مدخل:

يتحصّل المبحر في الكتب والدراسات المتعلقة بالطبقة الاجتماعية العربية، على أسئلة جديدة أكثر منها إجابات كافية، لأن البنية الطبقية العربية، مفعمة بالتغير الدائم، والدرامي في بعض الأحيان. ويزخر التراث العلمي العربي بدراسات متميزة[1]، حاولت جميعها على اختلاف توجهاتها النظرية والمنهجية تتبع الطبقة الوسطى العربية من نقطة الانطلاق والنشأة، مروراً برصد ظواهر الانقسام الطبقي المستمرة، وتغيّر أدوار الطبقة الوسطى داخل البناء الاجتماعي.

يشير الواقع، ونتائج تلك الدراسات، إلى أن البنية الطبقية العربية لم تبلغ حتى اللحظة الراهنة حالة المجتمعات الطبقية الحديثة، فالوطن العربي، لا يمر بمراحل تطور واحدة أو متماثلة، ما يجعل البنية الطبقية تختلف وتتباين من قطر عربي إلى آخر، ولا تزال بعض العلاقات التقليدية قبل الطبقية، تصارع من أجل البقاء في معظم البلدان العربية. وفي هذا السياق التاريخي، تمثل الحاجة إلى البحث العلمي الطبقي ضرورة دورية ملحة، ليس من أجل الرصد فقط، بل لكشف التحول أيضاً، ووضع السيناريوهات والبدائل أمام صنّاع قرار التنمية في الوطن العربي.

تعاني أغلبية البلدان العربية تدهور المشروع التنموي، أو انحرافه عن مسار التنمية الشاملة المستدامة، بعدما أخفقت معظم مشاريع التنمية الصناعية في البلدان العربية، التي تتمتع ببنية وإمكانيات مادية وبشرية صالحة للتوسع الصناعي، في حين حققت بعض البلدان النفطية نمواً محدوداً في مجال الصناعات الاستخراجية والبتروكيميائية، وانعدمت في المقابل التنمية الصناعية في بقية البلدان العربية. وبعدما أخفقت أغلبية مشاريع التنمية الزراعية في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وعجزت البلدان العربية عن الإفادة من الإمكانيات المتاحة لإنتاج المحاصيل الأساسية.

من ناحية أخرى نجد أن جميع البلدان العربية تعتمد ديمقراطية مشوّهة مراوغة ومنقوصة، لا تمت إلى الحرية بصلة، وجل المجتمعات العربية تعاني تفاوتاً حاداً بين الفقراء والأغنياء. وداخل هذا المشهد وفي قلبه، توجد الطبقة الوسطى العربية الحديثة، بعض فئاتها تتحالف مع الطبقة الحاكمة، لترتوي وتنتفع من هذا الوضع، بينما تعاني أغلبيتها وباقي الطبقات الصدى والحرمان.

وحين انتقل الجدل الدائر في الأكاديميات الغربية حول دور الطبقة الوسطى، إلى الأكاديميات العربية، ما بين قائل إن الطبقة الوسطى العربية، لم تؤدِّ دوراً سياسياً خلاقاً، وتقلص دورها في مشروع التنمية، وآخر يقول بتعاظم مكانتها وتكثف هذا الدور، يشاء القدر ويسمح بلحظة استثنائية في تاريخ الوطن العربي، مانحاً المواطن العربي فرصةً نادرةً للتخارج من النظم المراوغة والمستبدة، وهي ذات اللحظة التي تسمح لنا بمراجعة دور الطبقة الوسطى العربية في ماضيها القريب، وحاضرها الاستثنائي، ومستقبلها الذي لا يزال قيد التشكل يلفه الغموض. من هنا خرج التساؤل الرئيسي لهذه الدراسة:

ما هي التحولات الحضارية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية) التي مرت بها الطبقة الوسطى العربية منذ الاستقلال والتأسيس وحتى اللحظة التاريخية الراهنة؟

ومن هذا التساؤل والهدف الرئيسي، تتفرع الأهداف والأسئلة التالية: ما هي أهم الاتجاهات النظرية التي تعالج الطبقة الوسطى في التراث العلمي العالمي؟ وكيف قارب التراث العربي مسألة الطبقة الوسطى؟ وما هي ظروف نشأة وتبلور الطبقة الوسطى العربية الحديثة؟ وما هو الإطار النظري الملائم لدراسة الطبقة الوسطى العربية؟ وما هو موقع الطبقة الوسطى داخل التركيب الطبقي العربي في الوقت الراهن؟ وما هي التحولات الاقتصادية التي أثرت في الطبقة الوسطى العربية في ربع القرن الأخير؟ وما هي العلاقة بين التحولات السياسية، والطبقة الوسطى، والثورة في بلدان الربيع العربي؟ وما هي العلاقات التي تربط الطبقة الوسطى بالبناء الاجتماعي، من خلال تصورات أعضائها؟

أولاً: الإطـار النظري والتعريفات الإجرائية

حاولنا في هذه الدراسة الاعتماد على إطار نظري جديد لدراسة تحولات الطبقة الوسطى العربية، وهو إطار يؤلف ويوائم بين نموذج جلبرت ـ كاهل، ونظرية إريك أولن رايت، ونظرية بيير بورديو، من جهة، وبين المساهمات النظرية لحليم بركات، وخلدون النقيب، ومغنية الأزرق، وعبد الباسط عبد المعطي (وغيرهم على نحو أقل) من ناحية ثانية. ومن هذه المصادر، استنبطنا نموذجاً نظرياً تحليلياً يمكِّننا من إنتاج أدوات مفاهيمية ملائمة لفهم ووصف وتفسير التركيب الطبقي العربي، والطبقة الوسطى فيه على نحو خاص، ومن إخضاعه للاختبار الإمبيريقي. يقوم هذا الإطار على المسلمات والافتراضات التالية:

أ ـ يتضمن التركيب الطبقي العربي ست طبقات أساسية هي: الطبقة المركزية المتحكمة، والطبقة الوسطى المتنفذة، والطبقة الوسطى المستقرة، الطبقة الوسطى الفقيرة، والطبقة العاملة، والفئات اللاطبقية الكادحة. ويشترك أفراد كل طبقة، معاً، في عدد من الخصائص الحضارية، التي تؤثر فيها خمسة متغيرات: مستوى الدخل ونوعه؛ ومستوى التعليم والتدريب؛ والموقع البيروقراطي داخل مؤسسة العمل؛ وأساليب الحياة؛ ومجموعة المتغيرات القبلية/الطائفية/العرقية/السياسية التسلطية.

