مقدمة

ثمة تراكمات تشهدها منطقة شمال أفريقيا كقطب جديد للتنافس، مواجهة قديمة باستراتيجيات وأهداف جديدة. وتعمل الصين، وفق هذه الحسابات، على إزاحة خصومها تدريجًا من معاقلهم التقليدية لتعلن شمال أفريقيا محطتها المقبلة، كون قوتها في النظام الدولي الجديد ذات دلالات جيوسياسية أيضًا؛ فالعاصفة الصينية المتحفزة، بحسب تعبير جون ميرشايمر، تؤشر إلى صعود آسيا وتصدُّر الصين المشهد العالمي أمر حتمي‏[1]، في مواجهة القوى الراهنة أو ما يسمى تقليديًا القوى السائدة.

تمتد أنظار القوة الصينية إلى منطقة شمال أفريقيا، إذ تعدّ المغرب والجزائر ضمن دوائر اهتمامها الاستراتيجي، بحيث قدمت أوراق اعتماد قوتها لدى البلدين ضمن خطة الإعلان عن تفاعلات سياسة خارجيتها الجديدة. ستكون مهمة الصين في المنطقة مزدوجة، أولًا من حيث تأمين مصالحها، وثانيًا من حيث الانخراط في تسوية الأزمات التي تهدد المنطقة، وهو ما يمكن أن يكون مدخلًا دبلوماسيًا للانخراط في حل الأزمة الجزائرية – المغربية.

في ظل تقدم وضع الصين الاقتصادي والدبلوماسي على المستوى الدولي، الذي تدعمه قوتها الناعمة، ونهجها سياسة الحياد والتفاوض لإدارة الأزمات الدولية، تتعزز فرضية دخولها كوسيط لحل الأزمة المغربية – الجزائرية، بدافع وجود أدوار دبلوماسية ناجحة للصين في كثير من مناطق النزاعات، كان آخرها الوساطة بين إيران والسعودية. من جهة أخرى حققت الأدوار الدبلوماسية الصينية الجديدة تجاوزًا للدبلوماسية التقليدية التي قادتها قوى دولية تقليدية لم تعد قادرة على القيام بهذه الأدوار أو لم يعد مرحّبًا بها كوسيط محايد.

يختلف موقع الصين الجديد في السياسة الدولية من حيث المقاربات والأهداف، فالصين الجديدة تعتمد على مواقف ثابتة ومبادئ تؤسس لممارسة سياسة خارجية متوازنة؛ فالحياد والتعايش السلمي مقاربتان تقدمان الصين كفاعل ممكن في الأزمة المغربية – الجزائرية يهدف إلى اختبار الوجه الجديد للدبلوماسية الصينية التي تحاول بناء نموذج تفاوضي متقدم لدبلوماسية الأزمات. تؤشر هذه العوامل مجتمعة إلى إمكان نجاح التدخل والوساطة.

تأسيسًا على معطى الامتداد الاستراتيجي الصيني خارجيًا ومحاولة توطين مصالحها الاقتصادية في منطقة تنافس دولي، كيف يمكن حضور الصين في النظام الدولي الجديد ورهانها الاستراتيجي على منطقة شمال أفريقيا أن يقوي فرضية انخراط دبلوماسي لتسوية العلاقات المغربية – الجزائرية؟

أولًا: الصين وحسابات الموقع في شمال أفريقيا

تتنافس الصين مع الولايات المتحدة الأمريكية على مركز القوة كوجه جديد للنظام العالمي الراهن، حيث حقق اقتصادها في سنة 2014 نسبة أكبر من الاقتصاد الأمريكي. وتعمل الصين بصورة حثيثة كأولوية استراتيجية على إزاحة الولايات المتحدة عن موقعها كأكبر قوة عالمية، لذلك، تستخدم الأساليب الدبلوماسية بصورة مستمرة ومتغيرة وفقًا للأهداف والظروف الدولية‏[2]. ولا تستقر الخطط الاستراتيجية لضمان مساحة أكبر في الساحة الدولية على ذلك فقط، بل سعت الحكومة الصينية لتأدية دور قوة اقتراحية تساهم في تخفيف التوترات التي يمر بها العالم، وتعزز الحلول التي تراها «مربحة للجميع»‏[3]. فالسياسة الخارجية الجديدة للصين تتجلى في التخطيط وعرض عناصر القوة، من حيث اعتمادها آليات مهمة للتحول وبناء علاقات مع أسواق استهلاكية جديدة، حيث حاولت ترسيخ شراكات موجودة تاريخيًا مع دول كثيرة في الشرق الأوسط إضافة إلى السعي الدؤوب وراء أسواق جديدة في القارة الأفريقية‏[4].

من حيث المكانة الاستراتيجية للصين في شمال أفريقيا مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، يعدّ المواطنون في هذه المنطقة أقل إقبالًا على الرغبة في علاقات أقوى مع الصين رغم مبادرة الحزام والطريق، إلا أن هؤلاء يعبّرون عن قلقهم من التهديد الذي تفرضه القوة الاقتصادية الأمريكية، وهو يعود إلى إرث الولايات المتحدة الأمريكية في ما يخص الموقف الاقتصادي مقارنة بالقوة الصينية‏[5].

تدخل منطقة شمال أفريقيا ضمن خطة الحزام والطريق، عبر اتفاقيات شراكة اقتصادية مع الصين، فالجزائر هي أهم شريك للصين في المغرب الكبير، تنامت التجارة بقدر كبير بين البلدين وصارت الجزائر بمنزلة السوق الأكبر للصين التي سجلت تجاوزًا لفرنسا بوصفها المصدّر الأكبر. كما أن المعاملات التجارية بين البلدين تتم بعملة اليوان الصيني بدلًا من الدولار الأمريكي، أما لجهة المغرب فالصين هي الشريك التجاري الثالث بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلغ حجم المبادلات التجارية بين البلدين نحو 3.23 مليار دولار سنة 2016، في السنة نفسها وأثناء الزيارة الملكية للصين تم توقيع 15 اتفاقية تعاون يستفيد بموجبها المغرب من الاستثمارات الصينية، في حين تستفيد الصين من موقع المغرب القريب من أوروبا في تصدير سلعها‏[6].

ترتبط الصين بدول شمال أفريقيا عبر نوعين من الشراكات، شراكات استراتيجية وشراكات استراتيجية شاملة. تتّصف العلاقات بين البلدان الشريكة تبعًا للشراكات الاستراتيجية بالخصائص الأربع الآتية:

1 – تتخطى العلاقات الدبلوماسية النموذجية، فتتضمن اجتماعات ثابتة بين المسؤولين الحكوميين والوكالات الحكومية لتنمية التواصل والثقة.

2 – لا تقع ضمن حدود التحالفات القائمة على المعاهدات.

3 – يحركها الهدف أكثر مما يحركها التهديد، فتركز إجمالًا على مجالات التعاون المتبادل في الاقتصاد والثقافة والأمن والتكنولوجيا.

4 – تتميز بتركيزها على السلوك والعمليات المؤسسية.

أما الشراكات الاستراتيجية الشاملة فتتضمن مستوى أعلى من التواصل المؤسسي، بما فيها اجتماعات منتظمة عالية المستوى بين كبار الأعضاء القياديين، كما يجدر استيفاء شروط ثلاثة قبل إبرام اتفاقية حول شراكة استراتيجية شاملة، وهي الثقة السياسية، والروابط الاقتصادية الكثيفة والتبادلات الثقافية، والعلاقات الحسنة في القطاعات الأخرى‏[7].

كما تجب الإشارة إلى أن حضور الصين في شمال أفريقيا لم يركز على الفاعل الاقتصادي فقط، بل أدخلت الصين مكونها العسكري كفاعل في سياستها الخارجية وسعت إلى أن تجعله ضمن قواعد تأثيرها، ففي عام 2007 تولى الجنرال زهاو جينغمين قيادة بعثة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء في الصحراء المغربية (MINURSO) لمدة أربع سنوات‏[8]. جاء هذا الحضور في سياق تسوية سياسية أممية للنزاع، بحسب توجهات تتبناها السياسية الخارجية الصينية للمشاركة في عمليات حفظ السلام، في إطار انتشار قواتها خارج الحدود. يمثل هذا الحضور توجهًا استراتيجيًا لبناء مصالح متبادلة دائمة بينها وبين دول المنطقة لمنافسة حضور القوى التقليدية، وهو ما سيؤدي إلى وضع جديد ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية، يتمشَّى مع نظرة الصين إلى مستقبل النظام الدولي.

ثانيًا: العقيدة الدبلوماسية الجديدة

تنتظم السياسة الخارجية الصينية وفق ثوابت خاصة، تتوافق مع متغيرات الفاعلين والتفاعلات في القضايا الدولية، مرتكزة على مقومات قوتها الناعمة، حيث تتكون عناصر هذه القوة كما حددها جوزيف ناي من ثلاثة عناصر: الثقافة، والقيمة السياسية، والسياسة الخارجية‏[9].

من حيث البعد السياسي، أصدرت الصين قانون العلاقات الخارجية، الذي دخل حيِّز التنفيذ في بداية شهر تموز/يوليو 2023، وهو حصيلة ممارسة سياسية ودبلوماسية طويلة، أبدت من خلاله التزامها بسياسة خارجية سلمية، ومستقلة، متمسكة بمبادئ الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. تؤكد الصين في القانون نفسه التزامها بمقاصد الأمم المتحدة والحفاظ على السلام والأمن العالميين، وتعزيز التنمية العالمية المشتركة، وتعزيز بناء نموذج جديد من العلاقات الدولية، كما تدعو إلى الحل السلمي للنزاعات الدولية، وتعارض استخدام القوة العسكرية أو التهديد بها في العلاقات الدولية، وتعارض الهيمنة‏[10].

أما من حيث مذهب سياستها الخارجية، فتبحث الصين في سياق التحولات السياسية الدولية عن تقديم صيغ مقبولة لمبادئ سياستها الخارجية، التي بنيت على أسس السلام والتعاون وتفعيل مبادئ الأمم المتحدة المتصلة بالدبلوماسية الوقائية، وتفعيل آليات الوساطة والانخراط في إيجاد حلول للأزمات ومبادرات التسوية الدولية والإقليمية، التي تمثل نموذجًا من إدارة انتشارها الدولي. تؤسس الصين موقعها هذا على تاريخ قصير نسبيًا من أدوار الوساطة الناجحة، بداية من مفاوضات تسهيل عمل بعثة الأمم المتحدة للسلام في دارفور عام 2006، ومفاوضات الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، ومفاوضات السلام في جنوب السودان عام 2015، وأخيرًا تسهيل اتفاق استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران‏[11].

قادت الصين مبادرات دبلوماسية في قضايا معقدة كقضية أفغانستان عبر عملية السلام والمصالحة، وربطت إحلال السلام بتعزيز وحدة الحكومة، ووضع إطار للمحادثات بين الأفغان، وانسحاب القوات الأجنبية، ومكافحة الإرهاب، والحصول على دعم خارجي. وأبدت الصين أيضًا استعدادها للقيام بدور فاعل في تعزيز الثقة المتبادلة وتحسين العلاقات بين أفغانستان وباكستان. وفي ما يتعلق بالأزمة في شبه الجزيرة الكورية، تؤكد الصين أهمية الحوار بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، وسبق لها أن أبدت استعدادها لمواصلة القيام بدور إيجابي سعيًا للتوصل إلى حل سياسي في شبه الجزيرة الكورية‏[12].

تسعى الصين استراتيجيًا إلى إعادة تكوين وجه جديد للدبلوماسية الدولية، تجاوزًا للنقائص والنكوص الذي راكمته الدبلوماسية الغربية؛ فتجليات التجديد يظهر من خلال بناء مقومات فعلية لصعود نموذجها للوساطة التفاوضية‏[13]، الذي يعتمد على مخاطبة أطراف الأزمات من دون انحياز أو تعظيم مصالح طرف على آخر، أو المساومة الربحية في إدارة لعبة التفاوض بين الأطراف. يمكن في هذا الصدد النظر إلى مبادرة الوساطة بين السعودية وإيران، فمؤشر الاستقرار والعودة إلى العملية السياسية الثلاثية إيران والسعودية وحلفائهما باليمن، يعطي الانطباع بأن من يدير هذه المفاوضات لديه رؤية خاصة للموقف برمّته، من فهم وإدراك لمكوّن المذهب والمعتقد في إطالة الصراع وتعقيده.

تعتمد المقاربة الجديدة للدبلوماسية الصينية على الانخراط الشامل في الكثير من القضايا كالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، فرغم تعقيدات الوضع فإن الصين تملك آليات لمقاربة هذا الصراع، فالدبلوماسية الاقتصادية هي إحدى الآليات الممكنة للوساطة التفاوضية لدى الصينيين، حيث قفز التبادل التجاري مع إسرائيل من 9 مليارات دولار عام 2012 إلى 21 مليار دولار عام 2022، وتستقبل الصين نحو 42 بالمئة من إجمالي صادرات إسرائيل لآسيا، ووصل حجم استثمارات الصين في إسرائيل حتى عام 2019 إلى أكثر من 15 مليار دولار. في المقابل وصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين الصيني والفلسطيني عام 2021 إلى 88.7 مليون دولار، إلا أن دور تسهيل العمل التفاوضي في هذا الصراع له طابع شبه وساطة في ظل تشبث إسرائيل بالوسيط الأمريكي. يمكن أن تلجأ الصين مستقبلًا لإطلاق نقاش مفتوح مع قوى إقليمية فاعلة مثل مصر وتركيا، فضلًا عن إطلاق حوار مع دول الخليج، لتبادل الرؤى في شأن الحلول الممكنة‏[14]، كما أن للصين انخراطًا إيجابيًا، حيث تعبر سياستها الخارجية عن دور مستقبلي لإيجاد حل سلمي، ولا يخفى في نطاق ذلك رؤيتها للحل انطلاقًا من توحيد الصف الفلسطيني وتجميع التيارات السياسية في إطار حوار داخلي بين جميع الفصائل الفلسطينية، حيث يحظى دور وساطتها بقبول ودعم من قوى إقليمية ودولية.

يقوي رهان تجديد العقيدة الدبلوماسية للصين وطموحها إلى توسيع نفوذ سياستها الخارجية في مناطق تشهد توترات وأزمات، يقوي انخراطها في التسويات السياسية والأمنية لتحقيق الاستقرار وخدمة مصلحة توسيع خريطتها الاقتصادية، وهو في الحقيقة اختبار لنموذج دبلوماسية الوساطة، الذي سيحقق النظرية الصينية لتأثير الاقتصاد في مستقبل صنع السلام.

ثالثًا: مداخل الوساطة الصينية بين المغرب والجزائر

يعدّ الدور الصيني عاملًا مهمًا للقيام بوساطة تاريخية بين المغرب والجزائر، من خلال مجموعة من الحسابات السياسية والاقتصادية، فالدور المفترض للصين في ترتيب أوراق الأزمة يمكن من خلال الدبلوماسية الاقتصادية التي تقودها الصين على الساحة الدولية، ويقودها طموح تقوية نفوذها في القارة الأفريقية لمنافسة القوى التقليدية أو الوافدة على القارة. يعتمد نجاح تدخل الدبلوماسية الصينية في الوساطة بين المغرب والجزائر على ثلاث دعائم، الدعامة الأولى سياسة الحياد الإيجابي والنأي عن التدخل في دعم المواقف السياسية بين الطرفين، أما الدعامة الثانية فهي سياسة الحفاظ على التنسيق بينها وبين البلدين من دون المساس بمصالح طرف دون آخر، أما الدعامة الثالثة فتتجلى في تعاظم المصالح الاقتصادية للصينيين ودورها المباشر في دعم السياسة الاقتصادية للبلدين.

لا تخفي الصين نواياها في توسيع نفوذها في أفريقيا كأولوية استراتيجية، إذ إن الاقتصادات العشرين الأكثر نموًا في العالم توجد 11 منها في أفريقيا، ويوجد في القارة أكثر من مليار ومئتي مليون مستهلك بمعدل إنفاق تريليونَي دولار في أفق عام 2025، حيث ينظر إلى القارة بأنها قارة المستقبل بالنظر إلى ما تملكه من إمكانيات للاستثمار والتسويق، ومصدر للمواد الطبيعية والفلاحية، لتكون أحد أهم الموردين الأساسيين للتغذية والطاقة والمعادن في العالم‏[15]. فالمؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها القارة تضعها ضمن دائرة الاهتمام العالمي، ويمكن القول إن الرهان الصيني على خيار أقطاب تنزيل الاستراتيجيات في القارة الأفريقية، يعمل عبر محورين: محور جنوب القارة الذي يتوافر على اقتصادات ناشئة، ومحور شمال القارة المحاذي للقوة الاقتصادية الأوروبية. ويرجح تقدير الحالة الراهنة محور الشمال انطلاقًا من المغرب والجزائر، ولهذا الخيار أسباب تدعمه من الناحية الواقعية، إذ يعود تاريخ العلاقات بين الصين والمملكة المغربية إلى كون الأخيرة الدولة العربية الرابعة التي اعترفت بالصين سنة 1957، وفي سنة 1958 صدر بلاغ مشترك لحكومتي البلدين تعلنان فيه الدخول في علاقات رسمية. وكان المغرب من ضمن الدول التي وقفت إلى جانب مسودة مشروع دعا إلى طرد المجموعة الحاكمة في تايوان وإعادة الصين إلى مجلس الأمن، وذلك خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 26 في تشرين الأول/أكتوبر 1971، أدت العلاقات بين البلدين إلى قيام علاقات دبلوماسية كاملة، وهو ما كان يرصده الغرب بحذر شديد من حيث تقييم الوجود الصيني في أفريقيا متهمين المغرب بمساعدة البرنامج النووي الصيني بتزويده بمادة الكوبالت ما بين سنتي 1960 و1963‏[16]. هكذا صمدت العلاقات المغربية – الصينية وتطورت لتتقدم خطوات مهمة توجت بزيارة مستمرة لوفود البلدين لتباحث وجهات النظر حول القضايا المشتركة.

استقبل المغرب أول وفد صيني بعد مؤتمر باندونغ سنة 1956 واستمر التعاون بين البلدين حتى توج بالزيارة الملكية إلى الصين سنة 2016. تمحورت الزيارة حول رفع حجم التعاون القائم بين البلدين على مستوى الزيادة في الزيارات وتبادل الخبرات في مختلف المجالات الحيوية وتنسيق المواقف إزاء القضايا الإقليمية والدولية، فضلًا عن إيلاء الاهتمام للتعاون في المجال التكنولوجي بين الجانبين‏[17]، وهي مؤشرات تُبرز نجاح الزيارة، وتمثل أساسًا لبناء علاقات استراتيجية أكثر قوة. ويعكس توجه المغرب نحو الصين دبلوماسية تنويع الشركاء التي تبناها المغرب في السنوات الأخيرة، وهو تفاعل حتمته المتغيرات الكبرى التي شهدتها الساحة الدولية على مختلف الواجهات الاقتصادية والسياسية والأمنية، واستيعاب الأبعاد الاستراتيجية للدبلوماسية في عالم اليوم.

يسعى المغرب، في ظل ارتباط المصالح الاقتصادية المغربية بالدول الغربية، إلى تنويع شراكاته الاقتصادية الدولية، بسبب التفاوتات الاقتصادية المتأصلة في العلاقة التجارية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب. وبالنظر إلى هذه الرغبة في التنويع الاقتصادي والحصول على وضع تفاوضي أفضل مع الاتحاد الأوروبي، فقد جاءت مبادرة الحزام والطريق الصينية في وقت مثالي للمغرب، إذ ارتفع معدل الاستثمارات الصينية في المغرب بما يقارب نسبة 93 بالمئة بين عامي 2014 و2015، ويعزى هذا إلى حد كبير إلى الاستثمار في محطة نور للطاقة الشمسية في عام 2014. وفي أيار/مايو 2016 أعلنت قيادة البلدين عن عقد شراكة استراتيجية، بتوقيع الكثير من الاتفاقيات في مجموعة من القطاعات. ومِن ثم، شرعت الصين بالفعل في رفع استثماراتها بقدر كبير في المغرب قبل أن يوقع هذا الأخير رسميًا على مبادرة الحزام والطريق‏[18].

تنفتح الصين – إلى جانب المغرب – تصاعديًا في علاقاتها مع الجزائر على أكثر من مستوى، حيث بدأت العلاقات الصينية – الجزائرية بعد الحرب العالمية الثانية. سجل أول تواصل سنة 1955 في مؤتمر باندونغ، حضرته جبهة التحرير الوطني الجزائرية كملاحظ، ليؤسس هذا المؤتمر الأرض الأولية لحركة عدم الانحياز، أدّت مبادئه دورًا جوهريًا في صوغ السياسة الخارجية الجزائرية، واعترفت الصين بتأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة سنة 1958، لتكون أول دولة غير عربية تؤيد حق الشعب الجزائري في الاستقلال.

اللافت للاهتمام أن سنة 2013 شهدت ارتقاء العلاقات الجزائرية – الصينية بصورة تدريجية إلى تحالف استراتيجي، في ظل توافق كبير في الملفات السياسية وتناغم واضح في المواقف الدبلوماسية إزاء الأزمات الدولية وبخاصة في المنطقة العربية. ويسجل أيضًا أنه في سنة 2013 أصبحت الصين أكبر مستثمر في الجزائر، وحجم مبادلات تجارية بلغ 8.31 مليار دولار، ليرتفع إلى 9.1 مليار دولار سنة 2018، أما في مجال المقاولات فقد انتزعت الصين صفقات كبيرة في الجزائر‏[19].

يرى صنّاع القرار في الجزائر أن التعاون وتمتين العلاقات مع الصين في سياق مبادرة «الحزام والطريق» سيفتح آفاقًا واسعة مع أفريقيا بحكم الموقع الجغرافي المتميِّز للجزائر، فهذا الموقع سيجعل منها نقطة انطلاق استراتيجية للتعاون والشراكة مع بقية القارة الأفريقية‏[20]، وهو ما يتماثل مع رؤية الصين لوجودها في هذا البلد.

جدير بالإشارة أنه في مسألة الخلاف بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء المغربية، الذي تدافع الجزائر عن أطروحة البوليزاريو وتقدم دعمًا متواصلًا إليها، وتعمل كذلك على استمالة مواقف القوى العظمى لهذا الطرح، تسير الصين في اتجاه محايد حيث صادقت على قرار الأمم المتحدة الأخير في خصوص الصحراء، وتكتفي عادة بسياسة الحياد في هذا النزاع مع دعم جهود الأمم المتحدة لحله، وتحتفظ بعلاقات جيدة مع كل الأطراف المعنية به‏[21].

يمكن القول إن الأدوار المتصاعدة لدور الصين في تدبير الأزمات الدولية، يعود إلى أن صناع سياستها الخارجية يدركون قوتهم وموقعهم في نظام دولي قيد التكوين، فعملية بناء القوة انطلقت من نموها الاقتصادي وحجم تجارتها الخارجية، وما يهم هنا هو الإشارة إلى أن النموذج الصيني انطلق من مستوى دبلوماسيتها الاقتصادية أساسًا كتعبير لانتشارها السلمي وكتعبير كذلك لتقديم صورة سياستها الخارجية الناعمة لدى الرأي العام الدولي، وعلى خلاف القوى التقليدية حاولت الصين أن تستثمر قوتها الاقتصادية والسياسية في صنع نموذج دولي لتدبير الأزمات والانخراط بحياد في تسويتها، ومن هذا الموقع تدفع هذه الدراسة في اتجاه تبنّي الدبلوماسية الصينية لموقف مستقبلي يفضي إلى حل الأزمة المغربية – الجزائرية التي عجزت عن مقاربتها دبلوماسية القوى التقليدية.

خاتمة

ترجح هذه المقالة الاستشرافية دخول الصين كوسيط بين المغرب والجزائر إلى مؤشرين: الأول، وضع الصين في النظام الدولي الراهن بوصفها قوة اقتصادية وأداة دبلوماسية واقعية في حل الأزمات الدولية قياسًا على انخراطها الناجح في التسويات السياسية في كثير من بؤر التوتر الدولية. المؤشر الثاني طموح الصين الخارجي وتنافسها المحتدم مع الولايات المتحدة الأمريكية الذي يبشر به المفكر السياسي الأمريكي غراهام أليسون‏[22]، وتعدّ منطقة شمال أفريقيا مجالًا حيويًا لانتشار القوة الصينية، إلا أن هذا الحضور يجب أن يقابل ببراغماتية سياسية واقتصادية مماثلة، فدول المنطقة تقع ضمن دائرة استقطاب اقتصادي وسياسي متواصلين، كما أنها ممر تجاري حيوي، وبناء عليه فالصينيون يعملون على:

أولًا، الانخراط الإيجابي ضمن مناطق محددة يراها الصينيون منطقة استراتيجية يمكن استخدامها لتأمين مبادرة الحزام والطريق المستقبلية.

ثانيًا، العمل مع شركائها على أساس الربح الاقتصادي وتسخير دبلوماسيتها الاقتصادية لتسوية الأزمات الثنائية كما حصل مع إيران والسعودية، من خلال شبكة نفعية إقليمية دائمة بين أطراف الأزمة لإطالة أمد عملية التسوية.

على هذا الأساس يمكن القول إن الصين وفق ارتباطها الاقتصادي بالمنطقة، وخصوصًا رهانها على قطبيها المغرب والجزائر، ستعمل على تأمين مصالحها الاقتصادية لدى البلدين وإزالة أي تهديد قد يحيق بهذه المصالح، انطلاقًا من:

1 – الاستمرار في حيادها السياسي وخطابها الدبلوماسي المتزن لتبليغ جميع الأطراف أنها طرف تفاوضي محايد ويقف على مسافة واحدة لضمان منطقة أمان كافية لتقديم نفسها كوسيط في هذه الأزمة.

2 – تعتمد استراتيجية الصين في تدبير الأزمات الدولية على رؤيتها للمصالح المشتركة، فالانتشار الصيني وهاجس التنافس الدولي المحتدم، يفرض تأمين مصالحها مع جميع الشركاء، وتحييد التهديد المتبادل لاستدامة هذه المصالح.

كتب ذات صلة:

أفكار مهاجرة من الغرب إلى الشرق

المصادر:

نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 552 في شباط/فبراير 2025.

محمد علي زريول: باحث في العلاقات الدولية والعلوم السياسية – المغرب.

[1] محمد المختار الشنقيطي، «شروق الشرق وغروب الغرب انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي،» لباب للدراسات الاستراتيجية (مركز الجزيرة للدراسات)، العدد 18 (أيار/مايو 2023)، ص 14.

[2] Jean-Pierre Cabestan, La Politique Internationale de la chine (Paris: Editeur Presses de sciences po, 2022).

[3] Jean-Pierre Cabestan, «La Politique étrangère chinoise une chine sans ennemis n’est pas forcément une chine rassurante,» Revue-Hérodote, vol. 125, no. 2 (2007), p. 15.

[4] عماد منصور، «السياسة الخارجية الصينية من منظار الثقافة الاستراتيجية،» سياسات عربية، العدد 21 (تموز/يوليو 2016)، ص 27.

[5] مايكل روبنز، «المنافسة الأمريكية – الصينية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،» البارومتر العربي، الدورة السابعة، تموز/يوليو 2022،   <https://tinyurl.com/27bepeva>.

[6] جلال خشيب، «تنامي النفوذ الصيني بالمغرب الكبير حزام واحد: أهداف متعددة،» المعهد المصري للدراسات تحليلات سياسية، 26 نيسان/أبريل 2019، <https://tinyurl.com/66pw8h4n>.

[7] عادل عبد الغفار وآنا جاكوبس، «بكين تنادي: تقييم حضور الصين المتنامي في شمال أفريقيا،» مركز بروكنز الدوحة، موجز السياسة، 23 أيلول/سبتمبر 2019،           <https://tinyurl.com/bde8dtbt>.

[8] Juliette Genevaz, «La Chine et les opérations de maintien de la paix de l’ONU: Défendre la souveraineté,» Politique étrangère, vol. 4 (hiver 2015), p. 134.

[9] جوزيف ناي، القوة الناعمة: وسيلة للنجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد البجيرمي (الرياض: العبيكان للنشر 2007)، ص 160.

[10] قانون العلاقات الخارجية وافق عليه المجلس الوطني الشعبي الصيني بتاريخ 28 حزيران/يونيو 2023، ودخل حيز التنفيذ ابتداءً من 1 تموز/يوليو 2023 بناءً على المادة 45 منه.

[11] «وساطة كاملة أم «شبه وساطة»؟: حدود التدخل الصيني في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وآفاقه،» مركز الإمارات للسياسات، 23 أيار/مايو 2023، <https://tinyurl.com/kx65rw4s>.

[12] عادل علي، «السياسة الخارجية الصينية في عام 2020.. بين الثابت والمتغير،» المنتدى التعاون الصيني العربي،    <http://www.chinaarabcf.org/ara/zjzg>.

[13] محمد علي زريول، «صعود النموذج الصيني للوساطة التفاوضية،» في: مجموعة من المؤلفين، تدبير الأزمات العالمية في ظل نظام دولي غير مستقر، تنسيق حكيم التوازني وعبد الكريم الحديكي (أيت ملول، المغرب: كلية الحقوق، مطبعة قرطبة، 2023).

[14] «وساطة كاملة أم «شبه وساطة»؟: حدود التدخل الصيني في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وآفاقه،» مركز الإمارات للسياسات مصدر سابق.

[15] سعيد الصديقي، «السياسة الخارجية المغربية فوق الرمال المتحركة لإفريقيا،» منشورات المعهد المغربي لتحليل السياسات، نيسان/أبريل 2018،          <https://mipa.institute/5498>.

[16] جعفر كرار أحمد، «العلاقات المغربية – الصينية الماضي والحاضر والمستقبل،» مجلة أكاديمية المملكة المغربية، العدد 18 (2001).

[17] الإعلان المشترك المتعلق بالشراكة الاستراتيجية بين المملكة المغربية والصين لسنة 2016.

[18] برايس تيري، «طريق الحرير الرقمية للصين في المغرب: تداعيات هيمنة القطاع الرقمي،» المعهد المغربي لتحليل السياسات، 29 تموز/يوليو 2022، <https://mipa.institute/9336>.

[19] بن جدو محمد الشريف، «طريق الحرير الجديد وانضمام الجزائر للمبادرة،» مجلة الأصالة للدراسات والبحوث، السنة 1، العدد 2 (2019)، ص 23.

[20] صالح زياني ويوسف بوعندل، «العلاقات الجزائرية الصينية ومشروع شراكة استراتيجية شاملة وواعدة في ضوء مبادرة طريق الحرير الجديد،» المجلة الجزائرية للأمن والتنمية، السنة 12، العدد 1 (كانون الثاني/يناير 2023)، ص 66.

[21] «تحريك الجمود: أبعاد النشاط الدبلوماسي حول ملف الصحراء وآفاق التسوية،» مركز الإمارات للسياسات، 28 أيلول/سبتمبر 2023،    <https://tinyurl.com/3ace29kv>.

[22] الشنقيطي، «شروق الشرق وغروب الغرب انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي،» مصدر سابق.


مركز دراسات الوحدة العربية

فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية

مقالات الكاتب
مركز دراسات الوحدة العربية
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز