مقدمـة:

ربّما يكون من الصعب الحديث عن الوضع العراقي عشيّة الحرب من دون الدخول في إشكاليةٍ تتمثّل في ازدواجية هذا الوضع. فمن ناحيةٍ كان العراق والعراقيون يعانون من حصارٍ قاسٍ ولاإنسانيٍ ومدمِّرٍ استمر أكثر من اثنتيْ عشر سنةً أثّر فيهم تأثيراً كبيراً، ومن ناحيةٍ أخرى كانت هناك مقاومة وتحدٍ كبيران لهذا الوضع جابه به العراقيون محاولات الولايات المتحدة وبريطانيا، ومن تعاون معهما لتحطيم معنوياتهم[1]. كما أنّ الحقيقة تقول بأنّ العدوان والاحتلال كانا سيحصلان بغضّ النظر عما كان يجري في العراق، لأنّ هذا الهدف كان يمثّل رغبةً أمريكيةً وصهيونيةً ملحة. وسيتم التركيز في هذه الورقة على الحالات السلبية لما كان يجري في العراق، إذ ان الهدف من البحث وحسب اعتقادي هو إظهار الأسباب التي أدّت إلى كارثة نيسان/أبريل 2003 والمتمثّلة في احتلال العراق واستباحته بالكامل.

أولاً: الحرب العراقية ـ الإيرانية وأثرها

إن الحديث عن الوضع العراقي عشّية الحرب لا يمكن أن يكون دون العودة إلى دراسة الوضع العراقي منذ نهاية حرب العام 1991. فلا بدّ لمعرفة التراكمات التي قادت إلى كارثة 2003 من دراسة كارثة الحرب العراقية ـ الإيرانية، وما خلّفته من تبعاتٍ ربّما كانت السبب الأساس في ما آلت اليه الأمور في العراق إلى ما هي عليه الآن.

باختصارٍ شديدٍ، ومن دون الخوض في أسباب الحرب العراقية ـ الإيرانية التي لا يمكن وصفها إلا بأنها كانت غير مطلوبةٍ، حيث ظهر أنّ الجانبين قد انجرّا إلى حربٍ طاحنةٍ لم يكن للشعبين أي رأيٍ أو أي مصلحةٍ فيها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه إعفاء قادة ايران من مسؤولية إشعال الحرب واستمرارها، فإن قيادة العراق هي الأخرى تجاهلت إمكانية تفادي هذه الحرب أو الخوض فيها بهذا الثِقل الكبير منذ البداية. لقد قلَبت هذه الحرب المجتمع العراقي والأسس التي بُنيت عليها الدولة العراقية والاقتصاد العراقي رأساً على عقب، حيث أصبح العراق نتيجةً لهذه الحرب دولةً مدينةً وبمبالغ هائلةٍ من الدولارات وصلت إلى 160مليار دولار (بعض المصادر يُقدّر الديون بـ200مليار دولار)، بعد أن كان الاقتصاد العراقي يعيش حالة انتعاشٍ لم يسبق لها مثيل، وصل فيها الفائض النقدي في الميزانية العراقية إلى أكثر من 45 مليار دولار[2].

لقد انخفضت قيمة الدينار العراقي بصورةٍ مطردةٍ حتى أصبح من دون أي قيمةٍ بعد أن كان من أقوى العملات في الشرق الأوسط. وعُسكِر المجتمع بصورةٍ مكثفةٍ بل بالكامل، وحُدّت الحريات بصورةٍ كبيرةٍ بدعوى أنّ أيّ نوعٍ من أنواع المعارضة أو الديمقراطية يمكن أن يؤثّر في الحالة المعنوية للمقاتلين. وأصبح الفقر والحاجة المتزايدة السمتين الأساسيتين للعوائل والأفراد العراقيين، بعد أن بدأت بوادر بحبوحة العيش تظهر في آفاق حياتهم الاقتصادية نتيجة زيادة أسعار النفط وعوائده التي بدأت تتدّفق منذ بداية السبعينيات.

لغرض توضيح هذه الجوانب بصورةٍ أدق وأفضل، ولتبيان أثرها في المجتمع والدولة في العراق، ومقدار تسببها في ما جرى في العام 2003، سيتمّ التطرق إلى أربعة جوانب: يدرس الجانب الأول الآثار الاجتماعية، ويُركّز الجانب الثاني على الجانب العسكري، في حين يتناول الجانب الثالث الآثار الاقتصادية، ويُركّز الجانب الرابع والأخير على البعد السياسي، وهو الذي كان نتيجةً وانعكاساً للجوانب الثلاثة السابقة، بالإضافة إلى كونه مؤثراً رئيساً فيها جميعاً. كما يجب التذكير بأن الفصل ما بين هذه الجوانب وتأثير وتأثر بعضها في البعض الآخر أمر صعب، إنْ لم يكن شبه مستحيلٍ بسبب التداخلات الكبيرة في ما بين هذه الجوانب.

ثانياً: الآثار الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية للحرب

في الجانب الاجتماعي، وعلى الرغم من أنّ المجتمع العراقي، ومنذ العام 1958 كان قد تعرّض إلى هزّاتٍ كبيرةٍ وعنيفةٍ، فإنّ ما تعرّض له من هَزاتٍ ومنذ العام 1980 كان أكبر وأعنف[3]، إذ بعد ثماني سنواتٍ من الحرب المستمرة والعنيفة والمدمِّرة لم تَسلَم عائلة عراقية من آثارها. كانت النتيجة والمحصّلة النهائية لها 250 ألف شهيدٍ وحوالى 750 ألف معوقٍ أو جريح. وإذا ما أضفنا إلى هذا العدد 100 ألف قتيلٍ وجريحٍ سقطوا في الحرب التي دارت رحاها في كردستان العراق في الفترة ما بين عاميْ 1974 و1975، وضعْف هذا العدد تقريباً من حجم الخسائر البشرية التي نتجت عن حرب 1991، وما تلاها من أحداث[4]، يمكننا تصوّر حجم التأثير الهائل في كلّ هذه الأرقام على العائلة العراقية الواحدة وعلى المجتمع العراقي ككل. وإذا ما علمنا أنّ التعداد السكاني للعراق عشيّة الحرب العراقية ـ الإيرانية كان 13 مليون نسمة فإننا سنجد أنّ حجم الخسائر قد طال عُشْر المجتمع العراقي.

أما التأثير الذي خلَّفته الحروب، ولاسيما حرب 1980 ـ 1988 وحرب 1991 على البنية التحتية للدولة والمجتمع والاقتصاد العراقيين، فكانت ولا تزال أكبر من أن تحتسب أو تعاد إلى حالةٍ طبيعيةٍ في مدةٍ وجيزة. كما أنه ونتيجةً لحرب العام 1991 وللحصار القاسي الذي تلاها، بدأت موجة كبيرة من الهجرة إلى الخارج كانت مادتها الأساسيّة الأعمار الأصغر والعقول الأكفأ في المجتمع العراقي. وفي الوقت الذي يصعب فيه تحديد الأعداد المهاجرة، حيث يصل بها البعض إلى أربعة ملايين ونصف المليون نسمة[5]، بينما لا تتجاوز لدى البعض الآخر مليوناً ونصف المليون نسمة، فإنّه وفي كلا الحالتين تبقى نسبة المهاجرين كبيرةً ومؤثّرةً، إن لم نقل مدمِّرةً للمجتمع والعائلة والتنمية في العراق.

أما ما فعله الحصار القاسي والظالم واللاإنساني واللامبرَّر بالإنسان والمجتمع العراقي، وما تركه من آثار مدمرةِ، فلا يمكن أن يُناقَش في سطورٍ قليلة. لقد أصرّت الولايات المتحدة وبريطانيا على فرض هذا الحصار وتشديده بين فترة وأخرى، مع تحريض دول العالم الأخرى على الالتزام به. وربما كان الحصار العربي الذي التزمت به الغالبية العظمى من الدول العربية إرضاءً للولايات المتحدة أسوأ مافي الحصار. يكفي أن نقول إنّ الحصار حصد أرواح ما يقارب مليون وثمانمائة ألف نسمةٍ غالبيتهم من الأطفال دون الخامسة (وهذه التقديرات لا تشمل الأشهر الأخيرة من العام 2002 وبداية العام 2003)[6].

من المضحك المبكي أنّ بعض المصادر يقول إنّ هذه الأرقام التي تبنّتها اليونسيف وفريق جامعة هارفرد[7]، وممثّل الأمم المتحدة السابق في العراق صدر الدين آغاخان[8]، هي أرقام مبالغ فيها، وأنّ العدد الصحيح هو أكثر من نصف مليون نسمةٍ بقليل، وكأنّ نصف مليون نسمةٍ هو رقم لا يستحق الشعور بالذنب، كما صرّحت السيدة مادلين أولبرايت في إحدى المرّات)[9]. وزادت نسبة الأمراض المميتة كالسرطان بنسبةٍ مخيفةٍ تراوحت ما بين خمسة أو ستة أضعاف ما كان موجوداً قبل الحصار[10]، بل عادت أمراض وأوبئة إلى الظهور بعد أنّ تمّ القضاء عليها تماماً.

وأصبحت المشافي تفتقد إلى أبسط المستلزمات الضرورية لمعالجة المرضى المصابين إصاباتٍ بسيطةً، فكيف بالحالات الصعبة؟! وكنتيجةٍ لإثني عشر عاماً من هذا الحصار الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري، ذكر أحد أطبّاء النفس في العراق في محاضرةٍ له أن ما بين 80 ـ 85 بالمئة من أبناء الشعب العراقي أصيبوا بالكآبة النفسية بدرجات متفاوتةٍ ظاهرةً لدى البعض، ومكتومةً لدى الغالبية العظمى، والتي انعكست على سلوكهم اليومي وأثناء العمل أو في داخل عوائلهم[11].

كنتيجةٍ طبيعيةٍ انعكست هذه التحولات على الوضع الاقتصادي من ناحية البنية التحتية وركائز الاقتصاد العراقي، ومن ناحية التأثير في الفرد والعائلة، حيث أصبح العبء الاقتصادي الذي يعاني منه الفرد كبيراً، بل لا يحتمل ولا يمكن وصفه. فلقد بدأ ما يحصل عليه الفرد من سلعٍ وبضائع بالتضاؤل نتيجة تضاؤل حجم الاستيراد وتدمير الصناعة الوطنية الرسمية وغير الرسمية، وتدهور قيمة الدينار العراقي. وفي الوقت الذي لم تجرِ فيه أية إحصائيةٍ رسميةٍ عن حجم التضخم في الاقتصاد العراقي، إلا أنه يمكننا أنْ نُحدّد ذلك بصورةٍ غير مباشرةٍ من خلال إعطاء بعض الأمثلة. فمثلاً وفي مجال الرواتب كان أعلى راتبٍ في الدولة بعد راتب الوزير الذي كان يصل إلى خمسمئة دينارٍ عراقيٍ في السبعينيات والثمانينيات، وهو ما يعادل حوالى ألف وخمسمئة دولارٍ أمريكي، حيث إنّ السعر الرسمي للدينار كان ولا يزال 3.1 دولاراً.. أقول إن الدرجة التي كانت تلي هذا الراتب هي راتب الاستاذ الجامعي وضابط الجيش (ما بين 300 ـ 450 ديناراً).

أمّا الغالبية العظمى من الموظفين العراقيين، فلقد كانت تتسلم ما بين 30 ـ 100دينار عراقيٍ شهرياً، في حين أنّ العمال كانوا يتقاضون أقلّ من ذلك. وبسبب الدعم الرسمي لأغلب البضائع وتوفيرها، والدعم الرسمي للأدوية ومجانيّة التعليم والطب، كانت هذه الرواتب توفّر حياةً كريمةً وكافيةً للفرد وللعائلة. وإذا ما علمنا أنّ الغالبية العظمى من المجتمع كانت تعتمد على الإنفاق الرسمي والرواتب الحكومية (40 بالمئة من المجتمع)[12] وتتألف من الطبقة الوسطى وما دونها، يمكننا أن نعلم مدى التأثير السلبي لانخفاض قيمة الدينار العراقي، وانخفاض الدعم الحكومي في كل النواحي الاجتماعية والصحية على هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع[13].

لقد بدأ سعر صرف الدينار العراقي بالانخفاض منذ بداية الحرب العراقية ـ الإيرانية وتدهور باطراد مع استمرارها، حتى وصل إلى أن يعادل الدولار الواحد خمسة دنانير عراقية. ثم ازداد هذا التدهور بعد أزمة الكويت وحرب تحريرها حتى وصل إلى عشرة دنانير للدولار الواحد[14]. ثم قفزت قيمة الدولار قفزاتٍ مروّعةً حتى تجاوز سعر الألفي دينار للدولار الواحد[12]. وإذا ما علمنا بأنّ الإمكانيات النقدية للدولة، وبسبب الحصار ومنع تصدير النفط، كانت عاجزةً عن تسوية مسألة الرواتب أو مجاراة التضخم، لاستطعنا أن نتصوّر مدى تأثير هذا العامل في الاقتصاد والفرد العراقي[15].

وللإنصاف، فلقد حاولت الحكومة العراقية آنذاك أن تبذل ما في وسعها من أجل تخفيف وطأة الظروف المأساوية للحصار الظالم، فخصّصت لكل عائلةٍ بطاقةً تموينيةً كانت تُوزِّع بموجبها مواد غذائيةً محدودةً والأدوية الضرورية (التي أخضِعت هي الأخرى إلى حصارٍ قاس)[16]، إلا أنّه كان لهذه الاجراءات تأثير سلبي من ناحيةٍ أخرى في نفسيّة الفرد العراقي الذي لم يكن معتاداً على التموين وتحديد القابليّة الشرائية للفرد. كما قامت الحكومة بإجراء زياداتٍ على الرواتب، إلا أنّ كلّ هذه الزيادات لم تكن لتمثّل أي إنقاذٍ للفرد العراقي أو لعائلته، حيث ظلّ راتب الأستاذ الجامعي والضابط لا يتجاوز ما قيمته الـ 25 دولاراً في أحسن الأحوال، أما رواتب الدرجات الأدنى، والغالبية العظمى من الموظّفين، فكانت تتراوح ما بين 3 ـ 10 دولاراتٍ فقط شهرياً[17].

أما في المجال العسكري، فلقد تمّت عسْكرة المجتمع العراقي بصورةٍ لم يسبق لها مثيل، فبالإضافة إلى التضخم الذي أصاب الهيكل العسكري والجيش وتضاعف عدد أفراده مراتٍ ومراتٍ، كان الإنفاق الكبير عليه قد بدأ بالتصاعد وبالتأثير في الإنفاق على الجوانب الأخرى. فلقد بلغ ما هو مخصص «رسمياً» للجيش والتصنيع العسكري ما نسبته 68 بالمئة من الميزانية العامة[18]، أما التخصيص الحقيقي فلقد بلغ حسب اتهاماتٍ أخرى للنظام 75 بالمئة من الميزانية. وهكذا يمكننا أن نتصوّر مدى ضآلة النسب المخصّصة للجوانب الأخرى، كالطب والتعليم والشؤون الاجتماعية والضمان… إلخ.

وإذا ما علمنا أنّ هذا الإنفاق قد استمرّ حتى العام 1991، ولم يخفّض إلا بسبب الحصار الذي فرض في العام 1990، بل ظلّ الإنفاق العسكري حتى في ظلّ هذا الحصار يأخذ الأولوية على الرغم من توقف صادرات النفط الرسمية، أي الانقطاع الرسمي لكل مدخولٍ ذي قيمةٍ يُعوّل عليه من العملة الصعبة. وأصبح العبء المالي والاجتماعي الذي يمثّله الجيش خطراً لا يستهان به. وإذا ما علمنا أن الجيش التقليدي الضخم قد أضيف إليه جيش آخر أكثر عدّةً واستنزافاً للموارد، وهو الحرس الجمهوري الخاص، وما أضيف إلى ذلك العدد الهائل من القوات الرسمية من قواتٍ غير رسميةٍ مثل الجيش الشعبي وجيش القدس، وما تطلبته إدامتها من مبالغ ومصاريف، وما كانت تتركه الخدمة فيهما من آثار على العمل في أجهزة الدولة الأخرى والمؤسسات الخدمية، كان في استطاعتنا تقدير مقدار العبء الذي مثّلته هذه المؤسسة والتشكيلات الملحقة بها على الاقتصاد والمجتمع العراقييْن (وكمثلٍ بسيطٍ لقد أصبح من المعتاد أن تعمل الدوائر صباح مساء من دون إجازاتٍ لتلافي النقص في عدد الموظفين).

ولا يفوتنا أن نذكر أنّ بغداد وبعض المدن الرئيسة الأخرى في العراق كانت تتعرض وسط كلّ هذه الحالة المأساوية بين آونةٍ وأخرى إلى هجماتٍ جويةٍ وقصفٍ عنيفٍ يعيد الحالة إلى ما حلّ بالعاصمة من تدميرٍ في حرب 1991، ويضاعف من تدمير النفوس والممتلكات العائدة إلى العراقيين الصابرين. أما إذا ما أضيف إلى ذلك الخروقات التي كانت تتعرّض لها البلاد، وكردستان العراق بالذات، من قِبل قوات الدول المجاورة[19] والاقتتال الدامي الذي كان يجري ما بين الحزبين الرئيسيْن هناك: الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة السيد مسعود البارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة السيد جلال الطالباني، والذي وصل إلى حدّ اقتتال الشوارع من منزلٍ إلى منزل، وما أضيف إليه من اقتتالٍ مع أحزابٍ أصغر، وعمليات الاغتيال الفردية، فإن ذلك يمكن أن يوضّح أكثر مأساة العراقيين ومعاناتهم.

وسط كلّ هذه الصورة القاتمة، تبقى الحالة السياسية الأهمّ والأكثر حراجةً وتأثيراً، والتي أدّت بالتالي إلى حالةٍ من اللامبالاة واليأس لدى البعض، و إلى شعورٍ بعدم إمكانية إصلاح الأمور مع بقاء حزب البعث في السلطة لدى البعض الآخر. هذا على الرغم من شعور فئةٍ غير قليلةٍ من المؤمنين بالرأي الأخير بأنهم في وضعٍ لا يُحسدون عليه. فمن ناحيةٍ كانت هذه الفئة، على الرغم من محاولاتها العديدة والجادة والمستمرة، لإصلاح الأمور السياسية، واقتراح حلولٍ للأزمة التي كان يعيشها العراق، والمتمثّلة في حكم الحزب الواحد والفرد الواحد. وعلى الرغم من صعوبة هذا الخط بل وخطورته، كانت هذه الفئة تشعر من ناحيةٍ أخرى بعدم إمكانية إصلاح الأمور داخلياً، كما كانت على علمٍ أكيدٍ بأن التغيير الذي سيأتي من الخارج سيكون مدمِّراً ومأساوياً، بل كان سيحدث لأسباب لا علاقة لها بالطبيعة الدكتاتورية للنظام السابق أو لمعضلة حقوق الإنسان أو للديمقراطية في العراق[20]، وأن الحالة في العراق ستكون أكثر حرجاً إذا ما قُدِّر للحلّ الخارجي أن يفرض نفسه، وهذا ما حصل مع الأسف الشديد.

لقد تمثّل الحل المقترح للمأزق العراقي بعد أزمة الكويت في نوعٍ من الانفتاح السياسي، وإرساء تعدديةٍ تبدأ بخطوةٍ تتمثل في إجازة أحزاب سياسيةٍ أخرى غير حزب البعث والأحزاب الصورية المتحالفة معه. وفي الوقت الذي شكّك فيه البعض، وليس من دون وجه حق، بإمكانية نجاح هذا الحلّ بسبب هيمنة الأجهزة الأمنية والخوف المتشرَّب في نفوس الناس، فإنّ خطوةً بسيطةً كهذه كانت ستكون مفيدةً ولاسيما إذا ما ترافقت مع نوعٍ من الحرية في التعبير، وذلك عن طريق إجازة بعض الصحف المستقلة، وبعض الحرية في إجازة حواراتٍ مفتوحةٍ بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة.

لقد أكّد المؤمنون بهذا الرأي أنّ هذه الحلول ستخلق نوعاً من «الحرية» و«الانفتاح» الذي سيساهم في إقناع الرأي العام العالمي والخارجي بأن هناك امكانيةً لإصلاح الأمور. ولكنّ أي شيءٍ من هذا القبيل لم يحدث. لقد اعتبر النظام خطأً أنّ أي محاولةٍ لإشاعة نوعٍ من «الديمقراطية» و«التعددية» ما هي إلا محاولة غير مباشرةٍ لإسقاطه من الداخل عن طريق خلْخلته وإضعافه.

لقد ساهمت الولايات المتحدة خاصةً، والغرب بصورةٍ عامةٍ، بإدامة هذه الحالة وذلك عن طريق تشديد الحصار، ورفض أي حلولٍ وسطيةٍ أو أيّة مبادرةٍ من الحكومة العراقية لتسوية النزاعات بين الطرفين. وظلت الأكاذيب تنتشر عن الخطر العراقي المزعوم، وعلى الرغم من تأكيد كل المختصين باختفائه[21]. لقد استخدم النظام الحرب العراقية ـ الإيرانية وعدوان 1991 كأسلوبٍ أوحد للدفاع عن نفسه، وعن وجوده. وفرض سياسة التقييد، واعتبر أنّ أيّ انتقادٍ لأداء النظام اصطفاف مع الأعداء، وبرّر الاستفراد بالسلطة على أساس أنه السبيل الوحيد لمواجهة الأزمات التي يواجهها الوطن. وفي الحقيقة فإن الحصار والقصف المستمر لبغداد جعل من أيّ حديثٍ عن ديمقراطيةٍ وتعدديةٍ لا يلقى أيّ آذان صاغيةٍ لدى العراقيين المحرومين والمحاصرين والحائرين في حلِّ مشاكلهم اليومية، بالإضافة إلى أنه أصبح ذريعةً وسبباً لتصفية كلّ من يجاهر بذلك بحجّة أنّ ذلك المطلب يتناغم مع المتطلبات الأمريكية والغربية، بل حتى الإسرائيلية المعادية للعراق.

ولغرض استكمال المشهد العراقي لا بدّ من التطرق إلى موقف المعارضة العراقية في الخارج. لقد انقسمت هذه المعارضة إلى قسمين: قسم قليل مثْل أحزابٍ وتنظيماتٍ امتلكت قاعدةً لها في الداخل، وهذه المجموعة كانت تقف بعيداً بعض الشي عن التعاون مع استعدادات الحرب على العراق، وقسمٌ كبير من الشخصيات التي ارتبطت بالأجنبي ووفّرت له كلّ الدعم المطلوب في شنّ تلك الحرب. بل وصل الأمر بهذه المجموعات إلى اختلاق القصص والروايات غير الحقيقية وتأليفها عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة لتبرير السياسة الأمريكية والبريطانية في شنّ الحرب. وكانت النتيجة أن كلاً من الحكومتين الأمريكية والبريطانية تواجه الآن مشكلةً بسبب جعل هذه الادعاءات المضللة السبب الرئيس للعدوان على العراق. كما استغَلت هذه المجموعات الأجهزة الإعلامية الكبيرة والمقتدرة في الغرب كي تجعل ما يصدر عنها منشوراً ومُذاعاً ومُتلفزاً، كجزءٍ من الحرب الإعلامية على النظام السابق من أجل إسقاطه، حتى من دون تقديم مشروعٍ بديلٍ منه، كما ظهر في ما بعد. واستخدمت هذه المجموعات الأموال التي وُضعت في خدمتها من أجل استحصال الدعم للمشروع الأمريكي. لقد جعلت هذه المجموعات من إسقاط النظام هدفاً وحيداً لها، ولم تفكر بأيّ نتيجةٍ لهذا العمل، حتى وإن كان احتلالاً، بل إنّ بعضاً منهم كان يحاول أن يقنع العراقيين بأنّ الاحتلال أفضل من الأنظمة الوطنية والقومية، وأنّ الاستعمار هو الطريق الوحيد الذي سيوفر الديمقراطية والرفاه للبلد وللمنطقة.

في مقابل الفشل في تجميع الشعب خلف الحكومة في وقتٍ كانت فيه الغالبية العظمى من الناس تشعر بأن الادعاءات غير الصحيحة التي تطلقها القوى المعارضة الأمريكية والغربية، كوجود أسلحة الدمار الشامل، والعمل من أجل تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لجأت الدولة إلى عدة أساليب لمعالجة الأمور، كان من أهمها أسلوب العودة إلى عامل الدين كمحفّزٍ لمعاداة المخطّطات الغربية وتعزيز الدعم للحكومة من قِبل الجماعات الدينية المعادية للغرب بصورةٍ عامةٍ وللولايات المتحدة بصورةٍ خاصة، والتي ترى فيهما أطرافاً غير محايدةٍ في القضايا التي تهمّ العرب والمسلمين. وهكذا شجّعت الدولة العودة إلى الدين، فتشجّعت جماعات دينية، كانت في الأساس لا تؤيّد النظام وغير راضيةٍ عنه، وأكثرت من فعاليتها وانتشارها في المجتمع، الأمر الذي حدا الحكومة على أن تنقلب على هذه المجموعات، وتعمل على تصفيتها في وقتٍ كانت فيه الدولة في حالة اشتباكٍ مع أعداء كثيرين. وبالتأكيد فإنه في ظلّ غياب التنظيمات السياسية وحريّة الأحزاب بقيت الجوامع والحسينيّات والمراكز الدينية الأماكن الوحيدة القادرة على استيعاب الناس واستقطابهم، الأمر الذي يفسّر بروزها بقوةٍ في المجتمع بعد الاحتلال.

من ناحيةٍ أخرى، كانت الحكومة العراقية تعيش تناقضاً آخر بسبب ترويجها لهذا العامل، وتمثَّل في التمجيد والمديح والترويج الذي كانت تقوم به أجهزة الإعلام الرسمية والوحيدة العاملة في القطر، لكلّ ما تقوم به الأحزاب والحركات الدينية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، مثل حزب الله اللبناني ومجموعة بن لادن في أفغانستان(مع عدم ذِكر الأسماء الصريحة لهذه الحركات، واستبدالها باسم الحركة الوطنية هنا وهناك) في حين كانت لا تتساهل مع كلّ من يثني على هذه الحركات أو يمتدحها في الداخل[22].

أمّا الأسلوب الثاني الذي اعتمده النظام، فكان يتمثّل في حشد التأييد له عن طريق المغريات المادية التي خصَّ بها الأشخاص والأجهزة التي تحيط به وتحميه في الداخل، مثل تنظيمات حزب البعث وأجهزة الأمن والمخابرات والحرس الخاص، من دون أن يشعر بأنه قد عمل على خلق مجموعاتٍ مستفيدةٍ وغنيةٍ بدأت تحرص على حماية مصالحها المادية أكثر من حرصها على الوطن. وفي الوقت الذي نجحت فيه هذه الحالة في خلق نظامٍ قويٍ قادرٍ على حشد المدافعين عنه، والمستعدين لتصفية أية مقاومةٍ داخليةٍ، فإنّ هذا الأسلوب لم يكن بالتأكيد قادراً على حشد تأييدٍ جماهيريٍ كبيرٍ له، أو على صدّ عدوانٍ يعمل على احتلال البلاد. وإذا ما علمنا أن الطرف المقابل (وهو الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأغنى في العالم) بدأ يستعمل الأسلوب نفسه مع مزجه بإغراءاتٍ في مناصب كبيرةٍ في حالة حصول التغيير ونجاحه، نستطيع أن نحكم مسبقاً لمن ستكون الغلبة. وبالفعل فلقد استطاعت الإدارة الأمريكية استمالة أعدادٍ كبيرةٍ من الشخصيات الرسمية والحزبية والعسكرية والأمنيّة إلى جانبها. حتى وصل الأمر إلى شخصياتٍ مهمةٍ ومقرّبةٍ من الشخصيات الثلاث الأهم في الدولة آنذاك، صدام حسين وولداه[23]. علماً بأن هذا الأسلوب خلق نوعاً من الحقد وردّ الفعل ضد النظام من قِبل الغالبية من العراقيين التي كانت تعيش حالة فقرٍ مدقعٍ وحاجةً ماسةً لكلّ شيءٍ وترى بأم عينها أقليةً صغيرةً متنعّمةً بامتيازاتٍ ومنح ماديةٍ وعينيةٍ لا حصر لها.

هكذا، وباختصار فإن الحالة في العراق عشيّة الحرب والاحتلال كانت مزيجاً من الحرمان الذي تشعر به الغالبية العظمى، من شحٍ في الخدمات في ظل حصارٍ ظالمٍ كسر النفوس وأتعبها، بل دمرّها،الأمر الذي أدى بدوره إلى حالةٍ من اللامبالاة والانكسار. وربّما كانت القراءة المتـأنيّة للظروف العراقية، مع الأخذ بعين الاعتبار مقاومة العراقيين لهذه الحالة وعملهم على تجاوز الحصار والمطاولة للوصول إلى حالةٍ أفضل، هي التي ولّدت عند المراقبين نوعاً من الدهشة والاستغراب للمقاومة العنيفة التي جُوبهت بها القوات الغازية حتى سقوط بغداد وتخلّي النظام عن المقاومة. بكلمةٍ أخرى، فإنّ النظام عاش في شهوره الأخيرة منعزلاً عن المجتمع والشعب، ولم ينجح في خلق جبهةٍ موحّدةٍ منه على الرغم من الشعور الوطني الطاغي لدى الغالبية العظمى من أبناء الوطن، وهو ما أثبتته بالمقاومة أثناء الغزو وبعده. واذا ما أردنا أن نكون أكثر تحديداً، فإن النظام خسر شرائح الشعب العراقي الواحدة تلو الأخرى. وإنّ ما جسّدته المقاومة العنيفة للغزو روحٌ وطنيةٌ رافضةٌ للاحتلال وللهيمنة الاستعمارية.

وعلى الرغم من أنّ موقف دول الجوار يقع خارج نطاق هذا البحث، إلا أنّه من المفيد التذكير، وهذا ما يخص البحث بأنّ العراق وبسبب السياسة الخارجية العراقية ونجاح الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في استقطاب المؤيدين لسياستهما المعادية للعراق، كان يعيش في بحرٍ من الأعداء والرافضين لسياسته بل لوجوده. وحتى داخلياً فإنّ النظام لم يتمكّن من إيجاد حلولٍ للمشاكل السياسية العديدة التي يواجهها والمتمثلة خاصةً بغياب الديمقراطية، حتى أنّ النظام لم يتمكن من إيجاد حلٍ سلميٍ للمشكلة الكردية. وربما يتصور البعض أنّ هذا الأمر كان شبه مستحيلٍ، إلا أنّ الواقع كان يقول عكس ذلك، وأنّ إمكانية الحلّ السلميّ والتفاوضيّ كانت ممكنةً جداً، وأنّ أغلب القيادات الكردية كانت مستعدةً للوصول إلى مثل هذا الاتفاق، وأنّ النظام ظلّ يفضّل إبقاء العلاقات سريةً مع الأحزاب الكردية المختلفة، التي كانت مرتاحةً إلى هذه الحالة أيضاً، والتي مكَّنتها من إقامة علاقاتٍ سريةٍ ثانيةٍ مع أطراف خارجيةٍ أخرى[24]، بل إنّ النظام ظلّ يعتقد بأنه سيكون بإمكانه أن يُخضع الجميع وبالقوّة المعتادة، وأنّ كلّ ما يحتاج إليه هو المطاولة والاستمرار في البقاء في الحكم.

وتبقى هناك مجموعة من الأسئلة المهمة، ربما يكون من المفيد التطرق إليها على الرغم من صعوبة الإجابة عنها بصورةٍ شافيةٍ وموثّقةٍ. وسيبقى الاعتماد على ما هو متوفر من معلوماتٍ وأدلّةٍ ظهرت بعد الاحتلال السبيل الوحيد لمناقشة هذه الأسئلة والردّ عليها. والأسئلة هي كيف كان رأس النظام في العراق يفكر في ما يدور حوله؟ وهل كان يمتلك تصوراً واضحاً لما ستؤول إليه الأوضاع في العراق في ظلّ التهديدات الأمريكية الصريحة؟ وهل كان يمتلك تقديراً واضحاً لحجم الحرب التي كانت تُعدّ لها الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها ونتائجها؟ وهل كان مقتنعاً أو شاعراً بأن الهدف الأساس من الحرب هو احتلال العراق بكامله ومهما تطلّب ذلك من جهد؟

كما ذكرنا سابقاً، فإنه من غير السهل الإجابة عن هذه الأسئلة بدقةٍ وبشكلٍ قاطعٍ في بحثنا هذا، أو بعد مدةٍ وجيزةٍ من العدوان والاحتلال، إلا أنّ الباحث حاول استقصاء إجاباتٍ لهذه الأسئلة ربما يكون إيرادها وإيراد ملاحظاتٍ أخرى، على الرغم من صعوبة توثيقها كمعلوماتٍ أكاديميةٍ، وبالأسلوب الذي يجب أن ينتهجه أي بحثٍ علميٍ أكاديميٍ، أمراً مفيدأً لمناقشة عنوان الورقة المقدّمة، بل إن الباحث يعتقد أنه بإيرادها سيساعد على مناقشة الوضع العراقي عشيّة الحرب بصورة أفضل وأدق.

ابتداءً وبصورةٍ مكرّرةٍ، اعتقد النظام بعدم وجود أيّ ضرورةٍ لإجراء أي تغييرٍ في سياسته، وظلّت أية مطالبةٍ له بذلك تقع عنده في خانة التآمر على النظام، بل وحتّى بعد وصول المحافظين الجدد إلى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية وإعلان خططهم الرامية إلى تغيير النظام في العراق بالقوّة، فإنّ النظام ظلّ يسخر من هذه المحاولات والخطط ولم يعتبرها أكثر من زوبعةٍ في فنجانٍ، ومحاولاتٍ يائسة ستنتهي بعد فترةٍ قد تطول أو تقصر حسب مدة رئاسة جورج بوش الابن. ثمّ شعر النظام أنّ بإمكانه إفشال هذه المخططات عن طريق إبراز مقدرته على مقاومتها وتحديها. فعلى سبيل المثال وعلى الرغم من أنّ المفتشين الدوليين قد تيقّنوا وأعلموا الإدارة الأمريكية أنّ العراق لم يعد يملك أسلحة دمارٍ شاملٍ أو القدرة على تصنيعها[25]، إلا أنه، أي النظام، ظلّ مصراً على التظاهر في أنّ بإمكانه فعل ذلك أو امتلاك القدرة على تصنيع أسلحةٍ غير تقليديةٍ أخرى قادرةٍ على مواجهة أي هجومٍ محتمل. وظلّ رئيس النظام يصرّ على الاجتماع مع قيادات التصنيع العسكري والطاقة الذرية بين الآونة والأخرى، مع إظْهار هذه الاجتماعات على شاشات التلفاز. وعندما أُبْلغ الرئيس السابق بأن هذه الاجتماعات بدأت تثير مخاوف الإدارة الأمريكية وتعطي الانطباع بأن العراق لا يزال يسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار، وأنّه يحاول إحياء برنامجه النووي، وأنه من الأفضل التقليل من هذه الاجتماعات أو جعلها أكثر سريةً، فإنه عمد إلى جعلها اجتماعاتٍ شبه يوميةٍ تُعرَض على شاشات التلفاز بصورةٍ متكررة[26].

في مرحلةٍ لاحقةٍ، اعتقد رئيس النظام السابق أنّ الردع يمكن أن ينجح عن طريق الإكثار من عدد المسلّحين العراقيين، ولاسيّما إذا ما ارتبط الأمر باسمٍ كريمٍ وشريفٍ كالقدس، فأمر بتشكيل ما عُرف بـ «جيش القدس» الذي كثيراً ما تبجّح بقوامه الذي قارب السبعة ملايين مقاتل، وربّما اعتقد الرئيس السابق حقاً أنّ هذا «الجيش» سيكون قادراً على مواجهة أي عدوانٍ وإيقافه، وصدّق ما كان يقوله له المسؤولون عن هذا «الجيش»، هذا في الوقت الذي كان فيه الجميع من مسؤولين وحزبيين يتحدّثون عن هزال هذه التشكيلة وعدم انتظامها أو حتى جديّتها، ناهيك عن قدرتها على القتال أو حصولها على تدريبٍ حقيقيٍ يؤهّلها لخوض أيّة معركة.

النموذج الآخر لفهم الرئيس السابق لخطورة الوضع الدولي والاقليمي الخاص بالعراق وطريقة مواجهته، تمثّل في حرصه في الأشهر القليلة التي سبقت العدوان والاحتلال، على الظهور يومياً على شاشة التلفاز، وهو يجلس وسط مجموعةٍ من ضباط الحرس الجمهوري الذين يقسمون له (كذباً طبعاً) بأنهم على أتمّ استعدادٍ لمواجهة أيّ عدوان، وعندما تصدّى أحد أقرباء الرئيس أو أحد أبناء عائلته من الضباط إلى مثل هذه الأحاديث في أحد الاجتماعات، وقال إنّ الجميع لا يقولون الحقيقة، قام بطرده من القاعة وأمر بحذف ملاحظته من التسجيل الذي أذيع على الناس في اليوم نفسه مساءً[27].

النموذج الرابع الأكثر دلالةً على عدم تصور ما سيحدث، تمثّل في حرص الرئيس السابق على تكديس الملايين من الدولارات في مناطق نائيةٍ أو غير منظورةٍ، كانت إحداها حديقة القصر الجمهوري الملاصقة لنهر دجلة، وفي غرفٍ مغلقةٍ بسيطةٍ بُنيت لهذا الغرض، حتى أنّ أحد المقرّبين إليه، والذي أشرف على بناء إحدى هذه الغرف قال له: إن من الأجدر جعل هذه الغرفة أكثر تحصيناً بعد أن علم بأنها ستُخزَّن بملايين الدورات، فأجاب بأنه لا ضرورة لذلك، وأنه لن يصل أحدٌ إلى أيٍّ من هذه الغرف، وأنها ستكون في أمانٍ وجاهزةً للاستخدام من قِبله بعد انتهاء القصف الذي ستقوم به القوى الغازية. كما اعتقد أنّ كل ما ستقوم به القوات الأمريكية والبريطانية هو تدمير القصور والقدرات والمواقع الرسمية، وأنها ستقوم بالانسحاب بعد تحقيق هدفها هذا. وفي الحقيقة فإنه كرّر ذلك أكثر من مرةٍ في لقاءاته السريّة التي سبق ذكرها والمتلْفزة في كثيرٍ من الأحيان، حيث قال بأن الأمريكيين لا يمتلكون سوى القدرة على التدمير من بُعْد، وأنهم لن يجازفوا بمواجهةٍ عسكريةٍ مباشرة.

وإذا ما أردنا أن نتتبع تصريحات القيادات الأدنى في رئاسة الجمهورية والوزراء، والتي كانت دائماً انعكاساً لأحاديث الرئيس معهم، لوجدنا أن القناعة كانت واضحةً لديها بعجز القوة الأمريكية ـ البريطانية عن احتلال البلاد وإزاحة النظام، وأنّ هذه القناعة بدأت تترسخ لديهم ولدى تنظيمات الحزب، حتى وإن سلّم قسم منهم بإمكانية القوات الغازية في احتلال بعض الأجزاء أو الأراضي العراقية ولفترةٍ وجيزة[28].

إن كلّ ما قيل أعلاه لا يمكن أن يشكّل مادةً علميةً رصينةً لبحثٍ أكاديميٍ كما ذكرت قبل سردها، إلا أنها حوادث ذات دلالةٍ، وربما تساهم في الإجابة عن أسئلةٍ محيّرةٍ لكل مهتمٍ بالشأن العراقي والعربي.

أخيراً وليس آخراً، يمكننا القول بأن الوضع الداخلي في العراق، وللأسف الشديد، قد سهّل عملية الاختراق ثم الاحتلال (هذا بالتأكيد على عدم تناسي حقيقة إصرار الولايات المتحدة على احتلال العراق سواء كان النظام يحظى بالتأييد أم لا، أوكان الشعب العراقي رافضاً لهذا الاحتلال أو مقاوماً له)، كل ذلك خلق حالةً من اللامبالاة اتسّمت بها تصرفات أعدادٍ غير قليلةٍ من الناس وهم يشاهدون بلدهم يقع تحت وطأة الاحتلال، بل ظهر بعض منهم وللأسف الشديد مرحِّباً بالاحتلال، معتقداً عن سذاجةٍ، أن هذا الاحتلال سيوفّر واقعاً أفضل ومستقبلاً أكثر ازدهاراً. وعندما بدأ الإحساس بسذاجة هذا التفكير يتنامى نتيجةً لسياسة قوات الاحتلال والعناصر المتعاونة معها الرامية إلى استعمار البلاد، كان البلد قد احتُّل واستُبيح بالكامل وتشَرذم بصورةٍ مأساوية، وأصبحت سيادته وثرواته، بل وحتى كرامة أبنائه في مهبّ الريح. وكانت النتيجة، كما تخوّفت العناصر الوطنية والمخلصة، الانتقال من سيىءٍ إلى أسوأ، في حين أنّ سياسة تمزيق البلد واعتماد أسلوب إثارة النعرات الطائفية والقومية، يجعلنا نعيش في قلقٍ على مستقبل البلاد، هذا القلق الذي لا يبدّده إلا الشعور بالقدرة العراقية على مقاومة كلّ المخططات الرامية إلى تمزيق البلاد أو إدامة احتلالها.