين الغربة والتبيئة

لقد أجمع كل المُشاركين عند الحديث عن علاقة الجندر بالسياقين العربي والغربي على فكرتين أساسيتين، الأولى في غربة مفهوم الجندر؛ والثانية في ضرورة أهلنته أو تبيئته ليتناسب مع المجتمعات العربية والإسلامية. تتجلى غربة الجندر والحركة النسوية بكل ما تنطويان عليه من مفاهيم وأدوات في منشئهما الغربي، وتحديداً الولايات المُتحدة، لينتقل بعد ذلك إلى أوروبا الغربية، ومن ثم إلى سياقات أخرى من ضمنها سياقنا العربي. ومن اللافت للانتباه أن الاستثناء الوحيد كان من طرف جعفر الذي رفض فكرة أن يكون للجندر منبت غربي، حيث يقول في هذا الصدد: «لمفاهيم النسوية وحتى لمفاهيم الجندر تاريخ مديد في العالم العربي والإسلامي، وإذا أردنا الدقة فما يأتي من الغرب هو جندر أوروبي، ولنا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية سوابق عديدة». يُبرز جعفر في هذا الصدد الدور الذي قامت به خواتين الدولة الأيوبية في القرن الثالث عشر وحريم سلاطين الدولة العثمانية، وذلك في مجالات عدة بما فيها إدارة جوانب مهمة من العلاقات الخارجية للدولة. وعلى الرغم من أن الهدف من المقابلة ليس مناقشة قضية دور المرأة في التاريخ العربي والإسلامي، إلا أنَّ الإجابات التي قدَّمها، كونها تندرج ضمن تمثلاته الشخصية، تُشير إلى اختزال الجندر في المرأة، والاكتفاء بتبني فكرة اقحامها شخصيات نسائية من النخب في الفضاء العام من أجل تأكيد دورها الريادي في المُجتمع.

بغض النظر عن تأكيد المُشاكرين على المنشأ الغربي لمفهوم الجندر، على عكس ما هو سائد عند الكثيرين من ربط للنسوية بالهيمنة الغربية وغربنة المجتمعات العربية، فقد رأى أربعة مُشاركين أنَّ الحركة النسوية أو الجندر في زمننا الراهن غير مفروضة من الغرب، إلا بالقدر الذي يعتبرونه بداية التفكير في المسألة النسوية، وذلك حتى بعد قراءة اقتباس من خطاب ألقته لورا بوش إبان اجتياح القوات الأمريكية لأفغانستان وربطها إياه بتحرير المرأة الأفغانية (الملحق الرقم (2)). أما سعد وجمال اللذان ذهبا إلى اعتبار مفاهيم الجندر والحركة النسوية استمراراً للاستعمار، فقد قرءا في النص ما يؤكد ذلك، إذ ذكر سعد أن الجبرتي في تأريخه للحملة الفرنسية على مصر، تحدث عن «اللاتي دُرْنَ مع الاحتلال»، في إشارة إلى النساء اللاتي وجدن في المستعمر سنداً للوقوف في وجه الرجل العربي. في حين أكَّد جعفر أنَّ «الجندر الأوروبي إذا لم تتم تبيئته فهو شكل من أشكال الاستعمار الثقافي».

تكمن نقطة الإجماع الثانية في ضرورة أهلنة وتبيئة مفاهيم وقيم وأهداف الحركة النسوية وأدوات المقاربة الجندرية بما يتناسب مع قيم المجتمعات العربية والإسلامية. هنا نجد تلازماً بين الهويتين العربية والإسلامية، وقد يكون تعبير العربية – الإسلامية هو الأدق نظراً إلى ربط كل المشاركين بين العروبة والإسلام، ودمجهما وكأنهما جانبان لهوية واحدة. يحدث هذا الدمج على المُستويين الزماني والمكاني في الآن معاً؛ فهي ليستْ هويَّة قُطرية، وإنَّما تشمل كل البلدان العربية في شمال أفريقيا والمشرق العربي وشبه الجزيرة العربية، وهي أيضاً هوية تمتد لأربعة عشر قرناً منذ ظهور الإسلام إلى زمننا الراهن. إن الامتداد الجغرافي والزمني، يجعل الهوية على قدر كبير من اللبس، أدى أيضاً إلى صعوبة التمييز من طرف المُشاركين بين الثابت والمُتحول، أو حتَّى بين المحلي الذي له علاقة ببلدهم وبين ما له علاقة بباقي الأقطار العربية.

