مقدمة:

لا وجود لممارسة ديمقراطية من دون وجود انتخابات نزيهة، هي قاعدة لا اختلاف بشأنها في أدبيات دراسة عملية الدمقرطة أو التحول الديمقراطي. فالانتخابات هي التي تخوِّل المواطنين ممارسة حقهم في اختيار الحكام الذين يحكمون باسمهم، وأعضاء المؤسسات التمثيلية الذين يمثلونهم. وإذا كانت الانتخابات بذلك، مؤشراً جوهرياً لقياس درجة الديمقراطية – من حيث هي المصدر الذي يستمد منه النظام السياسي مشروعيته، وهي الضامن لمشاركة المواطنين في صنع القرار وصياغة السياسة العامة – فإن أنظمة الانتخابات لا بد من أن تكون تبعاً لذلك، مؤشراً فعلياً وفعالاً في آن واحد لتقييم مستوى الأداء الديمقراطي وجودة الديمقراطية، وفي ديمقراطيات الموجة الثالثة الناشئة خاصة، مؤشراً حقيقياً لقياس إرادة تلك الأنظمة في الإصلاح السياسي، ومعياراً لقياس كفاءة، جودة واستمرارية التحول الديمقراطي.

نظرياً، يفهم «التحول الديمقراطي» كمرحلة وسيطة بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي، في ثناياها يتم التفكيك التدريجي للنظام غير الديمقراطي القديم وبناء نظام ديمقراطي جديد، عبر عملية إصلاح منظمة تطاول عناصر النظام السياسي مثل البنية الدستورية والقانونية، المؤسسات والعمليات السياسية، أنماط المشاركة السياسية‏[1]، وطبيعة النظم الانتخابية. وفي كتابه الموجة الثالثة: التحول إلى الديمقراطية في أواخر القرن العشرين؛ كان صامويل هانتنغتون قد استخدم تعبير «موجة الدمقرطة» (Wave of Democratization) لوصف عمليات التحول نحو الديمقراطية في العالم، معرِّفاً إياها بأنها «مجموعة من التحولات من أنظمة غير ديمقراطية نحو أنظمة ديمقراطية تحدث خلال فترة محددة من الزمن. تتضمن الموجة دمقرطة جزئية في الأنظمة السياسية، التي لا تصبح بالضرورة ديمقراطية كاملة»‏[2].

في الحقيقة، لقد وجدت العديد من المقولات النظرية والمداخل التحليلية في مقاربة ظاهرة التحول الديمقراطي في الأنظمة الناشئة ومناقشة المتغيرات ذات الصلة بها، سواء من حيث المدخلات (أسباب التحول)، أو الأنماط (نماذج التحول)، والمخرجات (آليات تطبيق التحول). سيتجاوز هذا المقال البحث في المتغيَّرين الأولين لمصلحة البحث في المتغير الأخير، عبر مناقشة كيفية تأثير إحدى الآليات الإجرائية الهامة لتطبيق الديمقراطية، وهي آلية النظام الانتخابي، على إرادة التحول الديمقراطي وكفاءتها في دول الموجة الثالثة.

إن من بين عدة مؤشرات، يمكن الاعتماد على مؤشر جدي يكشف عن مدى الإرادة الفعلية للأنظمة السياسية في دول الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي في تكريس المشاركة السياسية وبالتالي الإصلاح الديمقراطي؛ إنه المؤشر الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك القواعد والضوابط التي تحكم سير العملية الانتخابية وتحدد شكل المنافسة خلالها. يتعلق الأمر هنا تحديداً بمسألة النظام الانتخابي؛ حيث إن قياس تلك الإرادة في التحول الديمقراطي، يقترن بمدى قدرة النظام الانتخابي على أن يعكس بصدق الإرادة الشعبية في اختيار الشعب لممثليه. إذ تظهر أهمية النظام الانتخابي في كونه أداة قانونية في يد الأنظمة المشرفة على عملية التحول الديمقراطي في تشكيل طبيعة الخارطة السياسية في البلد؛ من خلال عدد الأحزاب وتوزيعها في المجالس النيابية، وهو بذلك يعد مؤشراً حقيقياً لقياس إرادتها في هذا التحول.

إن أهمية النظام الانتخابي تتجاوز كونه الوسيلة الإجرائية لتنظيم نتائج الانتخابات، نحو الأهمية السياسية في تنظيم المؤسسات السياسية، تحديد شكل الحكومات وطبيعة الأنظمة الحزبية، وكل ما تعلق بقضايا إدارة الحكم على نطاق واسع؛ لأن تصميماً معيَّناً لنظام انتخابي ما، ينتج منه ما يتجاوز ترجمة أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية، إلى مسائل التمثيل الجغرافي والإثني وتمكين المرأة وتشجيع أو تعطيل العمل الحزبي ودور المعارضة – لذكر أهمها – . هذا ما من شأنه أن يعطي الصدقية للفرضية المقترحة التي تربط ما بين النظام الانتخابي والديمقراطية، وبالتالي ما بين إصلاح النظام الانتخابي والإصلاح السياسي. سيتم وضع هذه الفرضية على محك الاختبار الإمبيريقي، من خلال مناقشة التغيير المستمر في شكل النظام الانتخابي في الجزائر كنموذج لديمقراطية ناشئة، عبر طرح التساؤل التالي: هل التغيير المستمر في النظام الانتخابي يجعل منه وسيلة لتوجيه الإصلاح السياسي، بدل أن يكون أداة لتنظيم العملية الديمقراطية؟

أولاً: في مفهوم الموجة الثالثة
من التحول الديمقراطي

في أدبيات «التحول الديمقراطي» يقترح الباحثون ثلاثة مداخل‏[3] مختلفة لمقاربة مفهوم «موجات الديمقراطية» التي كان هانتنغتون أول من اقترحها: أولها، كارتفاع في المستوى العالمي للديمقراطية؛ ثانيها، كتحولات نحو الديمقراطية في دول عشوائية؛ وثالثها، كمجموعة من التحولات المترابطة نحو الديمقراطية في مجموعة من الدول. والفرق بينها، هو أنه بينما يتخذ المدخل الأول من العالم كوحدة واحدة، والثاني يركز على الدولة كوحدة واحدة. فإن المدخل الثالث يقترح رابطة بين مجموعة من الدول المتشابهة كوحدة للتحليل. وهذا المدخل الأخير هو الذي نتبناه في هذا المقال؛ لتناسُبه مع خصوصية الديمقراطيات الناشئة المراد مناقشتها.