ب ـ يتم تمييز الحدود بين الطبقات الست عبر طريقتين متكاملتين: الطريقة العمودية التي تتعامل منهجياً مع البناء الاجتماعي كوحدة كلية للتحليل، تعتمد على بيانات ومعلومات الإحصاءات الديمغرافية والاقتصادية والمسوح الاجتماعية؛ والطريقة الأفقية التي تتعامل مع مجالات أو حقول البناء الاجتماعي كوحدات تحليل مستقلة تعتمد على بيانات ومعلومات البحوث بالعينة، وخرائط الحراك الطبقي، والمقابلات الكيفية، وتحليل الخطاب، وكذلك الأدوات الاثنوغرافية.

ج ـ تضم الطبقة الوسطى الفقيرة كلَّ المتعلمين الواقعين فوق خط الفقر، وينخرطون في إدارة أعمال، أو يمارسون مهناً فنية وذهنية غير معقّدة، ووظائف يغلب عليها الطابع التنفيذي، ويمارسون أساليب المعيشة المتوسطة في المجتمع، بصعوبة، وغالباً يكون على حساب رهن قوة عملهم أو عوائدهم المستقبلية. بينما تضم الطبقة الوسطى المستقرة كلَّ الحاصلين على تعليم أساسي وما فوق (12 سنة دراسية على الأقل)، من أصحاب المشاريع الوسطى، أو أصحاب المهن الذهنية المعقدة، العاملين في وظائف يغلب عليها الطابع الإشرافي، ولديهم عوائد دخل كافية لبلوغ وتجاوز المستوى المتوسط للمعيشة في المجتمع، ويمتلك بعض أفرادها القدرة على الادخار والاستثمار. وتضم الطبقة الوسطى المتنفذة كلَّ الحاصلين على تعليم أساسي وما فوق، ويمارسون مهناً ذهنية معقدة، ويتولون وظائف قيادية داخل المجالات المختلفة على مستوى أجهزة الدولة في الأقاليم والمناطق (الولايات أو المحافظات)، كما تضم أصحاب الأعمال الاقتصادية، وأصحاب رؤوس الأموال، الذين يديرون حركة الاقتصاد على مستوى هذه الأقاليم، والأغلبية العظمى من أفرادها ينفذون إلى مناصب الحكم المحلي عن طريق استغلال أحد أو بعض أو كل العوامل الطائفية/القبلية/الإثنية/الحزبية الاحتكارية، ويمارسون أساليب معيشة، يغلب عليها استهلاك الرفاهية، والتشبه بأنماط معيشة الطبقة المركزية المتحكمة، والطبقة الرأسمالية العالمية، ويمتلكون القدرة على الادخار والاستثمار.

د ـ تظهر علاقات الاستغلال مختلفة الشدة، لا وجودٌ مطلقٌ ولا عدمٌ مطلقٌ، تنحسر إذا اتجه المجتمع نحو العدالة والمساواة النسبية، وتفيض إذا اتجه نحو الظلم الاجتماعي واللامساواة. وينطوي التركيب الطبقي العربي على ثلاثة أنواع من علاقات الاستغلال، هي: علاقات استغلال ملكية وسائل الإنتاج والتحكم فيها؛ وعلاقات استغلال السلطة البيروقراطية؛ وعلاقات استغلال النفوذ القبلي/الطائفي/الإثني/السياسي الاحتكاري.

هـ ـ تتسم الأوعية الطبقية المشكلة للتركيب الطبقي، بخصائص حضارية شبه ثابتة، وحين يحدث حراك للأفراد من طبقة إلى أخرى، فهم لا يحملون خصائصهم الطبقية القديمة، بل يحرصون على التحرر منها وتمثل الشروط الحضارية للوعاء الطبقي الجديد.

و ـ يحدث الانقسام الطبقي إذا تطورت الخصائص الحضارية داخل المجتمع بصفة عامة، وهو ما يؤدي إلى وجود تناقضات داخل الوعاء الطبقي الواحد، لا يستطيع استيعابها مع الوقت، فينسلخ وعاء طبقي جديد. وأحياناً تتم هذه العملية التاريخية بوتيرة متسارعة، يتسم التركيب الطبقي حينها بأنه ولود، وأحياناً تتم ببطء، في التركيب المنخفض الخصوبة؛ وأحياناً تتوقف، فيتصف التركيب بأنه عاقر. في المقابل يحدث الانكماش الطبقي حين تتدهور الخصائص الحضارية لبعض الأوعية الطبقية، وهو ما يجعلها تتداخل في حدود طبقة مجاورة، إلى أن تختفي داخلها تماماً، فيحدث انكماش في التركيب الطبقي.

ز ـ توجد ثلاثة أنواع من الحراك الطبقي: جماعي، وفئوي، وفردي، لكل نوع منها اتجاهان أحدهما صاعد والآخر هابط، وترتبط من جهة بعلاقات بينية متبادلة، كما ترتبط من جهة ثانية، بالحالة الحضارية للمجتمع، وبخاصة في أبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويمكن فهم الحراك الطبقي الفئوي والفردي، بدلالة الحراك الجماعي باتجاهيه الصاعد والهابط. وكلما هبط معدل الحراك الطبقي الجماعي، ارتفع معدل الحراك الطبقي الفئوي، وأخذ الحراك الفردي طابع القفزة الضفدعية. في حين إذا ارتفع معدل الحراك الطبقي الجماعي، يقل معدل الحراك الفئوي، ويأخذ الحراك الفرد الطابع العصامي.

ح ـ شهد التركيب الطبقي العربي حراكاً طبقياً جماعياً صاعداً، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ثم تغير اتجاه الحراك الجماعي بعد ذلك إلى الهبوط، وهو يشهد في اللحظة الراهنة إرهاصات مرحلة أخرى، لم تتضح معالمها بعد. وإن كانت تطمح إلى استعادة نمط الحراك الجماعي الصاعد، عن طريق مقاومة علاقات الاستغلال الفئوية (القبلية/الطائفية/الإثنية/الحزبية الاحتكارية)، لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية لكل أفراد المجتمع.

ط ـ لم تؤدِّ التشكيلات الطبقية العربية دوراً ذا بال في مأسسة الصراع الطبقي، وعجزت عن تحقيق المصالح الطبقية، وبخاصة الاقتصادية والسياسية، بسبب خضوعها القسري لثلاث قوى سياسية واجتماعية: من جهة الطبقة المركزية المتحكمة، ترغيباً وترهيباً، أو من جهة قوى المعارضة التي استحلت التشكيلات الطبقية كميدان للممارسة السياسية، ومن جهة الجماعات الطائفية والإثنية والقبلية، المقاومة لدور التشكيلات الطبقية في إلغاء التمييز والتعصب التقليدي. وهو ما أدى في النهاية إلى تحول الكفاح الطبقي المؤسسي إلى كفاح مشتت وفئوي، يفتقد الاستراتيجية، ويفتقد القيادة النقابية المخلصة.

ي ـ الوعي الطبقي، هو إدراك كل من الخصائص الحضارية للوعاء الطبقي الذي ينتمي إليه الفرد؛ والعلاقات الطبقية التي تربط بين هذه الأوعية؛ والمصالح الطبقية التي يسعى أفراد الطبقة لتحقيقها، ويصدر هذا الوعي في صور عفوية، أو اجتماعية، أو يظل باطنياً في حالات نادرة. وتعمل الطبقة المركزية المتحكمة، المتحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة، على تزييف الوعي الطبقي الحقيقي، من خلال المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والأمنية، تحت ادعاءات ومزاعم الحفاظ على الوطن أو الدين أو التاريخ المشترك للجماعة. ونفترض أن الوعي الطبقي في البلدان العربية لم يتطور من وعي عفوي نفسي، إلى وعي طبقي اجتماعي، لغياب الممارسة الحزبية الديمقراطية، وانحراف مسار التشكيلات الطبقية.

ك ـ ظلت التناقضات الطبقية العربية، القائمة على علاقات الاستغلال المذكورة، لغزاً بلا حل، وعجزت الطبقة العاملة، والطبقة الوسطى الفقيرة، عن تحقيق مصالحها، بسبب عجز واستئناس التشكيلات الطبقية، وغياب الممارسات الحزبية الديمقراطية، وهو ما جعل صور الكفاح والنضال لتحقيق المصالح الطبقية تظهر مشتتة، وفئوية، وموقتة، ومقموعة بآليات العنف المادي والرمزي.

ل ـ على الرغم من أن التركيب الطبقي العربي يعاني علاقات استغلال أكيدة، وتناقضات طبقية عميقة، فإن البلدان العربية لم تشهد صراعاً طبقياً بالمعنى الدقيق، وخضعت للإذعان الطبقي، حيث عجزت الطبقات كافة عن مواجهة الطبقة المركزية المتحكمة المتحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة، وساعد على تكريس هذا الإذعان، عدم مأسسة الصراع السياسي كما ذكرنا، وتشوش الصراع الاقتصادي بالتمييز الطائفي/الإثني/القبلي، والكبت العنيف الذي تمارسه المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن من أجل حماية الطبقة المركزية وحليفتها الطبقة الوسطى المتنفذة.

م ـ خلق الخضوع لحالة الإذعان ظواهر الكراهية والعنف التي تنتشر في العلاقات الاجتماعية العربية، كما أدى إلى تدهور قيمي وأخلاقي، وفساد بأنواعه كافة، من أجل التعايش مع هذه التناقضات والإذعان لقوة الطبقة المركزية المتحكمة. ومع ذلك، استطاعت الطبقة الوسطى المستقرة أن تطور وسائل رمزية فنية وأدبية، إلى جانب تطوير فعاليات معارضة، في حدود الممكن والمسموح به، لتنبيه الوعي الحقيقي، وإبراز التناقضات الطبقية، وصور الاستغلال.

ن ـ شهدت بعض البلدان العربية عام 2011، تحطيماً لقيود الإذعان، عبر أفعال ثورية ـ متشابهة الإيقاع ـ ضد الطبقة المركزية المتحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة، من دون أن يقود هذه الفعاليات الثورية طبقةٌ معينة، وصدرت مفعمة بحيوية شبابية ضخمة من الطبقة الوسطى الفقيرة، والطبقة العاملة، والعاطلين من العمل، والكادحين، ثم انحازت الطبقة الوسطى المستقرة لها، بعد بلوغ المد الثوري كتلته الحرجة.