انعكس هذا الدمج الهوياتي على قضية الجندر، إذ نجد المشاركين قد ركَّزوا على مسألة المساواة بين الرجل والمرأة باعتبارها المنطلق الرئيسي للفكر النسوي والجندري، والمُهدد لمفهومهم حول الهُوية. فالمساواة كما تراها النسويات لا يمكن تبيئتها، ويجب استبدالها بالتكاملية إما في مختلف مناحي الحياة، وإما في بعضها على الأقل. إذ بالنسبة لإلياس وحمزة لا يمكن تحقيق المساواة إلا في السياق الغربي، في حين أنَّها تتناقض مع مبادئ و«روح» الثقافة العربية – الإسلامية التي تنظم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس التكامل في الأسرة والعمل والعبادات وفي شتى المجالات. أما البقية فترى أن المساواة مقبولة بل وضرورية في بعض الحقول كالعمل مثـلاً، ما عدا العبادات التي لا يُمكن أن تُقبل فيها المساواة كأن تُعطى المرأة حق الإمامة في الصلاة مثـلاً.

 

2 – الجندر والإسلام بين الثابت والمُتحول

«الإسلام له ثوابت ولا يمكن تركيب أي شيء عليه». هكذا عبَّر عبد اللطيف عن موقفه من الثابت والمتحول في الإسلام. جاء ذلك في معرض الحديث عن تبيئة مفهوم الجندر ضمن سياق عربي – إسلامي وعلاقة النسوية بالإسلام. وفي هذا الصدد ميز كل المشاركين بين المعتقدات السائدة، التي يمكن تغييرها بفعل النشاط الاجتماعي أو حتى بمجرد مرور الوقت، وبين «ثوابت» المعتقدات الإسلامية. وما يثير الاهتمام هو أن بعض المشاركين يرون أنه حتى «الثوابت» ليست بمنأى عن التغير مع مرور الزمن. على سبيل المثال كان حمزة رافضاً للمساواة في تقاسم الميراث في زمننا الراهن، لكن إذا تغير حال المجتمعات العربية في المستقبل وأصبحت المرأة هي المعيل الرئيس فلا مانع لديه من المساواة. لكن عند إثارة قضية إمامة المرأة في الصلاة (الملحق الرقم (3)) قَبِل إلياس وحمزة بإمكان ذلك في البلدان العربية، لكن على المدى البعيد، في حين أصر البقية على أن إمامة الرجل من الثوابت التي لا يمكن تغييرها، وهو ما شدد عليه عبد اللطيف بقوله: «الإسلام له ثوابت ولا يمكن تركيب أي شيء عليه»، حيث اعتبر هذا الصنيع من الأفعال التي تُهدد الاستقرار الهُوياتي داخل المُجتمعات العربية والإسلامية، مُبرزاً أن صورة المرأة التي تؤم الرجال، التُقطتْ لها في دول غربية، ولم تكن لتستطيع فعل ذلك لو كانت في أحد البلدان العربية.

قبل الانتقال إلى الحديث عن البنى السياسية نشير إلى أن مصطلح «التبيئة» تم استخدامه من قبل كل المشاركين وفي نفس السياق المذكور أعلاه. وبناءً على تحليل المقابلات يمكن القول بأن هذا المصطلح يستبطن فرضيتين: الأولى هي الاغتراب الكامل لمفاهيم الجندر عن البيئة العربية؛ والثانية أنَّ من عليه التكيف هو المفاهيم، أما البيئة فهي ثابتة لا ينبغي تغييرها لاستيعاب أو لتضمين هذه المفاهيم. وبسبب التركيز على قضية المساواة يبدو في بادئ الأمر وكأن التبيئة ليست إلا استبدال المساواة القادمة من الغرب بالتكامل؛ لكن بمجرد السؤال عن معنى المساواة والتكامل تبين أنه بالرغم من انضواء كل التعريفات ضمن إطار الإسلام كما يفهمه المشاركون فقد تمايزت هذه التعريفات فيما بينها بشكل ملحوظ.

دفعنا هذا الاستعمال المُلتبس لمفاهيم المساواة والتكامل، إلى الرجوع للدراسة التي قدَّمتها عزة كرم حول الإسلام السياسي والنشاط النسائي‏[19] وهي وإن كانت دراسة ركَّزتْ في الإطار التطبيقي على حالة مصر، إلا أنَّه يُمكن الاستفادة من نتائج ما توصلتْ إليه في تحليلنا للمقابلات التي أجريناها مع المُشاركين. فمن أجل دراسة الإسلام السياسي وعلاقته بالنشاط النسوي اقترحت عزة كرم تصنيفات للتيارات الفاعلة في المُجتمع إلى ثلاث فئات أساسية: الأولى هي النسوية الإسلاموية أو النسوية الإسلامية السياسية (Islamist Feminism)، وهي فئة ترفض المساواة وترى في التكامل أساس تنظيم العلاقات؛ الثانية هي النسوية العلمانية وهي ترفض الدين كأساس لصياغة أي مواقف أو أجندات لتحرير المرأة، وتصيغ خطابها خارج الإطار الديني، باعتبار الدين مسألة خاصة (Private Matter)، فهي من ثمَّ تُموضع خطابها خارج الإطار الديني وضمن خطاب حقوق الإنسان الدولية، رافضة الجمع بين الدين ومفاهيم حقوق الإنسان العالمية؛ أما الثالثة فهي النسوية المسلمة (Muslim Feminists) التي حاولتْ خلق جسر وتوافق بين الإسلام وخطاب حقوق الإنسان كأساس لتفسير واقعهم السياسي – الاجتماعي‏[20]. بيد أنَّ العلي ترى ضرورة النظر إلى الفئتين الثانية والثالثة كـ «استمرارية علمانية» (Secularist Continuum)‏[21] وذلك لسببين: أولهما تنوع المواقف والآراء وعدم تجانسها داخل الفئة الواحدة، إذ، على سبيل المثال، عند النظر في الكيفية التي يؤثر بها الدين في آراء الناشطات العلمانيات وكيف يدخل حياتهن، وجدت أنهن جئن من خلفيات دينية مختلفة، مسلمة ومسيحية، وترعرعن في بيئات وبمستويات مختلفة من الالتزام الديني، ويعملن استراتيجيات مختلفة تتراوح من إعادة تفسير النصوص الدينية لإظهار التوافق بين الدين والحركة النسائية، إلى رفض النشاط في أي أطار ديني؛ أمَّا السبب الثاني فيتمثل بوجود قواسم مشتركة، إذ على الرغم من هذا التنوع في المواقف والاستراتيجيات، إلا أنَّه توجد قواسم مشتركة مهمة بين الفئتين المفترضتين، وكمثال على ذلك فإنَّ كل النساء اللاتي التقت بهن عارضن القانون الحالي للأحوال الشخصية، وفرض اللباس، وتنفيذ الشريعة، وإقامة دولة إسلامية؛ كما أنَّ أكثرهنَّ ميَّز بوضوح بين الإسلام والإسلاموية مُعارضاً بذلك الخلط بين الدين والسياسة‏[22].

وعند مُحاولتنا تصنيف آراء المُشاركين في المُقابلة وفق الإطار النظري الذي حددته عزة كرم وجدنا أن أغلبها – مع تفاوت في الحدة – يُمكن وضعه في فئة النسوية الإسلاموية. وهذا يعود بشكل أساسي إلى المزج المستمر بين الهوية العربية والإسلام، الذي جعلهم يُدافعون عن فكرة وجود جوهر ثابت أو «روح خالصة» للعالم العربي، تتمثل بثوابت الدين الإسلامي التي لا يمكن تغييرها أو تعديلها، إضافة إلى رفضهم للمساواة، مع التمسك بالتكامل كمبدأ ناظم للعلاقة بين الجنسين في كل المجالات؛ قد تُحيل هذه النظرة للمجتمع وللدين إلى جذورها الممتدة إلى العصر الوسيط، بيد أنَّ الأمر هو في نهاية المطاف نتاج لأزمة الحداثة.

لم تكن جميع آراء المُشاركين تنحو هذا المنحى، فالاستثناء الحاصل عند مُشاركَيْن، جعل أفكارهما تقترب وبدرجات مُختلفة من فئة النسوية المسلمة (Islamic Feminism)‏[23]، حيث تقاطعت معها في أنَّ «الثوابت» قابلة للتعديل والتغيير، في حين افترقت عنها في آليات هذا التغيير. فبينما تعتمد – وبشكل أساسي وليس حصرياً – النسويات المسلمات على إعادة تفسير النصوص بما يتواءم مع مبادئ العدل، وتعديل القوانين وتغييرها كأدوات لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة‏[24]، يرى بعض المشاركين أن مرور الزمن وتحديث البنية السياسية ودمقرطتها كفيلان بتغيير معنى الثوابت والمضي في طريق المساواة.

إن طرح السؤال حول علاقة الإسلام بالمقاربة الجندرية، ينقلنا من جديد – من خلال أجوبة المُشاركين – إلى المقارنة بين الإسلام والحركات النسوية. وإذا ما أردنا الوقوف عند هذه المقارنة التي عقدها المُشاركون باعتبارها تمثـلاً للجندر يصرفه من وحدة تحليل إلى حركة ذات بُعد سياسي، فبالإمكان تحليل الفكرة من مُنطلق الثابت والمُتحول في تمثلاتهم عن الإسلام. فبغض النظر عن أجوبة المُشاركين حول موضوع دينامية الإسلام والبُعد التأويلي، بين قائلين بثباته مهما اختلف السياق الزماني والمكاني، وبين قائلين بتغيره وتبدله، إلا أنَّه من خلال تحليل أجوبتهم في ضوء الدور الاجتماعي، يُمكن القول إنهم مُجْمِعون على ثبات الإسلام في تحديده للأدوار الاجتماعية؛ وجاء التعبير عن هذه الفكرة بصيغ مُختلفة، لكنها دائماً تصُب في نفس الاتجاه. ومن ذلك اعتبار بعضهم أنَّ قضايا من قبيل الإرث هي حُكم إلهي لا يُمكن إعادة تأويله، يقول جعفر في هذا الصدد: «إن مطالبة الحركات النسوية بالمساواة في كل شيء بما في ذلك المساواة في الإرث، هو في اعتقادي اعتداء ليس على الرجل وليس على الإسلام، ولكن على المرأة في حد ذاتها. فالنساء المسلمات يعتقدن أن هذا الأمر من عند الله، لكن الحركات النسوية تحاول أن تغير الهوية الدينية والثقافية للنساء». في حين يرى آخرون أنَّه حتى لو قبل المُجتمع بأدوار اجتماعية لا تُوافق مبادئ الإسلام، فإنَّ ذلك لا يُعبر عن توافقها مع الإسلام بقدر ما يُعبر عن انحراف المُجتمع، حتى ولو قبِلها على المدى البعيد، كما هو الحال في الأمثلة السابقة.

نظراً إلى تنوع آراء المشاركين رغم بقائها ضمن الإطار الإسلامي، فقد يكون من الأكثر دقة تجنب وضعهم في نفس الفئة، إذ هي أقرب إلى استمرارية إسلامية (Islamic Continuum)، على غرار الاستمرارية العلمانية (Secular Continuum)؛ إذ تُبلور هذه الفئة مجموعة من الرؤى التي تتقارب مع النسوية الإسلامية السياسية، مُتبنية بذلك مفهوم التكامل بين الجنسين في كل المجالات باعتباره أمراً أساسياً داخل المُجتمع وثابتاً من الثوابت التي لا يمكن تغييره، في حين نجدها أيضاً تتبنى فكرة المُساواة، وهو ما يجعلها مُتوافقة بذلك مع النسوية المُسلمة التي ترى أنَّ المساواة في كل المجالات هي مبدأ من مبادئ الإسلام.

أين إذاً يُمكن أن نُموقع علاقة الإسلام بالنسوية؟ وهل بالإمكان حصول هذا المزج؟ يُجيب المُشاركون بالإيجاب، غير أنَّه يبقى مُقيداً بأمرين، يتجلى الأول في مدى أهمية إبراز دور المرأة في الحضارة العربية – الإسلامية؛ أما الثاني فهو ضرورة اشتغال الحركة النسوية الإسلامية وفق إطار عام يُحدده الإسلام، بشكل لا يجعلها تُحرم ما أحل الله أو تُحل ما حرَّم الله. ومن جديد يدخل الخطاب الديني بوصفه آلية لإعادة إنتاج الخطاب الأبوي، ويظهر معه أيضاً الخلط الحاصل بين مفاهيم الجندر والنسوية والمرأة.

3 – العلاقة بالبنى السياسية

«أريد أن أؤكد نقطة مُهمة في موضوع الثورات العربية والجندر، إنَّ كل الجندريين والجندريات كانوا مؤيدين للأنظمة المستبدة، وهي المفارقة العجيبة التي ارتمت فيها نوال السعداوي وغيرها في مصر، ومعظم الجندريات السوريات في أحضان المستبدين، وأيّدوا تلك الدماء التي سُفكت، بل لقد طلبوا من المستبدين أن يقتلوا مُعارضيهم. يُمكن أن أقول باختصار إنَّ كل من حمل مفهوم الجندر شارك في القتل». بهذه الطريقة عبَّر جعفر عن خيبة أمله من الحركات النسوية العربية، مُعمِّماً هذا الحُكم على التيار اليساري الذي أيد الأنظمة المستبدة بعدما آل إليه الحراك العربي عام 2011.

وبينما ناقش أغلب المشاركين دراسات الجندر والحركة النسوية، واتخذوا مواقفهم منها بناء على مدى الانسجام مع قيم المجتمعات العربية وثقافتها، فقد اقتصر ربط الحركة النسوية بالبنى السياسية على المشاركين من سورية ومصر، وهما جعفر وسعد. وكل منهما ينحدر من بلد شهد صدامات عنيفة بين الأنظمة الحاكمة ومعارضيها. وقد عبر جعفر عن استغرابه ليس فقط من محاباة رموز الحركة النسوية للاستبداد السياسي العربي قبل الثورة، بل ومن وقوفهن في صف الأنظمة – كما يُبيِّنه الاقتباس السابق -؛ في حين رأى سعد أن قضايا المرأة لم تكن لها تلك الأهمية السياسية حتى وصلت الثورة إلى مصر، و«فجأة» طفت إلى السطح، بشكل جعلها لا تخلو من التوظيف السياسي من جانب كل الأطراف وبخاصة من النظام السياسي الذي قدم نفسه كحامي الأقليات والعلمانية والحداثة في وجه الإسلاميين.

قد يدل اقتصار طرح مسألة التوظيف السياسي على المشاركين من سورية ومصر على أن الثورات العربية قد ألقت الضوء على ما كتب عنه العديد من الباحثين حول محاولة الدولة في تركيا‏[25] وتونس وغيرها احتواء الحركات النسوية لأغراض سياسية بحتة. في تونس مثـلاً حاول نظام بورقيبة وبن علي احتواء الحركات النسوية بغرض الظهور أمام الغرب والعالم بمظهر النظام التقدمي الحداثي، أما على الصعيد الداخلي فقد تمكَّن النظام من خلال دعم النساء والحركات النسوية من استخدامهن في مواجهة خصومه السياسيين، وبالأخص الحركة الإسلامية. وفي مقابل تقديم الدعم المحدود؛ من خلال تعديل قوانين الأحوال الشخصية لصالح حقوق المرأة على سبيل المثال، تمكن النظام من احتواء أهم المنظمات النسائية التي تماهت معه بدرجات مختلفة، وتجنبت نقده بشكل جذري وفضلته على ديمقراطية توصل الإسلاميين للسلطة‏[26]. قد يفسر ارتفاع وثيرة هذا التوظيف السياسي، في مرحلة الثورات وما بعدها، الربطَ من قبل بعض المشاركين بين استبداد الأنظمة العربية ومشروعها الحداثي من جهة وبين الحركة النسوية و«من يتكلم بلغة الجندر» – وفق تعبير جعفر – من جهة أخرى.

رابعاً: الجندر في الأكاديميا العربية

رفض أغلب المشاركين فكرة إنشاء مركز لدراسات المرأة في الشرق الأوسط، أو حتى أن تقوم جامعة عربية بتقديم برنامج للدراسات العليا في دراسات الجندر. ورغم اختلاف الأسباب، فقد تمحور جلّها بشكل رئيس حول سببين اثنين: الأول في غربة دراسات الجندر عن مجتمعاتنا، وانعدام الحاجة لها في ظل الظروف والتحديات الراهنة؛ والثاني في ضعف قيمته المعرفية.

1 – بين الغربة وعدم الأهمية

«دكتورة (عربية) قادمة من المطار الآن لا تجيد التحدث بالعربية، وقادمة من الغرب، وغير متزوجة وليس عندها أسرة»، هذه هي الصورة الذهنية التي تبادرت لسعد، ليس حيال من يدرس الجندر فقط، بل حيال الجندر كحقل أكاديمي. وتتضمن هذه الصورة أهم العناصر التي تكررت في آراء أغلب المشاركين، بما فيها غربة مفاهيم الجندر عن مجتمعاتنا، وبالأخص تلك المفاهيم المتعلقة بالأسرة. فمفاهيم الأسرة والتكوين الأسري عند من يُدرِّس الجندر تختلف كثيراً عمَّا هو سائد في مجتمعاتنا؛ ليست جيدة وليست في وضعها الموجود في مجتمعاتنا. لقد جرت مقارنة الجندر كتخصص أكاديمي مع بقية العلوم التي ارتأى أغلب المشاركين أنَّها وليدة الغرب، لكن ما يميز الجندر هو درجة اغترابه، يقول سعد في هذا الصدد: «لو كان هناك مقياس لدرجة اغتراب العلوم عن ثقافتنا فسيكون الجندر ومعه الحركة النسوية خلف كل العلوم، وربما في آخر هذا المقياس». أما في ما يخص المدرسين، فإنَّهم رغم تنشئتهم في مجتمعات عربية، إلا أنَّهم مستغربون وأقرب في تفكيرهم ووجدانهم إلى الغرب؛ وكانت غربة الجندر إما سبباً لرفضه بصورة مطلقة، وإما سبباً لاشتراط «التبيئة الأكاديمية» التي من دونها قد يتحول مركز دراسات المرأة إلى «بؤرة استيطانية وسط مجتمع رافض» وفق تعبير جعفر.

لم يرَ البعض الآخر في غربة مفاهيم الجندر سبباً لرفضه. فهم يرون أن المشكلة تكمن في أن هناك ضروريات وقضايا تستحق الأولوية على قضايا المرأة، التي اعتبرها كل المشاركين المكون الوحيد أو الأساسي لدراسات الجندر. في الوقت الحالي دراسات الجندر لن تكون إلا نوعاً من أنواع «الرفاهية والعبث»، هكذا عبَّر عبد اللطيف، وأضاف قائـلاً: «أولوياتنا تتجاوز الجندر إلى مشاكل أكثر تعقيداً؛ مشاكل سياسية واجتماعية». في حين أعطى جمال لدراسات الجندر بُعداً نضالياً لكنه مع ذلك لا يُشكل أولية في النضال السياسي ضد الأنظمة العربية، إذ يقول: «دراسات الجندر تتم في إطار مجتمعي نضالي وليس في إطار أكاديمي، وإن قبلنا بمشروعية هذا النضال فسيصعب القبول بأولويته».

ينسجم هذا الرفض مع ما وجدناه سابقاً من آراء حول غربة الحركة النسوية والجندر في السياق العربي العام، ولكن مع ازدياد حدة التشديد ليس على غربة دراسات الجندر فقط بل على غربة من يقوم بتدريسه من الأكاديميين. وكما اشترط البعض تبيئة أهداف ومفاهيم الجندر والحركة النسوية لقبولها في المجتمع، جاءت التبيئة الأكاديمية؛ أي انسجام القواعد النظرية والأدوات المعرفية مع القيم العربية – الإسلامية، شرطاً لقبول فكرة تقديم برنامج أكاديمي في دراسات الجندر، إذ على الضد من بقية العلوم الاجتماعية التي ترنو لإنتاج المعرفة الأكاديمية، تشكل دراسات الجندر حقـلاً نضالياً يستهدف البنى المجتمعية وعلى رأسها الأسرة. وبالرغم من تكرار المشاركين رفضهم فكرة أن يكون هناك أي فرض من الغرب، أرجع البعض فكرة أن تفتح جامعة عربية برنامجاً للدراسات العليا في دراسات الجندر إلى الرغبة في محاكاة الغرب والظهور بمظهر حداثي وتقدمي، بشكل يوازي التوظيف السياسي من قبل بعض الدول لقضايا المرأة؛ لكن هنا، انتقل التوظيف من السياسي إلى الأكاديمي. وكما مثَّلتْ وتُمثل النسويات و«الجندريات» – حسب تعبير البعض – الوجه التقدمي الحداثي لبعض الدول سيمثل الأكاديميون والطلاب في دراسات الجندر الوجه الحداثي للجامعة.

2 – القيمة المعرفية لدراسات الجندر

«أنا ضد دراسات الجندر وضد افتتاح برنامج ماجستير في هذا المجال، فحتى ماستر السينما وماستر الفنون، على قلة نفعها، أفضل وأكثر نفعاً من أمور كهذه»، هكذا عبَّر عبد اللطيف عن موقفه من دراسات الجندر؛ ولم تختلف مواقف بقية المُشاركين من فكرة ضعف أو حتى انعدام القيمة المعرفية لدراسات الجندر، التي تُعد – من وِجهة نظرهم – سبباً آخر لرفضها.

لعل أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في الاقتباس الخاص بعبد اللطيف أنَّه يعتبر دراسات الجندر منفصلة عن باقي التخصصات، وليس منظوراً أو وحدة تحليل يُمكن الاستفادة منه في أي تخصص. أمَّا من جهة أخرى، وعلى الرغم من عدم الإشارة بشكل صريح إلى بنية الأكاديمية الغربية عند استحضار الآراء المطروحة، إلا أنَّه تبيَّن وبشكل غير مقصود التقسيم الموجود في الأكاديمية الغربية، بين علوم «صلبة» أو «طبيعية» كالفيزياء والهندسات وغيرها من الحقول المعرفية المتسمة بـ «الموضوعية»، وعلوم «ناعمة» أو اجتماعية تفتقر، وبدرجات متفاوتة، للحيادية والدقة المنهجية‏[27]. في الحقيقة رسم أغلب المشاركين تراتبية هرمية شبيهة بتلك الموجودة في الغرب، تتموضع فيها حقول المعرفة على طول خط عمودي تبعاً لـ «موضوعيتها»؛ ففي قمة الهرم تأتي العلوم التجريبية، ومن ثم العلوم الاجتماعية، وفي الدرك الأسفل تأتي الفنون والآداب. أما دراسات الجندر فهي بعيدة من الموضوعية بعداً لا يصح معه وضعها حتى في أسفل تلك الهرمية.

لا ترتبط العلوم «الصلبة» بالموضوعية فقط بل بالذكورة، بينما ترتبط العلوم الأخرى بالأنوثة والنعومة المتصلة بها بشكل لا فكاك منه، فكلما تضاءلت موضوعية الحقل المعرفي، وكلما تدنت مكانته في هذه الهرمية العمودية، تقلصت صلابته وذكورته وازدادت أنوثته وبالتالي نعومته‏[28]. وتماماً كما يُشار في السياق الغربي إلى التوزيع المتباين للذكور والإناث في الحقول الصلبة والناعمة، جرت الإشارة وبشكل متكرر إلى «أنوثة» و«نعومة» هذا الحقل؛ والتي لا تعود فقط لبعد دراسات الجندر عن بقية العلوم التجريبية والاجتماعية بل ولطبيعة من يَدرسها ويُدرِّسها. فهو تخصص أكثر من يلجه هن النساء، وفق ما ذهب إليه جعفر؛ في حين يذهب سعد إلى أن اختيار البعض لمُتابعة دراسته في تخصص الجندر قد يكون مرده إلى اضطرابات عاطفية، وهو ما عبَّر عنه قائلاً: «أظن أنَّه توجد علاقة تناسبية بين الذين يدرسون موضوع الجندر وكون تجاربهم العاطفية ليست الأنجح». في حين، أكد الذين قبلوا بفكرة إنشاء مركز للأبحاث أو ماجستير في جامعة عربية لتدريس الجندر، على ضرورة التبيئة، ومنهم من جعل أهميته تقتصر على الدعم النفسي والاجتماعي وحل الخلافات بين الأزواج ومجالات أخرى لا صلة لها بإنتاج المعرفة.

لقد تجلى في كل نقطة حوارية خلال المقابلات أنَّ الجندر هو بشكل رئيس حديث عن المرأة؛ لكن، بينما كان التركيز خارج الإطار الأكاديمي على حقوق المرأة والمساواة مع الرجل وانعكاسات ذلك على بنية الأسرة والمجتمع، ارتبطت «أنوثة الجندر» في السياق الأكاديمي بالقيمة المعرفية لدراسات الجندر. لم يستخدم أي من المشاركين تعابير مثل أنوثة أو نعومة في معرض إبداء رأيهم عن القيمة المعرفية لدراسات الجندر، ولكن كرر أغلب المشاركين أن النساء يشكلنّ الأغلبية الساحقة من الطلبة ومن المدرسين، وأشار العديد إلى ضعف تكوينهن الأكاديمي مع احتمالية وجود قلق في الحياة العاطفية لكل المنخرطين في هذا المجال.

خلاصة

بالإمكان الحديث عن مجموعة من النتائج التي توصلنا إليها من خلال الدراسة لتمثلات الجندر عند المُشاركين في إعداد هذه الدراسة، ويبقى أهمها هو ذلك المزج وأحياناً الخلط بين مفاهيم الجندر والحركات النسوية والمرأة، إذ استعمل المُشاركون هذه المصطلحات الثلاثة بنفس الحمولة وعلى طول المُقابلة التي أجريناها معهم، بل أحياناً يتم اعتبار الدراسة الجندرية إثباتاً لدور المرأة داخل المُجتمع. سيؤدي هذ الأمر لا محالة إلى دراسة علاقة القوة بين الرجل والمرأة بشكل اختزالي، وعوضاً من اعتبارها مؤسسة تُعيد إنتاج الهيمنة الذكورية والنظام الأبوي، سيتم التركيز فقط على المرأة.

وبالإضافة إلى هذا اللبس في تحديد مفهوم الجندر، فإنَّ تمثلات المُشاركين على المستوى الاجتماعي كانت بمثابة إعادة إنتاج لتقسيم الأدوار الاجتماعية والمُحافظة على ثباتها، إذ يُمكن اعتبارها مُكرسة للنظام الأبوي، دون أن نلمح بوادر لمساءلته أو انتقاده. وقد ظهر ذلك في آراء المُشاركين – وبمُستويات مُختلفة – من خلال اعتبار الدور الاجتماعي مُعطىً بيولوجياً وليس اجتماعياً، وتبع ذلك تقسيم مُجنس لهذه الأدوار بناء على قراءة خارجية لجسد المرأة.

أما في ما يخص تمثلات الجندر على المُستوى الأكاديمي، فقد توصلنا إلى أنَّ مواقف المشاركين إزاء المقاربة الجندرية الأكاديمية في الوطن العربي يُمكن تقسيمها إلى تيارين: أحدهما يرى أنَّ هنالك حاجة تنبع من الظلم الاقتصادي – فرق الأجور مثـلاً – والتهميش الثقافي – إعطاء الذكور الأولوية في التعليم مثـلاً – في السياق العربي الراهن؛ أما التيار الثاني فيثير القضايا التالية: الأولى اغتراب هذه المقاربة وانعدام انسجامها مع الهوية العربية الإسلامية، هنا نجد إما الرفض المطلق بناء على استحالة هذا الانسجام، وإما اشتراط التبيئة الأكاديمية للقبول بإعطاء دراسات الجندر زاوية في الأكاديميا العربية؛ القضية الثانية تتعلق بطبيعة التحدي في السياق العربي الراهن، الذي يواجه العديد من التحديات أكثر إلحاحاً وأولوية من الدراسات الجندرية، وذلك من قبيل المشاكل الداخلية كالبطالة والاستبداد السياسي وتحديات خارجية كالتصدي لمحاولة الهيمنة الغربية، وكما عبر جمال عن ذلك قائـلاً: «دعنا نؤمن للناس العيش بكرامة ونصل للحداثة السياسية ومن ثم نفتح أمور المرأة وما إلى ذلك»؛ أما القضية الثالثة فتتجلى في ضعف القيمة الأكاديمية أو حتى انعدامها.

ختاماً، يُمكن القول بأن الفرضية التي انطلقنا منها قد تأكد صحتها، إذ تبين أنَّ التمثلات الجندرية على المُستوى الاجتماعي يتم إسقاطها على الجندر كحقل أكاديمي، لتأخذ بذلك نفس أحكام القيمة ونفس التقسيم الجنساني. وعلى الرغم من أنَّ عدد المُقابلات التي تم إجراؤها لا يسمح لنا الانتقال إلى تعميم نتائج البحث، إلا أنَّنا نفترض – كفرضية جديدة تسمح باستمرار البحث – أنَّ التقسيم المجندر للأدوار الاجتماعية في بعديه الاجتماعي والأكاديمي يُمكن أن نقف على بوادره في مستويات مُختلفة من الخطاب عند المثقفين والأكاديميين العرب، وهو ما يُثبت قدرة النظام الأبوي على إعادة إنتاج نفسه داخل العديد من البنى الذهنية والمؤسسات الاجتماعية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية والأكاديمية.

الملحق الرقم (1)

صورة فوتوغرافية في القرن التاسع عشر لعائلة من السلالة الغجرية

Amorous Couple, early nineteenth century, State Hermitage Museum of Fine Arts, St. Petersburg, VP-1156u.

الملحق الرقم (2)

مقتطف من خطاب لورا بوش سنة 2002

«تبعاً لما حقّقناه من انتصارات عسكريّة في العديد من مناطق أفغانستان، لم تعد النساء سجينات منازلهنّ، حيث أضحى بمقدورهنّ الاستماع إلى الموسيقى وتعليم بناتهنّ دون خوف من أيّ عقوبة. فالكفاح ضدّ الإرهاب هو أيضاً كفاح من أجل حقوق المرأة وكرامتها». لورا بوش: حكومة الولايات المتحدة (2002)

الملحق الرقم (3)

أمينة ودود تؤم المصلين في «مسجد للجميع» بمدينة لندن

إلهام مانع تؤم المصلين بأحد مساجد العاصمة السويسرية بيرن

 

قد يهمكم أيضاً  المرأة المعنَّفة في الأردن: دراسة سوسيولوجية في منطقتي الزرقاء والمفرق

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجندر #النوع_الإجتماعي #المرأة_في_البلدان_العربية #خطاب_المثقفين_عن_المرأة #دراسات