1 – المدخل العام

يتضمن المستوى العام للديمقراطية على المستوى العالمي، والتي يمكن قياسها بإحدى طريقتين: إما قياس النسبة المئوية للدول الخاضعة لنظام ديمقراطي في العالم، أو تقييم الدول على مقياس محدد للديمقراطية وتسجيل النسبة. واختيار إحدى الطريقتين يتوقف على طبيعة فهم الديمقراطية سواء كعملية منتهية (الأولى) أو مستمرة (الثانية). على هذا الأساس هناك ثلاث موجات للدمقرطة على المستوى العالمي كما سيأتي لاحقاً.

2 – المدخل الخاص

يركز هذا المدخل على ظاهرة التحول الديمقراطي منعزلة، وهو بذلك يقارب حالات فردية خاصة للتحول بدل تعميمات عالمية. وهو يقترح أن التحول يتم في كلا الاتجاهين في الوقت نفسه؛ فكل موجة للديمقراطية تحمل معها موجة مضادة في الاتجاه المعاكس. لذا من الصعب الحديث عن موجة عالمية للديمقراطية، في ذات الوقت الذي تخسر فيه بعض الدول الديمقراطية.

3 – مدخل الربط (Linkage)

يركز هذا المدخل على خاصية الروابط المشتركة التي تجمع بين مجموعة من الدول التي تشهد عملية تحول نحو الديمقراطية. في هذه الحالة لا يهم ما إذا كان التحول يتم في وقت واحد، بقدر ما تهم الخصائص المشتركة بينها وكيف تؤثر بعضها في بعض.

إذا ما أخذنا بالمدخلين الأول والأخير، يمكن الحديث حينها عن موجات ثلاث للتحول نحو الديمقراطية كما أوضحها هانتنغتون‏[4]. الموجة الأولى، وهي الأطول بدأت سنة 1820 واستمرت حوالى القرن وجلبت للعالم حوالى 29 ديمقراطية، ولكنها تعرضت لموجة مضادة خلال فترة ما بين الحربين، قلصت عدد الديمقراطيات إلى 12. الموجة الثانية، بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبلغت أقصاها سنة 1962 بمعدل 36 دولة تحكمها الديمقراطية، لكنها هي الأخرى تعرضت لموجة مضادة بين عامي 1960 – 1975 قلصت عدد الديمقراطيات إلى 30. أما الموجة الثالثة، فجاءت بين عامي 1974 – 1990، حيث ارتقى عدد الديمقراطيات إلى الضعف – تقريباً – بالتحاق حوالى 30 دولة بركب الديمقراطية. ابتدأت الموجة بالبرتغال واليونان واتجهت صوب إسبانيا وأمريكا اللاتينية، ثم اكتسحت بخاصة الدول الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا وبعض الدول الآسيوية، الأفريقية والعربية كالجزائر سنة 1989.

سمّى هانتنغتون خمسة عوامل‏[5] مشتركة أسهمت في حدوث الموجة الثالثة، وفي الوقت نفسه تبرر النظر إلى دولها – إذا ما استثنينا الدول الأوروبية – كنموذج متشابه لديمقراطية ناشئة:

أ – توسع دائرة الطبقة المتوسطة في عديد الدول بفضل النمو الاقتصادي العالمي غير المسبوق خلال الستينيات، بما أسهم في تحسن مستوى المعيشة ورقي التعليم.

ب – المشاكل العميقة للنظم التسلطية عبر العالم في تحصيل الشرعية، وفشلها في الحفاظ على شرعية «الأداء»، في الوقت الذي تلقى فيه قيم الديمقراطية قبولاً واسعاً.

ج – التحول الجوهري في مبادئ الكنيسة الكاثوليكية، كما بدا ذلك واضحاً في مجلس الفاتيكان الثاني (1963 – 1965)، وتحول الكنائس الكاثوليكية الوطنية من وضعية المدافعين عن استقرار «الوضع القائم» إلى مناوئين للحكم التسلطي.

د – التحول في سياسات الفواعل الخارجية وبخاصة الجماعة الأوروبية والولايات المتحدة، وتأييدها الصريح للأنظمة الليبرالية، أو المعارضة الليبرالية في الأنظمة الشيوعية.

هـ – «كرة الثلج» أو عدوى الانتقال، وتأثير بعض دول الموجة الثالثة في التحول الديمقراطي بعضها في بعض، من خلال التحفيز وتقديم نماذج إيجابية للدمقرطة.

فضـلاً عن العامل الخارجي الجوهري المتمثل بسقوط الشيوعية، ونزع غطاء الشرعية الخارجية عن الكثير من الأنظمة الشيوعية في دول العالم الثالث.

ثانياً: دور النظام الانتخابي في تعزيز الديمقراطية

حتى يوصف نظام ما بالديمقراطي يجب أن تتوافر فيه أحزاب سياسية ونظام انتخابي. غير أن التنوع في عدد الأحزاب السياسية ونوع الأنظمة الانتخابية في الديمقراطيات الحديثة يدعو إلى التساؤل عما إذا كانت هناك تركيبة مثالية بينهما لتعزيز الديمقراطية؟ هل هناك عدد نموذجي من الأحزاب يجب توافره؟ وهل يكفي امتلاك نظام انتخابي ما؟ أم أن نظاماً معيناً أفضل من الآخر من أجل تعزيز الديمقراطية؟ ومتى يسهم النظام الانتخابي في إرساء قاعدة صلبة لنظام ديمقراطي متين؟