س ـ يشير المشهد الصراعي الراهن في بلدان الربيع الديمقراطي، والبلدان كافة، إلى وجود استقطاب طبقي واسع النطاق، حيث الطبقة المركزية بتحالفها مع الطبقة الوسطى المتنفذة (العسكرية، والمدنية، والتقليدية) في طرف، والطبقات الوسطى المستقرة والوسطى الفقيرة، والطبقة العاملة، والكادحون والعاطلون من العمل، في الطرف النقيض. والفارق أن بلدان الربيع، حسمت الصراع موقتاً، بعد العصف بالطبقة المركزية، ولكنها دلفت إلى صراع أيديولوجي، بعد أن فرضت الحركات الدينية هيمنتها على مشهد ما بعد الثورة. ولا يمكن التنبؤ بمصير هذا الصراع حتى الآن. أما بقية البلدان العربية، فلا مفر أمامها، سوى اتخاذ ما يلزم نحو حلحلة هذا الاستقطاب، عبر سياسات وعمليات تحقق العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية. وبطبيعة الحال، فإن الطبقات المركزية والوسطى المتنفذة في تلك البلدان قد جربت واستنفدت الوسائل القمعية كافة، ولم يعد أمامها الآن سوى الإذعان لإصلاحات جذرية إن أرادت أن تتجنب المد الثوري.

ثانياً: الإطـار المنهجي

للإجابة عن تساؤلات الدراسة، واختبار الافتراضات النظرية السابق ذكرها، اعتمد البحث على التحليل الكمي والكيفي معاً.

اعتمد التحليل الكمي في هذه الدراسة على ثلاثة مصادر بيانات رئيسية هي: تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد، وتقارير أجهزة الإحصاء والتخطيط الوطنية[2]. وسيلاحظ القارئ أن معظم البيانات مستلة من التقرير الاقتصادي العربي الموحد، لعدة أسباب؛ فالتقرير يساهم في إعداده نخبة متخصصة من الباحثين في المجالات كافة، كما أنه يصدر سنوياً منذ عام 1980، بصورة منتظمة، وهو ما يؤدي إلى تراكم الخبرات ودقة المعالجة. وتتضح موثوقية البيانات الواردة في التقارير، بالنظر في الجهات المشاركة في إعداد التقرير، وهي صندوق النقد العربي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول.

وقد قسّمنا البلدان العربية إلى مجموعتين: الأولى تختص بالبلدان النفطية وتضم تسعة بلدان (الإمارات، البحرين، الجزائر، السعودية، العراق، عمان، قطر، الكويت، ليبيا)، والثانية تختص بالبلدان غير النفطية، وتضم ثلاثة عشر بلداً (الأردن، تونس، جيبوتي، السودان، سورية، الصومال، فلسطين، جزر القمر، لبنان، مصر، المغرب، موريتانيا، اليمن)، بحيث يساهم هذا التقسيم في فحص البيانات والمعلومات الإحصائية، من حيث التشابه في التحولات الاقتصادية والاجتماعية، على نحو يفيد بحث التحولات في الطبقة الوسطى، والبحوث الطبقية بصفة عامة.

وقد حاولنا الاستدلال من الإحصاءات الديمغرافية الاجتماعية والحيوية والجغرافية، إلى جانب متغيرات القوة العاملة والمهنة والنشاط الاقتصادي، في رسم صورة مبدئية عن طبيعة السكان المرشحين للدخول ضمن الطبقة الوسطى الكلية.

ثالثاً: نتائج الدراسة

1 ـ نتائج الدراسة وفقاً للتحليلات الكمية

بناء على الاستدلال الإحصائي، توصلنا إلى أن عدد السكان الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى الكلية في الوطن العربي، يبلغ 146 مليون نسمة، ويمثلون نسبة 44.5 في المئة من جملة سكان الوطن العربي. يعيش 80 مليون نسمة تقريباً في البلدان العربية غير النفطية، ويمثلون نسبة 38.3 في المئة من جملة السكان، في حين يعيش 66 مليون نسمة في البلدان العربية النفطية، ويمثلون نسبة 57.6 في المئة من جملة السكان. ويتركز 100 مليون نسمة ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى، في ست بلدان عربية، هي: مصر والمغرب والسودان والسعودية والجزائر والعراق، بنسبة 42.3 في المئة من جملة سكان هذه البلدان.

وإذا نظرنا إلى حجم الطبقة الوسطى بحسب الأقاليم العربية، فسنجد أننا أمام تركيب طبقي ولود في الخليج العربي، وبلاد الشام، حيث يبلغ حجم الطبقة الوسطى 27.5 مليون نسمة، يمثلون ما يقرب من 60 في المئة من جملة السكان (وافدين ومواطنين)، يرتفع إلى أكثر من 80 في المئة إذا تم استبعاد نسبة الوافدين. وكذلك الوضع في بلاد الشام ـ ما عدا العراق ـ التي تضم ما يقرب من 34 مليون نسمة ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى، يمثلون 50 في المئة من جملة سكان بلاد الشام.

في حين يتسم التركيب الطبقي في إقليم المغرب العربي بانخفاض الخصوبة، حيث يبلغ حجم الطبقة الوسطى 36 مليون نسمة، يمثلون 40 في المئة من جملة السكان. ويمكن أن نصف التركيب الطبقي في الشرق الأفريقي ـ ما عدا مصر ـ بأنه تركيب عاقر، حيث يبلغ حجم الطبقة الوسطى 48.5 مليون نسمة، يمثلون 28 في المئة من جملة سكان هذا الإقليم. وفي كل الأحوال، فنحن أمام طبقة وسطى عربية خدمية ذكورية في بلدان الوطن العربي كافة، ومنهكة اقتصادياً واجتماعياً في أغلبية البلدان العربية غير النفطية.

ومن المتوقع أن يشهد تركيب الطبقة الوسطى في كل من سورية ومصر وتونس واليمن وليبيا، ظاهرة الانكماش الطبقي؛ ففي اللحظة التاريخية الانتقالية، المصحوبة، كما هو مشهود حتى الآن، بتدمير البنية الاقتصادية، يحدث تدهور بالغ في الخصائص الحضارية للوعاء الطبقي الثانوي، وتتبخر كتلته (أفراد الطبقة)، إلى أن ينضب، فيعود أفراده إلى الوعاء الطبقي الأصلي. في هذه اللحظات التاريخية الاستثنائية، التي قد تطول فتستغرق عقوداً، أو تقصر فتستغرق عدة سنوات، ينكمش التركيب الطبقي، ليصبح تركيباً ثلاثياً، أو حتى ثنائياً، بحسب شدة ونطاق ومدة هذا الانهيار أو التدهور؛ الأمر الذي يعظم من حجم التحديات، والمسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتق الطبقة المركزية الجديدة في تلك البلدان، لإعادة بعث الروح في الاقتصاد المدمر في تلك البلدان، على قاعدة تحول ديمقراطي، نرجو أن يتحقق.

2 ـ التحليل الكيفي ونتائج البحث في التحولات السياسية

استخدمنا في الدراسة آلية التحليل الكيفي لرصد التحولات السياسية للطبقة الوسطى العربية، مع تسليط الضوء على بلدان الربيع العربي، وتوصلنا إلى النتائج التالية:

1 ـ على عكس نشأة الطبقة الاجتماعية في الغرب، تعد القوة السياسية في الوطن العربي، القائمة على العلاقات العرقية الطائفية والقبلية، أساساً لتوليد الثروة، ومنها تبلور التركيب الطبقي العربي الحديث، خلال فترة الحكم العثماني في بعض الأجزاء من الوطن العربي، وخلال الاستعمار الأوروبي في البعض الآخر. وعدد محدود من البلدان العربية، شهد ميلاد الطبقة الوسطى الحديثة قبل الاستقلال، ومنها بلاد الشام، وشمال أفريقيا، ما عدا ليبيا.

2 ـ اتسم ربع القرن الأول بعد الاستقلال أو التأسيس، في أغلبية البلدان العربية، بوجود تركيب طبقي ولود، وفيه ازدهرت الطبقة الوسطى في بلاد الشام وشمال أفريقيا، في حين وُلدت الطبقة الوسطى الحديثة من العدم ـ تقريباً ـ في بقية البلدان العربية. وباشرت الطبقة الوسطى دورها التنموي في جميع المجالات، وتنوعت شرائحها البيروقراطية والتقانية والخدمية، إلى جانب أصحاب الأعمال ومتوسطي الملاك. وجاء المشروع التنموي الأول في الوطن العربي، مصحوباً بانخفاض المشاعر السلبية تجاه النظم الحاكمة، بين أوساط الطبقة الوسطى والعاملة والفلاحين، كما اتسمت هذه المرحلة، بسعي النظم الحاكمة إلى توزيع عوائد التنمية على نحو عادل نسبياً.

3 ـ في النصف الثاني من السبعينيات، ونتيجة نشر التعليم الثانوي والجامعي، ونتيجة الازدهار الاقتصادي كذلك عقب الطفرة النفطية، تضخمت شرائح الطبقة الوسطى المستقرة والفقيرة، تضخماً مرضياً، حيث عمدت الطبقة المركزية المتحكمة، متحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة، إلى استثمار الموارد في قطاعات الاقتصاد الخدمي والاجتماعي، على حساب القطاعين الصناعي والزراعي. وشهدت هذه الفترة تدهوراً في الدور السياسي للطبقة الوسطى، وبوادر لعودة سيطرة العلاقات التقليدية الطائفية/العرقية/القبلية/الحزبية الاحتكارية، كما شهدت تلك المرحلة الحراك الطبقي الفئوي، والحراك الفردي الضفدعي الحركة، الذي يعتمد على الانتهازية، وهو ما أحدث خللاً عميقاً في قيم الطبقة الوسطى، وترتب على ذلك تضييق هامش الحرية الذي تمتعت به الطبقة الوسطى عقب الاستقلال، عبر ابتداع وسائل ديمقراطية شكلية منزوعة الدسم خالية من المضمون الحقيقي للممارسة الديمقراطية.

4 ـ دلفت المجتمعات العربية عصر العولمة خالية الوفاض تقريباً؛ البلدان غير النفطية مثقلة بالديون، والبلدان النفطية تعاني الانخفاض المستمر في أسعار النفط، والعالم يتحول نحو الليبرالية المتوحشة، والدولة تتخفف من أعبائها الاجتماعية، ولم تتمكن أي من البلدان العربية من استثمار الإيجابيات المحدودة للانطلاق نحو اقتصاد السوق، التي تطلبت شروطاً لم تتحقق في الوطن العربي، فلا الأسواق حرة، ولا الحكومات العربية تمارس الديمقراطية، ولا توجد استراتيجية تنموية تركز على الاستثمار الإنتاجي، فكانت العواقب وخيمة على الاقتصادات الكلية العربية، وانعكس على الطبقة الوسطى العربية بالانكماش والمزيد من التهميش.

5 ـ يعدّ الفساد، والظلم الاجتماعي في توزيع الثروة، وقمع الحريات، عواملَ مشتركة حاضرة في كل ثورات الربيع العربي. غير أن الفساد والظلم الاجتماعي، يعَدّان أهم أسباب اندلاع الثورتين التونسية والمصرية، بينما السبب الجوهري في انطلاق الثورة الليبية هو الرغبة في الخلاص من نظام حكم فردي مستبد. أما اليمن، فكان في حالة ثورات فرعية مستمرة منذ توحيد شطري اليمن عام 1990، إلى جانب تمركز العناصر الجهادية العربية العائدة من أفغانستان في اليمن، فالتقت مصالح الجميع في انتفاضة شعبية لوقف التعديلات الدستورية، التي تتيح للرئيس اليمني البقاء لولاية أخرى.

6 ـ الطبقة الوسطى حاضرة بقوة في الثورات الأربع، قائدة من دون قيادات فردية في أي من بلدان الربيع العربي. وداخل الطبقة الوسطى، كان للقوى الدينية حضور قوي في مصر وتونس وليبيا، أما القوى القبلية فأكثر حضوراً في اليمن، في حين كان للقوى الدينية والقبلية حضور شبه متساو في ليبيا. غير أن القوى الدينية تحاول بسط هيمنة (غير ديمقراطية) على المرحلة الانتقالية في كل من تونس ومصر وليبيا.

7 ـ ترجع السرعة في تحقق المطلب الأول (إسقاط رأس النظام) للثورة في تونس ومصر، وبصورة أبطأ في اليمن، إلى انحياز المؤسسة العسكرية إلى الثورة، وحين لم تنحز للمحتجين في ليبيا وسورية لم يسقط النظام في ليبيا إلا بعد تدخل حلف الناتو في العمليات العسكرية، في حين لا تزال المعارك مستمرة بين الجيش السوري والمحتجين.

8 ـ إن فرص التحول الديمقراطي في تونس تفوق مصر، كما أن فرص التحول في ليبيا تفوق كل من تونس ومصر، إذا تمت السيطرة الأمنية، ونزع سلاح القوى الثورية، فالأداء السياسي للتيارات الوطنية غير الدينية، كان أكثر تطوراً ووعياً من أداء التيارات الليبرالية واليسارية في مصر وتونس، وهذا ما أسفرت عنه انتخابات المؤتمر الوطني العام، كما أثبت الشعب الليبي أنه قادر على التصدي لدعاوى الانقسام. ويختلف الأمر في اليمن عن بقية بلدان الربيع، فمصير التحول الديمقراطي غير محسوم.

9 ـ تأثرت البلدان العربية كافة بالانتفاضات الشعبية في بلدان الربيع العربي، وحدثت فيها تغييرات طفيفة، إما بتقديم بعض الإصلاحات لإرضاء الشعوب، وإما بممارسة مزيد من القمع. ولو أخفقت عملية التحول الديمقراطي في البلدان المنتفضة، فإن أوضاع الوطن العربي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لن يطرأ عليها تحسن كبير في العقد المقبل.

3 ـ التحليل الكيفي ونتائج المقابلات في مصر والكويت والمغرب

حملنا في الدراسة كل الافتراضات النظرية التي طرحناها وحولناها إلى أسئلة، تكشف عن صدق هذه الافتراضات أو كذبها، ثم بدأنا في إنجاز العمل الميداني، للحصول على الإجابات (المعلومات) الخاصة بتصورات الطبقة الوسطى العربية. وكان من المخطط إجراء استبيان لعيّنة كبيرة (500 مفردة من كل من الكويت والمغرب و1000 مفردة من مصر)؛ غير أننا غيّرنا الاستراتيجية المنهجية، مع بداية تطبيق الاستبيان، في دولة الكويت، بعدما واجهتنا عوائق كبيرة في تطبيقه، لذلك تحولنا مباشرة إلى أداة المقابلة الكيفية المعمّقة، التي تمنح الباحث القدرة على التواصل مع المبحوثين، بصورة مباشرة، وعرض أهداف البحث، وإزالة الشكوك أو التحفظات… إلخ. واستقر الأمر على اختيار 50 مفردة من الكويت، و50 مفردة من المغرب، و150 مفردة من مصر) لإجراء المقابلات المعمقة. وجاءت نتائج المقابلات على النحو التالي:

1 ـ يؤثر الوضع الاقتصادي العام للدولة في تركيب وحجم الطبقات الوسطى داخل التركيب الطبقي في مصر، وقد كرَّس التدهور في هذا الوضع، العلاقاتِ العصبية القرابية والسياسية، لتصبح أكثر تحكماً في توزيع الموارد والثروات، وهو ما أدى إلى زيادة حجم الطبقة الوسطى الفقيرة، مقابل انكماش الطبقة الوسطى المستقرة. ولا يختلف الظرف الاقتصادي العام في المغرب عن مصر، غير أن التزام الدولة هناك بضمان الحد الأدنى من مستوى المعيشة اللائق، وتعطش سوق العمل حتى فترات قريبة، للقوة العاملة المتعلمة، قلص من حجم الطبقة الوسطى الفقيرة. ومع ذلك يشهد المغرب بالمثل استغلالاً للعلاقات العرقية أو العصبية السياسية، وإن كان على نحو جزئي وخفي، ولا تنسحب تلك العلاقات على جميع فرص العمل والترقي في سوق العمل المغربي، وبالتالي فإن مساحة الطبقة الوسطى المستقرة في المغرب، تزيد على مساحة الطبقة الوسطى الفقيرة والمتنفذة. وتختلف الكويت عن مصر والمغرب، في ضمانها لتوفير فرص أكيدة لمواطنيها للانضمام المباشر للطبقة الوسطى المستقرة. ويعاني المجتمع الكويتي تدهور قيمة العمل والإنتاج، وهو ما جعل الطبقة الوسطى الكويتية، وبخاصة البيروقراطية، تتسم بالكسل والاسترخاء.

2 ـ إن العلاقات الطبقية في البلدان العربية الثلاثة، تأخذ طابعاً استغلالياً؛ غير أن الاستغلال هنا يتجاوز ويختلف عن المجتمعات الطبقية الحديثة، في أنه يقوم على استثمار العلاقات الطائفية أو العرقية أو القبلية أو العلاقة مع الحزب الحاكم، وفي أن تحالف الطبقة الوسطى المتنفذة مع الطبقة المركزية المتحكمة، هو الذي يحدد نوع هذه العلاقات وشدتها في لحظة تاريخية محددة. وهذا الامتزاج والتداخل بين علاقات الاستغلال التقليدية، وعلاقات الاستغلال المرتبطة بالعمل والنشاط الاقتصادي، تؤدي إلى مشكلة لاحقة، وهي تشوش الوعي الطبقي، بسبب إقحام الهوية الدينية والعرقية والقبلية عليه، وهو ما يؤدي إلى طمس أو تقزيم هذا الوعي.

3 ـ تعاني البلدان الثلاثة، بدرجات متفاوتة، الفسادَ إلى جانب علاقات الاستغلال الثلاث الناشئة عن ملكية وسائل الإنتاج والتحكم فيها، والسلطة البيروقراطية، واستغلال النفوذ القبلي/الطائفي/الإثني ـ الاحتكارية السياسية، التي تتداخل جميعها في بعض الأحيان، ويغذي بعضها البعض الآخر، وهو ما يسمح للفساد أن يرتع في أروقة البناء الاجتماعي بأكمله، لتتحول الجدارة والكفاءة والعصامية إلى كلمات جوفاء تتردد في أبواق الإعلام، ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، لتكريس الوضع القائم.

4 ـ اتضح أن فترة الستينيات من القرن الماضي، مثلت العصر الذهبي للطبقة الوسطى في البلدان الثلاثة مجتمعة، وإن اختلفت مكاسب الطبقة الوسطى باختلاف السياق الاجتماعي. فمصر الناصرية، تسلحت بالعدالة الاجتماعية سبيلاً لإنقاذ الطبقة الوسطى المصرية من نير العلاقات الرأسمالية وشبه الإقطاعية التي كانت سائدة قبل ثورة تموز/يوليو. والمغرب في عهد الحسن الثاني، انطلقت إلى استكمال بنيتها الأساسية بروح تجمع بين الاشتراكية والرأسمالية، وهو ما أدى إلى تبلور الطبقة الوسطى الحديثة، بعدما كان التركيب قاراً على ثنائية العائلات الأرستقراطية العريقة، والفلاحين. وتبنت الكويت منذ الستينيات مشروعاً تنموياً طموحاً، أحدث تحولاً حضارياً كبيراً، من ثمراته إخراج الطبقة الوسطى الكويتية الحديثة إلى حيز الوجود من العدم تقريباً، لتخلق واقعاً طبقياً جديداً قضى على التركيب شبه الطبقي القديم.

5 ـ يعاني تركيب الطبقة الوسطى في مصر والمغرب الانكماش، الذي بدأ في مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتأخر حتى بداية الألفية الجديدة، بعدما تزايدت معدلات العاطلين من أبناء الطبقة الوسطى، غير أن ما يميِّز المغرب عن مصر، أن المغرب لا يزال يحتفظ بفاعلية شبكة ضمان اجتماعي، تمتص الغضب وتحول دون تفجر الأوضاع الاجتماعية، أما التركيب الطبقي في الكويت، فقد تحول من تركيب طبقي ولود، إلى تركيب منخفض الخصوبة، ليس بسبب مشكلات اقتصادية، ولكن بسبب الاختلاف السياسي ـ الاجتماعي على إدارة الثروة.

6 ـ أثبت رصد الحراك المهني والتعليمي لثلاثة أجيال متتالية، وجودَ حراك طبقي جماعي صاعد، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وأن هذا الحراك لا يمكن أن يحدث بسبب أصول طبقية، ولكنه يرجع إلى الحراك الطبقي الجماعي الذي أحدثته مشروعات التنمية الأولى في هذه البلدان، عقب الاستقلال والتأسيس.

7 ـ تعاني البلدان الثلاثة في الوقت الراهن الحراكَ الطبقي الفئوي، بعد انحسار الحراك الجماعي الصاعد، ويبدأ الحراك الفئوي في مصر والمغرب، من قاعدة الطبقة الوسطى الفقيرة، ويستمر صعوداً إلى الطبقة الوسطى المتنفذة، أما الحراك الفئوي في الكويت، فيحدث فقط بين الطبقة الوسطى المستقرة والمتنفذة.

8 ـ يظهر الحراك الفردي الضفدعي في مصر والمغرب، مستغلاً العلاقات التقليدية في نهب الموارد والحصول على المنافع دون وجه حق، وأحياناً يتم هذا الحراك عبر تحويل رأس مال الاقتصاد الأسود إلى رأس مال اجتماعي وسياسي. ولا تعرف الكويت الحراك الفردي الضفدعي، ولكنها تعرف الحراك الفردي الهابط، بعدما تحول الاستهلاك إلى قيمة ووسيلة للتمايز الاجتماعي في الكويت. وحين تعجز موارد الأسرة عن إشباع رغبات الاستهلاك الشره، تلجأ إلى رهن قوة العمل بالقروض أو الأقساط، فيحدث الحراك الفردي الهابط.

9 ـ ظلت التشكيلات الطبقية في البلدان الثلاثة تحت سيطرة الطبقة المركزية المتحكمة والطبقة الوسطى المتنفذة؛ لذلك لم تحقق الحماية الكافية لأعضائه، وكانت دائماً الطرف الأضعف في المعادلة. ولم تؤدِّ التشكيلات الطبقية في مصر والمغرب، دوراً ذا بال في مأسسة الصراع الطبقي، بسبب خضوعها القسري لثلاث قوى سياسية واجتماعية: من جهة الطبقة المركزية المتحكمة، ترغيباً وترهيباً، أو من جهة قوى المعارضة التي استحلت التشكيلات الطبقية كميدان للممارسة السياسية. أما التحدي الحقيقي الذي يواجه النقابات والاتحادات العمالية والمهنية في الكويت، فيتمثل بنقابات واتحادات أصحاب الأعمال ذات النفوذ الكبير، وتمثل العمالة الوافدة ـ مسلوبة الإرادة ـ الطرف الأضعف في المعادلة الكويتية.

10 ـ لم يتطور الوعي الطبقي في البلدان الثلاثة، من وعي عفوي نفسي، إلى وعي اجتماعي مؤسسي، لأسباب سياسية، وثقافية، وتقليدية، تتلخص في غياب مناخ الممارسة الديمقراطية الحقيقية، وثقافية موجهة (التعليم والإعلام الحكومي)، وعلاقات تقليدية (طائفية، عرقية، قبلية). كما شهدت البلدان الثلاثة تشويهاً وخلطاً للأوراق بين المصلحة الوطنية والمصلحة الطبقية، إمعاناً في تحييد الطبقات الاجتماعية، وتكريس سيطرة الطبقة المركزية المتحكمة وحليفتها الوسطى المتنفذة.

11 ـ أدى غياب دور حزبي أو نقابي فعال إلى بقاء الوعي الطبقي على حالته العفوية النفسية، مع وجود وعي طبقي اجتماعي ضعيف ومتآكل، متناسب مع ضعف وتآكل التشكيلات الطبقية والحزبية في مصر والمغرب، والغياب التام لمؤسسة الحزب في الكويت.

12 ـ لا توجد بوادر صراع طبقي بالمعنى الماركسي الصريح، في البلدان الثلاثة، وما حدث في مصر كان صراعاً عابراً للطبقات، ولا تزال الطبقة الوسطى الفقيرة والمستقرة، تعيش حالة من الإذعان الطبقي، يكرسها تحالف الطبقة الوسطى المتنفذة مع الطبقة المركزية المتحكمة، عبر آليات متشابهة في البلدان الثلاثة: ممارسة العنف المادي والرمزي، المراوغة السياسية، المقايضة، اللجوء للعلاقات التقليدية.

أما بعد،

فإن جملة النتائج المستخلصة من هذه الدراسة، إذا نُظر إليها انعكاسياً، تصبح توصيات مقدمةً إلى صناع القرار في الوطن العربي، ولا أجد في نهاية هذا النص، سوى التذكير بأن الشعوب العربية كافة تنتظر تحولاً ديمقراطياً حقيقياً، قائماً على النزاهة والشفافية والمحاسبة، يستوعب الصراع الاجتماعي، ويحوله عبر برامج إصلاحية أو ثورية أكيدة إلى تنافس طبقي، يمنح فرصاً متساوية للجميع، فالأجيال العربية الجديدة، لم تعد صابرة ولا قادرة على الدوران في متاهات الصراع الطائفي/العرقي/القبلي/الاحتكاري، ولن ترضى بديلاً من هذا التحول، إصلاحياً كان أو ثورياً.

 

المصادر:

(*) تمثّل هذه الدراسة خلاصة الكتاب الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بالعنوان نفسه (448 ص).

ونُشرت في مجلة المستقبل العربي العدد 415 في أيلول/ سبتمبر 2013.

(**) أحمد موسى بدوي: باحث في العلوم الاجتماعية ـ مصر.

البريد الإلكتروني: am_badawi@yahoo.com

[1]  مغنية الأزرق، نشوء الطبقات في الجزائر: دراسة في الاستعمار والتغيير الاجتماعي ـ السياسي، ترجمة سمير كرم (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1980)؛ سليم نصر وكلود دوبار، الطبقات الاجتماعية في لبنان: مقاربة سوسيولوجية تطبيقية، تعريب جورج أبي صالح (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1982)؛ محمود عبد الفضيل، التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي: دراسة تحليلية لأهم التطورات والاتجاهات خلال الفترة 1945 ـ 1985 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)؛ خلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية: من منظور مختلف، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي. محور «المجتمع والدولة» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989)؛ محمد عبد الباقي الهرماسي، المجتمع والدولة في المغرب العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي. محور «المجتمع والدولة» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1992)؛ محمد ولد الجيد، «الطبقة الوسطى في المجتمع الموريتاني: بناؤها ودورها في التنمية،» (أطروحة دكتوراه، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1998)؛ عبد الباسط عبد المعطي، الطبقة الوسطى المصرية من التقصير إلى التحرير (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005)؛ مجموعة مؤلفين، المجتمع العراقي: حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات (بيروت؛ بغداد: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006)؛ حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث في تغير الأحوال والعلاقات، ط 2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)؛ محمد بن صنيتان، السعودية الدولة والمجتمع: محددات تكون الكيان السعودي (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008)؛ أحمد حسين حسن، «اتجاهات التغير في الطبقة الوسطى الحضرية وأدوارها: تحليل سوسيولوجي تاريخي، 1975 ـ 2000،» (أطروحة دكتوراه، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، جامعة عين شمس؛ القاهرة، 2009)؛ عادل الشرجبي [وآخرون]، القصر والديوان الدور السياسي للقبيلة في اليمن (صنعاء: المرصد اليمني لحقوق الإنسان، 2009)؛ ماجدة بركة، الطبقة العليا المصرية بين ثورتين، 1919 ـ 1952، ترجمة محمود ماجد (القاهرة: وزارة الثقافة، المركز القومي للترجمة، 2009)؛ غازي الصوراني، التحولات الاجتماعية والطبقية في الضفة الغربية وقطاع غزة: رؤية نقدية (رام الله: معهد العالم العربي للبحوث والتنمية، 2010)؛ إليزابيت لونغنيس، أزمة الطبقات الوسطى في المشرق العربي: المهن العليا ودورها في التغيير الاجتماعي، ترجمة رندة بعث (بيروت: الشركة العالمية للكتاب،2012)، وأحمد بعلبكي، «مفهوم الطبقة الوسطى وحراك الهويات في المجتمعات العربية المشرقية،» المستقبل العربي، السنة 35، العدد 403 (أيلول/سبتمبر 2012)، ص 86 ـ 96.

[2] تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد، وتقارير أجهزة الإحصاء والتخطيط الوطنية.

 

 


أحمد موسى بدوي

باحث سوسيولوجي حر- مصر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز