ما هي برأيكم الوظيفة الأساسيّة للغة؟ وكيف تطورّت في حياةِ الشعوب؟

يُفترض بنا تعريف اللّغة قبل توضيح الوظيفة وكيفيّة تطوّرها. عَرّف ابن جِنّي في كتاب الخصائص اللّغةَ بأنّها أصواتٌ يُعبِّر بها كل قومٍ عن أغراضهم. وهي بهذا تمثّل نظاماً صوتيّاً له دلالاته ورموزه، وقابلاً للنمو والتطوّر في مواكبة سياقٍ اجتماعيٍّ وثقافيّ. تتألّف اللّغة، في رأيي، من جميع الاحتمالات الممكنة لتسلسل الأصوات المستودعة في مخزون الذّاكرة التخاطبية التاريخيّة. كلُّ مجموعةٍ إنسانيّةٍ استعملت ما ناسب بيئتها وحاجتها من الأصوات. وما تمّ انتخابه في مرحلة مُعيّنة يُعدُّ شيئاً ضئيلاً نسبةً لكلّ الاحتمالات. هكذا نستنتج أنّ اللّغة هي قاطرة تجرّ وراءها الحياة. غير أنّ توقّف لغتنا العربية عن الحركة زمناً طويلاً أفقدها حرّيتها في اختيار وجهتها التشكيليّة، فصارت مأسورة لتكرار ذاتها؛ تراوح مكانها عاجزة عن المواكبة. نعلم أنّ الإرثَ الحضاريّ وأسرار كنوزه مُخبّأة في ثنايا الكلمات، نثراً وشعراً، حكاية وتاريخاً، فإنّها، ومن البديهي أن لا تبقى اللّغة العربية أسيرة الماضي التراثيّ، وينبغي على المتلقّي أن يفاعل من خلالها وبها مخزونه المعرفـيّ، مُعيداً للكلمات سطوتها، بغرض صياغة تآلف جديد بين الممكن والظّاهر.

من هذا المنطلق يمكن القول: إنّ أهم وظائف اللّغة أنّها أداة تفكير وتواصل. وفي هذه الوظيفة إجابة جزئيّة عن القسم الثاني من السؤال، الذي يستبطن عملية تطوّر البناء اللّغوي، وبالتالي حياة ومكانة الأمّة. فاللّغة أداة الفكر ووعاؤه، ووسيلة الخطاب والتّواصل. وعندما نفكّر، نستخدم ذهنيّاً الكلام، أي بجدليّة استعارة مفردات متناسبة مع المنحى والمنظور الفلسفي أو الوصفي. فإذا كانت الكَلِمَة مرحلة من مراحل الفعل في الزمان والمكان، يتجه المفكِّر والمفكَّر به إلى استدعاء سؤال (لماذا)؛ وهذا مُحرِّك آليّة الذّهن لتفعيل الفعل نفسه، بملاحقة الاستخدامات في مواقعها، وشروط دلالاتها، قبل تثبيت نِطاقها ونُطقها. وفي هذا السّلوك حِراكٌ جدليٌّ مستمرٌّ بين الدّال والمدلول، بين القصد وأداة التوصيل. بذلك لا تكون حركة الذّهن مُقيّدة بثوابت، بل مُنطلقة، خَلَّاقة، متفاعلة، كونها في متابعة مع الفعل لا مع صورة من صور مراحله. أمّا إذا كان الفعل مرحلة من مراحل الكَلِمَة، أي الاشتقاق من الصّفة لا من فعلها، فيكون السّؤال الذّهني المُسبق لالتقاط الفكرة، أو لمقابلة أخرى، قبل النّطق وخلال التداخل الذهني هو (كيف)؛ كأنّه يستحضر حالات واستعارات وصُوَراً سبق استخدامها، ومطلوب من ذاكرته أنْ تبحث بين المحفوظات، كي يتسنّى له التقاط الأنسب لـِمُبتغاه. ويصير المُرتَقب الّذي يُنظَرُ إلى الكَلِمة من خلاله، عاجزاً عن وضعها في إطارٍ مُحدّدٍ ما لم يُحِطْ بالعلاقة بين الدّال والمدلول، وبين المخاطِب والمخاطَب، عند النّشأة الأولى للكَلِمة، مع معرفة بالبيئة الّتي استلهمتها.

وتطوّر اللّغة في حياة الشعوب، يعتمد اعتماداً وثيقاً على الظروف التاريخية والاجتماعية التي تعيش بها أمّة من الأمم. تطوّر المجتمع يستتبع تطوّر اللّغة وفق منهج التغيير. ويمكن القول إنّ تاريخ اللّغة يمثّل مرآة ينعكس فيها تاريخ الحضارات، وتطوّرها يتفاعل عند انتشارها.

أمّا التطوّر النشوئي للّغات، من مرحلة ما قبل تاريخ الإنسان المكتوب إلى وقتنا الحاضر، فهو صعب الإدراك، إذ ليس هناك شاهد يمكن أن يكشف عن أيّ اتجاه سلكه التطوّر من خلال دراسة اللّغات المتكلّم بها أو التي تركت الساحة لغيرها. وفي مجال الكتابة أمكن رصد تطوّر الكتابة لحضارتي بلاد الرّافدين ووادي النّيل، وتمّ من خلال ذلك مقابلة تطوّر اللّغات الجذرية: الأكدية السومرية، والكنعانية الفينيقية، والسبأية اللّحيانية، والآرامية السريانية، لفترة تمتد لأربعة آلاف عام قبل الميلاد.

يقولُ كثيرٌ من الألسنيين، إنَّ اللّغة نظام رموزٍ تشير إلى معانٍ متغيّرة، وترتبط في ما بينها بعلاقاتٍ صوتيّة لا حصر لها، وبعلاقات تركيبية (نحو وصرف) متنوّعة، وتختلف من لغةٍ إلى أخرى، ما يعني أنها لا تعرف الجمود، بل تعكس التطوّرات بكل أبعادها. هل ترى ذلك صحيحاً، أم إنك من المدرسة التي تقول إنّ اللغة جوهر ثابت وفقاً للمصطلح المستخدم في الفلسفة؟

إذا اعتمدنا ما قيل عن علم الكلام في أنّه بحثٌ عن أفضلِ ما هو مُركّب كفكر بواسطة الكلام. وما بيّنه ابن فارس في باب «حقيقة الكلام» لبعض آراء علماء اللّغة، منها: أنّ الكلام حروف مؤلّفة دالّة على المعنى، وأنّ الكلام ما نسمع ونفهم، نجد أنّ بعض أصحاب المدارس اللّغوية أرجع مصدرها ونشأتها إلى عدّة نظريات، منهم من اعتبرها أنّها وحي إلهيّ، ومن جعلها اصطلاحيّة، أي اعتماد تواليها في النّطق وليس نظمها لمقتضى المعنى، ومن أخذ بالمنهج الاعتباطيّ، ومن أخذ بالنظريّة القصديّة، ومن قال بفطريّة اللّغة ومحاكاتها للطبيعة.

المحتوى التأسيسيّ في اللّغة هو التواصل الدّلاليّ، وأساس الظاهرة اللّغويّة نظام فطريّ تنحلّ الدّلالات فيه تدريجيّاً من الخطاب إلى الجملة إلى الكَلِمة، إلى السّمة المميّزة الصّغرى الّتي هي الفارق الصّوتيّ. وهذا الفارق يبدأ من الحرف بكلّ خصائصه وسِمَاته الفرديّة: كالجهر والهمس، أو الشدّة والرّخاوة، أو الشّفويّة، أو الغنّة، ليشكل علامة وهيئة تميّزه. وفي أبجديتنا العربيّة حروفٌ إذا اجتمعت مع أخرى تُقلَب حركتُها أو تُظهرها بالسّالب. ومنها ما يأبى المقاربة إلّا بما يتناغم وقصد حركته. وللكَلِمة كذلك معنى يختلف من سياق إلى آخر. لذا فإنّ البحث عن المعنى المُختفي في ثنايا الكلمات، يتطلّب تفكيك جدليّة حركة حروفها، وبيان صلتها بسير حركة الوجود، كونها المَنْشأ الأساس للكَلِمة الآسرة للمعنى، والّتي دُمِغَ بها الذّهن كإرثٍ مُكتسب. وحيث تعتمد اللّغة العربية في تكوينها الفقهي على مَبدأ التّناقض المُؤدّي إلى التّوازن، تكون مُسمّيات حروف أبجديتها مدخلنا الأساس لكشف البصائر على ما تنطق به من مدلولات، خاصّة إن نحن فككنا حروفها، آخذين بعين الاعتبار، أنّ الحرف قد اتخذ نقيضه للدّلالة على فاعليته، فأظهره النّقيض، كذلك أظهر تجانس واتجاه المجموعات وفقاً لخصائصها ووفقاً لنظرية توازن التّناقض.

حركة الجدل في مُسمّى الحرف تُقرأ من خلال تعاقب حروفه، ويدلّنا على قصد حركته، وسطُه الذي يأخذ بِهِ إلى نقيضه. ومن إدراك الحراك نستدل على سببه الذي عيّن الكيفيّة قبل أن تتكوّن. فنحن مع الحرف في حركة جدل معرفـيّ، والأصوات المتعاقبة لمكوّن حركته مستودعة فيه، نفكّكها كي نستعيدها. حركة الجدل بيننا وبينه تضمر سيرتنا التاريخيّة وإيّاه. وهي لم تجر اعتباطاً، وإنّما وفق قانون التوازن وجدل الكون ونحن منه.

هكذا فإنّ للّغة العربية الفصحى نظاماً جدليّاً مُحكماً مقيّداً بثلاث قواعد هي: النظام الصوتي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي. وحين نسمّي هذه القواعد أنظمة، يكون بين بعضها علاقات عضوية مع تمايز في ما بينها؛ بحيث تؤدّي كل قاعدة في النظام اللّغوي وظيفةً تختلف عمَّا تؤدّيه الأخرى، وتُحدث مجتمعةً تكاملاً عضوياً وسياقاً وظيفيّاً مُحكماً قابلاً لمعايرةٍ جدليّةٍ بين السّالب والموجب، وبين الأُفقيّ والرّأسيّ، مُشكّلةً من توازن التناقض نظاماً له القدرة على مسايرة البرمجة باعتباره وحدة متجانسة مع نظام كونيّ، يقبل كل العلوم، ويرفض ما لا ينسجم مع بنيته. كما لا يمكن الدخول إليه من لغة لا يرتبط معها بوحدة التكوين.

ما يمكن لفت النظر إليه هنا هو أنّ نقطة الضعف في النّحو العربيّ، ارتباطه الشديد بعلم المعاني. يُقال: إنّ علمي النحو والمعاني لا يمكن الفصل بينهما. وهذا يؤكّد أنّ السبب يعود إلى ما ذكرناه عن دور الحرف في تشكيل الكلمة، وفي الاستدلال على القصد الذي تمّ تأسيس البناء عليه، بإرجاع الثلاثيّ إلى الثنائيّ والقراءة باتجاهي جدليّة الثنائيّ وفق قاعدتي «القلب والدوائر»، التي عالجتها في كتاب «جدلية الثنائي وآلية الاشتقاق»، صفحة 22 – 23. بعد ذلك يمكن إرجاع الكَلِمة إلى السياق ومزج مُعطيات علم النّحو بمعطيات علم المعاني.

أثبتت لغتنا العربية أنّها قادرة على التكيُّف والتطوّر، منذ ظهورها حتى اليوم، ومرّت بتجارب استيعاب العلوم والآداب عندما تفاعل العرب مع الحضارات القريبة والبعيدة، فأخذوا عن اليونان والفرس والهند وغيرهم، خصوصاً إبّان ازدهار الترجمة في العصر العباسي (عهد المأمون)، وكانت اللغة العربية في حالةٍ من المرونة جعلتها تستوعب معاني جديدة وألفاظاً جديدة، أما في المرحلة الراهنة فنشهد حملة قويّة يدّعي أربابُها بأنّ اللغة العربية تجاوزها العصر، ولم تعد قادرة على الاستيعاب، فما هو برأيكم سبب هذهِ الحملة؟ وما هي أبعادُها غير اللغويّة التي تنعكس على اللغة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يتوجّب ملاحظة أن اللّغة العربية هي شقيقة اللّغات الجذرية: الأكدية والبابلية والآشورية والكلدانية، والكنعانية (العبرانية)، والفينيقية والأثيوبية والأمازيغية. ولها صلات قُربى واقتراض متبادل مع لغات عدّة، ترتبط وإيّاها بجذور البنية الصوتية للحروف، كاللّغات الأوروبية والهندية والفارسية. ويتوجّب إدراك أنّ اللّغة العربية ليست منسوبة للجنس العربيّ، بل إنّ العرب والأعراب والعربية، كلّها مُسمّيات تشترك بسمة الإعراب والوضوح، وهذه خصيصة اللّغة العربية[1]. وهذا ما أتاح لها الإقراض والاقتراض من اللّغات الشقيقة، وتعريب ألفاظ من لغات مختلفة لتسلك مع اللّسان العربيّ مسلكاً سهلاً.

مبعث المرونة في اللّغة العربية، هو أنّ جذور اللّسان ونظامه أسبق من تكوّن المجموعات اللّغويّة (الجذرية)، وأنّ اللّغة وليدة اللّسان ومتفرّعة عنه. وهي تحمل جينات الأحرف ونطقها. ويتمثّل ذلك في مدى القدرة على استخدام آلة النّطق، وما ينتج من استعمالات. وحيث إنّ الكلام صلة التواصل الفكريّ بين المتخاطبين، يمكن القول إنّ التفريق بين اللّغة والكلام هو أمرٌ ذاتيٌّ. ولا يمكن مَنطقيّاً مجرّد التّفكير باللّغة ما لم تكن هذه المسألة متفاعلة في مدارك الإنسان. فكلُّ فردٍ يمارس التّفريق عَمَليّاً لأنّه في الواقع يحاول بطريقته وحسب براعته، أن ينتخب من اللّغة ما يعبِّر عن: أفكار، خطط، مشاعر، وأهداف…، بذلك تتمايز المهارة اللّغويّة إزاء القدرة على الانتخاب كي تصل إلى البلاغيّة. ومن المحال التّحدّث في أيّ موضوعٍ، من غير أن يكون هناك شعورٌ بوجود كيانٍ لُغويٍّ ينتخب منه المتحدِّثُ التراكيب الّتي تعبِّر عن آرائه وعن شخصيته.

بهذا يصبح القول إنّ اللّغة العربية لم تتغير، لكنّ القيّمين عليها، بوعي أو من دون وعي، أهملوا واجباتهم، واغتربوا أو امتهنوا المهانة. فاللّغة العربية بمنظومتها الجدليّة، بدءاً من الحرف إلى الكلمة والجملة والنسيج الكتابي، لغة متجذّرة لها تاريخها ومخزونها وقدرتها على التجدّد والتأصيل والتوليف والتوليد، واستيعاب وهضم كل ما يصلها. فبنيتها منتظمة بوحدة قانون توازن التناقض، الذي يحكم الوجود، به نشأت وبه تستمر.

بالنسبة لحملة التخريب وأبعادها غير اللّغوية، تعود لارتباط اللّغة العربية بالهويّة القوميّة، وبوحدة الأمّة، وبقدرها التاريخي والدّيني والحضاري. فاللّغة العربية واجهت ومنذ القديم محاولات تخريب وتجهيل، استُثمرت في العهود الاستعمارية المتوالية لإقصاء الإنسان العربيّ عن التمسّك بكنز وجوده ومفتاح حضوره. فعندما تكون الذاكرة اللّغوية مربكة والبنية اللّغوية مخرّبة غير مستقرة، صورية وطوطمية، يصبح الفكر عاجزاً عن مواكبة جدل الكون وقراءة جدل الطبيعة، والتناغم مع المستجدات. المطلوب إذاً، تصويب البنية اللّغوية بإعادتها إلى بنيتها الجدليّة، حينئذ يمكن اكتشاف تراثنا واسترجاع تاريخنا، وتفهّم شعرنا وآدابنا، ونصوص الفكر الدّيني، كذلك اختراق ومواكبة الفكر العلمي والرّياضي. عندها تصير لغتنا قوميّة النّهوض والتواصل.

تزدادُ في كثيرٍ من الجامعات العربية عملية تعليم العلوم باللّغات الأجنبيّة بدلاً من العربية. كيف تحلّلون هذهِ الظاهرة؟ وما هي أسبابها؟ ثم ما هي مخاطرها المستقبلية؟

قبل تعريب العلوم الحديثة، يتوجّب تصويب طرق تعليم اللّغة العربية للأجيال، كي يتسنّى لها ولهم القدرة على مواكبة العصر، واستنباط ألفاظ أو اقتراضها دون أن تفقد دقّة دلالاتها. فالقصور هنا ليس في اللّغة العربية بل تقصير أبنائها، وجهلهم بلغتهم. والعيب فيهم لا في اللّغة. المطلوب منّا استردادها من مستودع المهملات ومسح غبار الزّمن عنها، ثمّ مواكبة نبضها، بموازاة اختراق المعارف والعلوم باللّغات الأخرى، وهضمها ثمّ إنباتها في بستان جدليّة اللّغة العربيّة.

الإشكالية الأولى بدأت في مناهج ووسائل تعلّم اللّغة العربية الفصحى. وقد أحال الصديق الدكتور عبد الله الدنَّان، الضعف العام باللّغة العربية في الوطن العربيّ إلى عدّة أسباب أهمّها: الثّنائية اللّغوية، حيث لا تتطابق لغة التواصل الشفهيّ مع لغة الكتاب والمعرفة في المدارس العربيّة. وأشار إلى أثر هذه الثّنائية على المسيرة التعليمية العلميّة والثقافية، بما تركته من عجز قرائي وثقافي واستلاب حضاري. فلكل قطر عربيّ لغات محكية، وكذلك لغة مكتوبة. واللّغات المحكية أسبق وأثبت معرفة بالنسبة للطفل العربيّ، وهي مكتسبة وحميمية بينه وبين أمّه وأهله وأقرانه، يكتسبها وهو في سن القدرة الفطرية، أي في العمر بين الولادة وسنّ الخامسة. وعندما يصل الطفل إلى المدرسة يُفاجأ بلغة الكتاب الفصحى، ويطلب منه أن يتعلّم المعرفة ولغة المعرفة في آن. وما يزيد إرباك الطفل أن أستاذ اللّغة العربية يشرح اللّغة العربية الفصحى باللّهجة المحكية. هكذا تصبح الفصحى لغةً أخرى غير اللّغة التي يتخاطب ويخاطَب بها طيلة مراحل التعلّم، سواء لمادة اللّغة وعلومها أو للمواد العلمية والأدبية الأخرى. فهي بالنسبة له لغة ثانوية، في حين يستمر التواصل في المدرسة والبيت والشارع باللّغة المحكية. ولهذا تعثَّرت مزاوجة الفكر باللّغة واللّغة بالفكر. وينصح الدكتور الدنّان بتبنّي حلٍ علميٍّ يقضي بتواصل المجتمع العربي شفهياً باللّغة الفصحى، فأنشأ منهجاً تبنّته بعض المؤسسات التعليمية في دول عربية، تقضي بأن لا يخاطَب الطفل ولا تتم محادثتة إلّا بالفصحى، سواء في صفوف اللّغة العربية أو المواد الأخرى، حتى تصبح المحادثة بها أمراً مألوفاً لديه[2].

أمّا عن المخاطر فأهمها أنّ مدرّس اللّغة العربية يُعطي معلومات عن اللّغة الفصحى بالمحكية ولا يجسّدها بلسانٍ عربيٍّ مبين، أو فكرٍ جدليٍّ حواريّ، هكذا ينقطع التواصل باللّغة كفكرٍ محفّز، ويعمّ تخريب الفكر وليس اللّغة فقط. والمطلوب أن نعيد لغتنا إلى أساسها الحواري، لقراءة الكون بفكر جدليّ أيضاً، ومن ثمّ العبور إلى الحداثة، ونقل العلوم إلى اللّسان العربيّ من خلال موازاة فاعلة مع الفكر العلمي، لا نقلاً مسطّحاً لا يضيف جديداً.

المخاطر طاغية ليس في هذا المِفصَل فقط، وإنما في بنية فهم اللّغة العربية المطلوب منها حمل عبء المواكبة العلمية الحديثة. فالاستعارة من مخزون لغة ما، يبقى قرضاً مثقلاً، لا يُستَثمر بمجال التنمية إن لم تمهّد له الحقول والعقول، ويبقى الوعاء تراكميّاً لكمية من الألفاظ المقترضة، وقاصراً عن بلوغ دلالاتها التاريخيّة والجغرافيّة والعلمية المتبدّلة وفق فقه المعنى المتغيّر الذي واكب تطوّرها. المفترض عند الانتقاء من المخزون والمستودع فيما رُويَ وكُتب، أن تتحدّث المعرفة من خلال ذاكرتها، وأن تكون قد هضمت المخزون ليتفاعل مع بنية اللّغة العربية وجدليّة قوانين المعرفة.

أمّا المخاطر المستقبلية، فهي واقع محسوس اليوم، ومنظور من القريب والبعيد، أعني تخلّي العرب عن لغتهم التي هي ركن أساس في البنية القوميّة ينسحب على الحاضر والمستقبل، ويتوازى مع تخلّيهم اليوم عن أوطانهم، بسبب ضيق فكر مصدره لُغة مخرّبة.

ازدادت في الآونة الأخيرة الدعوات إلى تسهيل النحو العربي بذريعة أنه صعب، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام انهيارات واسعة في نظام اللغة، مع العلم أن القول بصعوبة النظام التركيبي في أي لغة ربّما يكون غير دقيق لأنّ اللغة يبدأ الإنسان باكتسابها من بيئته من دون الشعور بالصعوبة، فما رأيكم، وكيف تردّون على هذهِ الدعوات؟

الافتراض بصعوبة النظام التركيبي تمت الإجابة عنه جزئيّاً في الرد على سؤالك السابق. وما يمكن إضافته هنا، احتباك تركيب السياق في اللّغة العربية وكفاءة طرقها التركيبية، الذي هو بيّن في الجهاز الصرفي وفي التعليق النحوي, وفي حقل الظواهر السياقية. وهذا كله يرجع إلى خصائص تركيبية اللّغة العربية. والخصائص مبانٍ للمعاني، والمعاني غايات لها، فظاهرة التعدّد والاحتمال في المعنى الوظيفي – في طرق تركيب اللّغة العربية وأساليبها المتنوعة، هي من صميم غناها.

أمّا ما يتعلق بالدعوة إلى تسهيل النحو، فهذه مقولة مُحقّة، إذ يتعثر التلميذ العربي في مسيرته العلمية بما يبعده عن الكتاب وعن الاستمتاع بالقراءة لما في لغته من مخالفة صريحة بين ما هو مسموع وما هو مكتوب، كما لو أنه بحاجة إلى مترجم، فيتكوّن لديه موقف سلبي تجاه القراءة لانتفاء المتعة. فهو إن قرأ لا يفهم بما يسبّب له الملل وقلّة الصبر على استخلاص العبر، ويستسهل الاستماع والتلقّي لا القراءة والتفكّر، لهذا تتعطّل لديه إمكانية التواصل الفكري مما يؤدّي إلى انخفاض المنهج الإبداعي، ويصبح إنساناً متردّداً يسهل تضليله، ووقوعه في التطرّف لجفاف المخزون المعرفي. لذا يفترض أن يسلك التفكير مسلكاً مغايراً للطريقة والأسلوب الطوطميّ التصويريّ، بالانتقال إلى منهج جدليّ، وأن يتحرّر العقل من التقليد، ليتفرّغ للتأليف وابتكار كلمات تناسب مقتضيات العصر ووسائل التطوّر. وهنا نقف أمام معضلة حقيقية مَردّها نشأة مدارس النّحو، التي لبّت حاجة ورغبة الشعوب المنضوية تحت السلطة الإسلامية تعلّم لغة العرب. كانت جهود الأوّلين منسجمة مع مرحلة تاريخية واستيعاب وافدين إليها من شعوب مختلفة ومحمّلين بمضامين فكرية ولغوية اقتضت الإمعان في تقريب كيفية استخدام اللغة العربية دون الإنشغال بأسباب الاستخدام. بينما المطلوب اليوم تأسيس منهجيّة دلاليّة لأبناء العربية المغتربين عن جذور لغتهم، تبدأ من جدل الحرف توصلاً إلى جدل الكلمة ثمّ السياق، كي ينكشف النّحو والصرف من خلال توازن التناقض بين الكلمة ومرحلتها في حركة الفعل بين الزمان والمكان والحالة، دونما جهد، فيصار إلى معرفة سبب الاستخدام لا كيفيته، لنؤكّد أن ليس هناك ترادفٌ في اللّغة العربية، فلكل كلمة معنىً وحيّز لعملها، لا يصح غيرها لتعبّر عن قصد استخدامها.

لقد ألّفت حركةُ الحروف الثّمانية والعشرون وآلفت في ما بينها الكلام في لغة العرب، واعتمدت الإبانة في اللّسان العربيّ على الحركات، أي على صيغ الألف (الفتحة والضمّة والكسرة والسكون)، ومنها وبها يُقرأ المعنى الحركيّ والمعنى الجدليّ والمعنى القصديّ لكل كلمة، دون الوقوع في اجتهادات خارجة عن جدل توازن التناقض الذي هو محور اللّغة العربية. ويفترض في فقه اللّغة العربية الإقرار بأنّ الكَلِمة مرحلة من مراحل حركة الفعل في الزّمان أو المكان أو الحالة.

وفي الرّد على الافتراء بصعوبة اللّغة العربية، نؤكّد أنّها لغة مضبوطة بنظام مُحكم يمكن العبور إليه بسهولة من خلال فكّ رموز حروفه ومتابعة بنيان كلماته، فالضعف العام باللّغة العربية حاليّاً، لا يُردّ إلى صعوبتها، بل لقصور في معالجة الوسائل والأساليب لفهمها، والقول بعدم صلاحيتها لمواكبة العصر والتكنولوجيا، قول مردود أيضاً لأنها أمّ اللّغات وبنيتها لصيقة بالفكر العلمي منسجمة مع حركة الكون التي تحكم كل ما هو كائن أو في سبيل التكوين، لذا يمكن القول إنّ بها مفاتيح لكل ما أغلق من علوم. المطلوب لفهمها امتلاك مفاتيحها وبناء أساليب تعليم على أسس علمية.

وفي القول إن الإنسان يبدأ باكتساب اللّغة من بيئته من دون الشّعور بالصعوبة، قول صحيح بالنّسبة لكثير من اللّغات، إلّا بالنّسبة للعربية الفصحى التي تزاحمها وتطردها اللّغات المحكيّة في مراحل التعلّم الفطري عند الطفل. لهذا نلاحظ أن السّاعات المخصصة لتعليم الطفل اللّغة الإنكليزية في المدارس البريطانية يصل معدّلها إلى حوالي نصف ما هو مخصص لتعليم الطفل العربي لغته الفصحى.

نلاحظ في كثيرٍ من الكتب والدراسات والمقالات، وفي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة تراجعاً خطيراً في إتقان اللغة كتابة وقراءة ومخارج حروف وموسيقى. كيف تفسرون الأسباب؟ وما هي آفاق المعالجة والنهوض؟

قد يرى بعض الدارسين أن هذه مسائل شكلية غير ذات أهمية، غير أن إهدار اللّغة هو إهدار لشخصيتنا وتراثنا وثقافتنا ولأهم مقوّمات أمّتنا. إنّها استهانة وعبثٌ خطيرٌ، لا سيّما أنّ حلول اللّهجات المحلّية محلّ الفصحى، يساير مشاريع التقسيم القطرية. والمطلوب إلزام المتحدثين والمذيعين الذين يشاركون في حوار معيّن، أو في برنامج خاص، باستخدام اللّغة العربية الفصحى في أحاديثهم وإجاباتهم.

آفاق المعالجة متضمنة وعي الأسباب، وهي تستدعي العودة إلى إتقان لساننا العربيّ المبين. فالإبانة والإعراب يَكمُنان في الحركات وفي التدقيق بمكامن مخارج الحروف، وخصائص كل منها ليُصار عند النّطق التمييز بين الحروف المهموسة والمجهورة، والمذلقة، والمصمتة، والشديدة، والرّخوة، والمطبقة والمفتوحة، والمستعلية والمنخفضة، والمعتلة. كما يفترض إتاحة المجال للّسان كي يعمل على استقبال نبضة الصّوت عند ارتطامها واصطدامها بمخارج الحروف، لتساعدها على التواصل بسلاسة ويسر، فتتمّ الإبانة بما تميّزه حروف العلّة وصِيَغ حركاتها، أي الفتحة والضمّة والكسرة والسّكون والشدّة والتنوين، وتجعل للكَلِمة والكلام حركة قصديّة بين الزّمان والمكان، أو الزّمكان، وهكذا تُعرب الكَلِمة عن وجهة حركتها في السّياق.

أمّا بشأن إتقان اللّغة كتابة وقراءة، فيفترض التّفريق بين اللّغة والكلام، إذ تظهر أهمّيته عند دراسة الفارق بين المنطوق والمكتوب. فالكلام المنطوق يستعمل (أقوالاً)؛ أي لغات مساعدةً غير ظاهرةٍ، ومن أهمها نبرة الصّوت بنقل الإحساس، وهذا هو معنى النّطق السليم القادر على وصل نطاق بين الكلوم والجوارح. وبهذه الآلية يتجه المفكِّر والمفكَّر بملاحقة الاستخدامات في مواقعها، للبحث عن سبب استخدامها. فالفكرة تجول في الذّهن قبل أن تسلك سبيل التأليف. وفي هذا السّلوك حِراكٌ مستمرّ جدليّ بين الدّال والمدلول، بين القصد وأداة التوصيل.

لندخل في الشِقّ الإبداعي في اللغة، فمنذ مطالع القرن العشرين بدأت تتغير النظرة إلى نظام الشعر العامودي، وتفككت وحدة البيت لمصلحة القصيدة الدائرية التي تعتمد التفعيلة في البحور الشعرية المتجانسة، ثم وصلنا إلى حالةٍ مضطربة عندما انتشرت ما باتت تعرف بـ «قصيدة النثر»، وهو مصطلح مختلفٌ عليه كثيراً، فما رأيكم في كل ذلك، وكيف تنظرون إلى دور المبدع في فتح آفاقٍ جديدة للغة؟

يتضمن السؤال عدّة نقاط تحتاج إلى تفكُّرٍ وإلى بحثٍ مستفيض، لا يتسع المجال هنا لولوج مفاصل الاتفاق والاختلاف بين الآراء، منها: مفهوم الشّق الإبداعي وصور تألقه في الشعر والنثر والفكر والنقد.. إلخ، ثمّ «حالة الاضطراب» ومدى علاقتها بـ «قصيدة النثر»، وكما قُلتَ هو مصطلحٌ مُختَلفٌ عليه، لذا سأقتصر في الإجابة، عن المسافة بين الشعر العموديّ والنثريّ، منطلقاً من أنّ الشعر موهبة يتحلّى بها من يملك رهافة الحسّ، فيرى ما لا يراه الآخرون في المنظور المباشر. يأتيه شيطانه بالغيب فيستشف المجهول. حتّى قيل إنّ الشعراء أنبياء الزمان. أضيف إلى هذا أنّ الكلام من التكليم، وهو بما تعنيه لفظة «كَلِم» أي التأثير في الجوارح والكلوم. من هذين المرتقبين يمكن القول: إنّ الشعر قد تسلّل إلى المشاعر في مزاوجة بين الموسيقى والكلام، واتخذ اسمه من سلوكه السريع إلى المشاعر. فاعتلت الجملة اللّحن متكيّفةً مع أنغامه مخترقةً بسرعة وبلا مقدّمات الأحاسيس تكليماً، فلقيت الترحيب والترهيب والحفظ والتداول، لهذا واكبت القصيدةُ العمودية بيئة العربيّ ومراحل تطوّرها بين رتابة الصحراء إلى تسارع الحضور المدني، فاقترضت أوّلاً لحن البادية المعتمد على حدو الإبل، واستمدت من خبب الخيل سرعة الخطو، فكانت رسائله فروسية وغزواً وغَزَلاً وحنيناً إلى الأماكن والديار. ومع المزمار والناي والوتريات عبر التأليف الشعري إلى حياة القصور وتوشّح برفاهية مجتمع الحضر، ومجالس الغناء والطرب في الأندلس.

عبقرية الفراهيدي الذي وضع مُعجماً منمّطاً برمز (كود) الجذر الثلاثي، متابعاً مخارج صوت الحرف كما لو أنّ جهاز النطق آلة موسيقية يعبر الحرف تجاويفها كما يعبر النّغم السّلّم الموسيقيّ. هذا العبقريُّ ابتدع لتمييز الشعر، تبويباً له في بحورٍ كما لو أنّ الروافد والأنهار التي تُغذّي البحور لها خواص بين السّريع والطويل والخبب والرجز.. إلخ، وأنّ في كل بحر أمواجاً تتجاوب مع الرّياح. لم يكتف الدكتور كمال أبو ديب[3] بما تبنّاه الفراهيدي، إذ تنبّه إلى أنّ نظرية البحور لا تجسّد حقيقة ودقّة الإيقاع الشّعريّ، فقدّم قراءة نقديّة لموازنة الموسيقى الشعريّة، كي يستعيد ما أقصاه وما لم يلحظه الخليل، وكي لا يُصار إلى قوننة الإيقاع الشّعري، وأسر الموسيقى العربية داخل سور من التفعيلات المحدودة، معتبراً أنّ بحور الخليل لا تحيط بجامع الإيقاع الشعريّ العربيّ، ولا يستغرق مخزون اللّغة والموسيقى، مشبّهاً ذلك بمن يسجن البحر كلّه في موجات معدودات.

ما ميّز الشعر عن المقال والحكاية، أنه إن وصف موّه وإنْ قرأ استبطن، وإن قال رمز، وكلّ ذلك في استشفاف المعاناة ليوصلها إلى الكلوم صارخة، ملتبسةً بحيلٍ إبداعية لا تقول مكاشفة ولا تُلغي دور المتلقّي بل تدعوه للاتحاد بالرؤية التي استوحاها وللتحليق معه في أبعادها الاحتمالية. وإذا كان الشعر العربي، سواء العمودي الفصيح أو النّبطي – المعروف بالزّجل، قد اعتلى النّغم الموسيقيّ للعبور إلى الكلوم، فقد استطاع الشّعر الحديث تكليم العقل والفكر بالمواربة حيناً، وحيناً بصعق من الدهشة بين المنطوق أو المقروء وما يستبطنه، لا لكي يداهن بل ليثير في العقل والفكر ثورة الانفعال، وهنا تكمن إبداعات الشّعر الحديث الذي استغنى عن ركوب الموجة الموسيقية تاركاً آلة العزف ليمتطي آلة المباغتة. لذا فالإبداع هو الإتيان بالبديع واستخراجه من بحور لا تعرف القرار، مجدّداً المراكب والمجاديف، ليقول ما لا تقوله الكلمات.

ثمّة نقطة تتعلّق بالقصيدة النّثرية، إن اتفقنا أنّها قصيدة، أي لها قصد فيما رصف من كلام، هو في أن إبداعات الشعراء الأوائل الذين واكبوا هذه الموجة كنازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب، ومن ثمّ أدونيس وغيرهم، لم يتركوا التفعيلة ولم يستغنوا عن الموسيقى الشعريّة، وإن كانت في بعض الأحيان غير مقيّدة ببحور الخليل، ومنها ما استجدّ مع التداخل والموسيقى العالمية، التي أتت بمعجزات السمفونيات، لذا وصفت بالقصيدة النثرية لأنّ بيتها لم يبن على عمود معيّن، بل صُب أفقيّاً مسطحاً حيناً، ومتمايلاً أو مقوّساً، أو متخذاً بساطاً يفرش عليه نمارق الكلمات ونسق الأزاهير.

يمكن بعد هذا التوقّف، وعلى ذات المبدأ، الاعتراض على وجهة النّظر التي تقول إنّ تفكّك القصيدة العمودية أفقد الشّعر ميزته، وإنّه خلق حالة من الاضطراب، هذا القول يتنافى مع سُنّة التطوّر الإبداعيّ. ذلك أنّ بعض الشّعر غير العموديّ، قد امتطى موجة بحريّة غير مضطربة واسعة كالمحيط، فاقتبس من رحابة الامتداد الموسيقي شعراً قضى بتفكّك ما اعتدنا عليه في القصيدة العمودية، كما لو أنّنا نسمع ونشاهد عملاً (أوبراليّاً). على أن العروضيين – والشعر عندهم موسيقى – قد جعلوا الاهتمام الأوّل بالحركة لقيمتها الموسيقية، وأهمل بعضهم الحرف وما يرمز إليه، وهنا يُفترض عدم تغليب الموسيقى على منطوق الحرف، لأنّه المؤسّس للنّبرة التي يمكن أن تواكب النّغم الشّعريّ.