(*) نُشرت هذه المقالة على جزئين في جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 29 نيسان/أبريل 2021 و 6 أيار/مايو 2021 تباعاً.                                                   

 

بدأت تلميحات من مصادر في السلطة الفلسطينية إلى احتمال تأجيل الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في ٢٢ مايو القادم بسبب عدم ورود موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس الشرقية كما جرت العادة في الانتخابات السابقة، وحجة التأجيل أن عدم إجراء الانتخابات في القدس الشرقية تسليم بتبعيتها لإسرائيل، وليس كل تبرير صادق بالضرورة، وهو هنا القول بأن التأجيل سببه الحرص على الهوية الفلسطينية للقدس، ولكنني سأناقشه باعتباره صادقاً علماً بأن معارضي اتجاه التأجيل يرون أن القدس ذريعة وليست سبباً، وأن السبب الحقيقي هو خشية خسارة الانتخابات خاصة في ظل التشرذم الذي أصاب “فتح” التي تدخل الانتخابات بثلاث قوائم إحداها تمثل السلطة الفلسطينية والأخريان تمثلان انشقاقاً عليها واحدة على رأسها ناصر القدوة ويدعمها المناضل مروان البرغوثي والثانية تابعة لمحمد دحلان وكلاهما (دحلان والقدوة) مفصول من فتح، ونقطة البداية أن قرار محمود عباس بإجراء الانتخابات التشريعية في ٢٢مايو القادم والرئاسية في ٣١يوليو وانتخابات المجلس الوطني في ٣١أغسطس جاء نتيجة إجماع وطني ظهر من حوارات القاهرة في بدايات العام، ومن ثم فإن قرار التأجيل ينبغي أن يكون بدوره قراراً ديموقراطياً، والنقطة الثانية أن منطق الاتفاق على إجراء الانتخابات استند إلى تحقيق الوحدة الوطنية بمعنى أنه إذا كانت كافة الجهود التي بُذِلت لتحقيقها قد باءت بالفشل فلنترك الشعب الفلسطيني يرسم خريطة قواه السياسية وعلى قوى الأغلبية التي ستفرزها هذه الانتخابات أن تضطلع بمسؤولية إنجاز المهمة، ويمثل الاتجاه إلى التأجيل الذي قد يُتَرْجَم خلال أيام إلى قرار نكوصاً عن هذا المنطق بحجة أن إجراء الانتخابات دون فلسطينيي القدس الشرقية تفريط في الحق الفلسطيني وتسليم بأنها عاصمة لإسرائيل، وثمة نقطة فنية هنا وهي أن أقل من ٧ آلاف فلسطيني في القدس الشرقية هم الذين يحتاجون الموافقة الإسرائيلية على مشاركتهم في الانتخابات بينما حوالي ١٥٠ألف فلسطيني يصوتون في مراكز انتخابية في ضواحي القدس الواقعة خارج السيطرة الإسرائيلية، ومع ذلك قد يتعلل أنصار التأجيل بأن المسألة رمزية، وأن من منع مواطناً فكأنما منع الناس جميعاً، وهنا يبدو التذكير بالكيفية التي صوت بها المقدسيون في الانتخابات السابقة مهماً، فقد صوتوا في مكاتب البريد أي باعتبارهم مواطنين خارج وطنهم، أي أن مشاركتهم في الانتخابات السابقة بحد ذاتها ليست دليلاً على الهوية الفلسطينية للقدس الشرقية.

ثم نأتي إلى الجوهر ويدور حول التساؤل عما يعنيه تأجيل الانتخابات بالنسبة للقدس، فهل يعني عدم إجراء الانتخابات في القدس الشرقية حقاً تسليم بالتخلي عن هويتها الفلسطينية واعتراف بأنها ضمن العاصمة الأبدية الموحدة لإسرائيل؟ هناك أولاً أن الحق الفلسطيني في القدس الشرقية وغيرها ليس مسألة إجرائية وإنما هو قضية حقوقية يدعمها التاريخ وقرارات الشرعية الدولية معاً، ولن يؤثر فيها بحال عدم إجراء الانتخابات خاصة وقد رأينا أن الكيفية التي شارك بها فلسطينيو القدس في الانتخابات السابقة لا تعني اعترافاً إسرائيلياً بأي حق فلسطيني فيها، وأن إجراء الانتخابات في القدس يبقى ممكناً رغم أنف إسرائيل، والأهم من ذلك هو السؤال عن مردود تأجيل الانتخابات على القدس الشرقية، فهل يؤدي لأي تعزيز من أي نوع للموقف الفلسطيني بشأنها؟ الإجابة بالتأكيد أن التأجيل لن يفضي إلا إلى استمرار الأجواء المثالية لمواصلة تنفيذ المخططات الإسرائيلية لاستكمال تهويد القدس الشرقية، وكذلك استمرار الانشقاق الانقسام الفلسطيني الراهن إن لم يكن تكريسه وتفاقمه، بينما إجراء الانتخابات حتى بدون القدس الشرقية قد يكون آلية لاستعادة الوحدة الوطنية التي لا غنى عنها لإعادة قطار النضال الفلسطيني إلى قضبانه ومن ثم إحياء الأمل في أداء أفضل يعزز الإمكانات من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني الذي يثبت في هذه الآونة مجدداً من خلال انتفاضته الجسورة في القدس وغيرها ضد سياسات القمع والترويع تمسكه بحقوقه واستعداده لأي تضحيات في سبيلها.

وأتمنى ألا يُفهم مما سبق أنني أتبنى أي أوهام بخصوص قدرة الانتخابات في حد ذاتها على تجاوز أي انقسام سياسي طالما بقيت مسبباته، وها نحن نرى الأوضاع في بلدان كإسرائيل ولبنان وغيرهما تتكرر فيها الانتخابات دون أن تتحقق خطوة واحدة إلى الأمام، ولكن الفكرة في إجماع الحوار الفلسطيني على إجراء الانتخابات هذه المرة هي إحالة مشكلة الانقسام إلى الشعب لكي يحدد ممثليه في حلها، وصحيح أن النتيجة قد تعزز الانقسام، بل قد تؤدي إلى تفاقمه، وصحيح أنها يمكن أيضاً أن تأتي لمصلحة حماس فتبقى العقدة في المنشار، وإن كنت أستبعد ذلك على ضوء تجربتها في غزة، كما أن وصولها للسلطة جعلها أكثر مرونة، لكنه من المحتمل كذلك أن يثبت الشعب الفلسطيني أنه استوعب دروس سنوات الانقسام الكارثية وفهم متغيرات الواقع الجديد وتعززت قدرته على فرز القوى السياسية فيأتي بقوى جديدة إلى الصدارة أو على الأقل يعطي لها وزناً يمكنها من مشاركة حقيقية في صنع القرار، وفي كل الأحوال فإن الانتخابات سوف تمثل إرادة الشعب الفلسطيني وعلينا أن نضع بيده زمام الأمور بدلاً من أن ينتزعه انتزاعاً لو فاض به الكيل، وليس من المقبول أو المفهوم أن تخفق النخبة الفلسطينية المتنفذة على مدار ١٥عاماً في معالجة الانقسام الذي تسبب في كوارث للقضية الفلسطينية رغم تعاظم التحديات التي تواجهها على نحو غير مسبوق ثم تأتي في لحظة للأمل في أن تمثل الانتخابات خطوة للأمام وتتذرع بحجج قانونية ما أسهل تفنيدها، ولا أدري لماذا تذكرت في هذا الموقف حديث المناضل الصلب النبيل شفيق الحوت وهو يقول تعليقاً على تخلي الكثيرين: “أنظر كل يوم في المرآة وأخاطب نفسي…شفيق…أما زلت المناضل المتمسك بمبادئه أم أنك تخليت؟” وأتمنى لو ينظر الجميع في مراياهم.

خطاب بديل                                                                                                  

توقعت في مقالة الأسبوع الماضي أن الاتجاه إلى تأجيل الانتخابات الفلسطينية “قد يُتَرْجَم خلال أيام إلى قرار”، لكن القرار لم يتطلب أياماً وإنما ألقى الرئيس محمود عباس يوم نشر المقالة خطاباً في اجتماع دعا إليه قادة الفصائل أسس عليه قرار التأجيل، وفي هذا الخطاب استعرض عباس التطورات منذ صدور قراره في يناير الماضي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وتلك المتعلقة بالمجلس الوطني في ٢٢مايو و٣١يوليو و٣١ أغسطس على التوالي، فبدأ بتحية الشعب الفلسطيني على انتفاضته في القدس التي امتدت إلى باقي الأراضي الفلسطينية رداً على السلوك العدواني للمستوطنين الإسرائيليين وشعاراتهم المنادية بالموت للعرب، وكانت نتيجة هذه الانتفاضة أن استطاع فلسطينيو القدس إزالة الحواجز التي أُقيمت لمنعهم من الحركة في إشارة لما تستطيع المقاومة الشعبية السلمية أن تفعله، وذكر بمعركة بوابات المسجد الأقصى التي انتصر فيها الفلسطينيون أيضاً في ٢٠١٧، وأشار إلى أن هذه الانتفاضة تأكيد على أن القدس الموحدة لن تكون العاصمة الأبدية لإسرائيل لأن القدس الشرقية هي العاصمة الأبدية لدولة فلسطين، ثم استعرض جهود المصالحة وإنهاء الانقسام إلى أن انتهت بالإجماع على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمتعلقة بالمجلس الوطني كخطوة في الطريق إلى إنهاء الانقسام، وانتقل عباس بعد ذلك إلى الحديث عن موقف إسرائيل من إجراء الانتخابات في القدس فأوضح أنها ماطلت أولاً في الرد على طلب الموافقة على إجراء الانتخابات في القدس ثم أرسلت له رسالة في نفس يوم الاجتماع (أي في٢٩أبريل) مفادها أنها لا تستطيع أن ترد لأنه ليست لديها حكومة، وتندر على هذه الذريعة بالإشارة إلى قرارات إنشاء المستوطنات التي تتدفق بكل سلاسة متسائلاً عن الحكومة التي تصدرها، وأوضح عباس أنه حاول الحصول على تأييد دولي واسع فاشترط الاتحاد الأوربي إصدار مراسيم الانتخابات فاستجاب لطلبه، غير أن الاتحاد عجز عن إقناع إسرائيل بالموافقة على إجراء الانتخابات في القدس، أما الإدارة الأمريكية فلم تتخذ موقفاً، ورفض عباس أي تحايل على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية باقتراح إجرائها في “أبو ديس” أو غيرها، وعبر عن اعتزازه بالروح الوطنية الديموقراطية التي تحلى بها الفلسطينيون، والتي تجلت في تسجيل ٩٠٪‏ممن لهم حق الانتخاب أسماءهم وتقدم ٣٦ قائمة للترشح في الانتخابات بما يدل على وعي الشعب الفلسطيني بحقوقه الوطنية والديموقراطية، لكن الانتخابات لا يمكن أن تُجرى بدون القدس، وعليه بنى قراره بالتأجيل.

وجدت نفسي متفقاً مع كل ما قاله الرئيس عباس إلا قرار التأجيل، وتخيلت نهاية بديلة لخطابه يقول فيها: “أيها الشعب الفلسطيني العظيم…لقد قدمت عبر سنوات نضالك الذي امتد لأكثر من قرن من التضحيات ما يؤكد تصميمك على استعادة حقوقك المشروعة واستعدادك لأي تضحية في سبيل ذلك. يشهد على ذلك تاريخك الذي شهد ضمن ما شهد انتفاضة البراق١٩٢٨ وثورة ١٩٣٦ والنضال الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح وكافة الفصائل الفلسطينية المقاومة منذ ستينات القرن الماضي، وإبداعك الدائم لأشكال غير مسبوقة من النضال الوطني التحرري كما تجلى في انتفاضة الحجارة التي تفجرت في نهاية ١٩٨٧ في ظل ظروف إقليمية ودولية بالغة الصعوبة واستمرت سنوات حتى أجبرت إسرائيل على توقيع اتفاق أوسلو الذي اعترفت فيه بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة له بعد أن كانت الحركة الصهيونية تدعي أن فلسطين أرض بلا شعب وكانت إسرائيل تدمغ المنظمة بالإرهاب، ثم واصل الشعب إبداعه بانتفاضة الأقصى في٢٠٠٠ التي أجبرت الاحتلال لاحقاً على الانسحاب من قطاع غزة في٢٠٠٥ وتفكيك المستوطنات المحيطة بها في سابقة هي الأولى من نوعها، ولقد تعرض نضالنا الوطني كما تعلمون لمحنة شديدة بعد الانقسام الذي وقع بين أهم فصيلين في حركتنا الوطنية منذ٢٠٠٧، وتعددت محاولاتنا لإنهاء الانقسام إلى أن وصلت أخيراً إلى بر الأمان بالإجماع الفلسطيني على إجراء الانتخابات على كافة المستويات بعد أن تفاقمت التحديات التي تواجه نضال الشعب الفلسطيني وبالذات في ظل إدارة ترامب وتغير جدول الأولويات العربية”.

تخيلت أخيراً أن ينهي الرئيس عباس خطابه بقوله “ولأن إسرائيل تعلم تماماً قيمة القدس ورمزيتها بالنسبة لفلسطين فهي تحاول أن تفسد الإجماع الوطني الفلسطيني على إجراء الانتخابات برفضها إجراء الانتخابات في القدس، وأنا متأكد أن شعبنا العظيم سوف يفوت عليها هذه الفرصة بالتصميم على إجراء الانتخابات فيها، وسوف يجعل من هذه الانتخابات معركة جديدة مجيدة يشتبك فيها مع العدو ويفرض إرادته وينتصر تماماً كما انتصر في معركة بوابات المسجد الأقصى في٢٠١٧ ومعركة الخان الأحمر في ٢٠١٨ ومعركة باب الرحمة في ٢٠١٩ بل وكما انتصر مؤخراً في انتفاضته الحالية، وسوف يدلي فلسطينيو القدس بأصواتهم رغم أنف إسرائيل…في المساجد والكنائس وبأي وسيلة يتحدون بواسطتها إرادة الاحتلال، ولتقتحم قوات الاحتلال إن شاءت هذه الأماكن المقدسة لكي تكتمل صورتها البشعة كقوة احتلال عنصرية أمام العالم كله، وإن ثقتي مطلقة من أنها لن تتمكن من منع شعبنا في القدس من التعبير عن إرادته، وحتى لو فعلت فلن يكون هذا سوى مسمار جديد يُثَبت صورتها الاستعمارية العنصرية وخطوة واثقة في الطريق إلى إنهاء الاحتلال…أيها الشعب الفلسطيني العظيم…إن أي تراجع عن إجراء الانتخابات التي نبني عليها آمالنا في استعادة وحدتنا الوطني بسبب الرفض الإسرائيلي لإجراء الانتخابات في القدس الشرقية لا يعني سوى أننا نعطي لإسرائيل حق الڤيتو على استعادة هذه الوحدة لأجل غير مسمى ومن ثم استمرار التشرذم الفلسطيني والعجز عن تقديم الاستجابات الملائمة للتحديات التي تحيط بنا من كل صوب. وفقكم الله لتحقيق انتصار جديد في معركتنا لاسترداد حقوقنا الوطنية وإنها لمقاومة شعبية سلمية حتى النصر”.

 

قد يهمكم أيضاً  أربعة عقود من النضال الفكري

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الانتخابات_الفلسطينية #القدس #محمود_عباس #تأجيل_الانتخابات_الفلسطينية