[1]أخط هذه الكلمات في اليوم الذي يصادف الذكرى الثانية والسبعين لتحرك نخبة من القوات المسلحة المصرية بقيادة الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر ضد النظام القائم آنذاك في مصر، ليكون تحركهم بداية لما عُرف في تاريخ مصر والعرب، بل كل الشعوب المقهورة، بثورة يوليو 1952، وهي الثورة التي كتبت لمصر والعرب والأفارقة والعالم الثالث تاريخًا جديدًا على أساس من قيم التحرر الوطني واستقلال الإرادة السياسية، والاندفاع في طريق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وانطوت مسيرة الثورة على إنجازات فارقة في مجال التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، وخطوات غير مكتملة في مجال الوحدة العربية والديمقراطية، وانكسار أليم أمام عدوان 1967. لكن اللافت للنظر أن هذا الانكسار كان بدايةً لتصحيح مسار الثورة أنتج صمودًا أسطوريًا في مواجهة العدوان، واستنزافًا متصاعدًا لقواه تُرجم لاحقًا في أهم إنجاز للجيوش العربية النظامية في مواجهة إسرائيل في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973.
يطول التوقف أمام إنجازات ثورة تموز/يوليو 1952 لاستيعاب دروسها، لكن ليسمح لي القارئ الكريم بالتركيز في هذه السطور على موقع التحرر الوطني من هذه الثورة بمناسبة المواجهة الضارية التي تدور رحاها الآن بين فصائل المقاومة في غزة والكيان الصهيوني الذي يمارس جريمة إبادة جماعية بكل المقاييس في ظل عجز عربي ودولي عام عن وقف هذه الجريمة. ولو كانت قيم هذه الثورة حاضرة بيننا الآن لكنا في ظل الصمود الأسطوري للمقاومة وأدائها المعجز في قلب عملية تحرير فلسطين من المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني.
كان المبدأ الثاني من مبادئ الثورة هو القضاء على الاستعمار، ورغم أن الفهم المباشر لهذا الهدف كان ينصرف إلى التخلص من بقايا الاحتلال البريطاني لمصر إلا أن ما كتبه عبد الناصر بعد سنتين فحسب من نجاح الثورة في كتيّب فلسفة الثورة لم يدَع مجالًا للشك في أن رؤية قائدها هذا المبدأ تنسحب على الوطن العربي ككل، بل وتمتد إلى أفريقيا، بعد أن جعل مما سمّاه الدائرة العربية الدائرة الأولى لسياسة مصر الخارجية، تليها الدائرة الأفريقية، وتحدث عن ارتباط الأمن المصري بالأمن العربي، وخص بالذكر قضية فلسطين التي أكد أن بدايات وعيه العربي قد ارتبطت بها، وقال ما نصه إن «القتال في فلسطين ليس قتالًا في أرض غريبة، وهو ليس انسياقًا وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس»، وهكذا انخرط عبد الناصر في عملية تاريخية لحركات التحرر العربية من دون استثناء، وقدّم بعض هذه الحركات نماذج تاريخية لحركات التحرر العربية، كما يبدو واضحًا من تجربة النضال الجزائري المسلح من أجل الاستقلال الذي انتزعه من فرنسا في أقل من ثماني سنوات، بعد احتلال دام قرابة قرن وثلث القرن، وبعد أن كانت العقيدة الاستعمارية الفرنسية مصرة على حسبان الجزائر أراضي فرنسية في ما وراء البحار، وقدم الشعب الجزائري مليونًا ونصف مليون شهيد في هذه الملحمة التاريخية، بل وأدى انتصاره إلى انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة، والتأثير في السياسة الفرنسية الاستعمارية في عموم أفريقيا. كذلك مثلت معركة التحرر الوطني في جنوب اليمن التي تلاحمت مع معركة الحفاظ على الثورة الجمهورية في شماله نموذجًا فذًا على فاعلية المساندة العربية متمثلة بالدور المصري في هذا الصدد، وقد وصل الأمر إلى ما يشبه الفرار من جانب قوات الاحتلال البريطاني من الجنوب بعد أكثر قليلًا من أربع سنوات على تفجُّر المعركة الحاسمة لتحرير جنوب اليمن على يد أبنائه الأبطال، ويُلاحظ أن القوات المصرية في شمال اليمن لم تنسحب منه رغم هزيمة 1967 إلا بعد إتمام الانسحاب البريطاني من جنوبه.
احتلت فلسطين في هذا السياق مكانة خاصة، فدعا الرئيس جمال عبد الناصر في 23 كانون الثاني/ يناير 1963 إلى قمة عربية عاجلة تتجاوز كل الخلافات القائمة آنذاك بين النظم العربية، وكانت ممتدة من مغرب الوطن العربي إلى مشرقه، تكون مهمتها اتخاذ القرارات اللازمة لمواجهة المشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن، وعُقدت القمة بالفعل في كانون الثاني/يناير 1964 في القاهرة، ووافقت على مشروعات لمواجهة المشروع الإسرائيلي، وقيادة عربية موحدة تم تمويلها بالكامل من الدول العربية لحماية هذه المشروعات من أي اعتداء إسرائيلي، والأهم من ذلك أن قمة القاهرة وقمة الإسكندرية التي تلتها في أيلول/سبتمبر من السنة نفسها قد أسستا للكيانية الفلسطينية المستقلة سياسيًا وعسكريًا، متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني. وبعد هزيمة 1967 وصعود المقاومة الفلسطينية ظلت المقاومة الفلسطينية تحتل المكانة الأولى في فكر قائد الثورة وتحركاته حتى اللحظات الأخيرة في حياته، فدعا إلى أسرع قمة في تاريخ القمم العربية عندما شعر بالخطر على المقاومة في سياق الصدام المسلح مع السلطات الأردنية في أيلول/سبتمبر 1970، وقد كان أن عُقدت القمة صبيحة دعوة عبد الناصر إليها رغم حدة التوتر بين عدد من القادة المشاركين، ونجحت في وقف إطلاق النار وحقن الدماء العربية ليلفظ عبد الناصر أنفاسه الأخيرة وهو يودع أمير الكويت آخر من غادر القاهرة بعد انتهاء القمة، فما أبعد الليلة عن البارحة!
تخوض فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة منذ أكثر من تسعة شهور نضالًا ضاريًا ضد الاحتلال الإسرائيلي قدمت فيه آلافًا من الشهداء، وارتقى فيه من أهل غزة ما يزيد بالتأكيد حتى الآن على أربعين ألف شهيد وأُصيب نحو مئة ألف من دون أن تتلقى أي دعم رسمي عربي فعلي، أو على الأقل من دون أن تكون هناك جهود فاعلة لوقف جرائم القتل والتدمير والقضاء على كل مقومات الحياة في غزة، ولم تتجاوز المواقف العربية الرسمية عبارات الإدانة ومطالبة الآخرين بضرورة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، لكن الجهد الإسرائيلي الممنهج لإبادة أهل غزة وتدمير مقومات حياتهم الصحية والتعليمية وتجويعهم وتعطيشهم استمر بلا توقف، بل لقد امتد الإجرام الصهيوني إلى الضفة ليس من جانب الجيش الإسرائيلي فقط، وإنما على يد قطعان المستوطنين المستظلين بحماية هذا الجيش الذي يتبجحون بأنه الجيش الأكثر التزامًا في العالم بالقيم الإنسانية والقانون الدولي، ثم وصلت الأمور إلى ما هو أدهى وأمَرّ، فقد بدأ هجوم البعض، ومنهم فلسطينيون للأسف، على المقاومة تارة بزعم أنها قامت بعمل غير رشيد جلَبَ القتل والدمار لغزة وأهلها، وكأن السلوك الرشيد على شاكلة أوسلو وأخواتها قد جلب غير ذلك؛ وتارة أخرى بالتلميح الخبيث إلى أن إسرائيل تغاضت عن تأسيس حماس، وكانت تسمح بنقل الأموال إليها من قطر، وكأنه لا مكان لمبدأ الغاية تبرر الوسيلة في السياسة، وتارةً ثالثة باتهام المقاومة بأنها توفر لإسرائيل الذريعة لإبادة الشعب الفلسطيني والقضاء على مقدراته، وكأن إسرائيل لا تفعل ذلك على نحو ممنهج منذ نشأتها عام 1948، فهل يصبح أقصى حلمنا هو شعار «ارفعوا أيديكم عن المقاومة»؟
كتب عبد الناصر في فلسفة الثورة أنه في لحظات توقُّف القتال في فلسطين في الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى كان يتجول بين الأطلال التي خلفها القتال، وفي إحدى المرات شاهد طفلة فلسطينية في عمر ابنته خرجت في ظل الخطر والرصاص الطائش مندفعة تحت وطأة الجوع والبرد تبحث عن لقمة عيش أو خِرقة قماش، وقال لنفسه «قد يحدث هذا لابنتي»، فما عساه يقول اليوم لو علم أن أمة بأسرها تشاهد شعبًا بأكمله يتعرض لجريمة الإبادة بالقتل والتجويع وتدمير مقومات الحياة من دون أن تحرك ساكنًا؟.
كتب ذات صلة:
الطليعة العربية : التنظيم القومي السري لجمال عبد الناصر (1965-1986)
المصادر:
هذه المقالة هي افتتاحية العدد 546 من مجلة المستقبل العربي العدد 546 لشهر آب/أغسطس 2024.
.[1]أحمد يوسف أحمد: أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية.
أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.