غالباً ما ينظر إلى الانتخابات النزيهة كأهم خصائص النظام الديمقراطي، وفي الوقت نفسه كأحد أهم المؤشرات لتقييم مستوى الديمقراطية. ويبدو الاتفاق واضحاً بين الدارسين في هذا الشأن في الربط بين الاثنين؛ فتعريف شومبيتر مثـلاً (Schumpeter)‏[6] للديمقراطية يركز بشكل حصري على الانتخابات التنافسية؛ لأن بناء الديمقراطية والحفاظ عليها يعتمد على تحصيل الدعم الشعبي، عبر المشاركة في الانتخابات إذا كانت نزيهة، شفافة وعادلة. أما هانتنغتون، فيرى في الانتخابات أداة الديمقراطية وهدفها في ذات الوقت، وهي لا تعني حياة الديمقراطية فقط وإنما موت الدكتاتورية كذلك‏[7]. لا شك إذاً في أن مستقبل أي نظام ديمقراطي يعتمد في بعده القانوني والمؤسساتي – إلى حد بعيد – على المسائل المرتبطة بالعملية الانتخابية؛ لأنها العملية التي تؤدي إلى وتعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في بلد ما، لارتباط اختيار قادة الشعب وممثليه بالنظام الانتخابي المتبنى.

لقد لاحظ ريتشارد روز (Richard Rose) أن «الحكومات الديمقراطية لها مجموعة خصائص مشتركة، طبيعة النظام الانتخابي ليس إحداها»‏[8]. إن ما يذهب إليه روز لا بد من أن لا يجادل به لمصلحة مقولة أن مسألة اختيار نظام انتخابي ما، هي ذات تأثير محدود على نوعية وكفاءة الديمقراطية، بقدر ما يجب أن يفهم في سياق تنوع الأنظمة الانتخابية واختلاف الواقع السياسي والاجتماعي للديمقراطيات السياسية المؤسسة منها والناشئة، وبالتالي صعوبة نمذجة النظم الانتخابية في قالب واحد حتى تتناسب مع درجة معينة من الديمقراطية. مع ذلك، حتى وإذا ما سلَّمنا بما ذهب إليه ريتشارد روز، فإن هذه المسلَّمة لا تنفي وجود منطق يفيد بتراتبية علاقة النظم الانتخابية بتعزيز الديمقراطية، ولا سيَّما في ديمقراطيات الموجة الثالثة الناشئة.

فمن أجل إعطاء النظام الانتخابي وزنه الحقيقي في رسم صورة الأنظمة السياسية وتقييم نوعية الديمقراطية، لا بد من مقاربة النظام الانتخابي مقاربة سياسية، حينها سندرك أن مسألة اختيار نظام انتخابي ما عملية سياسية بحتة، لا تعتمد فقط – كما يبدو للوهلة الأولى – على خبرات الخبراء القانونيين المحايدين وإجاباتهم بأن هذا النظام أو ذاك أفضل، بل غالباً ما يكون للمصالح السياسية للأنظمة الراغبة في الاستمرار في السلطة، أو الأحزاب السياسية المستفيدة من الوضع القائم، الدور الأساسي في الحفاظ على، تعديل أو تغيير الأنظمة الانتخابية.

إن النظام الانتخابي الذي يؤسس لديمقراطية غير ديمقراطيات الواجهة الهشة يجب أن يضمن بفعالية تحقيق متطلبات النظام الديمقراطي التالية:

1 – ضمان قيام برلمان ذي صفة تمثيلية وشمولية

يجب أن يتوافر في النظام الانتخابي القدرة على ترجمة أصوات الناخبين؛ من جهة إلى مقاعد تمثيلية غير إقصائية، بحيث يأخذ في الاعتبار معايير التمثيل الجغرافي (لتعبر الدوائر الانتخابية عن جميع المناطق (والتنوع الحزبي) فمن غير العادل أن لا يحصل حزب حصد ثلث الأصوات مثلا على أي مقعد). ومن جهة ثانية، إلى مقاعد شمولية لا تستثني أحداً؛ بحيث يعمل النظام الانتخابي على عدم استثناء أو تمييز ضد أي من فئات المجتمع، بحيث يضم ممثلين عن كلا الجنسين ومن كافة الطبقات والأعمار، وأن يعكس التوزيع الإثني، الديني واللغوي في المجتمع‏[9].

2 – تكريس التعددية

ينظر للأحزاب السياسية كمكوِّن ضروري من أجل عمل الديمقراطية التمثيلية، وهي فواعل مهمة وقائدة للتغيير من حيث إنها وسيط بين المجتمع والحكومة وأحد أدوات التعبير عن مصالح الشعب التي تترجم لاحقاً إلى سياسات الدولة‏[10]. إن تعزيز النظام الديمقراطي على المدى الطويل يستدعي قيام أحزاب سياسية فاعلة كضمان للتداول السلمي على السلطة، لذا يجب أن يشجع النظام الانتخابي على التعددية بدلاً من عرقلتها. ونجد أن بعض النظم الانتخابية تشجع أو حتى تقتضي قيام أحزاب سياسية، بينما تعمل أخرى على تعطيل العمل الحزبي) مثـلاً من خلال الانتخاب الفردي بدل الانتخاب بالقائمة (أو على الأقل تقليصه، بحيث تجعل الأحزاب السياسية أدوات في يد القادة السياسيين يملكون القدرة على تشكيل وترتيب القوائم بما يقلص فرص الناخبين في اختيار ممثليهم بحرية أكثر.

3 – ضمان التنافسية

تتضمن الديمقراطية بالضرورة أن تكون العملية الانتخابية تنافسية وغير مشخصة، وضمانة ذلك هو إنشاء نظام حزبي تنافسي، وهذا ما يجب أن يعمل عليه أي تصميم انتخابي‏[11]. إذ غالباً ما تتأثر طبيعة النظام الحزبي في بلد ما بالنظام الانتخابي فيه، خاصة ما تعلق بعدد الأحزاب الفاعلة في الهيئة التشريعية أو في المعارضة، وحتى طبيعة التحالفات الممكنة بين تلك الأحزاب، حيث تحفز بعض الأنظمة على إقامة تحالفات والسعي لتوسيع قاعدتها الشعبية كما في انتخابات الدورة الثانية، أو قد تدفعها إلى الانحصار في إطار وعائها الانتخابي الضيق. بل يمتد تأثير النظام الانتخابي أحياناً إلى داخل الأحزاب ذاتها؛ حين تدفع بعض الأنظمة نحو ظهور تيارات متصارعة ضمن الحزب الواحد‏[12]. وعموماً، كلما شجع النظام الانتخابي على إيجاد أحزاب قوية وفعالة كلما زادت المنافسة السلمية على السلطة بدل الاضطرار للعمل خارج قواعد اللعبة الديمقراطية.

4 – توفير حوافز للمصالحة

يمكن للأنظمة الانتخابية أن تكون إحدى أدوات إدارة الاختلاف بين الفرقاء خاصة في المجتمعات المتعددة الثقافات، الإثنيات أو الديانات‏[13]. فتصميم نظام انتخابي ما كما من شأنه أن يفاقم من حدة التوتر، يمكن أيضا أن يساهم في تهدئته؛ فبعض الأنظمة من حيث إنها تدفع باتجاه التمكين لحزب مهيمن واحد أو حزبين كبيرين، أو لا تضمن التناسب بين عدد الأصوات وعدد المقاعد، فإنها وفي كلتا الحالتين تقصي بالضرورة تمثيل أقليات إثنية أو دينية في المجتمع، قد تجد نفسها مضطرة إلى الدفاع عن خصوصياتها خارج إطار العمل المؤسساتي بوسائل صدامية أو حتى عنيفة. لذا فإن أي نظام انتخابي يرمي إلى تحقيق ديمقراطية فعلية يجب أن يراعي خصوصيات المجتمع المتعدد الثقافات بما يوفر حوافز مهمة للمصالحة.

5 – إخضاع الممثلين المنتخبين للمساءلة

من المهم بالنسبة إلى المنتخبين أن يملكوا القدرة على محاسبة منتخبيهم الذين لم يوفوا بالوعود الانتخابية، أو الذين ثبت عجزهم عن تبوء المناصب التي يشغلونها. ومن أجل تحقيق ذلك عملياً، تعطي بعض الأنظمة الانتخابية الإمكانية للناخبين في اختيار وترتيب المرشحين من بين القوائم كنظامَي القائمة المفتوحة والقائمة الحرة، فحيث تعجز بعض الأنظمة الانتخابية في التمكين المباشر للناخبين في مراقبة منتخبيهم، فإن النظامين السابقين يمنحان الأفراد ليس فقط القدرة على اختيار الأحزاب وخياراتهم، بل الأفراد المناسبين لتنفيذها كذلك‏[14]، وهذا ما يعطي لتطبيق الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب ضمانات أوسع.

6 – تحفيز المعارضة

إن بناء نظام حكم ديمقراطي متين يعتمد – لا شك – على قوة الرأي الآخر الذي تمثله المعارضة، وقوة المعارضة في الديمقراطيات الحديثة يعتمد كذلك على عدة عوامل، طبيعة النظام الانتخابي هي أحد أسسها؛ لأن النظام الانتخابي الذي يجعل المعارضة عاجزة عن القيام بدورها، سيضعف مجمل العملية الديمقراطية حين تفقد المعارضة القدرة على القيام بدور الرقيب على السلطة. إنه ومن أجل القيام بالدور الأخير، تحتاج المعارضة إلى عدد كاف من الممثلين المنتخبين حتى تكون قادرة على طرح البدائل، وهو أمر يمكن لطبيعة النظام الانتخابي التحكم فيه؛ فنظام الأغلبية المطلقة مثلاً وفق قاعدة – الفائز يأخذ كل شيء – سيلغي تماماً صوت المعارضة داخل البرلمان‏[15]، بما يتنافى وأساسيات العمل الديمقراطي.

ثالثاً: النظام الانتخابي وديمقراطيات الموجة الثالثة

يعتبر التحول الديمقراطي تجسيداً واقعياً لمبادئ القانون على حساب مبادئ الفرد، وإعلاءً من شأن التعددية على حساب الفردانية في الحكم. لكن مرحلة التحول إلى الديمقراطية غالباً ما تشهد صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين؛ بحيث يقترن التحول في الدول الحديثة العهد بالديمقراطية بدرجات متفاوتة من الارتياب بين حسابات الحكم التسلطي السابق لمرحلة التحول، وتطلعات المعارضة للمرحلة التعددية الجديدة، بما يجعل من الصعب على مختلف القوى السياسية الإجماع على خيارات واحدة لتسيير متطلبات المرحلة الجديدة، وبالأخص في تلك الديمقراطيات الناشئة التي تشرف فيها الأنظمة السابقة ذاتها في عهد الأحادية على عملية التغيير ومباشرة الإصلاح.

في هذا الشأن، تعتبر مسألة اختيار النظام الانتخابي من بين أكثر المسائل إثارة للنقاش في عملية البناء والإصلاح الديمقراطي في الدول المنخرطة في الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي. وفي الوقت نفسه، تُعَد محَكاً حقيقياً لقياس مدى صدقية إرادة الأنظمة ذاتها في الإصلاح السياسي؛ لأن تصميم نظام انتخابي ما ثم تقنينه، وتعديله بعد ذلك أو تغييره، يترتب عنه غالباً نتائج هامة على مستوى النظام السياسي ككل. وهنا تحديداً تبدو الفرصة مناسبة بما فيه الكفاية لدراسة تأثير طبيعة اختيار النظم الانتخابية على كفاءة الديمقراطية والإرادة في الإصلاح في هذا النوع من الدول. لماذا؟

في الديمقراطيات الناشئة، كثيراً ما يتم تحديد الأطر القانونية للعملية الانتخابية في الدساتير ما يزيد في صعوبة تعديل النظام الانتخابي، وحتى حين يحتاج تعديل الأخير إلى وضع قوانين جديدة دون الحاجة إلى تعديل دستوري، قد يكون من السهل على الأغلبية المحسوبة على النظام الحاكم تعديله. وبالتالي، فإنه في مثل هذه الديمقراطيات – وبخاصة تلك التي يشرف فيها على عملية التحول ذات الأنظمة الأحادية أو يبقى فيها الحزب الواحد هو الحزب المهيمن على الحياة السياسية – يمكن اتخاذ من وضع أو تعديل أو تغيير النظام الانتخابي مدخـلاً ملائماً للحكم على نية هذه الأنظمة في التغيير الفعلي نحو مؤسسات الحكم الديمقراطي.

لقد ناقشت أدبيات الدراسات الديمقراطية مسألة أي نظام انتخابي أنسب للديمقراطية؟ وهل تتراتب كفاءة الديمقراطية بترتيب معين للأنظمة الانتخابية؟ أم يكفي وجود أي نظام انتخابي؟ وهل يملك نظام التمثيل النسبي واقعياً الأفضلية كما يملكها نظرياً؟

بالنسبة إلى موريس دوفرجيه (M. Dauverger)، فقد اعتبر أن نظام التمثيل النسبي يضعف الديمقراطية بينما نظام الأغلبية يعمل على تقويتها. أما ليبهارت (A. Lijphart)، فجادل بأن نظام التمثيل النسبي أكثر كفاءة للديمقراطية ومبادئها؛ لأنه يضمن تمثيل الأقلية والتعبير بفعالية أكبر عن خيارات المواطنين‏[16]. أما بيبا نوريس (Pipa Norris)‏[17]، فمن خلال تحليلها لنقاط القوة والضعف في النظامين، توصلت إلى أن كفاءة الديمقراطية ليست مرتبطة بنظام بعينه، لكنها سجلت أن القيم المرتبطة بكل منهما مختلفة. فالقيمة المرتبطة بنظام الأغلبية تتمثل بالاستقرار؛ أي بناء مؤسسات قوية وحكومة فعالة بصلاحيات واسعة وبرلمان أحادي لتفادي الانشقاقات. أما القيمة المرتبطة بالنظام النسبي فهي التمثيل؛ أي التعبير عن خيارات المواطنين وتضمين آراء الجميع حتى وإن كانت أقلية.

وعلى ذلك، وإذا اعتبرنا أن قيمة التمثيل أكثر تعبيراً عن التعددية كبديل عن الأحادية في ديمقراطيات الموجة الثالثة، فيمكن المجادلة بأن أكثر الأنظمة خدمة للديمقراطية في هذه الدول هو التمثيل النسبي على وجه المقارنة مع نظام الأغلبية. ويمكن تأكيد هذه النتيجة عملياً من خلال تحليل نتائج الدراسة التي أجرتها المنظمة غير الحكومية «بيت الحرية» (Freedom House)‏[18] حول درجة الديمقراطية في دول الموجة الثالثة في أوروبا الشرقية والدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي.

لقد جرى في دول أوروبا الشرقية وتلك المستقلة عن الاتحاد السوفياتي نقاش حاد حول النظام الانتخابي الأنسب لمرحلة التغيير السياسي الجديدة. وقد مثل هذا النقاش مجموعتان تعكسان تصورين مختلفين بما يخدم مصالح كل طرف‏[19]؛ حيث فضل الشيوعيون – الذين كانوا لا يزالون أقوياء نسبياً – أحد أبسط أنظمة الأغلبية وهو نظام الفائز الأول‏[20]؛ بما يضمن لهم تحقيق الأغلبية (ألبانيا، بيلاروسيا، أوكرانيا، كازاخستان، طاجاكستان، قيرغيزستان، أوزبكستان). أما في الدول التي كانت فيها المعارضة الليبرالية أقوى نسبياً، فقد تم تبني نظام القائمة النسبية (بلغاريا، كرواتيا، يوغسلافيا، أرمينيا، ليتوانيا، المجر، روسيا، أذربيجان، جورجيا). لكن مع التراجع النسبي للشيوعيين مع مرور الوقت، استعاضت بعض الأنظمة عن نظام الفائز الأول بالنظام المختلط (ألبانيا، كازاخستان، طاجاكستان، قيرغيزستان) أو بنظام القائمة المفتوحة (بلغاريا، كرواتيا، يوغسلافيا، روسيا، أوكرانيا، مقدونيا). (انظر الجدول الرقم (1) الذي يلخص النتائج).

  • تعليقات على الجدول

1 – يبدو أن اختيار نظام الأغلبية أو النظام المختلط، كان احتياطاً من الأنظمة الحاكمة للبقاء في السلطة بطريقة مشروعة، لذا كان تقييم كفاءة الديمقراطية من خلال العملية الانتخابية ضعيفاً.

2 – التحول من نظام الأغلبية نحو أحد النظامين المختلط أو النسبي في بعض الدول، رافقه تقييم أعلى في شفافية الانتخابات وبالتالي في كفاءة الديمقراطية.

3 – الدول التي أخذت بنظام التمثيل النسبي سجلت درجات أعلى في تقييم شفافية الانتخابات، وبالتالي في كفاءة الديمقراطية.

4 – الدول الأكثر ديمقراطية من بين الدول المدرجة في الجدول، هي تلك الدول التي تبنت نظام القائمة النسبية المفتوحة ثم القائمة المغلقة، يليها النظام المختلط فأخيراً نظام الأغلبية.

أخيراً، وبناءً على ما سبق، يمكن تأكيد الفرضية التي تربط بين اختيار نظام التمثيل النسبي والتحول التدريجي السليم نحو الديمقراطية.

الجدول الرقم (1)

النظام الانتخابي في دول أوروبا الشرقية والدول المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي

التنقيطالنظام الانتخابي في 2006النظام الانتخابي الأول ما بعد التحولالدولة
حرة جزئياًالنظام المختلطالفائز الأولألبانيا
حرة جزئياًالنظام المختلطالنظام المختلطأرمينيا
ليست حرةالفائز الأولالنظام المختلطأذربيجان
ليست حرةالفائز الأولالفائز الأولبيلاروسيا
حرة جزئياًالقائمة النسبيةالقائمة النسبيةالبوسنة
حرةالقائمة النسبيةالنظام المختلطبلغاريا
حرةالقائمة النسبيةالنظام المختلطكرواتيا
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةالتشيك
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةإستونيا
حرة جزئياًالنظام المختلطالنظام المختلطجورجيا
حرةالنظام المختلطالنظام المختلطالمجر
ليست حرةالنظام المختلطالفائز الأولكازاخستان
حرة جزئياًالفائز الأولالفائز الأولقيرغيزستان
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةلاتفيا
حرةالنظام المختلطالنظام المختلطليتوانيا
حرة جزئياًالقائمة النسبيةالفائز الأولمقدونيا
حرة جزئياًالقائمة النسبيةالقائمة النسبيةمولدوفا
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةبولندا
حرةالقائمة النسبيةالقائمة النسبيةرومانيا
ليست حرةالقائمة النسبيةالنظام المختلطروسيا
حرةالقائمة النسبيةالنظام المختلطصربيا
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةسلوفاكيا
حرةالقائمة النسبية مفتوحةالقائمة النسبية مفتوحةسلوفينيا
ليست حرةالنظام المختلطالفائز الأولطاجاكستان
ليست حرةالفائز الأولالفائز الأولتركمانستان
حرةالقائمة النسبيةالفائز الأولأوكرانيا
ليست حرةالفائز الأولالفائز الأولأوزبكستان

المصدر: Sarah Birch, «Electoral System Change in New Democracies,» paper presented at: The Ontario Citizens Assembly, 11 November 2006, p. 7, <http://www.citizensassembly.gov.on.ca/en-CA/docs/Week​end%20Five/Electoral%20System%20Change%20in%20New%20Democracies.pdf>.

 

رابعاً: النظام الانتخابي الجزائري في ظل التعددية

تناسباً مع سمة اللااستقرار الذي ميَّز النظام السياسي الجزائري في مرحلة الانفتاح التي كرسها دستور 1989، أخذ النظام الانتخابي الجزائري ذات السمة. وشكلت مسألة اختيار النظام الانتخابي المناسب للواقع الجزائري إحدى أكثر المسائل إثارة للنقاش في عملية الإصلاح السياسي في الجزائر منذ ذلك الحين.

بالنسبة إلى حالة التحول الديمقراطي في الجزائر، فإنه من المناسب النظر إليها من منظور تنازلي من الأعلى نحو الأسفل (Top-Down) لأن التحول نحو التعددية جاء بقرار من النظام ذاته، ورغم أن المطالب الشعبية في أحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988 لا يمكن تجاهلها، إلا أنها لم تكن بالقوة اللازمة للنظر إلى التحول الديمقراطي تصاعدياً (Down-Top) أي بقوة المطالب الشعبية. وقد كان هذا يعني أن النظام ذاته في عهد الأحادية، هو المشرف على عملية التحول نحو الديمقراطية في عهد التعددية. وفي هذا السياق، ورغم أن الإطار التأسيسي كان تعددياً؛ بحيث هناك دستور تعددي (1989) وقانونا أحزاب وانتخابات تعدديَّان (5/7 آب/أغسطس على التوالي من نفس السنة)، إلا أن المؤسسات كانت لا تزال أحادية – رئيس جمهورية، مجلس نيابي ومجالس محلية يسيطر عليها حزب جبهة التحرير الوطني‏[21] – وقد شكل هذا الوضع محكاً حقيقياً لقياس إرادة النظام السياسي الجزائري في الإصلاح الديمقراطي؛ لأن الأخير – بفضل سيطرة الحزب الواحد في مرحلة ما قبل 1989 على البرلمان؛ أي حزب جبهة التحرير الوطني – كان يملك إمكانية إصدار وتعديل قانون الانتخابات ووضع الشروط الكفيلة ببقائه في السلطة، أو جعل النظام الانتخابي تمثيلياً للخارطة السياسية التعددية في الجزائر.

منذ وضع صدور أول قانون انتخابات في آب/أغسطس 1989، تعرض القانون للتعديل في عدة مناسبات لاعتبارات مختلفة. فقد اعتُمد في قانون 7 آب/أغسطس 1989، نمط الاقتراع النسبي مع أفضلية الأغلبية في دور واحد، وقد كان هذا النظام أقرب إلى النظام المختلط؛ لأن القائمة التي لا تحصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات المعبر عنها – وبالتالي تحوز جميع المقاعد – يكفيها الحصول على الأغلبية البسيطة لكي تحوز 50 بالمئة +1 من المقاعد، أما المقاعد الأخرى فتقسم ما بين الأحزاب التي حصلت على 10 بالمئة على الأقل من الأصوات، بطريقة تناسبية مع عدد الأصوات المتحصل عليها‏[22]. ولأنه جاء محل خلاف شديد، فقد تعرض هذا القانون لتعديلات جديدة.

أول تعديل كان ذلك الذي تم في 27 آذار/مارس 1990، حين تم تعديل قاعدة توزيع المقاعد باعتماد نظام القائمة النسبية؛ بحيث أصبحت القائمة الفائزة بأغلبية الأصوات لا تملك الحصول على جميع المقاعد، وإنما فقط بعدد مقاعد يتناسب والنسبة المئوية للأصوات المتحصلة‏[23]. أما التعديل الثاني فكان في 2 نيسان/أبريل 1991، وبمقتضاه تم إلغاء نظام الاقتراع على القائمة وعوض بنظام الاقتراع على الاسم الواحد بالأغلبية في دورين. وحسب هذا النظام يتم التنافس في كل دائرة انتخابية‏[24] على مقعد واحد، وإذا لم يحرز أي مرشح الأغلبية المطلقة في الدور الأول فهناك دور ثان يشارك فيه المرشحان صاحبا أكبر عدد من الأصوات في الدور الأول‏[25]. وتحضيراً لأول انتخابات بعد إلغاء المسار الانتخابي عام 1991، تم تعديل النظام الانتخابي مرة أخرى بمقتضى القانون العضوي المتعلق بنظام الانتخابات في 6 آذار/مارس 1997، وأهم ما جاء فيه العودة إلى نظام القائمة النسبية؛ بحيث يتم توزيع المقاعد حسب عدد الأصوات المتحصل عليها مع تطبيق قاعدة الباقي الأقوى‏[26]، على أن تستثنى القوائم التي لم تحصل على نسبة 5 بالمئة على الأقل. ولم تمس تعديلات القانون الانتخابي في 2004 و2010 بجوهر قاعدة التمثيل النسبي هذه.

خامساً: تقييم النظام الانتخابي الجزائري في ظل التعديلات المستمرة

يبدو أن تجربة التحول الديمقراطي في الجزائر لا تختلف كثيراً عن تجارب باقي دول الموجة الثالثة، بحيث تبدو في أغلبها الصلة الوثيقة بين النظام الانتخابي والنظام السياسي مع رجحان كفة تأثير النظام السياسي في النظام الانتخابي. حيث إن السيطرة الأحادية للحزب الواحد في هذه الدول على المؤسسات التشريعية في الفترة الانتقالية غالباً ما يمنح الحزب الحاكم القدرة على صياغة وتعديل النظام الانتخابي بما يخدم مصالحه في البقاء في الحكم.

في الحالة الجزائرية، بدا جلياً أن الحزب الواحد في فترة ما قبل الانفتاح أي حزب جبهة التحرير الوطني، كان يضع في كل مرة، بفضل سيطرته على المجلس الشعبي الوطني، قواعد للنظام الانتخابي تضمن له الفوز والاستمرار في الحكم. ففي المرة الأولى تم اعتماد نظام الاقتراع النسبي على القائمة مع أفضلية الأغلبية في دور واحد؛ لأن جبهة التحرير كانت ترى بأن أحزاباً ناشئة قيد التأسيس ستكون غير قادرة على منافسة الجبهة، بإرثها التاريخي وثقلها الجماهيري، في انتخابات كانون الأول/ديسمبر 1989 المحلية‏[27]. لكن التأجيل غير المتوقع لتلك الانتخابات بستة أشهر كاملة إلى حزيران/يونيو 1990، دفع بجبهة التحرير إلى تغيير قراءتها للخارطة السياسية التي استقوت أحزاب المعارضة فيها بفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة؛ لذا بادرت – من طريق المجلس الشعبي الوطني – إلى تعديل قانون الانتخابات في آذار/مارس 1990 باعتماد التمثيل النسبي؛ لأنها كانت تعتقد بأنها يمكن أن تتحصل على الأغلبية البسيطة في أسوأ الحالات.

حين جاءت النتائج مخيبة بفوز المعارضة ممثلة بحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أجبرت جبهة التحرير – بفضل سيطرتها على المجلس الشعبي الوطني دائماً – على تغيير النظام الانتخابي مرة أخرى استعداداً للانتخابات التشريعية ليكون أكثر ايجابية بالنسبة إليها. وقد حدث ذلك في تعديل نيسان/أبريل 1991، الذي ألغى نظام الاقتراع على القائمة وتم تعويضه بنمط الاقتراع على الاسم الواحد بالأغلبية في دورتين، ومن أجل ذلك تم أيضاً تعديل قانون الدوائر الانتخابية التي تم رفعها إلى 542 (تنتخب عدداً مساوياً من النواب) وهو عدد كبير مقارنة بعدد النواب آنذاك (295)‏[28]. وقد بدا أن هذا التعديل يخدم أيضاً مصالح حزب جبهة التحرير؛ لأنه من المعروف أن الوعاء الانتخابي للجبهة موجود في الأرياف فكان من مصلحتها تضخيم عدد الدوائر الريفية.

مرة أخرى جاءت نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 معاكسة لحسابات حزب جبهة التحرير الوطني، حين فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالأغلبية المطلقة (188) مقعداً، بينما حصلت جبهة التحرير الوطني على نصف أصوات الجبهة الإسلامية (1.6 و3.2 مليون صوت على التوالي) وضعف أصوات جبهة القوى الاشتراكية (لم تفز بسوى 16 مقعداً)‏[29] وأقل حتى من جبهة القوى الاشتراكية التي حصدت 25 مقعداً. حتى وإن ألغي المسار الانتخابي بعد ذلك في 14 كانون الثاني/يناير 1992، فقد شكلت هذه النتائج التجربة التي تم على ضوئها الرجوع إلى نظام القائمة النسبية في قانون 1997 ليستمر إلى غاية اليوم.

خاتمة

تقدم لنا تجارب الانتقال في دول الموجة الثالثة – خاصة في أفريقيا وآسيا – نماذج متكررة لحالات من الاستعصاء الديمقراطي؛ أي الفشل الهيكلي في تفكيك بنى الأنظمة التقليدية الديمقراطية وشيْد نظم ديمقراطية جديدة. فبعد عقود من موجة التحول الثالثة، لم نشهد سوى حالات قليلة لديمقراطيات مستقرة وراسخة. أما الغالب، فهو ظهور أشكال من النظم السياسية «الهجينة»، التي لا هي نظم ديمقراطية كاملة، ولا هي نظم غير ديمقراطية خالصة، بل تجمع بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة بين بعض عناصر الأولى وخصائص الثانية. إذ لا تفلح أغلب التجارب إلا في إعطائنا نماذج هشة لديمقراطيات انتخابية، تعددية مخترقة ومعارضة شكلية. وبغض النظر عن الأسباب «البنيوية» العميقة لهذا الفشل؛ في كون الديمقراطية موضوعاً لمشروع سياسي ومجتمعي وليس مجرد مشروع إصلاح مؤسساتي ودستوري، فإن الفشل في الإصلاحات الأخيرة «الإجرائية»، يصنف – أيضاً – في خانة أسباب فشل التحول الديمقراطي، ومثال ذلك ما أثاره المقال حول إصلاح نظم الانتخابات.

يمكن القول من خلال التجربة الجزائرية، وتطبيقاً على كثير من تجارب الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي، أن تصميم، تعديل أو تغيير النظم الانتخابية في فترة وجيزة، لا يعد مؤشراً إيجابياً على جدية هذه الأنظمة في التحول الديمقراطي الحقيقي، رغم بعض الخطوات المحققة التي تبقى في المحصلة بطيئة، بل يؤشر ذلك إلى وجود إرادة للأنظمة المشرفة على التحول الديمقراطي في التحكم في عملية الإصلاح السياسي وتوجيهه، والتحايل على قواعد الديمقراطية بهدف البقاء في الحكم بطريقة مشروعة؛ عبر الانتقال من صيغة «الحزب الواحد» إلى صيغة «الحزب الوحيد» الذي يسيطر وحده على الحياة السياسية رغم وجود أحزاب أخرى.

من أجل ذلك، وعلى نحو متطابق مع التحول الديمقراطي الذي تبقى أنجح تجاربه هي تلك التجارب التي يكون فيها التحول تصاعدياً من مطالب مجتمعية نحو استجابة حكومية، فإن أنجح النظم الانتخابية هو الذي يجب أن يأتي كذلك – مهما كان نوعه – تصاعدياً؛ أي كنتاج لاجتماع مختلف القوى السياسية في الحكم والمعارضة وليس مفروضاً من الأعلى. لذا، فإنه وعلى عكس أغلب دول أوروبا الشرقية التي سجلت فيها درجات أعلى للديمقراطية بعد الانتقال من نظام الأغلبية نحو التمثيل النسبي، تبدو الصورة في الجزائر عكسية حيث لم يرتبط الانتقال نحو نظام التمثيل النسبي بالضرورة بتسجيل مستوى أفضل للديمقراطية، وربما كان العكس هو الأقرب ليكون الصحيح.

 

قد يهمكم ايضاً  الحماية الدستورية لحرية التعبير في الدول المغاربية : دراسة حالة تونس، الجزائر، المغرب

المصادر: 

(*) نُشرت هذه الدراسة في المجلة العربية للعلوم السياسية العدد المزدوج 51-52 لصيف-خريف 2016.

(**) رابح زغوني: أستاذ العلوم السياسية، جامعة 8 ماي 1945 – قالمة، وباحث في جامعة الحاج لخضر – باتنة – الجزائر.

البريد الإلكتروني: rabahzeghouni@yahoo.com

[1] حسنين توفيق إبراهيم، «الانتقال الديمقراطي: إطار نظري،» مركز الجزيرة للدراسات، 14 شباط/فبراير 2013، tp://studies.aljazeera.net/files/arabworlddemocracy/2013/01/201312495334831438.html>

[2]   Havard Strand, Havard Hegre and Scott Gates, «Why Waves?: Global Patterns of Democratization, 1820‑2008,» (Centre for the Study of Civil War, Department of Political Science, University of Oslo, 29 June 2012), p. 1.

[3]   Charles Kursman, «Waves of Democratization,» Studies in Comparative International Development, vol. 33, no. 1 (March 1998), pp. 43‑50.

[4]   Samuel P. Huntington, «Democracy’s Third Wave,» Journal of Democracy, vol. 2,
no. 2 (Spring 1991), p. 12.

[5]   المصدر نفسه، ص 13.

[6]   Michael D. H. Robbins and Mark Tessler, «The Effect of Elections on Public Opinion Toward Democracy: Evidence from Longituimnal Survey Research in Algeria,» Comparative Political Studies, vol. 45 (October 2012), p. 5.

[7]   مفتاح عبد الجليل، «البيئة الدستورية والقانونية للنظام الانتخابي الجزائري،» مخبر أثر الاجتهاد القضائي على حركة التشريع (جامعة محمد خيضر بسكرة – الجزائر)، العدد 4 (آذار/مارس 2008)، ص 169.

[8]   Amanda Hoffman, «Political Parties, Electoral System and Democracy: A Cross-National Analysis,» Journal of Political Research, vol. 44 (2005), p. 232.

[9]   شبكة المعرفة الانتخابية، «ما هي النظم الانتخابية،» <http://aceproject.org/ace-ar/topics/es/onePage>.

[10] Hoffman, Ibid., p. 231.

[11] Sarah Birch, «Electoral System Change in New Democracies,» paper presented at: The Ontario Citizens Assembly, 11 November 2006, p. 1, <http://www.citizensassembly.gov.on.ca/en-CA/docs/Week​end%20Five/Electoral%20System%20Change%20in%20New%20Democracies.pdf>.

[12] شبكة المعرفة الانتخابية، المصدر نفسه.

[13] إرواء فخري عبد اللطيف، «مبادئ النظام الانتخابي في العراق لعام 2010،» <http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=20674>.

[14] Birch, «Electoral System Change in New Democracies,» p. 5.

[15] شبكة المعرفة الانتخابية، «ما هي النظم الانتخابية».

[16] Hoffman, «Political Parties, Electoral System and Democracy: A Cross-National Analysis,» pp. 232‑234.

[17] المصدر نفسه، ص 234.

[18] منظمة أمريكية غير حكومية تعنى بمسائل التحول الديمقراطي في دول العالم وسبل دعمها. يمكن الاطلاع بتفصيل أكبر عن أهدافها، وظائفها وتقاريرها في موقع المنظمة ذاته: <http://www.freedomhouse.org>.

[19] Birch, «Electoral System Change in New Democracies,» pp. 3‑4.

[20] يعرف أيضاً نظام التعددية للدائرة الانتخابية أحادية التمثيل، حيث يفوز بالمقعد الممثل للدائرة المرشح الحائز أعلى عدد من الأصوات.

[21] صالح بلحاج، «الجزائر: تطور النظام الانتخابي وأزمة التمثيل،» السياسة الدولية (كانون الثاني/يناير 2006)،    <http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=798932&eid=7991>.

[22] Youcef Bouandel and Yahia H. Zoubir, «Algeria’s Election: Prelude to Democratisation,» Third World Quarterly, vol. 19, no. 2 (1998), p. 183.

[23] بلحاج، المصدر نفسه.

[24] حدد قانون الدوائر الانتخابية المعدل في 3 نيسان/أبريل 1991 عدد الدوائر بـ 542، لكن وفي ذات السنة تحدت ضغط المعارضة وقبل إجراء الانتخابات التشريعية تم خفض عدد الدوائر إلى 430.

[25] بلحاج، المصدر نفسه.

[26] عبد الجليل، «البيئة الدستورية والقانونية للنظام الانتخابي الجزائري،» ص 174.

[27] بلحاج، المصدر نفسه.

[28] المصدر نفسه.

[29] Bouandel and Zoubir, «Algeria’s Election: Prelude to Democratisation,» p. 183.

 


رابح زغوني

أستاذ العلوم السياسية، جامعة 8 ماي 1945، وباحث في جامعة الحاج لخضر - باتنة- الجزائر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز