المؤلف: الزواوي بغورة
مراجعة: يوسف أشلحي(**)
الناشر: دار الطليعة، بيروت
سنة النشر: 2017
عدد الصفحات: 407
بعيداً هذه المرة من الورش الفلسفي الذي لطالما انشغل به المفكر الجزائري الزواوي بغورة، وتعني بذلك العناية الحيوية التي أولاها للمشروع الفلسفي الفوكوي تأليفاً وترجمة[1]، سيدير دفة نظره هذه المرة، من خلال مؤلفه الجديد اللغة والسلطة، على بيان أوجه القول الفلسفي في ضرب العلاقة التي تشد شداً اللغة والسلطة. وتجدر الإشارة إلى أن إصراره على تسليط الضوء على مبحث جليل من المباحث اللافتة التي تخلّلت الفلسفة المعاصرة، ويتعلق الأمر بمبحث فلسفة اللغة، هو أمر سبق أن التفت إليه في كتابه الفلسفة واللغة[2]. غير أنه آثر في كتابه اللغة والسلطة تركيز جهد البحث عن قضية مركزية من القضايا المتصلة بفلسفة اللغة، ويتعلق الأمر بالسلطة واللغة التي كان أشار إليها على نحو مقتضب في الفصل الأخير من كتابه الفلسفة واللغة[3]. وعلى خلاف النزوع النظري البحت الذي خيّم على السفر الفكري الذي خاض أطواره في كتاب الفلسفة واللغة، فإنه سيكون هذه المرة شديد الحرص على أن يولي العناية لمسألة اللغة والسلطة وفق منوالَي النظر والعمل على حد السواء؛ وهو الأمر الذي باشره من خلال استحضار بعض إسهامات الفكر العربي والإسلامي بقديمه وحديثه التي لامست هذه الإشكالية على نحو عميق (أولاً)، إلى جانب النظر في بعض التصورات الفلسفية التي قاربت مسألة اللغة والسلطة في الفكر الغربي المعاصر (ثانياً). كما سيحرص من جهة أخرى على عدم الاكتفاء بمجرد أقوال المفكرين بصدد هذه المسألة والتحرّي عنها على نحو نظري خالص، بقدر ما سيكِبّ على فحص الواقع العيني لهذه المسألة المتشابكة من خلال استحضار النقاش الحامي الوطيس الذي دار رحاه بين بعض المثقفين والمفكرين، والعمل على مساءلة هذه القضية ضمن سياق بعض السياسات الثقافية في ظل النقاش الدائر حول مسألة الهوية (ثالثاً).
أولاً: مساءلة اللغة والسلطة في الفكر العربي الإسلامي
في معرض بيان تمفصل العلاقة بين المعرفة والسلطة، والكشف عن التأثير الذي ينجم عن طبيعة العلاقة التي تطبع تجليات اللسان ومجريات الدولة تقدّماً وتقهقراً، سيشرع الزواوي في القسم الأول من كتابه اللغة والسلطة الذي يضم ثلاثة أقسام في تحليل ثلاث رؤى فكرية خبرها مجرى الفكر العربي الإسلامي قديماً وحديثاً؛ ولئن آثر المؤلف حصر النظر في ما بين المعرفة والسلطة من اتصال في الفلسفة الإسلامية الوسيطة على إسهام فريد منفرد، يتعلق بوجهة النظر الذي جاد بها المفكر والمؤرخ ابن خلدون، فإن باحثنا سيرتئي فحص منزلة اللغة ضمن نفر من الإسهامات التي خلفها الفكر العربي المعاصر في معرض تحليل جدل اللغة والسلطة، وذلك من خلال التفاتٍ نبيه نحو مناولة هذه المسائل الدقيقة في مشاريع فكرية تتناول هموماً فكرية وحضارية كبرى؛ ونعني بذلك الالتفات إلى مساءلة اللغة في المشروع الفكري لدى المفكر هشام شرابي الذي عرف بدراساته ذات المنزع السوسيولوجي، والذي آل على نفسه نقد التخلف الاجتماعي والحضاري الذي نرزح تحت وطأته المجتمعات العربية، وانشغل بتفكيك تفكيك النظام الأبوي وتقويم البنى التقليدية التي ما فتئت تحول دون أن تعانق هذه المجتمعات غداً أفضل. كما أن التفطُّن إلى الكشف عن منزلة اللغة في المشروع الفكري الذي طرحه المفكر زكي نجيب محمود، لهو أمر نبيه أن يُقبل عليه مؤلف كتاب اللغة والسلطة، وبالخصوص ضمن مشروع فكري لطالما عرف عليه أنه ضرب من الحرص على تنزيل مذهب فلسفي معاصر وتبيئته، ويتعلق الأمر بتيار الوضعية المنطقية[4].
ولتأكيد التلازم الوطيد الذي يوثق رباط المعرفة والسلطة أو على نحو أدق اللغة والسلطة من حيث اعتبار اللغة أحد وجوه المعرفة، سيقع اختيار الزواوي على الكشف عن المسار النظري والعملي الذي عاشه ابن خلدون وعايشه، لما تقدمه التجربة الخلدونية من إمكان الجمع بين الأمرين؛ إذ إن «حياته لم تعرف انقطاعاً بين طلب العلم وطلب السلطة» (ص 17). فلا يمكن تصور نموذج ضارب للدولة وضمان انتشار حيوي للسلطة دونما استحضار الأدوات المعرفية وتقوية قيمة اللسان والكلمة؛ وذلك بالنظر إلى كونها تمثل إحدى أهم تقنيات الحكم وأبرز الآليات الحيوية التي تؤمَّن للدولة في أطوارها المتقدمة في ممارسة «سلطتها الانضباطية»، وترسيخ إشعاعها محلياً وخارجياً. فعندما تُفعّل المعرفة داخل رحم الدولة وتصبح إحدى أدواتها الضاربة، حينئذ تتحول المعرفة ذاتها إلى سلطة: «تصبح المعرفة في وسط الدولة سيدة أو سلطة لأنها الوسيلة المثلى أولاً لمعرفة الواقع، وثانياً للحكم عليه، وثالثاً لتسييره» (ص 21). فالتشديد على ترابط المعرفة والسلطة وتكاملهما، ليس من قبيل الحكم النظري المحض، بقدر ما هو ضرب من القول نابع من تفحُّص التجربة التاريخية، وتمعن النظر في مجاري الدول وتطور الحضارات؛ حيث جاز القول إن قوة الدولة من قوة المعرفة والعكس صحيح، وكلما أصاب الدولة الوهن ومسّها العطب، كلما أدى ذلك إلى ضعف نصيب العلوم فيها، وتقهقر مفعول اللغة وسلطانه في ضمان قوة الدولة وإشعاع الحضارة. ولعل رأي ابن خلدون في التأثير المتبادل القائم بين المعرفة من جهة والعمران والحضارة من جهة أخرى هو أمر بيّن، وكيف أن وصول الدولة طور النضج والتقدم، يستدعي لزوماً أن تكون صناعة العلوم وإيلاء الاهتمام لمختلف الفنون والالتفات إلى التعليم وأهل العلم مسألة بديهية: فـ«المعرفة مقرونة بالعمران والحضارة، وأن العمران والحضارة مقرونان بقيام الدولة واتصالها، وأن الدولة تحتاج إلى المعرفة في مرحلة قوتها وازدهارها» (ص 22). ومعلوم أن الحديث عن علاقة اللغة والدولة بوصفها تعبيراً عن علاقة المعرفة بالسلطة وفق تصور ابن خلدون لها، لا تظهر على نحو جليّ في جميع الأطوار التي تمر منها الدولة، منذ ميلادها إلى لحظة أفولها، بقدر ما تتوطد هذه العلاقة ويشتد رباطها عندما يبلغ حضور الدولة هالته القصوى، وهو الوضع الذي يتيح للغة أن تفجّر طاقتها القصوى في مدار تمثيل الوجه الثقافي للدولة وتعزيز نفوذها والتمكين لسلطانها.
وفي مقابل الكشف عن منزلة اللغة عندما تبلغ الدولة طور الغلبة (ص 38) لدى ابن خلدون، سيحرص صاحب كتاب اللغة والسلطة على مساءلة وضعية اللغة في سياق حضاري معاصر يتسم بالركود ويكتنفه الوهن على المستويات كافة، وذلك من خلال استدعاء مقاربات فكرية راهنة، ترى في تجديد اللغة وإصلاح الخطاب خطوة ضرورية للخروج من مأزق الانحطاط الذي يطوق كل مناحي الحياة في السياق العربي الإسلامي الراهن، ويتعلق الأمر بوجهة نظر كل من المفكر هشام شرابي والمفكر زكي نجيب محمود:
ولغاية فحص مسألة اللغة وإشكالية الخطاب لدى هشام شرابي، سيرتئي الزواوي التحري عن هذا الأمر من خلال مقاربة ما ورد في مؤلفَي هشام شرابي؛ وبالتحديد الفصل الأول من كتاب النقد الحضاري لواقع المجتمع العربي المعنون بـ«لغة النقد الحضاري»، وكذلك الفصل السابع من كتاب النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي المعنون بـ«خطاب الأبوية المستحدثة» (ص 43). ومن الأدوار النقدية التي يمكن أن تضطلع بها اللغة، كما يرصد شرابي هذا الأمر، فتتمثل بضرورة الخروج من اللغة التقليدية والعمل على نقد اللغة الدينية ولغات الحركات الأصولية بصفة خاصة، والاستئناس بدل ذلك بلغة جديدة ومفاهيم مستحدثة قادرة على الاضطلاع بأدوار البناء والحوار والتواصل. وفي معرض البحث عن مخرج حيوي من دائرة التخلف والـتأخر التاريخي الحاصل، وضع المفكر ذاته ثقته في وجوب انبثاق خطاب جديد على شاكلة النقد الحضاري، وهو الخطاب الذي يضع رهانه كله على التحرر من الأبوية التقليدية والجديدة بكل صورها الذهنية والاجتماعية والاقتصادية، والتخلص من كل أشكال الهيمنة الكلية القديمة منها والمحدثة (ص 59 – 60). ومع التشديد على الأهمية الفائقة التي تكتسيها هذه الأفكار السديدة التي طرحها المفكر شرابي، إلا أن ذلك لا يمنع صاحب اللغة والسلطة من أن ينتقد صاحب النظام الأبوي في مسائل بعينها، من قبيل: حصر خطاب النظام الأبوي في اللغة العربية الفصيحة، والحال أن لا وجود لمانع «يمنع من أن تكون الدارجة سلطة أبوية… فاللغة سواء أكانت محكية أم مكتوبة في نظام لغوي له إكراهاته وسلطته» (ص 45). فضـلاً عن ذلك، فإن القول بأن اللغة العربية في شكلها الفصيح تكتسي ميزة أيديولوجية، فإن هذا الأمر ليس حصيراً على لغة الضاد، بقدر ما يكون لكل لسان نصيب معلوم من الوظيفة الأيديولوجية (ص 52). كما أن تكوين صورة وافية تكون أقرب للدقة والموضوعية فيما يتصل بالعلاقة التي تجمع بين اللغة والسلطة والمعرفة، تقتضي الاستئناس ببعض التقنيات وأدوات السبر العملية؛ إذ إن في انتهاج «قواعد النقد الجديد المتمثلة بالقيام ببحوث تجريبية وقطاعية»، منفذاً للتخلص من ربقة الأحكام العامة والآراء المسبقة» (ص 46).
ومساءلة لنفس الإشكالية التي يحوم حولها كتاب اللغة والسلطة من خلال الوقوف عند نموذج أخير من إسهامات الفكر العربي المعاصر، ويتعلق الأمر بتحليل وجهة نظر ممثل المدرسة الوضعية زكي نجيب محمود، فقد كان التفاتاً نبيهاً من جانب الزواوي لتقييم وجهة نظر التصور الوضعي – الذي لطالما شكل موضوع اللغة أحد أبرز انشغالاته – للغة العربية مع أحد حاملي لواء هذه المدرسة، ونعني بذلك تقويم التصور الذي طرحه زكي نجيب محمود في كتاب تجديد الفكر العربي. ولعل ما تضمنه هذا الكتاب من تصورات ومواقف، ليكشف بشكل صريح على حضور البصمة الوضعية، ومدى الحرص الشديد على تبنّي المنهج التجريبي؛ سواء تعلق الأمر بمسألة اللغة أو مسائل أخرى: وهذا أمر يشهد به رأيه الذي يرهن تجديد اللغة العربية، بضرورة اقتفاء أثر المنهج التجريبي أسوة بما فعلته الثورة الفرنسية وهي تكب على تجديد لغتها (ص 66). كما أن في تمييزه بين الكلام الذي يحسن التعبير عن الواقع، والكلام الذي هو مجرد كلام، ما يؤكد الخلفية الوضعية بشكل قاطع في ما أثير عنها في وضع خط فاصل بين القضايا العلمية والقضايا الميتافيزيقية (ص 46). رغم هذه الأهمية العملية والقيمة العلمية التي يكتسيها استثمار المنهج الوضعي، كما فعل ذلك المفكر زكي نجيب محمود في قراءته للتراث الفكري، إلا أن صاحب اللغة والسلطة أخذ عليه التعويل على هذا المنهج من دون قيد أو مساءلة له أو النظر في مدى صلاحه وملاءمته للموضوع الذي هو محط معالجته ومدارسته (ص 83).
ثانياً: اللغة واستعمالاتها في الفكر الغربي المعاصر
وضمن نفس الاهتمام بتسليط النظر، على نحو أعمق، على مسألة التمكين الفلسفي للعلاقة التي تصل اللغة والواقع بواسطة إحداثيات نظرية وأدوات علمية فعالة، والتي من شأنها تعزيز المفعول العملي لهذه التصورات الفلسفية اللغوية في مدار تمعّنها في المخرجات العملية المواتية لمختلف التمظهرات الواقعية التي يعج بها العالم المعاصر، سيرتئي الزواوي، هذه المرة، تخصيص ثلاثة فصول بأكملها قصْدَ تقويم المساهمات الفلسفية المعاصرة التي كان لها باع طويل في إعادة النظر في البعد الواقعي للغة، كما لها نصيب معلوم من تحديث الأدوات الفكرية التي تجعلها هذه العلاقة تنحو وفق منوال مثمر ومفيد لكليهما.
1 – قصد اختبار المفعول العملي في ما انتهت إليه الموجة الأخيرة لفلسفة اللغة، سينصب الاختبار في الفصل الرابع من كتاب اللغة والسلطة على النظر في مسألة تعتبر في غاية الأهمية، وبمثابة الداء والدواء في نفس الوقت، ويتعلق الأمر بمسألة الحوار والتواصل التي أخذتا حيزاً مهماً من التفكير الفلسفي المعاصر. أما عن دواعي اعتبار هذه المسألة بمثابة الداء والدواء في الوقت عينه، فيجيبنا المؤلف بما يلي: «يمثل الحوار مشكلة وحـلاً في الوقت نفسه: مشكلة من حيث الصعوبات التي تواجهها المجتمعات المعاصرة في التواصل والحوار… ومع ذلك فإن الحوار يعتبر أفضل حل لمختلف النزعات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية» (ص 89 – 90). ولعل الأمر المهم الذي حرص عليه الباحث أثناء تناوله مسألة الحوار وفحص الآفاق العملية للفعل التواصلي، ليس الاقتصار على تحليل الأفق النظري للحوار كما لامس ذلك في عينة من الإسهامات الفلسفية المعاصرة التي تولّت النظر في منزلة الحوار وأصالته؛ وبالأخص لدى كل من مارتن بوبر وفرانسيس جاك وجورج هانز غدامر، وكذلك بيان المنفعة العملية التي تنتج من تفعيل مطلب التواصل، وإعمال آلية المناقشة النقدية في إطار تداول القضايا المحلية والكونية المطروحة؛ وهو ما نلمسه في نظر الفعل التواصلي والنظرية التداولية الحجاجية لدى الفيلسوفين الألمانيين يورغن هابرماس وكارل أوتو آبل (ص 92 – 102). بل تنبّه الزواوي للمغزى الفلسفي العميق من وراء الالتفات إلى أهمية الحوار والتواصل، ويتعلق الأمر بالأفق العملي والبعد المنفعي الذي يمكن أن ينجم عن تنزيل هذين الأمرين في الحياة العملية. ومن أجل الوقوف على التوظيف العملي لفلسفة الحوار ونظرية التواصل في الفضاء العمومي وفي الحياة الاجتماعية كما نعاين ذلك في عدد من المطارحات الفلسفية المعاصرة؛ كما هو الحال لدى هابرماس وأكسل هونيث نانسي فريزر، سيحرص الباحث الزواوي على أن يضرب مثـلاً على مناحي الآفاق المثمرة التي يمكن أن تتأتى من وراء إعمال أفكار الحوار والتواصل والمناقشة النقدية؛ وبالأخص في ميدان التربية والتعليم أو في ما يتصل بتفعيل الديمقراطية التداولية كأفق واعد لفك الخناق الذي تكابده التجربة الديمقراطية (ص 103 – 105).
2 – ما يحاول صاحب اللغة والسلطة أن يظهره من خلال مساءلة منزلة اللغة في المدوَّنة الفلسفية التي خلفها الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، وهو أن هذا الأخير ما كان ليرهن تصوره للغة رهين الخلفية الفينومينولوجية التي وسمت مؤلفه الوجود والعدم، بقدر ما أن إيثاره ترسيخ الفلسفة الوجودية على أرضية راسخة، تجعل منها فلسفة منخرطة في عمق الوجود الاجتماعي، وفي هذا الأمر يكون في وفاق تام مع إرث المدرسة الماركسية، جعل الطرح الأنثروبولوجي حاضراً في تصوره للغة من حيث هي حضور وممارسة وعلاقة. بمجرد النظر في العناصر المحايثة لمفهوم اللغة لدى سارتر، وبخاصة «عنصر الفعل، والغير، والمشروع، والممارسة» (ص 140)، ومن خلال جرد الخصائص التي قيّضها للغة من قبيل: «العطاء والنداء، والكشف، والتواصل» (ص 128)، نلمس الميل نحو إضفاء البعد التداولي على اللغة، ونعاين النزوع الواضح نحو جعل اللغة تتخذ بعداً أنثروبولوجياً وتاريخياً؛ وهذا ما أعان سارتر على أن يمضي باللغة إلى معترك البراكسيس ويجعلها وجهاً فعلياً من خلال تأويلها جهة الممارسة. والنظر إلى اللغة بوصفها فعالية حاضرة في قلب الوجود، شكل القاسم المشترك الذي شاء أن يضفيه سارتر على اللغة سواء في تحليلاته الوجودية أو تحليلاته الإناسية: «إذا كانت اللغة تظهر في التحليلات الوجودية لسارتر بوصفها علاقة وانفتاحاً على الآخر، فإنها في التحليلات الأنثروبولوجية تظهر في شكل ممارسة، باعتبار أن كل ممارسة هي توجه دائم نحو الآخر، ونحو المجتمع» (ص 130).
3 – وفي آخر فصل من الفصول التي تعنى برصد التصورات الفلسفية التي تخص المنزلة العملية للغة والرابط الحيوي الذي يصلها بالواقع والسلطة، سيقف الباحث الزواوي، في الفصل السادس من كتاب اللغة والسلطة، عند بيان أوجه التعرّض الفلسفي لمسألة العلامة كما تم الخوض فيها من جانب العديد من التيارات الفلسفية المعاصرة؛ وبالتحديد لدى ست مدارس فلسفية: مثل البراغماتية، والكانطية الجديدة، والفينومينولوجيا، والتأويلية، والتحليلية، والبنيوية. ولعل النظر في المنزلة الرفيعة التي حظيت به مسألة اللغة، وحجم الاهتمام الفكري الذي اكتساه موضوع العلامة في الفلسفة المعاصرة، يبرهن الراهنية القصوى التي تبوأتها المسائل الجليلة في فلسفة اللغة من قبيل الدلالة والمعنى والرمز والعلامة، إذا ما قورن الأمر بالتاريخ الفلسفي العريض لمختلف الإشكاليات التي حفّت بموضوع اللغة منذ القديم إلى الراهن. تكفي الإشارة تلميحاً إلى إسهام المدرسة الفلسفية الأمريكية المعروفة بـ«البرغماتية» أو «الذرائعية»، وبالأخص مع تشارلز بيرس وتشارلز موريس، وجهودها القيمة في تأصيل مفهوم العلامة (ص 145). وبمجرد أن نذكر الفلسفة التحليلية، يصبح الحديث عن اللغة والدلالة والعلامة من التيمات البديهية في هذه المدرسة الفلسفية؛ سواء لدى «فتجنشتاين» و«فريجه» و«رسل» وما قدمته مدرسة أكسفورد في نظرية أفعال الكلام وعلى رأس ذلك «جون أوستن» (ص 170). وفي سياق الكشف دوماً عن تصورات فلسفية جديدة أغنت الحقل الفكري المعاصر في ما يتصل بمسألتَي الرمز والعلاقة من زوايا فكرية مختلفة، التفت الباحث الزواوي بغورة نحو عرض مساهمة الكانطيين الجدد وعلى رأسهم كارل ياسبرز، وتشخيص منزلة اللغة والعلامة في إسهامات فلسفية، لم يكن الغرض الأسنى من قيامها هو التفكير في اللغة كأفق وحيد؛ وذلك من قبيل ما تمخص عن التصور الفينومينولوجي ممثـلاً بـ هوسرل ودريدا، إلى جانب الإضافة القيّمة التي قدمتها التأويلية الفلسفية مجسدة في تصورات ريكور وإمبيرتو إيكو. ليكون تقويم توظيف البنيوية للعلامة في مقاربتها للثقافة الغربية كما فعل ذلك ميشيل فوكو، منتهى هذه التصورات النظرية التي تخص مختلف قضايا فلسفة اللغة التي ستؤثث كتاب اللغة والسلطة (ص 151 – 183).
ثالثاً: المساءلة الفلسفية للسياسة اللغوية
بعد تجوال فلسفي متشعب ومتعدد الرؤى، بشأن مسألة اللغة ومقتضياتها ضمن أسفار الفلسفة العربية – الإسلامية والفلسفة الغربية المعاصرة، وهو أمر يغني في حقيقة الأمر ويُتمّم التصورات الفكرية التي أكَبَّ المفكر الزواوي بغورة على مدارستها في كتابه الفلسفة واللغة، فإن القيمة الفكرية المضافة التي تضمّنها كتاب اللغة والسلطة، وبالأخص في الفصول الخمسة التي تؤثث القسم الثالث من الكتاب، تكمن في الالتفات نحو مساءلة عملية لمسألة اللغة، والنظر في ما ينجم من نقاش وجدال متضارب كلما تم ربط اللغة بقضية الهوية، وكلما حصل النظر في الصراع المحتدم حول أولوية خطاب أو لسان معين، وكلما تقرر تقويم ميزان اللغة وسلطانها بين جدل الخصوصية والعالمية. والوقوف عند المعالجة الفكرية لمثل هذه المسائل من خلال التركيز على تمظهراتها ضمن تجربة سياسية معينة، وتحديداً من خلال مساءلة حضور هذا الأمر في التجربة الجزائرية[5]، يكون الباحث الزواوي قد وفّى ما يثويه عنوان الكتاب «اللغة والسلطة» الذي يشي بالتشابك الحيوي لتمظهر اللغة في الواقع العملي، وتعيّنها طرفاً حيّاً في الحياة اليومية.
ومن القضايا الحيوية التي شكلت موضع مساءلة نقدية وتشخيص رصين لعلاقة اللغة والسلطة ضمن تجربة عملية محددة دارت رحاها في الجزائر؛ نجد تقويم الرؤية المزدوجة بخصوص قضية التعريب بين فكَّي الأطروحة المشايعة والأطروحة المناهضة، كما كان الالتفات إلى معالجة موضوعية لمسألة اللغة والهوية التي تتأرجح بين حدّي الاستحواذ والاعتراف، مطلباً صحّياً للخروج بتصور حيوي للهوية. وبالنظر إلى موجة العولمة التي باتت تعم جميع ميادين الحياة، بحيث جعل أثرها يطرق أبواب الجميع، يبقى من المفيد استشكال منزلة اللغة، والتساؤل عن مفعولها في خضم جدل الهيمنة والمقاومة. وفي معرض التقويم النقدي لمختلف هذه القضايا اللغوية العملية، يستدعي الزواوي بعض التصورات الفكرية التي تنتصر لهذا الطرح أو ذاك، وذلك بغرض فحص أصالة الرأي الذي تتبناه، والكشف عن الدعاوي التي تنشدها: فعندما توقف، على سبيل المثال، عند قضية التعريب التي تعد في أصلها مشكلة سياسية، تبين له، وهو يحاجج تصور أحد مناصري قضية التعريب، الذي هو المفكر عبد الله شريط، أن هذا الطرح كان محكوماً باعتبارات سياسية وأيديولوجية، أكثر مما هي اعتبارات موضوعية: «إن عملية التعريب قد غلب عليها الطابع الأيديولوجي على حساب الطرح العلمي، والعامل السياسي على العامل الأخلاقي، والعامل الذاتي على العامل الموضوعي» (ص 231). وكان من نتائج هذا الجنوح الأعمى، حسب المؤلف، إلى مناصرة طرح دون غيره، هو تكريس غياب الإنصاف اللغوي الذي يتأتى من عدم مراعاة «اللهجات واللغات غير العربية، وبخاصة البربرية والأمازيغية» القائمة. كما كان لسياسية التعريب القسري أثر واضح في طبيعة وقيمة الإنتاج الأكاديمي بعامة، والإبداع الفلسفي بخاصة، في الجزائر (ص 230).
وفي مقابل دعاة التعريب، كان من باب اكتمال الصورة استدعاء طرح دعاة التغريب، وهو الأمر الذي حرص عليه الزواوي من خلال المناولة النقدية لما ثواه الخطاب الفرنكوفوني؛ وذلك وفق ما تتضمنه أطروحة الناقد محمد بنرباح في كتابه اللغة والسلطة في الجزائر. ولمّا تنزاح اللغة عن وظيفتها المعرفية ودورها التعليمي والتثقيفي وبعدها التواصلي، لتوظف كأداة للهيمنة وتحقيق المصلحة وقضاء مختلف المآرب، وذلك حينما تم تحويل اللغة الفرنسية لكي تمسي الوجه المفضل للهوية الثقافية للبلد (ص 233 – 238). فعوض التفكير في كيفية توظيف التنوع اللغوي الخـلّاق المتاح، قصْد المساهمة في عملية التحديث والنهوض المطلوبة، يرصد المؤلف، من خلال الشواهد التي وقف عليها، كيف تزجّ الأوطان في نزاع غير مفيد للخطابات، وكيف يتم توجيه عقارب السياسة كل مرة نحو تغليب هذا اللسان على ذاك، وكيف يتم التمكين اليوم للغة في مقابل نزعة السلطة والهالة على الأخرى، ليستمر الأمر في دوامة غير متناهية. والأدهى من ذلك، كيف ينخرط المثقفون في مشايعة هذه الأطروحة من ذلك، ومحاباة هذه السياسة من ذلك، وهم أصـلاً من يعوَّل عليهم أن يقفوا على مسافة معلومة من هذا التقاذف الأيديولوجي، وأن يرصدوا بحس نقدي مواطن القصور في هذه الدعوة من ذاك، وأن يستنفروا كل الأدوات المعرفية المتاحة لغرض التفكير في الطريق الأمثل للاستفادة من كل المكونات الثقافية الموجود لبناء غد أفضل.
وبحكم التنوع الثقافي والتعدد اللغوي الذي طبع بلدان المغرب الكبير ولا يزال يطبعها، لم يكن صاحب كتاب اللغة والسلطة أن يتنكّب عن إدلاء دلْوه في مسألة في غاية الأهمية والحساسية الثقافية والسياسية والاجتماعية، ويتعلق الأمر بقضية اللغة والهوية. إذ يكمن، كما يرصد المؤلف ذلك في الفصل التاسع من كتابه، عمق الإشكال حينما يتم النظر إلى الهوية نظرة ساكنة ثابتة لا يعتريها التغير ولا يأتيها التحول، كأنها جوهر صلب وعنصر جامد لا تنسحب عليها نوائب الزمان. بل الأدهى من ذلك حينما يتم تزكية لغة معينة، لها السلطة المطلقة في التعبير عن مكونات هوية قائمة على التنوع والتحول والاختلاف والتطور، وذلك وفق ما تزكي ذلك دراسات فكرية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية عديدة (ص 312 – 313). وإلى جانب هذا النقاش الذي يطبع عدداً من البلدان، هنالك قضية راهنة لا تقل أهمية عالجها المؤلف في الفصل العاشر، ويتعلق الأمر بتقويم أفق اللغة ضمن مجرى العولمة الجارية في مختلف تجلياتها الثقافية والاقتصادية والسياسية. وربط اللغة بالعولمة، يقتضي وجود لغة أو بعض اللغات الأساسية التي لها السلطة الضاربة والحضور المهمين، وعلى رأسها اللغة الإنكليزية (ص 329 – 333). وفي المقابل تكابد لغات أخرى، ومن بينها اللغة العربية، في ظل الموجة التقنية والرقمية المتسارعة تحديات جمة، تستدعي مجهودات مضنية وخطوات جبارة قصد الانخراط في مجتمع المعرفة انخراطاً مثمراً وبنّاء.
خلاصة تقويمية
رغم أن أغلب الفصول التي ثواها كتاب اللغة والسلطة تم إعدادها ونشرها في مناسبات علمية مختلفة، على نحو ما يشير إلى ذلك المؤلف في المقدمة المقتضبة التي خصّ بها مؤلفه. ورغم تنوع القضايا الفكرية التي أكبّ على الكشف عن تبدياتها وإظهار ملامحها سواء في الفكر العربي الإسلامي أو في الفكر الغربي المعاصر، إلى جانب الالتفات نحو تشخيص نقدي يخص إشكالية اللغة والسلطة من خلال اختبار أنموذج السياسة اللغوية التي خبرتها الجزائر، كما أتى على ذلك في القسم الثالث والأخير من كتابه. إلا أن ذلك لا يمنع من أن نلتمس لهذا الفسيفساء الفكري، الذي استرفد الجوانب النظرية والجوانب العلمية، نقطة الالتقاء المتمثلة بمحاولة معرفة كيف تأتى للفلاسفة والمفكرين، وبأي وجه عمل هؤلاء على معالجة مسألة اللغة والسلطة تبعاً لسياق معين واهتمامات مرسومة، ووفق الشواغل الفكرية التي دهمت أفق كل واحد منهم. وكيف يمكن استدعاء الخلفية الفلسفية واستثمارها في معالجة إشكالية اللغة والسلطة وفق أرضية عملية تهم مختلف القضايا المتصلة بالسياسة اللغوية من تعريب وتغريب اللسان وعولمته، إضافة إلى مسألة الهوية، وكذلك نقد الخلفية السياسية والمنزع الأيديولوجي اللذين يوجهان النقاش العمومي والثقافي والفكري لمسألة اللغة والسلطة داخل أوراش الدولة.
ولعل إيثار الكاتب أن تكون هذه التصورات النظرية والنماذج الحية، التي تكشف عن تعيّنات علاقة اللغة والسلطة، بمنزلة «أبحاث نقدية في تدبير الاختلاف وتحقيق الإنصاف»، ليكشف على نحو واضح عن الرهان الذي نشده الزاوي من وراء هذه الدراسات التي تضمنها كتاب اللغة والسلطة، ويتعلق الأمر بالرصد النقدي والتشخيص الفلسفي لمسألة اللغة والسلطة من حيث حضورها التداولي وتمظهرها العملي؛ وذلك من خلال الاستقراء النقدي لبعض التصورات الفلسفية والفكرية، أو من خلال تقويم مناحي التدبير الحيوي للغة والسلطة ضمن سياقات عملية محلية وعالمية.
قد يهمكم أيضاً الدراسة التالية كيف يعزز التخطيط اللغوي الفاعلية المستقبلية للغة العربية؟
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اللغة #اللغة_العربية #اللغة_والسلطة_في_ الفكر_العربي_الإسلامي #اللغة_والسلطة_في_الفكر_الغربي_المعاصر #الخطاب #السلطة #اللغة_والسلطة #علاقة_اللغة_بالسلطة
المصادر:
(*) نُشرت هذه المراجعة في مجلة المستقبل العربي العدد 477 في تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
(**) يوسف أشلحي: باحث وأكاديمي مغربي.
البريد الإلكتروني: yossef.ach@gmail.com
[1] فقد توثّق هذا الرباط مع المدونة الفلسفية التي خلفها ميشيل فوكو تحديداً أثناء إعداده أطروحة الدكتوراه، ليأخذ العزم بعد ذلك على الارتحال الفكري على الأرضية الفلسفية الخصبة التي خلفها إرثـاً للبحث والتفكير والتفكيك والتأويل، وقد تأتى للدكتور الزواوي أن يقرّب على كل متلهف مهتم بما خلّفه فوكو ركائز مشروعه الفلسفي ومفاتيحه الأساسية؛ إنْ تأليفاً: منذ كتابه إلى حدود كتابه؛ أو ترجمة: من كتاب يجب الدفاع عن المجتمع إلى كتاب تأويل الذات.
[2] الزواوي بغورة، الفلسفة واللغة: نقد المنعطف اللغوي في الفلسفة المعاصرة (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2005).
[3] تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الزواوي بغورة كان قد عرض في كتابه الفلسفة واللغة، وبالضبط قد تطرق على نحو وجيز في الفصل التاسع من هذا الكتاب إلى بعض القضايا التي تدخل ضمن اهتمام فلسفة اللغة؛ إذ علاوة على مسألة اللغة والسلطة، هنالك قضية اللغة والواقع، وإشكالية اللغة والفكر. ولعل إيثاره إيجاز الحديث في هذه المسائل والقضايا المشار إليها، إنما كان من باب «فتح نقاش حول قضايا فلسفة اللغة، نتمنى أن نتمكن من التوسع فيه في دراسات لاحقة». وهو الأمر الذي سيأخذ سبيله نحو التحقق في ما يخص إحدى مسائل فلسفة اللغة، ونعني بذلك مسألة السلطة واللغة (الزواوي بغورة، الفلسفة واللغة، ص 215 – 224).
[4] وهو التيار الذي انبثق في بداية القرن العشرين بفضل الأفكار التي شاطرها ثلة من الفلاسفة والعلماء الرياضيين والفيزيائيين الذين شكلوا النواة الأولى لـ «حلقة فييا» وعلى رأسهم موريس شليك ورودلف كارناب، نويراث، وكورت كودل، وهانز رايشنباخ، وكارل بوبر وغيرهم… والتي استقر رهانها على ضرورة التحليل المنطقي للمعرفة العلمية، كما عرف عنها الدعوة إلى إعمال النظرة العلمية على العالم، والعمل على نقد تصورات الميتافيزيقا واللاهوتية على طريق إعمال التحليل المنطقي واللغوي. ومن المعلوم أن أفكار هذه المدرسة ستعرف انتشاراً وتطوراً ملموساً في أصقاع أخرى؛ وبالتحديد في العالم الأنكلوساكسوني التي استقطبت العديد من أعلام هذه المدرسة إبان الحرب العالمية الثانية. ومن المعرف أن المعلوم أن المفكر زكي نجيب محمود كان من أبرز من تأثروا بأفكار هذا التيار وتصوراته، وقد اتضح ذلك في حرصه على قراءة التراث العربي وفق الأدوات والتصورات التي خلفتها حركة الوضعية المنطقية.
[5] ومن المعلوم أن هذا الأمر تتقاسمه العديد من الدول، وذلك من حيث النقاش الذي يعتمل في صلبها بشأن اللغة الأهلية واللغات الوافدة، إضافة إلى قضايا التعريب والتغريب، وما يتصل بالسياسات الثقافية واللغوية المعتمدة، ناهيك بالنقاش المحتدم على نحو دائم بشأن الهوية مضموناً وواقعاً.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.