توظف هذه الدراسة مناهج التحليل السياسي والعلاقات الدولية الكيفية والمقاربة التاريخية من أجل تناول السياسة الأمريكية نحو ليبيا في سعي للإحاطة بأبعادها ودينامياتها المتعددة. وتعتمد الورقة منظوراً ينطلق من أن السياسة الأمريكية، منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين وانتهاءً بالدور الأمريكي في العمليات العسكرية ضد نظام القذافي وإطاحته في 2011، تعبّر عن التحولات التي تشهدها السياسة الشرق أوسطية للولايات المتحدة الأمريكية وما تواجهه من تحديات. إن السياسة الأمريكية لا ترتبط بالضرورة بطموحات الشعب الليبي التي قلّما تلتقي مع تلك السياسة. لذلك فإن إطلالة سريعة على التوصيف الأمريكي (بمختلف مستوياته ومصادره) للوضع السائد في ليبيا كدولة فاشلة وفي طريقها للحرب الأهلية، أو التفكك وكمصدر تهديد لجيرانها، تفرض التساؤل عن الأهداف أو السياسة الأمريكية واتجاهاتها في المستقبل المنظور. وبينما تدعو أوضاع ليبيا إلى اهتمام من شأنه المساعدة على تجاوز الخطر، فإنه ليس هناك على ما يبدو أي بادرة لانشغال أو اهتمام أمريكي بليبيا خارج سياقات السياسة الأمريكية الشرق أوسطية التي لا تمثل فيها ليبيا حالياً أي موقع محوري يتجاوز أهميتها كمصدر للطاقة.

إن النظرية الواقعية تبدو ملائمة أكثر لتفسير السلوك الأمريكي وتحليل مكونات تلك السياسة وتفهم دوافعها ودينامياتها وأهدافها المتعددة المستويات. وبالنظر إلى أهمية الوطن العربي ضمن الاستراتيجية الكونية الأمريكية عموماً وما يتصل بأمن الطاقة خصوصاً، المقاربة الأكثر مناسبة للحالة. الواقعية تبدو ملائمة كإطار للتفسير عندما يتعلق الأمر أيضاً بتفهم الأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ ما قامت به من أعمال منذ 2011 واتصافها بدرجة ملحوظة من التردد. فالرئيس أوباما – وفقاً لهذه المقاربة – قرر التدخل، وإن كان من خلال القيادة من الكرسي الخلفي لكي يتجنب تحمل تكاليف القيادة من الكرسي الأمامي أو تحمل أعباء المواجهة المباشرة، وحتى يمكن توفير قوة بلاده ومواردها لمواجهة أحداث أكثر جسامة وربما أكثر أهمية. وإذا ما نظرنا إلى ما يجري في ليبيا منذ إطاحة نظام القذافي لوجدنا أن القرار الأمريكي بالتدخل، وبالطريقة والرؤية المشار إليها، كان يتضمن أيضاً تبريراً للموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة تجاه ليبيا ذاتها بعد سقوط القذافي بما يجعلها في حل من أي مسؤولية مشابهة لما تتحمله جراء تدخلها في كل من أفغانستان والعراق.

وهكذا فإن الدراسة تنطلق من فرضية أن عدم وجود أي أهمية لليبيا ضمن الاستراتيجية الأمريكية من شأنه أن يلغي أي أهمية لليبيا. لذا فإن تحليل ما صدر عن الإدارة الأمريكية يعكس تجاهلها لمآلات ما قام به التحالف الذي قادته وإطلاقه قوى وديناميات كامنة ثم تركها لتتصارع فيما بعد، بينما تكتفي هي وحلفاؤها بالتفرج وعدم الرغبة في تحمُّل المسؤولية الكاملة الناجمة عن التدخل في ليبيا. وتحقيقاً لهذا الهدف فإن الدراسة ترصد سريعاً تطور العلاقات الليبية – الأمريكية منذ استقلال ليبيا حتى انطلاق الانتفاضة في شباط/فبراير 2011 وتحدد المفاصل الجوهرية التي حكمت السياسة الأمريكية تجاه ليبيا. كما تخصص الدراسة قسماً هاماً لتحليل دوافع العمل الأمريكي ضد نظام القذافي، لتخلص في النهاية إلى أن اللجوء إلى مبدأ التدخل للأغراض الإنسانية (Responsibility to Protect R2P) لتبرير العمل العسكري مبكراً جاء في الواقع ليعبر عن سياسة أمريكية محددة تجاه ليبيا، وكان شكلاً مما يمكن اعتباره انتهازية «سياسات اللحظة» (Politics of the Moment).

أولاً: الولايات المتحدة وليبيا: تاريخ مضطرب وأسئلة بحاجة إلى إجابات

لا حاجة بنا هنا إلى الإشارة إلى كل مراحل التاريخ المضطرب للعلاقات الليبية – الأمريكية منذ أوائل القرن التاسع عشر انطلاقاً مما عرف في التاريخ الأمريكي بحروب البرباري (Barbary War) وفي التاريخ الليبي بحرب السنوات الأربع، في 1801-1804. يحفل تاريخ علاقات البلدين بتفاصيل كثيرة، ليس هنا المجال المناسب للتعرض لها، تبين بوضوح أن مكانة ليبيا في السياسة الأمريكية كانت تعاني اضطراباً متواصلاً[1]. ومن دون إغراق في التفاصيل، فإن ما يمكن استخلاصه هو أن جل تاريخ علاقات الولايات المتحدة الأمريكية المعاصرة بليبيا قد ارتكز حول محورين أساسيين: النفط والقذافي وارتباطهما بالموقع الجغرافي الاستراتيجي. وفي كل هذه المرحلة لا نجد سوى ما يرتبط تقريباً بهذين العنصرين، خاصة الرغبة الأمريكية في التخلص من القذافي بعد سنوات من الممالأة والتعاون.

حفلت العقود التالية بعلاقات ليبية – أمريكية وثيقة حيث ظلت المملكة الليبية ضمن جماعة الحكومات العميلة للسياسة والمصالح الأمريكية[2]. غير أن انقلاباً قضى على الملكية في 1969 قاد إلى إعادة صياغة العلاقات الليبية – الأمريكية. وبصرف النظر عمّا يقال اليوم عن دور أمريكي في تدبير الانقلاب، فإن العلاقات الليبية – الأمريكية لم تشهد سوى التطور الإيجابي، حتى إن الولايات المتحدة أخلت قواعدها العسكرية في ليبيا في ما يمكن اعتباره نوعاً من الدعم للنظام الجديد[3].

1- الأهمية الاستراتيجية لليبيا

لا غرو أن لليبيا أهمية استراتيجية لا يمكن تجاهلها؛ فهي لم تكن منذ وجودها على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط كياناً هامشياً لا أهمية استراتيجية له، وهذا أمر اختبرته الولايات المتحدة الأمريكية جيداً منذ كانت كياناً غضاً مطلع القرن التاسع عشر فعرفت بمرارة خطر أن تسيطر قوة غير صديقة أو موالية على شاطئ يمتد لنحو ألفي كيلومتر على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وتذوقت عواقبه. ذلك ما يعبّر عنه ما يرد عن شاطئ طرابلس في نشيد البحرية الأمريكية استذكاراً للدرس المرّ عندما قام يوسف باشا القرهمانللي حاكم طرابلس في 1804 بتدمير قطع للبحرية الأمريكية وأسر سفينتها الأم فيلادلفيا وفرض إتاوات على البحرية والتجارة الأمريكية في المتوسط.

تقع ليبيا في منطقة استراتيجية هامة للغاية، فهي نقطة التقاء ورابط بين أوروبا، المتوسط، الوطن العربي وأفريقيا بشكل لا يمكن إهماله. كان ذلك واضحاً في التنافس الدولي على ليبيا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وهو ما قاد إلى منحها الاستقلال للحيلولة دون استئثار قوة ما بالسيطرة عليها. كما بينت مغامرات القذافي أن بإمكان من يسيطر على ليبيا أن يهدد أمن هذه الأقاليم مجتمعة واستقرارها. ليبيا أيضاً من أهم البلدان المنتجة للنفط وتبلغ حصتها الحالية 2 بالمئة من المنتج عالمياً، وقد قدرت وكالة الطاقة الأمريكية أن احتياطي النفط الليبي ارتفع من 48 مليار برميل إلى 74 مليار برميل. وبذلك تحتل ليبيا المركز الخامس عالمياً في احتياطيات النفط الصخري بعد روسيا وأمريكا والصين والأرجنتين. وأوضحت الوكالة أن الكمية الجديدة تضاف إلى المخزون لترفع العمر الافتراضي لإنتاج النفط الليبي من 70 عاماً إلى 112 عاماً، بعد الإعلان عن أن الاحتياطي الليبي من النفط المخزون بالصخور والقابل للاستخراج بالتقنيات الحالية يبلغ 26 مليار برميل. وكشفت الوكالة عن ارتفاع احتياطات الغاز الليبي إلى ثلاثة أضعاف، حيث بلغ 177 تريليون قدم مكعب بعد أن كان 55 تريليون قدم مكعب، وذلك بإضافة 122 تريليون قدم مكعب من الاحتياطي القابل للاستخراج من الصخور[4]. ولا بد من الإشارة إلى ما يميز نفط ليبيا من مواصفات مثل الخفة وسهولة الاستخراج بتكاليف قليلة والخلو من الشمع «النفط الحلو»، بما يجعله غير قابل للتعويض، وخاصة لقربه من المستهلكين في أوروبا، ولسهولة وأمان تصديره بعيداً من ممرات تصدير نفط الشرق الأوسط والخليج العربي التي تعرف التوتر المتواصل[5].

كما تتوافر في البلاد إمكانات لإنتاج الطاقة البديلة أو النظيفة باستغلال الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح والحرارة الكامنة بالصحراء الليبية التي تعتبر مصدراً مثالياً للطاقة البديلة يمكن لأوروبا وغيرها الاعتماد عليه، وهو ما يُبرز الأهمية الحالية والمستقبلية لليبيا ضمن سياسة الطاقة العالمية. لقد أكدت وزارة الطاقة الأمريكية أن ليبيا التي تمتاز بالرطوبة المنخفضة لمناخها وبالنسبة العالية جداً للأيام المشمسة في العام تعتبر موقعاً مثالياً لاستغلال تقنيات الطاقة الشمسية. لنتذكر أن أكثر من 90 بالمئة من مساحة ليبيا البالغة نحو مليوني كم2 هي صحراء مشمسة حارة طوال العام تقريباً. وإذا ما تم تطوير التقنية المناسبة وتطبيقها، فإن ليبيا ستصبح في مركز حقبة ما بعد النفط في صناعة الطاقة العالمية[6].

2- النفط والقذافي: سياسات التناقض

أمّم القذافي النفط وكل القطاعات الاقتصادية وضيَّق الخناق على الشركات وأعاد صياغة شروط المشاركة في قطاع النفط وقوانينها ووضع سقفاً للإنتاج بدعوى إطالة عمر الاحتياطيات. كانت الثروة الهائلة التي تحققت لليبيا وسيلة لاءمت توجهات القذافي الذي انطلق في مغامرات إقليمية وعالمية قادته إلى التصادم مع السياسة الأمريكية، وخاصة بعد أن باشر دعم الإرهاب الدولي. اتخذت الولايات المتحدة خطوات تقلل الارتباط بالقذافي الذي واصل استخدام شعارات معادية للغرب والتهجم على الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية بل حرض على مهاجمة مصالحها ووجودها بدءاً بالهجوم على السفارة الأمريكية بطرابلس وإحراقها في كانون الأول/ديسمبر 1979‏[7]. قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية من جانب واحد في 1981 وحظرت استيراد النفط الليبي في 1982 وفرضت عقوبات متنوعة على ليبيا خلال معظم العقدين الأخيرين من القرن الماضي. نفد صبر الولايات المتحدة تجاه القذافي عندما بلغت به الجرأة استهداف المصالح والأرواح الأمريكية مباشرة منذ حادثة ملهى لابيل في برلين عام 1986. هكذا انتقلت العلاقات الليبية – الأمريكية إلى مرحلة الخلاف ثم العداء والقطيعة التي كانت قد بلغت أوجها عند اعتبار الولايات المتحدة القذافي العدو رقم واحد لها[8]. وهكذا بدا واضحاً أن العلاقات تتجه إلى مزيد من التوتر والصدام خاصة بعد اتهام ليبيا في 1991 بتدبير حادثة إسقاط طائرة ركاب مدنية أمريكية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في 1988.

كانت حادثة لوكربي مناسبة لفرض عقوبات أمريكية ودولية على ليبيا لعدة سنوات واعتبار ليبيا دولة مارقة ظل اسمها على لائحة الداعمين للإرهاب لعقود. ويتضح من حقيقة كون الاتهام لم يوجه لليبيا إلا عقب مرور ثلاث سنوات من الحادثة، ومما ظهر مؤخراً من دلائل ومؤشرات من مصادر مختلفة على أن ليبيا لم تكن الفاعل، أن الاتهام وجه لليبيا لأغراض سياسية بحتة لا صلة لها بما أسفرت عنه التحقيقات الجنائية. لكن ما حدث من تطورات إقليمية ومحلية دفعت القذافي إلى القبول بالمسؤولية ضمن إعادة التفكير في خياراته، إذ قرر في 2003 وبعد مفاوضات طويلة مع الولايات المتحدة وبريطانيا أن يقرر العودة إلى المجتمع الدولي وأن يتخلى عن سياسته السابقة. وقد تزامن ذلك مع ما كانت الولايات المتحدة تجريه من إعادة تقدير لحساباتها فقررت إدارة الرئيس بوش في 2001 أن أمن الطاقة الأمريكية يستوجب إعادة النظر في ما كان مفروضاً على ليبيا من عقوبات والحاجة إلى استثمارات في قطاع الطاقة في ليبيا. لذلك سعت الإدارة الأمريكية مدعومة بالشركات النفطية لجعل الكونغرس لا يمدد تلك العقوبات ويسمح بتجديد نشاط شركات النفط في ليبيا[9].

أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين؛ وكان ذلك أحد أهم التطورات التي جرت لتتم إعادة تأهيل ليبيا في المجتمع الدولي وترفع عنها كل أنواع العقوبات، بل لتصبح شريكاً في الحرب الأمريكية على الإرهاب. هكذا حقق لَيّ عنق الحقيقة في لوكربي غرضه السياسي بنجاح وأصبح ممكناً الحديث عن نظام القذافي الذي يمكن إعادة تأهيله والتعامل معه. وما إن حل عام 2009 حتى كان القذافي محل احتفاء وحفاوة في عواصم الغرب وأصبحت ليبيا عضواً بمجلس الأمن الدولي وقبله مجلس حقوق الإنسان وبترحيب غربي. بدا نظام القذافي يقدم على أنه نموذج ينبغي أن يحتذى وخاصة من قبل الدول الساعية للسلاح النووي وأصبح القذافي يستقبل في عواصم الغرب بالترحاب وتعقد معه الصفقات.

لم يتخلّ القذافي تماماً عن لغته المعارضة للنظام العالمي السائد وقاد مبادرات أفريقية عاكست مطامح الولايات المتحدة وحلفاؤها، وعبّر عن درجة عالية من الإحباط من عدم تلقّيه المكافأة المناسبة[10]. مع ذلك فقد تميزت العلاقات الليبية – الأمريكية بالتطور السريع الإيجابي على مستويات مختلفة وكانت دوائر واشنطن تحتفي بأبناء القذافي وتعقد معهم الصفقات. ووفقاً لجون ألترمان (Jon Alterman) فقد انتقلت العلاقات تدريجياً وبثقة متبادلة من نجاح إلى آخر، وأخذت دائرة المصالح المشتركة تتسع، وخاصة في مجال مكافحة التطرف الإسلامي والحرب على الإرهاب وكشف الشبكة الدولية الخاصة بتهريب مكونات الصناعة النووية. باختصار فاقت المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة من إعادة العلاقات والتقارب مع نظام القذافي التوقعات[11].

كانت الولايات المتحدة تواجه تحديات كثيرة أمام سياستها العربية التي وإن لم تنفصل عن الأمن والنفط والقضية الفلسطينية، فإنها أيضاً لم تكن منعزلة عن التنافس الدولي الذي يميز العلاقات الدولية بشكل عام، لذلك فإن الولايات المتحدة كانت حريصة على إعادة تأهيل نظام القذافي وتوظيفه نجاحاً خدمة لتلك السياسة[12]. ما إن حل عام 2006 حتى بدا واضحاً أن الولايات المتحدة تدعم التحول داخل النظام رغم بعض الحساسيات التي حرصت الإدارة الأمريكية على اعتبارها جزءاً من الماضي سيختفي سريعاً. هكذا فإن زيارة الوزيرة كوندوليزا رايس (Condoleza Rice) للجلوس مع القذافي كانت الخطوة البروتوكولية الأخيرة لبيان أن عملية إعادة تأهيل القذافي قد بلغت غايتها المرجوة بينما ظلت مسألة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان هامشية بين مكونات العلاقات الثنائية[13].

ثانياً: التدخل الأمريكي في ليبيا: الواقعية الجديدة

انطلق الربيع العربي باحتجاجاته الشعبية العارمة من تونس في أواخر 2010 وكان من المتوقع أن تنضم ليبيا سريعاً إلى موجة الاحتجاجات. لم يمضِ وقت طويل حتى غدت ليبيا ساحة لاحتجاجات مماثلة، وليرتفع سقف مطالب المحتجين من إصلاحات اقتصادية وسياسية إلى المطالبة بإسقاط النظام. كانت تلك التطورات هائلة، وخاصة في وقعها على الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد بدت راضية على علاقاتها مع النظم التسلطية في المنطقة بما فيها القذافي. لذلك كان الموقف الأمريكي في البداية أكثر ارتباكاً مما اتصف به الأساس الفكري أو الاستراتيجي الذي استند إليه ما عُرف بمبدأ أوباما (Obama Doctrine) للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والذي لم يكن ليتجاوز في جوهره جملة الأفكار الرومانسية النبيلة والحالمة التي عبر عنها أثناء خطابه الشهير في القاهرة[14].

غير أن اتساع نطاق الاحتجاجات مكّن الولايات المتحدة من أن تستغلها فقررت مبكراً سلب الشرعية الدولية عن نظام القذافي ومواجهته عسكرياً ثم إسقاط نظامه. فجأة تغيرت الأمور وبدا أن الولايات المتحدة الديمقراطية أكثر عداء وكرهاً للقذافي وانتقلت من موقع إعادة تأهيل القذافي والارتباط المصلحي معه إلى المناداة بسلب الشرعية الدولية عن نظامه ومواجهته بالقوة حتى تم قتله وإسقاط نظامه. فلماذا حدث التحول؟ لماذا أصبح القذافي كما وصفته الوزيرة كلينتون «ديكتاتوراً شيطانياً وحقيراً»[15]!

  • هل من أهمية لليبيا؟

تدلنا تطورات الموقف الأمريكي أن قرار التدخل لم يكن انعكاساً للمبادئ أو القيم ولا مجرد انتصار للحرية، بل إن القرار بالتدخل واستخدام الرئيس أوباما صلاحيات هي محل جدل في مباشرة العمليات العسكرية كان تعبيراً عن رؤية تتفق مع مبدأ أوباما ومقاربته للمصالح القومية من دون أن تعني الذهاب منفردة إلى الحرب كما حدث في مناسبات تدخل أمريكا الخارجي قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

إن التدخل الأمريكي في ليبيا جاء أيضاً ترجمة لما احتوته الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي الصادرة في 2010 التي انطلقت من إمكانية وأهمية العمل على تحقيق المصالح الأمريكية من خلال الوسيلة الدبلوماسية، وخاصة عبر العمل خلال المنظمات والمؤسسات الدولية. كان الغرض من التركيز على العمل مع المجتمع الدولي تجاوز السلبيات التي ترتبت على قيام الولايات المتحدة في السابق منفردة بأعمال خارجية واحتلال لدول أخرى. كان واضحاً حرص الرئيس أوباما، وهو القانوني الذي يتميز بمقاربة تجنب المخاطر، على أن يظهر للمجتمع الدولي إحجام بلاده عن استعمال قوتها العارية منفردة خارج إطار المعايير الدولية ومشاركة حلفائها المسؤولية.

إن ما جرى أمر ساعد، كما أثبتت استطلاعات الرأي العام العربي تجاه أمريكا عقب 2011، على إزالة الصورة النمطية لها كقوة غاشمة وإمبريالية داعمة للعدوان على العرب وحامية للدكتاتورية والتسلط، ويمكن التدليل على ذلك من أن الليبيين بعد 2011 أصبحوا يقدّرون الأمريكان بدرجة عالية فاقت الكنديين مثلاً[16]. ولا جدال في أن هذا التحول في الرأي العام العربي يعد حاسماً في كسر تلك الصورة النمطية المعادية وكسر تلك الدينامية التي أنتجت نزعة العداء لأمريكا واستهداف مواطنيها ومصالحها[17] رغم أن الموقف من البحرين بيّن إلى أي مدى أيضاً يمكن للولايات المتحدة أن تمارس النفاق[18].

إن الموقف الأمريكي هو في الحقيقة – ووفقاً للمنظور الواقعي في التحليل – أكثر ارتباطاً وصلة بالنفط والغاز والمصالح الأمريكية من تعبيره عن القيم والمثل المتصلة بدعم الثورة أو الديمقراطية التي تجهد نظرية السلام الديمقراطي نفسها في الدفاع عنها. غير أن ذلك لا يتصل مباشرة بالمصلحة الأمريكية النفطية؛ فالولايات المتحدة توقفت عن استيراد النفط الليبي منذ عقود وإن كانت الشركات النفطية الأمريكية المؤثرة تتطلع وترغب وتسعى للوصول إلى ليبيا بأي ثمن أو طريقة[19]. ومع أن هناك تقارير عن إمكان قيام الولايات المتحدة بالاكتفاء التام بحلول 2030 فإن هناك جوانب لا بد من مراعاتها. فالنفط – والغاز – الليبي مهم ومركزي للسياسة الأمريكية في المنطقة ويتصل بالحرص الأمريكي على تأمين مصادر الطاقة لحلفائها في أوروبا وهو ما يرتبط بقوة وثيقة أيضاً بتماسك حلف شمال الأطلسي ومهامه أو دوره الاستراتيجي[20].

السياسة الكونية للولايات المتحدة تقتضي أيضاً العمل على حرمان المنافسين أو القوى الصاعدة كالصين من النفاذ إلى الموارد بما يجعلها أكثر قدرة على منافسة الولايات المتحدة كونياً في نظام عالمي يتميز بالتحول. لذلك لا يمكن تجاهل أهمية موقع ليبيا ضمن الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة أو سياستها الإقليمية بأفريقيا، فليبيا تقع في نقطة تربط أجزاء هامة من أفريقيا شمال الصحراء وجنوبها. لذلك سعت الولايات المتحدة مبكراً لمحاولة إقناع القذافي بالانضمام إلى سياستها في أفريقيا أو عدم معارضتها على الأقل، وخاصة ما يتصل بالقوة المعروفة أفريكوم (AFRICOM). بيد أن القذافي عبّر سراً وعلانية عن رفضه، بل ومحاربته لأهدافها المتصلة بالسيطرة على موارد أفريقيا والحيلولة دون وصول المنافسين إليها[21].

لقد أوضح أوباما في الوثيقة الخاصة بالاستراتيجية الدفاعية أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشترك مع منطقة آسيا – المحيط الهادي كونهما أهم منطقتين لاهتمام السياسة الأمريكية. الوثيقة تقرر أن الولايات المتحدة ستواصل وضع أولوية لوجودها وحلفائها عسكرياً في الدول الصديقة ودعماً لها في/وحول الشرق الأوسط كما حددت عشر مهام للقوة العسكرية الأمريكية، ثمانٍ منها على الأقل تتصل مباشرة بالاهتمامات الأمريكية في منطقتنا العربية[22].

إن الاستراتيجية الأمريكية ترتبط كثيراً بأمن الطاقة لدرجة جعلت بعض المحللين يصفونها بـ «الإمبريالية النفطية الجديدة» وهي التي تمثل جوهر التحرك الأمريكي في عصر العولمة وإن كان ذلك يعتمد ظاهرياً على تحرير التجارة الدولية ونشر اقتصاد السوق[23].

وبالعودة إلى الدور الذي تمارسه والمكانة التي تمثلها موارد الطاقة في المنطقة والأهمية الخاصة للنفط والغاز الليبي، فمن المهم الإشارة إلى أن التحولات التي جرت على قطاع الطاقة العالمية والتوقعات بشأن إمكان استغلال الولايات المتحدة والأهمية المتصاعدة للنفط والغاز الصخري عالمياً، لا تعني بحال من الأحوال تراجع أهمية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ووفقاً لكبير الاقتصاديين في وكالة الطاقة الدولية (IEA) فإن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد يصبح أكثر أهمية مع منتصف 2020 وسيبقى ويظل في قلب الصناعة النفطية العالمية[24].

هذا ما نتبيّنه بوضوح من البرقيات التي نشرت بموقع ويكيليكس الشهير بشأن ليبيا. ففي برقية من السفارة الأمريكية بطرابلس تجري الإشارة إلى الانزعاج الأمريكي الذي أثاره خطاب للقذافي وأشار فيه بوضوح إلى أن الشركات الأجنبية تسيطر وتتحكم في النفط الليبي محققة الأموال الطائلة، وأن الوقت قد حان ليتولى الليبيون الأمر بأنفسهم وأن يحصلوا على تلك الأموال بالسيطرة على مواردهم. تقول البرقية: «إنه من الظاهر أن الليبيين سيسلكون بوتيرة متصاعدة سياسات وطنية في قطاع الطاقة التي يمكن أن تهدد الاستغلال الأمثل لاحتياطيات ليبيا الهائلة من النفط والغاز»[25].

هذا ما عادت برقية أخرى تذكره معبِّرة عن القلق من آفاق سلبية لاعتزام القذافي تأميم البترول والغاز وما صدر عنه خلال لقاء جمعه بالرئيس التنفيذي لشركة كونوكو – فيليبس (Conoco-Phillips) في 2008 حيث هدد بطرد الشركات الأمريكية وخفض إنتاج البلد من النفط[26]. وقد أشارت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر يوم 11 حزيران/يونيو 2011 إلى اتخاذ ليبيا خطوات عملية في هذا السياق حيث قامت بتعديل قوانين العمل من أجل تأمين فرص العمل وقامت بالضغط على الشركات لتوظيف أبناء البلد في مواقع قيادية[27].

في كلمته التي ألقاها يوم 19 آذار/مارس 2011 برر الرئيس أوباما التدخل الأمريكي في ليبيا رغم التحفظات التي قدمتها وزارة الدفاع والكونغرس قائلاً: «اليوم نحن جزء من تحالف عريض. نحن نستجيب لمطالب شعب يتعرض للخطر. إننا نعمل لمصالح الولايات المتحدة في العالم»[28]. وعندما ارتفعت وتيرة النقد لما قام به الرئيس منفرداً من عمليات عسكرية ضد نظام القذافي فقد وجد من المناسب أن يمارس الضغط على الحلفاء لكي يتولوا مسؤولية أوسع ومهامَّ أكبر في العمليات العسكرية التي تم نقلها للناتو (NATO) في ما يشبه قيام الولايات المتحدة بالحرب ضد القذافي عن طريق الوكلاء.

عملياً كانت القوة الأمريكية هي المسؤولة والمنفذة للعمليات العسكرية الحاسمة التي أعلن الرئيس أوباما بكل سرور عن مكوناتها وبما لا يجعل مجالاً للشك في أن الولايات المتحدة كانت الفاعل الرئيس. ففي خطابه يوم 28 آذار/مارس 2011 بيّن أوباما مكوِّنات العمل العسكري الذي قامت به قوات بلاده والتي شملت: القضاء على قوات القذافي المتجهة صوب بنغازي؛ القضاء على القوات الحكومية الليبية بالمدن القريبة من بنغازي غرباً كأجدابيا؛ القضاء على الدفاعات الجوية الليبية؛ تدمير الدبابات والموارد العسكرية التي كانت تعج بها المدن والقرى الليبية؛ قطع معظم خطوط الإمدادات. مع ذلك فقد قال أوباما إن الدور العسكري الأمريكي كان محدوداً[29]!! رغم أن ما تم الإعلان عنه من تكاليف العملية لدافعي الضرائب الأمريكيين بلغ أكثر من بليون دولار أمريكي! ورغم المعارضة الواسعة من الكونغرس للتدخل والعمل العسكري في ليبيا فقد كانت الولايات المتحدة الشريك الجوهري الحاسم على مدى سبعة أشهر من العمليات العسكرية في ليبيا.

إن استجابة الرئيس الأمريكي للربيع العربي عموماً، وللحالة الليبية خصوصاً، تعكس تلك السياسة والمبدأ بما يجعلها في نظر الكثيرين مجرد ردة فعل حذرة ومتواضعة وتتميز بالظرفية لا بالخصائص بالاستراتيجية. ومع أن هذا لا يمثل في نظرنا حقيقة السياسة الأمريكية أو جوهرها تجاه ليبيا إلا أنه لا يمكن تجاهل ارتباطه بالظرفية التاريخية التي حدث فيها الربيع العربي في وقت كانت فيه الولايات المتحدة وأوروبا في أتون أزمة خانقة وحالة من الشك بالنفس وارتدادات الأزمة الاقتصادية وحرب العراق[30]. ويمكن القول إن هذه الواقعية تعتمد ما يسميه بعض المحللين للمثالين الأفغاني والليبي بسياسة «تحقيق الهيمنة» من خلال تأكيد الدوافع التي تخدم التدخل في إطار التكتيك التبريري المصمم لتأمين خضوع أو قبول المشككين عبر العمل على تضييق المجال أو الفضاء الذي يمكن فيه بناء بدائل معارضة بنجاح[31].

إن مراجعة لجدول أعمال الوزيرة ورحلاتها خلال تلك الفترة يؤكد تماماً استخدام أسلوب الإكراه المشار إليه منذ تشكيل ما عرف بمجموعة الاتصال بشأن ليبيا (Libya Contact Group) في مطلع 2011 وما تلا ذلك من لقاءات عبر عواصم عديدة للحيلولة دون أي بدائل أخرى لمواجهة الأزمة بل تؤكد العمل المحموم على إطاحة القذافي[32].

إن المراجعة الواعية لتسلسل الأحداث والحقائق تبين أن الهدف لم يكن حماية المدنيين، بل إن الأمر كان في حقيقته يتعلق بإسقاط النظام والتخلص من القذافي. لذلك نجد أنه تم اللعب بالحقائق ونشر المعلومات التي تساعد على جعل الأمر يبدو عملاً إنسانياً خالصاً ويبرر التدخل العسكري. وتقرر دراسة نشرت في عدد الصيف 2013 من مجلة (International Security) وأعدها باحث من جامعة هارفارد الأمريكية سعى إلى استخلاص الدروس من التدخل الغربي في ليبيا أن هناك حقائق تناقض كثيراً ما تعارفنا عليه بشأن الانتفاضة الليبية والتدخل الغربي لدعمها. ولعل أكثر هذه المعلومات إثارة هي القول بأن الانتفاضة الليبية لم تكن أبداً سلمية منذ بدايتها بل كانت عنفية ومسلحة، وأن نظام القذافي في الواقع لم يلجأ إلى الاستخدام غير المميز للقوة ولم يستهدف المدنيين، وأن تدخل حلف شمال الأطلسي رغم استلهامه المبدأ الإنساني، لم يستهدف أساساً حماية المدنيين بل إسقاط نظام القذافي ولو على حساب زيادة الضرر بالليبيين[33].

تبيِّن دراسة باحث هارفارد أن ما قام به حلف الناتو جعل أمد الحرب أطول ست مرات مما كان يمكن أن يكون عليه الحال بلا التدخل الخارجي، وأن عدد القتلى أو الضحايا تضاعف أيضاً سبع مرات على الأقل علاوة على ما ترتب على ذلك من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. ففي مدينة مصراته مثلاً وهي المدينة التي تحملت أكبر عبء من الضحايا من النساء والأطفال والتدمير بفعل قصف قوات القذافي، نجد، وفقاً لتقرير Human Rights Watch، أنه من بين 943 جريحاً كان عدد النساء والأطفال فقط 30 بما يشير إلى أن قوات القذافي استهدفت المقاتلين أساساً خلال الأسابيع السبعة الأولى. وخلال الفترة ذاتها فإن 257 شخصاً فقط قتلوا من بين سكان المدينة الذين يقدر عددهم بنحو 400000 نسمة وهي نسبة ضئيلة للغاية لا تتجاوز 0.0006 بالمئة وهذا مؤشر أن قوات النظام تجنبت الاستخدام غير المميّز للقوة.

بالمقابل فإن قوات الناتو هاجمت القوات النظامية من دون تمييز، بما في ذلك تلك التي كانت في وضع انسحاب أو في مدن لم تكن مسرحاً لعمليات قتال أو لم تمثل خطراً على المدنيين كما في منطقة سرت. كما إن التحالف الدولي واصل دعم الثوار بكل أنواع الدعم والسلاح والجنود على الأرض حتى بعدما رفضوا عرض النظام وقف إطلاق النار والتفاوض وهو ما كان من شأنه تقليل عدد الضحايا وحماية المدنيين. لقد تدخل الغرب في وقت كان فيه النظام قد استعاد فعلياً السيطرة على معظم البلاد وكان الثوار في الشرق قد انسحبوا باتجاه الحدود المصرية. لقد كان الصراع على وشك الانتهاء عقب ستة أسابيع من انطلاقته وكان عدد الضحايا في حدود 1000 شخص بما في ذلك الجنود والثوار والمدنيون. ومع أنه كان من المؤكد أن غياب التدخل كان سيمكّن نظام القذافي من مواصلة القمع وتصفية الانتفاضة الشعبية فإنه لا بد من ملاحظة أنه بعد تدخل الناتو تمكن الثوار من الهجوم مجدداً بما أطال أمد الحرب لسبعة أشهر أخرى وتسبب في سقوط نحو سبعة آلاف قتيل[34].

ثالثاً: مستقبل الكيان الليبي وآفاق الدولة الفاشلة والتفكك

اليوم ونحن بصدد تقدير الآثار التي ترتبت على ذلك التفسير والتطبيق والتدخل فإننا نجد ليبيا قد شهدت في السنوات التي تلت إطاحة القذافي تطورات بينت تماماً أن ما كان يطمح إليه الليبيون لم يصبح متاحاً بعد. إن الأوضاع كما تصورها وسائل الاعلام الأمريكية والغربية وكما تتناولها التقارير الدبلوماسية والاستراتيجية الغربية والأمريكية، تبين أننا لسنا في معرض تحقيق أهداف ثورة الشعب على القذافي بل إن ليبيا تنحدر نحو مزيد من الفشل والإرباك الذي يهدد كل شيء بما في ذلك كيانها الإقليمي ووحدتها الترابية والوطنية. يمكن النظر إلى الوضع الحالي في ليبيا والناتج من التدخل الخارجي على أنه الترجمة أو التطبيق العملي لما يسميه باحث غربي بوصفة الكارثة (Recipe for Disaster) بدل أن تصبح ليبيا «نموذجاً للتحول السياسي فإنها أضحت خليطاً ساماً يجمع ضعفاً هيكلياً موروثاً، وتحديات ما بعد الصراع، وما يترتب على سقوط النظام. هذه المكونات أصبحت أسوأ عبر سلسلة من القرارات السياسية غير الراشدة. وبينما تترنح البلاد في هذه المرحلة فإنها تبدو على حافة العنف وغياب القانون والتذرر السياسي وحتى تجدد السلطوية»[35].

الحقيقة أنه وبغض النظر عن السبب فإن ليبيا اليوم ليست بأحسن حالاً مما كانت عليه عشية التدخل الغربي. هل نحن أمام حالة من الفشل الأمريكي المتجدد في المنطقة والعجز عن استيعاب الديناميات الداخلية والإقليمية؟ أم أننا أمام نتيجة متوقعة للسياسة الأمريكية التي أصرَّت على التدخل العسكري في ليبيا رغم أن التوقعات وقتها أن الأوضاع في ليبيا ستكون، في أفضل الأحوال، ترجمة لحالة الدولة الضعيفة الهشة أو الفاشلة[36]؟ أم أن هذا التدخل والنتائج المتوقعة له يصب تماماً في خانة تحقيق أهداف استراتيجية أمريكية؟

أصرَّت الولايات المتحدة وحلفاؤها على التدخل العسكري في ليبيا رغم الإدراك المسبق أن إطاحة القذافي ومن حوله سيطلق العنان لسلسلة من الأحداث التي ستبرز للواجهة شخصيات وقيادات متعددة المشارب والأهواء والتوجهات القبلية والجهوية، أو احتمالية أن تصبح اليد العليا للراديكالية الإسلامية[37]. وبصرف النظر عن القيمة الإيجابية التي يمثلها التخلص من دكتاتورية وسلطوية القذافي فإن المآلات الخطيرة للتدخل الخارجي وعسكرة الانتفاضة تبدو ظاهرة ولا تخطئها العين، لدرجة أن وزير الدفاع الفرنسي حذّر مما يجري معتبراً أن جنوب ليبيا قد تحول إلى وكر للأفاعي[38]. وبصرف النظر عن مغزى ما جرى فإنه لا بد من تجاوز المظاهر إلى جوهر الظواهر ودينامياتها المركبة. ليبيا اليوم تدفع ثمن التدخل الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط دولة القذافي، والتدخل الأجنبي في دولة شباط/فبراير أيضاً أكثر من كونها تعيد إنتاج تاريخها أو تكرر إنتاج مكونات دولة العقيد. فالخارج، كما يعترف المؤرخ الليبي محمود أبوصوة، ظل مركزياً في تحديد مصير ليبيا على مر العصور[39]. لذلك فإن التساؤل عن حقيقة ودوافع التدخل الغربي والأمريكي يبدو أكثر من مشروع. إن إجراء المقارنة والتحليل يفترض منطقياً إعطاء الوزن الكافي لتفاعل ديناميات الداخل والخارج.

لقد تجاهل المسؤولون الغربيون أن ما نجم عن تدخل الناتو في ليبيا ولّد أو خلق أوضاعاً مشابهة لتلك التي عرفتها الصومال من انتشار رهيب للسلاح والميليشيات المتنافسة والمتحاربة بوسائل مختلفة[40]. فالميليشيات المسلحة ومن يرتبط بها من قوى متعددة المشارب والتوجهات لن تقدم على خطوة التنازل عن المكاسب التي حققتها أو التخلي عن السلاح ما لم تكن متأكدة من أن منافسيها أو خصومها لن يكون لهم مجال للسيطرة أو التأثير الذي يجعل تلك الميليشيات تفقد قوتها الحالية. لذلك فإن التخلي عن السلاح لن يكون مسألة طوعية ميسَّرة. هكذا تتقوى الميليشيات وتزداد عدداً وعدّة وبدعم خارجي من أطراف أو فواعل دولية من مستوى الدولة أو دون الدولة ويمتد أثر ذلك ليشمل الإقليم كله الذي أصبح مجالاً لانتشار السلاح والمسلحين وتجد فيه القاعدة مرتعاً خصباً أيضاً[41].

بعد كل هذا فإن التساؤل يصبح مبرراً بشأن الدوافع الحقيقية للتدخل وتصبح التبريرات الديمقراطية والمكاسب المتحققة ضئيلة وأقل ملاءمة للتفسير. لا ينبغي هنا أن نقلل من شأن طبيعة القذافي ونظامه التسلطي القمعي؛ ومع ذلك فإن ما قامت به الدعاية الأمريكية وحلفاؤها عرباً وغيرهم ضد نظام القذافي وتصويره نظاماً وحشياً وقاتلاً ودكتاتورياً دموياً فاسداً ومنتهكاً كل الأعراف والقيم وسبباً في كل ما يهدد الإنسانية… إلخ لم يكن سوى حجة واهية للتخلص من القذافي في عمل عسكري تبين التحليلات أنه قد أثمر نتائج عكسية في أغلب الأحوال. فلقد قاد التدخل إلى إطالة أمد الصراع أو الحرب الأهلية ستة أضعاف وضاعف عدد الضحايا ما بين سبع إلى عشر مرات، ليقود في النهاية إلى تكريس المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمعاناة الإنسانية والتطرف والانتشار المخيف للسلاح في ليبيا، وإقليمياً بما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي بدرجة غير مسبوقة.