أولاً: نشأة اللغة العربية
اللغة العربية من أقدم لغات العالم. تجاوز عمرها ما يزيد على خمسة عشر قرناً (بعضهم يقرر أن عمرها سبعة عشر قرناً) وما زالت حية وحيوية ويتحدث بها مئات الملايين، ولا شك في أن هذه اللغة ما كانت لتبقى متداولة لولا جملة من العوامل والظروف المناسبة، التي ساعدتها على التطور والتغلب على الصعوبات التي تراكمت في طريقها، وساهمت في تجددها ومرونتها كي تستمر في القيام بدورها ووظيفتها ومهمتها التاريخية، في الوقت الذي حافظت فيه على بنيتها وبنائها الأساس، وعلى نحوها وصرفها، واستوعبت معطيات التطور العلمي والتقاني والثقافي والحضاري الذي مرّت به ومرّ بها، وشكلت بذلك ظاهرة قليلة الحدوث، حين كانت عدة لغات أخرى تذوي وتموت وتخلي الساحة لغيرها عندما واجهها ما واجه اللغة العربية ومرَّ بها ما مرَّت به.
إن اللغة العربية لغة سامية، ولها مواصفات مشتركة مع لغات سامية أخرى شمالية وجنوبية، مثل الثمودية واللحيانية في الجنوب والأكادية والكنعانية والآرامية في الشمال والأمهرية في أفريقيا، وجاءت اللغة العربية من تطور عدة لغات لقبائل في جزيرة العرب، وقد انفتحت هذه اللغات القبلية في القرن السادس الميلادي بعضها من البعض الآخر ومن لغة قريش، كما شهد هذا القرن تطوراً في لغة قريش بدورها التي استفادت من اللغات القبلية الأخرى، وأخذت منها لفظات عديدة، وطرُقَ صرف متنوعة، حتى صارت مفهومة تماماً من مختلف قبائل العرب.
كانت الكعبة في مكة تؤوي تماثيلَ ورموزاً لآلهة القبائل كلها تقريباً، وكان أبناء هذه القبائل يحجون إلى مكة سنوياً لزيارة آلهتهم، ولأن قبيلة قريش تحكم مكة والحجاز، فقد نظمت الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والإدارية ليصبح الحجاز شبه دولة، ولأن الأمر على هذا النحو، كانت قريش تحاول فهم لهجات القبائل العربية الأخرى وهمومها واهتماماتها، وتأخذ منها لفظات وأسلوباً دخلت مع الزمن في لغتها، وقد ساهم ذلك في تطوير لغة قريش، وجعلها أكثر استيعاباً للغات القبائل العربية الأخرى، وقد استنّت قريش سنّة مهمّة وتقليداً عظيماً كان له أثر ديني واقتصادي واجتماعي وسياسي، وهو إقامة الأسواق في الحجاز، ومنها أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز وعشرات الأسواق الأخرى، ولم تكن هذه الأسواق للتبادل الاقتصادي أو للبيع والشراء فقط، وإنما كانت أيضاً ميداناً لنشاطات دينية (حوار ديني بين المشاركين) وشعرية (مباريات شعرية ونتذكر المعلقات مثلاً) واجتماعية (لقاء وتعارف وتبادل الأخبار بين القبائل) ونشاطات اقتصادية (أسواق البيع والشراء) وكانت هذه الأسواق تحت رعاية قريش وحمايتها، وقد أدَّت دوراً كبيراً في تعرّف القبائل بعضها على البعض الآخر وعلى لغاتها وشعرها وتاريخها وما يشبه ذلك، ومن النتائج تبادل لغات القبائل العربية في ما بينها الألفاظ والمعاني والصرف اللغوي والشعر وفنونه جميعاً (كالوصف والفخر والغزل والثأر وغيرها) مما كان يقرب هذه اللغات بعضها من البعض الآخر كما يقربها جميعها من لغة قريش، وعلى أي حال، تقاربت لغات العرب مع لغة قريش، حتى كادت أن تشكل لغة عربية واحدة، مفهومة من الجميع ومقبولة منهم. ولعل هذا هو الذي جعل بعض المستشرقين يعتقدون بوجود لغة عربية أدبية واحدة قبل الإسلام، وصل إليها العرب، ونزل بها القرآن، بينما يرى الدارسون والباحثون المسلمون أنه نزل بلغة قريش، التي كانت مفهومة من الجميع، ومقبولة من الجميع، وخاصة أن قبيلة قريش كانت سيدة الحجاز، والمشرفة على الكعبة بما فيها من أصنام العرب وتماثيل آلهتهم، فضلاً عن قيامها برحلتي التجارة الصيفية والشتوية إلى بلاد الشام واليمن، ولأنها كانت في الواقع أهم قبائل الجزيرة العربية المتطورة، والتي شكلت ما يشبه الدولة، لهذا لم يجد العرب صعوبة في فهم القرآن لأنهم كانوا يفهمون جيدا ًلغة قريش، وكان شعرهم وأدبهم بلغة قريبة منها، فمن الطبيعي إذاً أن ينزل القرآن بلغة قريش، لأنها الوحيدة المؤهلة، في ذلك الوقت، لتكون لغة جامعة مفهومة من القبائل العربية جميعها، بما في ذلك القبائل العربية المسيحية في بلاد الشام والعراق، أعني الغساسنة الذين كانوا بدورهم يتكلمون لغة خاصة بهم (ولذلك لم يوجد لديهم شاعر واحد في الجاهلية) وبما في ذلك أيضاً المناذرة في العراق، لكنهم كانوا يفهمون لغة قريش (التي أصبحت اللغة الأدبية ثم اللغة الفصحى للقبائل العربية جميعها) ويتكلمونها، ولذلك لم يحتج خالد بن الوليد عند دخوله بصرى في حوران لمترجم ليتفاهم مع الغساسنة، كما لم يحتج لمثل هذا المترجم في حواره مع قادة المناذرة وقبائل العراق العربية الأخرى قبل ذلك. وعلى أي حال عندما جاء الإسلام كانت لغة قريش مفهومة من قبائل العرب جميعها في جنوب الجزيرة وشمالها وفي بلاد الشام.
ثانياً: الانتشار
انتشرت اللغة العربية الموحدة (الفصحى) في جميع أنحاء الجزيرة العربية مع انتشار الإسلام، ومثلما وحد الإسلام جزيرة العرب تحت رايته، توحدت لغات هذه الجزيرة تحت راية لغة قريش، وأصبحت هذه اللغة بعد فترة هي الوحيدة المتداولة بين قبائل الجزيرة وسكانها بعد أن نزل القرآن بها، ولم تعد تواجه منافساً لها في أي مكان في الجزيرة، ثم مع توسع انتشار الإسلام والسلطة الإسلامية خارج الجزيرة، توسع انتشار العربية وهُمِّشَتْ لغات سامية عديدة كانت متداولة في البلدان التي فتحها المسلمون، وخاصة بلاد الشام والعراق، كالآرامية والسريانية والآشورية وغيرها، وأخذت هذه اللغة في الوقت نفسه، تغتني بلفظات جديدة، وتتأثر بأساليب جديدة وأدوات صرف جديدة، ونشطت بشكل كبير، مظاهر الترادف والاشتقاق والقياس والنحت وثراء مفردات اللغة وغير ذلك. وأخذت اللغة العربية تتجذر وتتسع مع اتساع الدولة الإسلامية ويصلب عودها لتستطيع القيام بأعباء «إمبراطورية ناشئة» ودولة تتأسس وتستكمل بناءها الإداري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي واللغوي أيضاً، ولم يكن أمام اللغة العربية خيار سوى أن تتطور بما لم تشهده لغة من قبل لا من حيث قصر المدة الزمنية ولا من حيث غنى المفردات أو تطور الأسلوب، ولم يكن بد من أن يتم تطورها بقفزات استثنائية لتستطيع استيعاب حاجات الدولة متعددة الجوانب، وهذا ما تم فعلاً، وساعدتها مرونتها من جهة وكونها لغة القرآن من جهة ثانية على التوسع والنمو وتهميش اللغات الأخرى التي كانت موجودة قبل قدومها، ومنها لغات لإمبراطوريات سابقة كالإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية، ووقفت العربية على أرض صلبة منذ السنوات الأولى لانتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية وانهيار الإمبراطورية الساسانية، وتراجع الإمبراطورية البيزنطية أمام الزحف العربي الإسلامي. وفي الخلاصة قويت اللغة العربية تبعاً لقوة الدولة، وتوسع انتشارها، وغدت جاهزة لتكون لغة ثقافة وإدارة وسياسة واقتصاد، وليس فقط لغة شعر ونثر وأدب كما كان حالها قبيل مجيء الإسلام، إنها الآن لغة إمبراطورية واسعة الأرجاء متعددة الشعوب واللغات التي لا بد من استيعابها.
ثالثاً: التطور السريع
كان على اللغة العربية أن تتطور سريعاً وعميقاً عندما اتسعت الدولة (الإمبراطورية) العربية الإسلامية، ولم يكن أمامها خيار سوى أن تطور نفسها، وتتأقلم مع الظروف المستجدة، ومع احتياجات الدولة والدين والمجتمع متعدد الثقافات والإثنيات، ولم تعد مواصفاتها التي كانت قبل مجيء الإسلام بل حتى قبيل عمليات التوسع والفتح، كافية لتقوم بهذه الأعباء، لأن مهماتها ووظائفها تطورت من مهمات لغة محلية تُعنى باحتياجات الشعر والأدب والهجاء والفخر والوصف والحب واحتياجات استعمالات الحياة اليومية، إلى مهمات لغة دولة قوية واسعة الأرجاء متعددة المجتمعات والثقافات والاحتياجات، بدءاً من احتياجات تعريب إدارة الدولة وصولاً إلى التحاور والتثاقف مع اللغات الأخرى، وأداء مهماتها الكبرى في تمكين المسلمين الجدد من العرب وغير العرب من فهم الإسلام فهماً صحيحاً، وإمكانية التحدث بالعربية وتعلمها بسهولة، وتجنب انتشار اللحْن والمحافظة على صحة اللغة، واستكمال الوصول إلى علومها واستخدام هذه العلوم. وفي ضوء ذلك أُنجز في منتصف القرن الأول الهجري تنقيط أحرف اللغة العربية قبل أن يستفحل اللحن، وقام أبو الأسود الدؤلي بهذه المهمة فنقَّط الحروف ووضع علم النحو، كما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض وألف أول معجم عربي، وتم وضع الحركات فوق الحروف العربية، ثم تمَّ تنقيط القرآن بدقة أكبر من ذي قبل على يديْ نصر بن عاصم ويحيى بن يعفر بإشراف الحجاج بن يوسف الثقفي وبأمر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (26 _ 86هـ)، وقد اكتملت علوم اللغة العربية في الثلث الأخير من القرن الهجري الأول، وتم ضبطها وأصبحت تساعد على الابتعاد عن اللحن والعجمة، مما أدى إلى ضعف لغات أهل الأمصار من غير العرب وبدء تكلمهم عربية مولدة، وما لبثت اللغة العربية أن تطورت ونمت واستكملت جوانبها العلمية والمعرفية وقدرتها على خدمة الإمبراطورية الناشئة، مما أهّلها مع نهاية العهد الأموي كي تكون قادرة على الدخول في مجال التأليف العلمي، فضلا ًعن تعريب الإدارة والنقد والدواوين أيام عبد الملك بن مروان في إدارة الدولة ومجالات الثقافة والعلوم والترجمة وسد احتياجات الحياة اليومية.
تطورت اللغة العربية أيضاَ تطوراً بارزاً واستثنائياً في العصر العباسي الأول (750 – 847م) فازدهرت في ذلك العصر الترجمة من اللغات الأخرى (الفارسية، اليونانية، وحتى السنسكريتية) وكذلك التعريب، كما تم تأهيل اللغة العربية لاستيعاب الفلسفة والعلوم، ثم للتأليف بها والابتكار، وازدهر التعريب واستخدام المصطلحات وإغناؤها، وتعمق التعاون والاقتباس والتثاقف مع لغات الشعوب الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية، وبدأ الاطلاع الجدي على ثقافات هذه الشعوب وحضاراتها والاستفادة منها.
ازدهرت الحضارة واللغة والثقافة العربية ونضجت الإمبراطورية ووصلت إلى أقصى اتساعها واستقرارها وتطور حضارتها وقوة لغتها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، إلا أنه، رغم تقدمها العلمي والحضاري والثقافي في هذا العصر، بدأت الاندفاعة السياسية العربية وبالتالي اللغة العربية بالتراجع اعتباراً من هذا العصر، أمام لغات الشعوب الإسلامية الأخرى كالفارسية والتركية اللتين أصبحتا لغتي الإدارة أيضاً، في الدويلات (والإمارات) الفارسية والتركية التي قامت في ذلك الوقت، ولم يكن يربطها بمركز الخلافة العباسية سوى رباطٍ واهٍ، كالدعاء للخليفة وذكر اسمه على المنابر، وأصبح كل من الدويلات هذه كالبويهية والسلجوقية وغيرهما واقعياً دولة كاملة المواصفات والمهمات والوظائف، وتراجعت في مناطق هيمنتها اللغة العربية لتبقى لغة الأدب والشعر كما كانت قبل الإسلام، إلا أنها لم تفقد غناها بالألفاظ وتماسك علومها كالنحو والصرف وكسب مصطلحات علمية في مختلف جوانب الحياة، فضلاً عن تخزينها الحضارة العربية، وتحولها إلى وعاء يستوعب هذه الحضارة ويحملها مع الثقافة والعلوم، وعامل وعي وتوعية، إضافة إلى القيام بدور أداة التواصل، وناقلة القصص والأغاني والحكايات والأشعار والملاحم والبطولات كلها من جيل إلى جيل.
مثلما نُكبت الأمة في عصور الانحطاط بعد سقوط الدولة المركزية كذلك نُكبت اللغة العربية في هذا العصر، فانحسرت مع انحسار أهلها عن السلطة ومركز القرار، وتزايد اللحن حتى استفحل، كما تفشى الحديث باللهجات العامية المطعمة بألفاظ وأساليب لغات أخرى، وجمدت اللغة العربية إجمالاً وغاب الإبداع، واضطرتها الظروف للكمون والتراجع، إلا أنها بقيت حاملة لخصائص الأمة وثقافتها وتاريخها وتقاليدها وحتى لطقوسها وأساطيرها، كما لم ينطفئ كلياً استمرار تأثيرها في لغات الشعوب الإسلامية. وكان المتكلمون بهذه اللغات يتولون سدة الحكم، وبقيت مصدراً ومنبعاً لألفاظ العلوم والحضارة والثقافة.
رابعاً: اللهجات العامية، والدور التركي
مع انتشار اللهجات العامية وانفلات عقالها، تأثرت سلبياً اللغة الفصحى التي كانت من قبلُ تنحّي هذه اللهجات جانباً، وفي مطلع القرن السادس عشر الميلادي احتلت الإمبراطورية العثمانية البلدان العربية ووضعتها تحت هيمنتها، ولمّا كان اعتزاز العثمانيين الأتراك بلغتهم التركية كبيراً جداً، فقد أصرّوا على أن تحل التركية محل اللغة العربية لتصبح لغة ثقافة وحضارة وعلوم وفلسفة، فشرعوا منذ السنوات الأولى لاحتلالهم البلدان العربية بتهميش اللغة العربية، فأبعدوها عن المدارس وشرعوا التعليم بلغتهم فقط، وكذلك فرضوا لغتهم على إدارة الدولة وعلى المحاكم، ولم يكن للعرب سبيل للحفاظ على لغتهم الفصحى وإبقائها حية سوى فتح الكتاتيب لتعليم اللغة والقرآن وبعض الفقه وتعاليم الدين، إلا أن القرون الأربعة التي حكم فيها العثمانيون بلاد العرب، لم تستطع أن تميت اللغة العربية، التي أعطاها القرآن نسغ الحياة، وجهد النهضويون العرب لإحيائها.
اهتم النهضويون العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بإحياء التراث العربي بمختلف جوانبه الثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، وانطلقوا منطلقاً صحيحاً، وهو أن إحياء اللغة إنما يتم في إطاره إحياء التراث والتاريخ والثقافة والوعي القومي، فتوجهوا إلى إحياء اللغة كعمل ثقافي قبل أن يكون عملاً سياسياً، وكان ذلك في الوقت نفسه أرضاً صلبة يعتمد عليها الوعي القومي والوعي السياسي، ونهضة الأمة وسيرها في طريق التقدم، وذلك كله لتفادي طغيان الثقافة الأوروبية والنفوذ التركي الذي يحاصر العرب ووعيهم القومي وثقافتهم وحاضرهم السياسي ومستقبلهم، وكانت فكرة إحياء التراث والنشاط فيه فكرة قومية قبل أن تكون فكرة علمية، وبرز من النهضويين المجددين أحمد فارس الشدياق (1804 – 1887) الذي دعا إلى تحديث اللغة العربية وتطويرها وإثراء مفرداتها وأنشأ في الآستانة صحيفة الجوائب عام (1860)، وهي من أوائل الصحف التي صدرت بالعربية. كما دعا إلى تحديث المعاجم العربية فانتقد بشدة مثلاً القاموس المحيط، واهتم بعلوم العربية وفنونها كالاشتقاق والنحت لأنها تثري اللغة وعرّب هو نفسه عديد اللفظات، حتى أنه أعطى عنواناً منحوتاً لإحدى كتبه الساق على الساق فيما هو الفارياق والفارياق منحوتة من اسمه (أحمد فارس الشدياق). ومن النهضويين الذين اهتموا باللغة العربية كذلك ناصيف اليازجي (1800 – 1871) وابنه إبراهيم اليازجي (1847 – 1906) الذي دعا إلى تيسير النحو، وأسس مطبعة البيان في مصر (1897) واهتم بالتعريب وخاصة تعريب المصطلحات العلمية، وعرّب كلمات عديدة واهتم بالألفاظ المولدة، وبلغة (الجرايد)، كما اهتم بالاشتقاق والنحت باعتبارهما يثريان اللغة العربية، وقد أسس النهضويون، وخاصة نهضويو بلاد الشام جمعيات لغوية عديدة مثل الجمعية السورية للعلوم والفنون (1847)، والجمعية العلمية السورية (1857)، والمدرسة الوطنية التي أسسها بطرس البستاني عام (1863) وغيرها، كما أسسوا مطابع وصحفاً ومجلات في مصر، منها مطبعة الأهرام التي أسسها سليم تقلا (عام 1875) واصدر بواسطتها جريدة الأهرام المصرية التي ما زالت تصدر حتى الآن، كما أسس جرجي زيدان مطبعة الهلال (عام 1890) وأصدر بواسطتها مجلة الهلال، وأسس يعقوب صروف وفارس نمر مطبعة المقتطف (عام 1885) وأصدروا مجلة المقتطف وغيرها، وكانت مطبعة بولاق التي أسست (عام1821) قبل ذلك قد ساهمت بحركة النهضة من خلال دورها في حركة الطباعة.
خامساً: النهضويون العرب
اهتم النهضويون عامة بالوعي الثقافي عن طريق إحياء اللغة ودورها في نشر هذا الوعي، وربما كانوا مقتنعين، أو أن الظروف أجبرتهم على إعطاء الأولوية للوعي الثقافي مؤمنين بأن الوعي السياسي سيلحق به، فالوعي السياسي يحتاج إلى أرضية صلبة يقف عليها وينطلق منها، وهذه الأرضية هي الوعي الثقافي والقومي عامة، الذي يبدأ بإطلاق شرارة تطوير اللغة العربية وتحديثها وتكليفها بإفراغ جوانب هذا الوعي المختلفة التي حملتها مئات السنين، وعلى أي حال بدأ النهضويون العرب مسيرة تحديث العربية، وإتاحة الفرصة لها لتقوم بعملية إيقاظ وعي الأمة وتوعيتها وتشكل سلاحاً ماضياً بوجه تلاشي هذه الأمة، وهيأوا لها الطريق للنهوض في ما بعد.
بعد استقلال البلدان العربية، أعطت الدول العربية المستقلة للغة دورها الحقيقي والتاريخي في الوعي القومي، واستعادت حمولتها الثقافية والحضارية والتاريخية، باعتبارها الوعاء الذي يحمل خبرات الأمة وتجاربها، وقد قامت الدول العربية بعد استقلالها بأمرين هامين ساهما في تجديد اللغة من جهة، وفي إعطائها دورها الذي تستحقه في إحياء وعي الأمة وتأكيد مقوماتها وثقافتها واستعادة تجاربها وعلومها، وفي استشراف مستقبلها من جهة أخرى. ولعلَّ هذين الأمرين هما:
الأول: تضمين الدساتير العربية مادة تؤكد أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، مما شكل إلزاماً للحكومات بالحفاظ على اللغة العربية وخدمتها والتعليم بها، والحفاظ على الفصحى، وتهميش اللهجة العامية، والعمل على تطويرها لتقترب من الفصحى، وبالإجمال ممارسة مختلف الأساليب لتجديد اللغة والحفاظ عليها.
والثاني: تأسيس مجامع اللغة العربية، وتكليفها، من حيث المبدأ، صلاحيات تطوير اللغة والإشراف على تجديدها. وقد انتشرت اللغة العربية الفصحى مع انتشار التعليم في البلدان العربية المستقلة حديثاً، بعد الإلزام على استعمالها بالتعليم والصحافة وبوسائل الإعلام وإدارة الدولة، مما نشط فعاليتها ومنحها الحيوية والقدرة على النمو، ما أدى باللهجات العامية إلى التراجع.
سادساً: اللغة العربية ومسيرة الأمة
ليست اللغة وسيلة تواصل فحسب (فهي ليست كلاماً فقط) فهذا قد ينطبق على لغة متحدثين لغات أخرى مختلفة ومضطرين إلى التواصل بلغة ثالثة يتقنونها، ولكن هذا التعريف (أي أن اللغة وسيلة تواصل) لا يصلح وحده لتعريف اللغة، وربما كان التواصل هو الجانب الأقل أهمية من وظائف اللغة المتعددة، الثقافية والقومية والوطنية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، لأنها الوعاء الذي يحمل حصيلة التراكم الثقافي عبر العصور، وناقلة التراث الثقافي والمعرفي والحضاري وخبرات الأمة وتجاربها، وهي التي توحد المشاعر بين أبناء الشعب، وتشكل ضميرهم، وموقفهم الفلسفي من الكون والحياة، وهي: أساس وحدة الأمة ومستودع حضارتها ومرآة فكرها وصداه الذي يتردد في آفاق المجتمع ورحاب النفس، والقدر المشترك بين أبناء الأمة الواحدة، وفي إطارها يتم تفاعل الأفكار، كما هي ذات صلة وطيدة بالمجتمع الذي تمارس فيه أدوارها ووظائفها، وتتغير بتغيير مناخه، وتتأثر بحياته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتؤثر في سلوك أبنائه وطرائق تفكيرهم، كما جاء في وثيقة بيروت الصادرة عن المؤتمر الدولي الأول للغة العربية فهي «الأساس الذي تبنى عليه شخصية الفرد وثقافته وإمكانياته ليتمكن من الاستيعاب والفهم ويستطيع التفكير والإبداع والعمل والإنتاج والابتكار والتطوير لقدراته ومعارفه»، فضلاً عن أنها «رمز السيادة والاستقلال والهوية الوطنية ورمز شخصية الفرد وثقافته وكرامته» فهي الأساس الذي يحمل وينقل فكر الأمة وقيمها وعاداتها وتقاليدها وتجاربها وخبراتها ومعارفها وعلومها وأساليب عيشها ونمط حياتها، إنها حاملة منظومة كاملة تتعلق بالأمة وناقلة لهذه المنظومة وأداة لتفاعل المجتمع معها واستيعابها وتطويرها.
إذاً لقد نمت اللغة العربية واستكملت بناءها وفنونها ونحوها وصرفها ومكونات بنيتها عامة مع نمو الحضارة العربية وتوسعها وتواصلها مع الحضارات الأخرى والثقافات الأخرى، وساعدتها حيويتها وقابليتها على استيعاب المعطيات الجديدة والظروف الجديدة، وقد تأثرت اللغة العربية بالحضارات الأخرى والثقافات الأخرى، وأثرت أيضاً في الشعوب الإسلامية داخل الإمبراطورية العربية – الإسلامية، حتى أن بعض المفكرين والأدباء والعلماء والشعراء من هذه الشعوب كانوا لا يتكلمون إلا العربية ويحبونها أحياناً أكثر من لغاتهم الأصلية. كالبيروني والرازي والخوارزمي وابن سينا والجاحظ والغزالي، وغيرهم فقد قال أحدهم: «لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بسواها».
لا شك في أن للغة العربية صفات ذاتية هامة كالمرونة وإمكانية التجدد، فضلاً عن فنون أخرى، إلا أن غنى الحضارة العربية الإسلامية وتوسعها وقوة السلطة في الإمبراطورية كان لها الأثر الأهم في استمرار هذه اللغة واتساعها وعمقها، إضافة إلى كونها لغة القرآن، وقد أسقطت لغات الشعوب المسلمة، ولعل هذا ما جعل ابن خلدون يقول «إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة علومها وأخبارها وقوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم، وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم» كما رأى ابن حزم أن «قوة اللغة في قوة أصلها، وغلبتها غلبة أهلها» ومثلما تقوى اللغة بقوة الأمة وتتوسع بتوسعها، فإنها أيضاً تساهم في صلابة كيان الأمة، وتقوم بدور المِلاط الذي يجعلها متماسكة وموحدة الوعي والمشاعر على الأقل، وحسب تعابير عصرنا، فإن اللغة هي من أسباب التضامن الأساسية. ولسان كل أمة هو تاريخها، وعلى رأي رولان بارت فإن اللغة «هي وسيلة الحركة الإنسانية كلها، في المجال العلمي والسياسي والثقافي والإعلامي والاجتماعي والتربوي، وهي وعاء ذلك كله ووسيلة ذلك كله، وإذا تراجعت اللغة توقفت الحركة الإنسانية وانقطع الاتصال والتواصل والتفاهم؛ ذلك أن اللغة هي من أهم وأدق المواصلات وأوعية المعلومات وتواصل الأجيال».
سابعاً: اللغة العربية والدين الإسلامي
تنبغي الإشارة إلى أن القرآن والدين الإسلامي عامة، ساعدا اللغة العربية على التوسع والانتشار وزيادة عدد المتكلمين بها، وعلى التجذر في عمق ثقافة الشعوب الإسلامية (غير العربية والعربية أيضاً) وقد صُنفت هذه اللغة منذ بدء عصر التدوين مع العلوم الدينية وعلوم الشريعة، وأحاطها المتكلمون بها والشارحون لها والفقهاء بعنايتهم إلى درجة قاربت التقديس، وأنزلوها منزلة علوم الفقه والأصول في حالات كثيرة، لأنه يتعذر فهم آيات القرآن فهماً صحيحاً من دون معرفة اللغة العربية معرفة عميقة، والاطلاع على نحوها وصرفها وفقهها بشكل عام، وعلى كتب التفسير التي تقتضي معرفة اللغة العربية لفهمها، ولذلك قال ابن جني «مطلوب من الفقيه شرعًا أن يعلم العربية؛ لأنها وسيلة واجبة لتأمين الاعتقادات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»؛ وقال ابن العلاء «علم العربية هو الدين بعينه». وقال رشيد رضا «إن معرفة العربية هي من ضرورات دين الإسلام». ومثلما حملت العربية القرآن حفظها هو، وكان تماهي اللغة العربية مع الدين الإسلامي ومع القرآن خاصة وسيلة مثلى وسبباً رئيساً لحفظ هذه اللغة، وعلى ذلك تضافر عاملان رئيسان لحفظ اللغة العربية وضمان استمرارها وديمومة حيويتها، وجعلها تحافظ على موقعها بين أقدم اللغات العالمية، وعلى وظيفتها كحامل للقرآن ووعاء للثقافة العربية وهذان العاملان هما: الأول: قوة الأمة العربية وتوسع نفوذها وسلطتها عدة قرون، والثاني حمل اللغة للدين الإسلامي والقرآن وعقائدهما وتعليماتهما.
ثامناً: اللغة العربية والوعي القومي
إن اللغة هي من أهم عوامل تشكيل الأمة ومقوماتها، ذلك لأنها تختزن خصائص الأمة وعوامل تكوينها، كما أنها وعاء حقيقي لتاريخ الأمة وتجاربها ونجاحاتها وإخفاقاتها ومفاهيمها وقيمها، وفنونها وآدابها، وبالإجمال هي مخزن ثقافتها، ورابط ثقافي وعقلي ووجداني وروحي بين أبنائها، وعامل فعال في نقل هذا كله من جيل إلى جيل في الأمة الواحدة، وتشكيل الوعي القادر على فهم الأمة وحاضرها وتاريخها وآمالها، وعلى ذلك، تؤدي اللغة دوراً في تجديد ثقافة الأمة وحضارتها، وأساساً ومرتكزاً لبناء الوعي القومي الوحدوي العربي، وتحريضه على المساهمة في نهوض الأمة وتطورها، والتحول إلى عامل وجداني لدى أفرادها لتحقيق هذا الهدف، وهي عامة وسيلة إيقاظ الوعي بما تحمل من مفاهيم وقيم وتجارب وأحداث تاريخية وخبرات، وبالتالي فهي وسيلة الإدراك والإبداع، كما أنها توحد العواطف، وتسهم في إنتاج الوعي وتنمي الشعور بالانتماء إلى الأمة والافتخار به،
لقد تبلور الوعي القومي العربي في العصر الحديث في نهاية القرن الثامن عشر من خلال اقتران دعوة النهضويين العرب إلى العروبة وتجديد الفكر الإسلامي، وتوحد في نظرهم مفهوما العروبة والإسلام، وكان المعنيان لديهما يكمل أحدهما الآخر. وقد نتج الوعي القومي العربي من الجذور التاريخية للأمة، والشعور بضرورة إحياء تراثها والوعي بمهمتها التاريخية ودورها الإنساني ومشاركتها في تطور العالم، وحملت اللغة العربية جوانب الثقافة المختلفة لتنقلها وعياً بالأمة نفسها وبتاريخها وبضرورة إصلاح مسيرتها، والعودة إلى الأصول وفهمها وغربلتها، واستعمال النقد والاجتهاد والمنهجية العلمية لفهم تطور الأمة وتحقيق الوعي الذاتي بها، وتجديد تراثها وإحيائه عامة وتعزيز لغتها، سواء أكان الهدف الظاهر هو خدمة الدين أم تجديد فكر الأمة وإحياء نهضتها، وفي الحالات كلها، اضطلع الوعي المستند إلى مخزونات اللغة بدورٍ أساسيٍّ في ذلك.
تعبِّرُ المظاهر الحديثة للوعي القومي عن نفسها بالإشارة إلى الحضارة العربية ومضامينها ودورها في الإسهام في الحضارة الإنسانية، ودور العرب التاريخي في ذلك وواقعهم المتخلف، ولعل الوعي بهذا، أي بماضي الأمة وحاضرها، يكون حافزاً للعمل على تجديد الثقافة العربية وتعزيز وحدة الأمة لتعود وتكمل رسالتها التاريخية. وهكذا فاللغة هي أساسٌ في بناء الوعي القومي، فعبر اللغة العربية وإنتاجها المعرفي تنتج ثقافة الوعي العربي.
يقول يحيى الرخاوي في دراسته عن اللغة العربية والوعي القومي «إن العلاقة بين كل من الوعي واللغة هي علاقة وثيقة حتى لتوحي بالتماثل، وبالرغم من ذلك فهما ليسا واحداً، فرغم اتفاقهما في أن كلاً منهما يؤدي عملية تخليق وتشكيل منظومة ملتحمة بما تحتويه، فإن ثمة فروقاً ضرورية لا بد من التنبيه عليها، وهي أن اللغة توليد ذو وحدات أوفر كثرة وأنشط تشكيلاً وأحضر إبداعاً وأقدر حواراً، في حين أن الوعي أكثر منظومية، وأعمق رسوخاً، وأطول زمناً، وأجهز تنسيقاً»، فاللغة «هي وحدة الوعي وفي الوقت نفسه هي تشكيلاته المتداخلة القادرة على الإفصاح المعرفي دون إلزام بلاغيٍّ محدد، والوعي هو كلية اللغة كونها منظومة مستقرة نسبياً»، وعلى هذا فإن تشكيل الوعي «يعتمد بالضرورة على ما تتصف به اللغة من قوة وضعف، وإحكام وترهل، وإبداع وتناثر».
تاسعاً: مجامع اللغة العربية ومعاجمها
اهتم النهضويون العرب في القرن التاسع عشر، بتجديد اللغة العربية وتطويرها وتحديثها، وتأهيلها لاستيعاب التطورات العلمية والحضارية المتنوعة، وحاول بعضهم بذل جهد فردي في هذا المجال، كما هو حال أحمد فارس الشدياق وإبراهيم ناصيف اليازجي، ورغم المساهمات الهامة التي قاموا بها في مجال صرف اللغة إلا أنهم لاحظوا أن جهودهم الفردية لا تستطيع الإحاطة بهذا الأمر والقيام بهذه المهمة الجليلة، فدعا الشدياق عام 1868م إلى إنشاء مجمع لغوي وتكليفه بتنسيق المصطلحات، وإيجاد ألفاظ جديدة لمواكبة التطور العلمي. كما دعا إبراهيم اليازجي إلى مثل ذلك وإلى تيسير النحو وقال «ما أحوجنا إلى مجمع لغوي يوكل إليه البحث في هذه الأوضاع ويناط به إحياء اللغة وإلحاقها بسائر لغات أهل العصر». وقد لاقت فكرة إنشاء مجمعٍ للغة العربية استحسانا ًوتأييداً من محمد عبده ورشيد رضا ونالت إعجابهما، ثم أسس توفيق البكري أول مجمع غير حكومي (عام 1892) وبعدها بدأت الحكومات العربية تؤسس المجامع الرسمية منذ مطلع القرن العشرين، فتأسس مجمع للغة العربية في دمشق عام 1919 تحت اسم «المجمع العلمي العربي» وترأسه محمد كرد علي، ثم تبع ذلك تأسيس مجمع فؤاد الأول في القاهرة عام 1932، وتأسس بعده المجمع العلمي العراقي عام 1947، وتتالى بعدها تأسيس المجامع في البلدان العربية الأخرى.
لقد أوكل إلى مجامع اللغة العربية الاهتمام بالمصطلحات في مختلف الجوانب العلمية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، كما أوكل إليها إضافة لفظات جديدة إلى اللغة العربية، وتعريب الكلمات الأعجمية، وتنقية اللغة من الشوائب، وتسهيل نحوها وتيسير استخدامها، وتبسيط هذه اللغة وجعلها سلسة باللفظ وعلى السمع، قادرة على تمثل المستجدات وتعريبها. وقد حاولت مجامع اللغة العربية تنفيذ هذه المهمات، فنجحت إلى حد ما، لكنها لاقت مصاعب عديدة اعترضت طريقها، منها نقص المخصصات المالية (شأن المؤسسات الثقافية جميعها في البلدان العربية) والتضييق على استقلالها الإداري، وعدم مساعدتها من قبل الحكومات بأن تصدر التشريعات اللازمة للمساهمة في تطوير اللغة والاستجابة لاقتراحات المجامع، وهكذا عانت هذه المجامع تبعات الارتباط الحكومي والعجز المالي والقصور التشريعي، فلم تستطع توسيع مهماتها وتنويع برامجها وتطوير أهدافها لمساعدة اللغة العربية على سد الفجوة التي نتجت من التطور العلمي والتقاني والثقافي والاقتصادي وغيره، وبقيت مجامع اللغة العربية تنتظر توسيع صلاحياتها واستقلالها الإداري ودعمها بالتمويل المطلوب الذي يتناسب مع مهماتها الجسام، وإصدار التشريعات لدفع اللغة خطوات إلى الأمام، وفي الوقت نفسه، قصرت هذه المجامع في التحلي بالحيوية المطلوبة، كما تجاهلت ضرورة تجديد أعضائها.
من جهة ثانية، لم يقتصر نشاط النهضويين على اقتراح تأسيس معاجم اللغة العربية بل تبع ذلك نشاطهم من أجل تأسيس هذه المعاجم فعلاً، سواء لمماثلتها مع اللغات الأخرى، أم لتضمينها مصطلحات جديدة علمية واقتصادية وفي مختلف جوانب النشاطات الإنسانية المعاصرة، وصدر أول معجم إنكليزي – عربي في العلوم الطبية منقحاً عام 1928 لمؤلفه محمد شرف، وضم (70) ألف مصطلح، ثم صدر معجم أسماء النباتات عام 1931 لمؤلفه أحمد عيسى، ومعجم الحيوان لمؤلفه أمين المعلوف عام 1932 ومعجم الألفاظ الزراعية لمصطفى الشهابي الذي صدر في دمشق عام 1943، ورافق ذلك موجة من ابتكار المصطلحات والكلمات الجديدة، وقد تهيأت بذلك (تأسيس المجامع وإصدار المعاجم) الشروط الضرورية للغة العربية لتنفض عن كاهلها غبار الجمود الذي أصابها في عصور الانحطاط وتحت الاحتلال العثماني للبلدان العربية، ودخلت بذلك مرحلة التحديث والتطور.
عاشراً: اللغة الفصحى والعامية واللغات الأجنبية
لم تتحول اللغة العربية الفصحى إلى لهجات عامية محكية في جميع البلدان العربية نتيجة هِنةٍ فيها أو خلل في نحوها وصرفها أو حتى نتيجة جمودها وتخلفها في عصور الانحطاط، وإنما ساهمت في ذلك عوامل عديدة وشروط وظروف موضوعية، ولعل على رأس هذه الظروف تمزق وحدة الأمة إلى تجمعات كبيرة أو صغيرة مغلقة، لكل منها نمط حياتها وهمومها المختلفة وشروط عيشها الاقتصادية والاجتماعية وخصوصيتها الإدارية والسياسية، وانغلاق كل من هذه التجمعات على نفسها، وضعف الصلات والروابط بين كل تجمع وآخر، وكان طبيعياً أمام هذه الظروف وبعثرة الأمة، وفصل مجموعاتها بعضها عن بعضها الآخر، أن يصيب الخلل اللغة، ونشأت لفظات مختلفة تتواءم مع ظروف كل مجموعة، وأسلوب لغوي يتناسب مع أسلوب عيشها، وشيئاً فشيئاً ابتعدت هذه اللهجات بعضها عن البعض الآخر، وكلها عن اللغة الأم. وكان قرب كل منها أو بعدها عن غيرها يتعلق بتشابه الظروف التاريخية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية والعلمية وغيرها التي مرت بها كل جماعة وبالتالي كل لهجة، وأدى ضعف التواصل بين هذه التجمعات إلى نشوء لهجات (لغات) دارجة على ألسنةِ الناس، بل أدى هذا التباعد إلى ولادة لهجات لكل مدينة أو منطقة أو ما يشبهها.
لقد تجذر وجود اللهجات العامية واستفحل دورها وزادت فعاليتها، حتى أصبح كل منها يشكل اللغة المحكية للناس، ووسيلة التواصل والاتصال الأولى، وهدد وجودها اللغة الفصحى التي تحولت إلى لغة دينية وأدبية ولغة رسمية فقط، وخاصة بعد أن منعت السلطنة العثمانية تعليمها في المدارس الرسمية واستعمالها في المحاكم ودوائر الدولة، ونشأت فجوة بين اللغة الفصحى واللهجات العامية، وتعذر على الأكثرية الساحقة من العرب إمكانية الحديث بالفصحى، وأصاب الجمود والانحطاط لغة العرب الفصحى، وربما لولا أنها لغة القرآن، ولولا إنزالها منزلة الفقه وأصول الدين لذوت وماتت، فاللغات كالكائن الحي تولد وتنمو وتموت، وإذا أريد استمرارها حية فلا بد من عامل مساعد، وهو هنا بالنسبة إلى اللغة العربية أنها لغة القرآن ولغة الفقه والتفسير.
لقد أدى تعدد اللهجات العامية في عصور الانحطاط وتجذرها وإضعافها اللغة الفصحى، وانتشار الأساطير والرؤى (العامية) غير الموضوعية ولاالعلمية للتاريخ العربي وللفقه، والبعد عن النقد الموضوعي لهما، وما يشبه القطع مع الثقافة العربية الجادة والتاريخ الحقيقي بل وصحيح الإسلام، حتى صار كل شيء في تراث العرب وثقافتهم وتقاليدهم وعاداتهم، بل ومنظومة قيمهم عامياً بالمعنى الكامل للكلمة. وكانت النهضة القومية نهضة ثقافية قبل أن تكون سياسية، وكذا نشاط النهضويين ومساهماتهم، وما رافق ذلك من محاولات جادة للتعريب وإيجاد المصطلحات وابتكار لفظات جديدة وتيسير النحو وتجديد اللغة العربية بشكل عام وتيسيرها، فضلاً عن انتشار وسائل الإعلام ثم وسائل الاتصال، ما أدى إلى إحياء الفصحى، وحقنها بنسغ القوة والحياة، وتطوير اللهجات العامية، ودفعها خطوات نحو الفصحى فحدث التقارب بينهما من جهة، وزال خطر استفحال العامية وضعف الفصحى من جهة ثانية، وتمت الاستفادة من مساهمة العامية بدورها في الإبداع أيضاً من جهة ثالثة. وقد أضافت وسائل الإعلام منذ عصر النهضة حتى الآن، كلمات وعبارات جديدة، وتراكيب لم تكن تعرفها اللغة العربية الفصحى.
أما اللغات الأجنبية فقد انتشرت في البلدان العربية وأصبحت تستعمل حتى في الحياة اليومية، وأشير خاصة إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، اللتين صارتا أكثر تداولاً، سواء في المدارس والجامعات ومؤسسات البحث والدراسات أو في الندوات والنشاطات العلمية والثقافية، وقد أثر هذا الانتشار والتداول سلباً في اللغة العربية، وهي مضطرة الآن إلى أن تتعايش مع اللغات الأجنبية واسعة الانتشار، كما تعايشت مع اللهجات العامية، وقبل ذلك مع لغات الشعوب الإسلامية.
يعود انتشار اللغات الأجنبية في البلدان العربية، واستعمالها من قبل بعض المدارس والجامعات ومراكز البحث والدراسات وحتى الأفراد، إلى عدة عوامل أهمها:
1 – التقدم الحضاري الذي حققه الغرب الأوروبي والأمريكي في مختلف مجالات الحياة الصناعية والزراعية والهندسية والمعلوماتية وفي العلوم الإنسانية وغيرها، مما نشر لفظات وصفات ومفردات وأسلوب تعامل رافقت هذه المنتجات الأوروبية وانتشرت معها، ورغم أن اللغة العربية حاولت إعمال التعريب وإضافة مصطلحات ولفظات عديدة، إلا أن اللغات الأجنبية بقيت منتشرة. فهي تعود إلى أمم وشعوب متقدمة علمياً واقتصادياً وحضارياً، مما أدى، إضافة إلى أسباب أخرى، إلى انتشارها وإلى الهيمنة على البلدان العربية، ومثلما أصاب مرض الشعور بالدونية الفرد العربي أمام وطأة النهضة الأوروبية وتقدم الشعوب الأوروبية والغزو الأوروبي، أصابت الدهشة هذا الفرد بسبب المنتجات الحضارية الأوروبية والصناعات المتنوعة والقوة العسكرية والتقدم العلمي والحضاري عامة، وانعكس ذلك على الموقف من اللغة العربية واللغات الأجنبية، التي أصبح الفرد العربي يفتخر بالتحدث بها وبإتقانها ولا يهتم كثيراً بإتقانه لغته.
2 – أدى الوجود الاستعماري في البلدان العربية، إلى نشر لغة المستعمر، وفرض تداولها في كل مكان، ومجال نشاط في البلد المستَعمَر، ورغم خروج الاستعمار فإن لغته بقيت، أو بقيت آثارها وتقاليدها وتأثيراتها، وهذا ما نلمسه بوضوح في بلدان المغرب العربي تجاه الفرنسية وفي بلدان عربية أخرى تجاه الإنكليزية. وشكلت هذه اللغات اختراقاً ثقافياً واضحاً، وأبقى المستعمر خلفه ألفاظه وأسلوبه في الكلام والتعايش مع لغته وأسلوبه في العيش أيضاً.
3 – تخلفت النهضة العلمية والحضارية العربية، مما أبقى الشعوب العربية بحاجة إلى هذه اللغات الأجنبية كي تساعدها على التحديث والتطوير، خاصة بعد أن أصبح التواصل سهلاً بين شعوب الأرض، وتشابهت أنماط الحياة اليومية، والسلوك الاجتماعي، والمسميات المتعلقة بها، وأسلوب التخاطب والتعامل بين البشر أيضاً.
4 – لم تؤد العولمة فقط إلى تنميط الاقتصاد العالمي، بل غطت أيضاً الشؤون الحياتية اليومية، وسبل العيش، والممارسة اليومية، وساعدت ما بعد الحداثة بكل ظروفها وشؤونها ومستجداتها وتأثيراتها في انتشار العولمة، فهيمن نمط عيش وحياة متشابه، وساد التنميط معظم جوانب النشاط الإنساني، ومن ذلك التحدث جزئياً بلغة أجنبية (إنكليزية خاصة) أو على الأقل إدخال كلمات منها في اللغة الدارجة، سواء أكان للفظة بديل عربي أم لم يكن، لأن التحدث بهذه اللغات، أو خلطها مع اللغة العربية أصبح دليل فخرٍ (علمي أو ثقافي أو اجتماعي) للمتحدث، ومجال (استعراض) ثقافته ومنبته الطبقي المختلف.
لقد أدى هذا كله إلى نتائج سلبية على اللغة العربية، مما ساهم في تهميشها أحياناً، أو إظهارها بمظهر العاجز عن اللحاق بالتطور الإنساني في مختلف جوانب الحياة أحياناً أخرى.
حادي عشر: المقترحات
1 – اعتبار دعم اللغة العربية وإثرائها وتطويرها وتجديدها وإتقانها قضية وطنية شاملة لا مهمة لجهة واحدة أو مؤسسة أو قطاع بعينه أو مهمة الحكومة فقط، بل هي مهمة منظمات المجتمع المدني، ومؤسسات الدولة، والأحزاب والجمعيات وغيرها، ذلك لما للغة من دور مهم في الثقافة العربية والهوية والوعي والتاريخ العربي والحضارة العربية، فضلاً عن حملها للقرآن، وعلى ذلك فالحكومة والدولة والمجتمع والمؤسسات كافة معنية بدعم هذه اللغة وتهيئة الشروط المطلوبة لتقوم بدورها. وإن كانت مسؤولية الدولة هنا وحكومتها هي المسؤولية الرئيسة، فإن ذلك لا يقلل من مسؤولية المجتمع ومنظماته غير الحكومية وغيرها.
2 – الاستفادة من وسائل الإعلام والصحافة والاتصال جميعها في نشر اللغة الفصحى وتيسير استخدامها، والابتعاد عن اللجوء إلى العامية في هذه الوسائل وتوخي سلامة النطق، والعمل بالواقعية والبساطة والمرونة في اللغة الإعلانية، وعدم استخدام اللغة الضعيفة أو المتهالكة، وعدم خلط العامية بالفصحى أو خلط الفصحى والعامية بلغة أجنبية. وفي الوقت نفسه تحضير المجتمع وتحفيزه على التقرب من اللغة الفصحى والتحدث بها، وتكليف المدارس ووسائل الإعلام وضع خطط تنفيذية لتحقيق هذا الهدف.
3 – أقرت جميع الدول العربية في دساتيرها، ومنذ بدء الاستقلال، أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ويُلزم هذا القرار باعتباره أصبح مادة دستورية الحكومة والدولة والشعب بأن تكون اللغة العربية هي لغة السياسة والثقافة والتعليم والاقتصاد والإعلام والدوائر الرسمية، إضافة إلى كونها لغة الاتصال، وينبغي والأمر كذلك، أن تقوم الدولة وحكومتها بهذه المهمة وتضع الخطط وتنفذ البرامج وتحفز المؤسسات وتبذل الجهود لتحقيق هذا الغرض، وتصدر القوانين والتشريعات الضرورية لذلك.
4 – إقرار التعليم في المرحلة الأساسية كلها (المرحلتين الابتدائية والإعدادية) باللغة العربية، وزيادة عدد ساعات التدريس بهذه اللغة، ووضع برامج لإقامة نشاطات في المدارس تهدف إلى تسهيل استخدامها والتحدث بها، وتخصيص درجات إضافية للغة العربية في الامتحانات المدرسية تفوق درجات أي مادة تدريسية أخرى. ودعم تعريب المصطلحات العلمية التي ترد في جميع العلوم وفي الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفلسفية وغيرها.
5 – منع الإعلانات باللغات الأجنبية واللغة العامية، وإلزام المعلنين بنشر إعلاناتهم باللغة العربية الفصحى، وعدم التهاون في هذا المجال.
6 – تنشيط حركة تعريب المصطلحات، وابتكار لفظات جديدة، وتطوير أسلوب التحدث بالعربية، ونقد التراث اللغوي وتنقيته من شوائبه.
7 – منح مجامع اللغة العربية الميزانيات المطلوبة لتقوم بدورها ومهماتها، وتجديد أعضائها، وإنشاء معجم متكامل لتاريخ الكلمات العربية، وكتابة تاريخ اللغة العربية من جديد في ضوء المفاهيم الجديدة لكتابة تاريخ اللغة.
8 – تشجيع الاستثمار العام والخاص في مجال حاجات اللغة العربية وتطويرها والحفاظ عليها وبما يساعدها على القيام بمهماتها.
قد يهمكم أيضاً علم الكلام الإسلامي في دراسات المستشرقين الألمان
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #اللغة_العربية #الوعي_القومي #مجامع_اللغة_العربية #اللغة_الفصحى #اللهجات_العامية #اللغات_الأجنبية_في_البلدان_العربية
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 435 في أيار/ مايو 2015.
(**) حسين العودات: كاتب وصحافي سوري.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.