أولاً: الجسد الاصطناعي ولغة الجسد:

1 ـ مفاهيم، جدال وعمل ذو علاقة

أولاً وقبل كل شيء، ينبغي لنا أن نفهم على نحوٍ أفضل المصطلحات التي نوردها حول: ما هو الجسد؟ أو السؤال بشكلٍ أفضل: ما هو المنظور الذي نستخدمه في هذه الدراسة على الجسد؟

ليست هناك تعريفات مناسبة عن الجسد، ومعظمها يُستخدم طبقاً لمجال التحليل أو النظام الذي تتوجه إليه. ومعظم الدراسات الأكثر أهمية على الجسد، بقدر تعلُّق الأمر بنا، هي دراسات الظاهراتية، وعلم الاجتماع ونظريات الاتصال.

لقد أكدت الظاهراتية في القرن العشرين حقيقةً وهي أننا نمثل أجسادنا، ونحن موضوعات مُجسَّدة ولا نستطيع الهروب من منظور العالم الذي يكون موجوداً فقط من خلال أجسادنا و«إعلان أحاسيسها». وهذا المنظور مهم للتذكير، لأنه كما يُستخدم الجسد في الاتصال ـ وكما أن التطورات التقنية والتكنولوجية ترتبط معه ـ لذلك فنحن نميل أكثر فأكثر لفهمه كأداة بسيطة، في إرادة الوعي/الروح والأنا.

يجادل المنظور الاجتماعي والثقافي للجسد بأن أجسادنا ـ ونحن ـ لا يمكن أن توجد ولكنها مُتضمّنة في البيئة الثقافية، وهناك بعض تقنيات الجسد التي نتعلمها بسبب هذا[1]. وهناك نقوش اجتماعية وثقافية وحتى سياسية على أجسادنا، ونحن نولد في بيئةٍ ثقافية معيَّنة، ونتعلم كيف نتحدث، وأيضاً كيف نمشي، ونقوم بالإيماء وتثبيت رؤوسنا… إلخ.

أيضاً، هناك جانب آخر مهم يجب أن يُذكر: حقيقة أن المجتمع يفرض في أغلب الأحيان صورة نمطية عن الجسد المقبول، أو حتى الجميل أو المثالي، وتتغير الصورة النمطية من خلال الوقت. لكن في أغلب الأحيان، فإن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية معينة، يجري خلالها التلقيح مع فكرة معيَّنة حول الجسد الجميل، وسيحاول في أغلب الحالات ذلك، وهذا هو المهم أيضاً للتأكيد، من أجل حجتنا هنا.

وهنا يمكننا أيضاً التحدث حول الجسد الصريح. فلغة الجسد هي وسائلنا الأولى في الاتصال، والوسائل موجودة حتى قبل استخدام لغة واضحة، ما عدا لغة الجسد المحدودة التي تتضمن الكثير من الجوانب. والجسد نفسه يمثل كلاً من المنزلة الاجتماعية لـ «مالك الجسد»، وأيضاً قبول فكرة الجمال الاجتماعية الشائعة.

يتفق جميع المنظِّرين في لغة الجسد على أن الجسد مركَّب من كلٍ من العناصر الثقافية والفطرية، ومعظم تلك الفطرية يُشير إلى حركات الوجه، والتي سماها «بول إكمان» (Paul Ekman) التعبيرات الدقيقة، والتي تضرب جذورها في مرحلة مبكرة جداً من التطور الخلقي لدينا.

والشيء المهم هو أنه خلافاً للإيماءات الثقافية ـ التي يمكن أن تسيطر على بعض النقاط، والتي يمكن أيضاً أن تتغير ـ فنحن لدينا القليل من عدم السيطرة على التعبيرات الدقيقة. وهناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لحصول كل شخص على الوجه اللامعبِّر الذي قد سمع عنه.

ما نجادل حوله هنا، هو أنه في العقود الأخيرة الماضية حصل هذا الوجه اللامعبِّر على إمكانية عالية في الوصول إلى الغاية، بسبب: أولاً، أن الصورة النمطية الاجتماعية تتوسل لتصبح أصغر سناً (مع الجلد المشدود والشفتين والخدَّين الممتلئين… إلخ.)؛ وثانياً، بسبب التطورات الأخيرة في الحقل التكنولوجي والطبي، التي جلبت التدخل وتعديل أجسادنا والوصول للجميع.

في الحقيقة، إن تلك التعبيرات الدقيقة هي جزء صغير من ماهية وسائل لغة الجسد، لكنها تمثل القاعدة في ذلك، وكانت الجانب الوحيد الذي يثبت أنه لا يمكن ان يُعلَّم ثقافياً/اجتماعياً.

كل هذه التدخلات في/على الجسد تمكننا من التحدث عن الجسد الاصطناعي. الجسد الاصطناعي هو الذي لا يزال موجوداً في العالم الحقيقي، ما زال يمثلنا كبشر، لكنه متغير، ومُعدل من خلال الوسائل التكنولوجية أو الكيميائية، تماماً مثل الآلة.

لكن هذا ليس جديداً، إذ تم التدخل بجسدنا من خلال كل التاريخ (من الوشم إلى كل محاولات الحصول على صدر صغير في العمر من القرون الوسطى)، وقد تم تجسيد الأجساد على طول الطريق خلال التاريخ، حتى ولو فقط في القرون الماضية كان هناك نمو كبير في النظريات حول الجسد كأداة اتصال، أو كآلة للمهام المختلفة (Marx, Foucault, Mauss, etc…). ما تغيّر الآن هو أنه للمرة الأولى، بات لدينا الوسائل لتشكيل أجسادنا في مقياس غير مرئي، غير محدود تقريباً، وذلك باستخدام آخر المكتشفات من قبل: الجسد الاصطناعي، وحتى الجسد الافتراضي كنقاط؛ حيث يلتقي اثنان من أقدم الهواجس لدينا، وهما: الخلود والكمال.

هذا المفهوم الجديد للجسد الاصطناعي مهم لوجهة نظرنا حول لغة الجسد، لأنه بات بإمكاننا الآن أن نقوم بتغيير مظهرنا، وأن نسيطر على تعابيرنا الدقيقة، وأن نجعل جسدنا مثالياً كما يتطلب المجتمع لذلك.

وإذا كان الجسد الجديد يغطي بعض الإيماءات الدقيقة، لكنه من الناحية الأخرى، يعرض فقط ما كنا عليه، وهو أكثر استثماراً من القديم، لأن هذا يتوافق بشكلٍ أفضل مع حوائجي، أهدافي أو تصوري. غير أن هذا الجسد الجديد يبدو متناقضاً تماماً مع ما تعنيه لغة الجسد.

باختصارٍ، إن الحدود بين التكنولوجيا والعضوية تختفي تدريجياً في العالم حيث يصبح الجسد ملكاً للتحديث والتوسيع، وكيف يؤثر هذا في الإنسان والاتصالات البشرية؟ سوف نحاول أن نحلل هنا نتائج كل هذا في/على الجسد ولغته وقدرتنا على قراءتها.

2 ـ لغة الجسد ـ تاريخ قصير

حُللت الوظيفة الاتصالية للجسد كثيراً، وخصوصاً في السنوات الـ60 الأخيرة. وبعد فترةٍ طويلة من الصمت، تم تركيز الانتباه ثانية على الجسد بالتحول غير اللفظي، الذي دُعم بشكلٍ رئيس بين 1960 و1980. ومن منظور مختلف، تم تأكيد تنسيق العلاقات بين الأشخاص، وتركيز الانتباه على الجسد وإمكانيته الصريحة وخصوصياته. وقد طوَّر الجزء الأساس من البحث، واستهدف تعزيز فهمنا للجوانب غير اللفظية من الاتصال: اتصال العين؛ تعبيرات الوجه؛ حركة الرأس؛ اللمس؛ الإيماءات. وقد أذعنت الوضعيات جميعها للتحليل الجاد من أجل اكتشاف وظيفتها ودورها ضمن التبادلات الاجتماعية (Argyle, 1975).

يمكننا أن نميز على الأقل ثلاثة مستويات من الاتصال غير اللفظي:

(1) ملحقات الجسد، مثل الماكياج، الملابس، المجوهرات، أو الأوشام.

(2) الجسد وصفاته الطبيعية والفسيولوجية، حركاته، إيماءاته ووضعياته.

(3) التقارب/الجسد في الفضاء والبعد من الآخرين.

كما يقول ألان بيز (Alan Pease) «إن الاتصال غير اللفظي عملية معقدة، تتضمن الرجال، الرسالة، حالتهم الداخلية وحركات أجسادهم» (Pease, 1988 and 1997: 4).

ويتفق معظم الباحثين على أن هناك أهدافاً مختلفة اشتركت في اللغة اللفظية وغير اللفظية. واللفظية تُستخدم أكثر لإرسال المعلومات، بينما تُستخدم غير اللفظية للتعبير عن المواقف والمشاعر الشخصية. ويمثل الاتصال غير اللفظي العلاقة، والموقف الشخصي الصريح، وهما غير مرتبطين بشكلٍ إلزامي سويةً، لكنهما عادةً ما يُستخدمان سويةً، في الحالة الصريحة نفسها، حتى إذا استطاعا التعبير عن أشياء مختلفة تماماً. ويمكن للاتصال غير اللفظي أن يكون بديلاً، يرافق، يختصر أو حتى يناقض الاتصال اللفظي.

إن لغة الجسد هي مجرد جزء من الاتصال غير اللفظي، وهي الشكل الأقدم من أشكال الاتصال، ولا تزال جزءاً مهماً جداً من الاتصال. «لغة الجسد تتكون من الأوضاع والإيماءات، وتعبيرات الوجه، واتصال العين، وحركات الرأس، وترنيمات الصوت. وهذه القنوات غير اللفظية من الاتصال تكشف الحالات البدنية، العقلية، والعاطفية، والكثير من تلك هي غير مدركة على حدٍ سواء للمرسل والمتلقي. ولكي يكون ذلك دقيقاً، يمكن القول إن لغة الجسد في الحقيقة ليست اللغة الطبيعية المناسبة، مثل الصينية أو نافاجو، لكن بالأحرى، هي مجموعة فرعية من اللغة الطبيعية، أو اعتماداً على وجهة نظرك، ربما قد تعتبرها لتكون مجموعة رائعة من اللغة الطبيعية، ومع ذلك لغة الجسد تسبق اللغة الطبيعية الإنسانية… وببضعة بليون سنة (اعتماداً على كيفية تعريف «الجسد» وكيفية تعريف «اللغة»» (Longo, 2003: 18-19).

ويمكننا تأكيد حقيقة، وهي أن لغة الجسد استُخدمت في الغالب للتعبير عن المشاعر والمواقف، ولكن يمكن أيضاً أن تكون مقروءة كإرسال المعلومات، كما في حالة المرض أو الألم حيث لا يستطيع الجسد إخفاء هذه الأعراض الواضحة: وجه شاحب، جبهة حمراء، يدان مرتجفتان… إلخ؛ ولكن في معظم الحالات، تُستخدم لغة الجسد لإنتاج هذه العلاقة والحفاظ عليها.

يجادل غاليمبرتي (Galimberti) في «بواعث الجسد» بأن الجسد هو العامل الرمزي الذي يسمح بالتفكيك المستمر للرمز، وبالتالي الإطلاق المستمر للمعنى، نتيجة التشويش أو الإرباك الشديد من الرموز واللغات. ومن خلال التقليد والمحاكاة… يتحول الجسد إلى مادة نقية، قادرة على الخدمة، والتي تعني دائماً التغيير في المعنى، وتبادلاً رمزياً من الرمز مع الرمز الآخر، وتفعل ذلك بسرعة وفعالية مع عدم وجود كلمة تقنين للغة القادرة. وبدلاً من أن يُقدَّم مثل هذا الدعم على أنه محاكاة، فالجسد يستخدم أفعاله الخاصة، مرونته، على أنها تعني لغة (Galimberti, 1998: 316-317).

وتجتذب لغة الجسد العناصر الثقافية والفطرية معاً، وداخل الثقافة، يمكن أن تُقسم وتُفسَّر طبقاً للمجتمع والجنس والعلاقة مع المتلقي، وحتى الصفات الشخصية.

بدأ البحث المتعلق بالتعبيرات الجسدية مع تشارلز داروين (Charles Darwin)، عام 1972، في التعبير عن العاطفة في الإنسان والحيوان (Darwin, 1899)، وهو يكشف التماثل في المحاكاة للتعبير عن العواطف الأساسية (البهجة أو الحزن).

لقد حُللت عموم التعبيرات العاطفية والصفات الفطرية للغة الجسد بشكلٍ عام أثناء 1950 ـ 1970 بالحشد غير المرئي من قبل بالو ألتو (Palo Alto) والباحثين أمثال ملتون إريكسون (Milton Erickson)، وبول واتزلاويك (Paul Watzlawick)، وإرفن غوفمان Goffman) (Ervin، وبول إكمان (Paul Ekman)، وإدوارد هول (Edward Hall)، والعديد غيرهم. لكنْ كان هناك صراع مستمر على عمومية التعبيرات. وفي عام 1938، رأى المنظِّر الأميركي أوتو كلينبرغ (Otto Klineberg)، أن أغلب تعبيراتنا جُدِّدت ثقافياً (الابتسامة على سبيل المثال، تُظهر الأشياء مختلفة للناس في البلدان الشرقية، عنهم من أولئك الموجودين في المناطق الغربية). وفي عام 1965، عندما بدأ بول إكمان بدراسة العواطف (Ekman, 1985)، كان معظم علماء الأنثروبولوجيا متأكدين من أن الإيماءات والعواطف يتم تعلُّمها من خلال التنشئة الاجتماعية. ولكن بعد أن انتهى إكمان من بحثه (بعد 20 سنة تقريباً) استطاع إثبات أن تعبيرات الوجه هي طبيعية وعمومية، كما أننا كلنا بشر، بعضلات الوجه نفسها، والوراثة نفسها؛ وكل تعبير لديه مسار وراثي، حتى لو بدا مختلفاً إلى حدٍ ما، والإيماءات، في الواقع، في فتراتٍ فاصلة، تسمح بإخراجنا من الطبيعة إلى الثقافة.

في عام 1952 صاغ راي بيردوستل (Ray Birdwhistell)، مصطلح علم الحركة لتحليل التعبير الجسدي، من خلال الوضع: الإيماءة؛ البعد والحركة. وفي الآونة الأخيرة تضمن مصطلح لغة الجسد أيضاً العديد من البنود الأخرى من تعابير الوجه: النظرة؛ الإيماءات؛ الوضع والاتصال الجسدي. ويتضمن أيضاً التوقفات عن الكلام وتعبيرات الجسد غير المسيطر عليها مثل احمرار الوجه خجلاً، وكذلك السمات البصرية الثابتة للشخص. وبرزت، مع ذلك، الملابس والشعر، المجوهرات وغيرها من التجهيزات الأخرى التي تبين منزلة الشخص والثقافة، والمزاج والموقف.

في عام 1959 نعت عالم الأنثروبولوجيا إدوارد هول هذه الصفات الإنسانية المعبرة بـ «اللغة الصامتة»، وجادل بأن لغة الجسد، تعبيرات الوجه ووظيفة التمثُّلات المتصنعة «بتجاورٍ للكلمات»، هي نقل المشاعر، والمواقف وردود الأفعال والأحكام باتساقٍ مختلف (Bauerlein, 2009).

بعد عام 1960، أصبح إكمان مهتماً في ما أسماها أخيراً «التعبيرات الدقيقة» (وجه صغير جداً) بالإيماءات التي عبَّرت عن العواطف العامة، والتي لا يمكن السيطرة عليها أو تعلَّمها. في «أكاذيبه المُعبَّرة» (Ekman, 1985) أو «العواطف المكشوفة»، يجادل بأن هناك عواطف أساسية، ومعظمها رُمِّز في عضلات الوجه، والتي تعبر عن شعورٍ معيَّن، ويمكن أن تُفسر بوضوح ٍفي أغلب الأوقات. ويثبت بأن هناك ثلاث إيماءات وإيماءات صغرى، تُستخدم من قبل الناس في جميع أنحاء الكرة الأرضية، أي أننا لا نستطيع السيطرة عليها، أي في أغلب الحالات تشير إلى علامة دقيقة نتميز بها. ويدعم إكمان أفكاره بتحليل الإشارات غير اللفظية، والتي وفقاً له ـ ولغيره ـ لديها آثار التطور الفردي، في العديد من الثقافات، والتعبير عن الشعور أو الموقف نفسيهما، حتى عندما تعمد إحدى المحاولات لإخفائه. ووفقاً لبرهاننا، فنحن نتفق على أن الإيماءات الدقيقة هي فطرية، وشبه عامة، وفي قاعدة لغتنا الجسدية، لأننا لا نستطيع السيطرة عليها.

وبالضبط، فإن هذه الإيماءات قد تأثرت بسبب آخر التدخلات على/في الجسد، بسبب التدخلات على مستوى الوجه ـ مع الجراحة التجميلية، حقن البوتوكس أو السليكون السائل وغيرها، وتتأثر التعبيرات الدقيقة بذلك. فلا تتوقف عن الحدوث، لكن تتوقف عن الخروج من وجوههم، لأن العضلة المسؤولة عن هذه قد تأثرت ولا تستطيع أن تتحرك كما يريدون. إذاً، ما هي التغييرات في لغة الجسد التي جلبها لنا التطور التقني الجديد؟

أ ـ وظائف لغة الجسد

للتعبير عن الموقف المباشر للموضوع في ما يتعلق بسياق «ماذا يسمع ويرى، ويشعر… إلخ». فإن لغة الجسد غير مقصودة، ولهذا فهي ليست مُدرَكة، وغير مُسيطر عليها، وليست متماسكة أو ضرورية بشكلٍ تام، لكنها يمكن أن تُعبِّر أحياناً عن أكثر من موضوعٍ مقصود، أو حتى بدرجةٍ أكبر هي «تدرك تعبير المواقف، الأمنيات أو التأثيرات، ويمكن أن نذكر ردود الأفعال غير الواعية التي يتحدث عنها فرويد».

ومساندة اللغة اللفظية، تكون من خلال الإيماءات، وتعبيرات الوجه، والموقف، ويمكنك إكمال اللغة اللفظية ودعم رأيك، وللإشارة إلى شيءٍ ما (لإظهار شيء ما مع إيماءاتك أو نظرتك). ولتأكيد حضورك الخاص ـ الجسد كالشيء الذي يدل على نفسه، من خلال الماكياج، العطور، الرقص… إلخ.

في عام 1965 حدد إكمان خمس وظائف للاتصال غير اللفظي: التكرار (الذي عبر عنه الاتصال اللفظي)، الاستبدال (اللفظي لم يعد ضرورياً)، يُكمَّل، يُركَّز ويُناقض. وفي عام 1975 درس آرغايل (Argyle) أربع وظائف: التعبير عن المشاعر، إرسال المواقف الشخصية، تقديم الشخصية ومرافقة الخطاب، كردود فعل لجلب الانتباه (Argyle, 1975).

وسنرى، في ما يأتي، كيف عُدَّلت الوظائف من خلال التدخلات في/على الجسد. ونحن لا نستطيع الحديث عن لغة الجسد، من دون أن نشرح في بادئ الأمر قليلاً عن الأنظمة الهامة. وعلينا أن ندخل قليلاً في أرض علم الإشارات، والذي بدأ من قبل دي سوسير (De Saussure) الذي يجادل بأن الفكرة، التي لها إيماءة مهمة جداً، ستكون مدرجة في نظام يصوِّرها في الحقيقة على أنها مختلفة بعضها عن بعض. وهذا هو النظام الذي يعطي أهمية لكل أجزائهِ، ولكل جزء أهمية من خلال الاختلافات الأصغر للآخر، وانطباق هذا على نظرية لغة الجسد. ونحن يمكن أن ندعم فكرة أن الجسد هو نظام هام (أو حتى أنه يمكن أن يتضمن أنظمة هامة متعددة)، يتصل فيه كل عنصر بالاختلاف داخل السياق، ونحن لا نستطيع ترجمة إشارة بمعزل عن سياقها وعلاقتها مع الإشارات الأخرى، التي تتصل سوية.

ب ـ الإنسان التكنولوجي وخصائصه

في العقود الماضية، حدثت تطورات مهمة في الحقل الطبي والكيميائي والتقني، وربما تختلف في (التقنيات، طرق البحث… إلخ)، وقد استُخدمت بنجاحٍ على الجسد، وبشكلٍ رئيس في حالتين مهمتين: الإعاقات (في محاولة لتعافي الجسد من الإعاقة البدنية)، والثقافة (في محاولة لتكييف الجسد في حالات الإعاقات الثقافية، أو بعباراتٍ أخرى، في الحالات التي لا تتوافق مع الجسد المثالي المستحسن/والمفروض اجتماعياً).

إنها ليست حول تغيير الملابس والأوشام أو قص شعرنا، وإنما حول تغيير أعضائنا واستبدالها بأعضاء احتياطية من الحيوانات أو الناس الآخرين، وحول الدم الاصطناعي والقلب الاصطناعي، هي حول الجراحة التجميلية (التي تتضمن، خصوصاً، إعادة عرض أجزاء من أجسادنا طبقاً للنموذج المثالي الاجتماعي)، وحول استبدال الجلد أو حتى حول تغيير الجنس! نحن نتحدث عن الأعضاء الاصطناعية البديلة والأدوات التي تنقل التنفس أو الدم لنا، وحول التدخلات في الحمض النووي لدينا أو استعادة الحواس المفقودة.

هناك الكثير من الطرق التي تمكننا من التدخل على/في أجسادنا. في ما يتعلق بالتغيير، هناك:

ـ التدخلات البدنية: من ماكياج وإزالة شعر الجسد إلى كمال الأجسام.

ـ التدخلات الكيميائية: الوجه وكريمات الجسد.

ـ التدخلات الجراحية: التي هي إما لإعادة إعطاء جسد الشخص الخاصية التي فقدها (جراحات شفط الشحوم)، وإما لإعادة تشكيله بالشكل المثالي (تقصير الأنف، تكبير الثديين… إلخ).

ـ التدخل التكنولوجي: خصوصاً لتعويض النقص، لكن التطوير هو في اتجاه تعديل الجسد الإنساني وتحسينه.

كل هذه التدخلات على/في الجسد قد أدَّت إلى عدم وضوح حدودهِ، ولا يوجد هناك حتى حد للجلد، لحفظ سلامة الجسد. الجلد لم يعد يعني الانغلاق! فالحدود بين الأجناس أو بين الرجل والمرأة تصبح غير واضحة، ويحدث الشيء نفسه للحدود بين الإنسان والآلة: «جعلت آلات أواخر القرن العشرين هناك غموضاً تماماً في الفرق بين الطبيعي والاصطناعي، العقل والجسد، وشهدت نمواً ذاتياً وصُممت خارجياً العديد من الامتيازات الأخرى التي استخدمت لتنطبق على الكائنات الحية والآلات» (Haraway, 1991: 152).

وهكذا يتحدث جيوسيب لونغو (Giuseppe Longo) حول المفهوم الجديد الذي يمكن أن يقرِّبنا إلى «الإنسان التكنولوجي»: …المخلوق التعايشي الذي تتفاعل فيه البيولوجيا والتكنولوجيا بحميمية. (إنه) ليس ببساطةٍ «جنس بشري بالإضافة إلى التكنولوجيا» وإنما «الجنس البشري المتحوِّل بالتكنولوجيا». إنه وحدة تطورية جديدة، تخضع لنوعٍ جديد من التطور في بيئةٍ جديدة. والتعايش المبتكر المغمور في العالم الطبيعي، لذلك يطيع قوانينه، ولكن أيضاً يعيش في بيئة اصطناعية، تميزت بالمعلومات، الرموز والاتصالات والواقعية (Longo, 2003: 23).

يبين هذا الرأي كيف أن الحدود بين الطبيعة والتكنولوجيا أصبحت ملغية: «وفي نفس الوقت، هي قد تسمح لنا بتجاوز الرؤى «الطبيعية» و«البنائية» للجسد»، والتي هي مُختزلة فينا، لأن الجسد ـ في وقتٍ واحد ـ بيولوجي وظاهرة اجتماعية» (De Nardis, 1999, and Fortunati, Katz and Riccini, 2003: 216).

تهدف كل هذه التدخَّلات لخلق إنسان جديد، يكون أسهل للتصليح، يعيش لفترةٍ أطول، ويبدو بحالةٍ حسنة. وهذه البيئة المتطورة، التدخلات في/على الجسد لديها الكثير من النتائج، لكننا أكثر اهتماماً بتلك التي تتعلق بلغة الجسد.

ثانياً:الجسد الاصطناعي بين «العواطف المكشوفة»، و«الأكاذيب المُعبِّرة»[2]

1 ـ بيان المشكلة، التغييرات بسبب آخر التدخلات في/على الجسد

لا يمكننا الاقتراب من النتائج التي توضح أن هذه التغييرات تكون على لغة الجسد، ما لم نحلل قليلاً السياق ـ المهم جداً ـ الذي تظهر به جميعها.

يبين ألان كوربان (Alain Corbin)، في كتابه تاريخ الجسد (2006) بأن كل هذه التدخلات على الجسد (وخصوصاً الجراحات التجميلية)، حدثت نتيجةً للسياق الواسع النطاق والتصاعدي للكشف عن الجسد العاري. فالتغيير الرئيس ـ كما يجادل هو ـ بالتغيير في المنظور، والتركيز على أجسادنا الخاصة، قد تم التوصل إليه من خلال أجهزة الإعلام. وهذه الأهمية التي نعطيها لأجسادنا الخاصة، ليست حقيقة هامة وعليا أو شيئاً مختلفاً، وإنما هي شيء جديد في تطور المجتمع.

هذا يسير جنباً إلى جنب مع بعض التغييرات الأخرى، التي تشير إلى صلابة موقف الجسد، وتواضع النظرة (النظرة إلى أسفل)، وبطء الحركات والمسافة من أحدها الآخر. والقرن العشرون يعكس كل هذه القيم. الآن المجتمع يقدِّر الجسد المرن، والذي يمكن أن يتكيف مع الحالات المختلفة، وترجمة النظرة المباشرة بصورةٍ ملائمة، ولكن كما في صورة النقود، أيضاً فالأجساد تتحرك أسرع وأسرع والمسافة المقبولة بين الأجساد في الفضاء الاجتماعي ضعفت بشكلٍ مثير (على الأقل في المجتمعات الغربية).

كل هذه الأهمية، هي على الأقل، تمثل جانباً مهماً: تتطور لغة الجسد بمرور الوقت، وأيضاً نمط المجتمع في التفسير (إن النظرة ليست غير لائقة غالباً، لكن بصراحة، كشف الجسد هو غالباً غير أخلاقي، ولكن فني) يسير جنباً إلى جنب مع هذا التطور، الجسد الاصطناعي. الأجساد الرئيسة التي غيّرت مظهر وجودها، لم يتم فك شفرتها كمسوخ، هجينة أو وحشية، ولكن كمقبولة وتكشف عن اهتمام المرء الطبيعي في المظهر.

يُعيد الجسد الاصطناعي تقديم الشخص، كشخصٍ ما يقبل القواعد والأفكار الشائعة في المجتمع، ويحاول تحقيقها. وذلك ليس غريباً إطلاقاً. وحتى أكثر من ذلك، يصبح مستغرباً عدم القيام بذلك. وطالما أن المجتمع يعطينا الوسائل لتعديل أجسادنا، فهو يتوقع منا أن نفعل ذلك، ويتهمنا إذا لم نفعل ذلك. كما أعطى كوربان مثلاً لذلك. فالجسد الجديد هو نتيجة لواحدة من الاختيارات الخاصة في المستقبل: لن يكون الشخص سميناً ما لم يكن هو قد اختار كذلك.

إن النظر إليه من منظور الجسد الثقافي، يُمكِّننا من أن نستنتج بسهولة، كما عند باودريلارد (Baudrillard)، أن الجسد يصبح (أو ربما يعود مثل الذي يجري تحليله) كائناً أو أداة يُفترض أن تُعبِّر عن وجهة النظر الشخصية الذاتية. في هذا الرأي، أطروحة باودريلارد لديها إحساس أكثر قليلاً في الوقت الحاضر ـ فهو يتحدث عن رأسمال الجسد (استثمار الجسد) ـ ونحن نُعِّدله ونحوِّله كانعكاس للأفكار الاجتماعية الشائعة للجمال، كما جعل ذلك الاستثمار «هو لإنتاج الدخل».

لا تتم إعادة تخصيص الجسد وفقاً للموضوع نفسه، ولكن من ناحيةٍ يقوم المبدأ على الاستمتاع والربحية التلذذية، ومن ناحية أخرى على الواسطة المفروضة التي تتم فهرستها وفقاً لرموزٍ ومعايير لمجتمع الإنتاج وإدارة الاستهلاك. بعبارةٍ أخرى، واحدٌ يدير جسده، وآخر يعالجه بينما ثالث يعالج الميراث، ورابع يعالجه على أنه إحدى دلالات الاعتبار الاجتماعي (Baudrillard, 1998).

بالنسبة إلى هذا الرأي، يتعلق الجسد الاصطناعي بدرجةٍ أكبر بإعادة تقديم أنفسنا، وبطبيعة الحال، وبالاتصال، تصبح صورتنا مثالية. وعلى هذا النحو، تتصل رؤيتنا بالحياة، والمجتمع وأنفسنا. لذا فإن استثمار الجسد هذا، الذي يتحدث عنه باودريلارد، هو سمة منه، وهذا له أهمية كبيرة في لغة الجسد، أليس كذلك؟

النتيجة الأخرى المهمة، هي أن الأجساد الاصطناعية والجراحة التجميلية التي هي على تواصل في الغالب تؤدي إلى محو الاختلافات. وهناك على نحوٍ متزايد عملية من التسوية. وقد توقع باودريلارد ذلك سابقاً في عام 1970، عندما تحدث عن نماذج الأجساد. ويجادل في ذلك: بأن «النماذج الجسدية لم تعد تعترض على الرغبة، لكن بوظيفةٍ واحدة، واجتماع الإشارات في النمط المصاغ يرتبط بالإثارة الجنسية، ونحن لا يجب علينا أن نعمل مع توليفة من الإيماءات، حتى إذا كانت صور الأنماط المُصاغة تحاول باجتهاد إعادة الإيماءات والبساطة من خلال عملية المحاكاة. وهذا النموذج، حتى نكون صادقين، هو ليس جسداً، لكن شكل» (Baudrillard, 1998: 171). نماذج الجسد لم تعد الأجساد الإنسانية المُعبِّرة، ولكن عملها وظيفي وشكلي، وهي تؤدي ذلك كقيمة اعتبارية، وهي لم يعد لها قيمة للاستخدام.

وبصرفِ النظر عن هذه الوظيفة للجسدِ الجديد، فهناك أيضاً جانب آخر للتأكيد هو: التشابهات والتناقضات بين الأجساد.

ومرة أخرى يجادل باودريلارد بشفافيةٍ رديئة، بأن هناك ميلاً نحو التناقض، ليس فقط في الجانب البدني، لكن أيضاً نحو الميول الجنسية، التي تمتد إلى ما وراء الجنس، ما يؤثر في جميع الحالات لأنها تفقد خصوصيتها. (…) النظر إلى مايكل جاكسون (Michael Jackson) على سبيل المثال. فمايكل هو متحول وحيد، وذلك تمهيداً للتهجين الذي هو جيِّد، لأن ذلك عالمي. وهو عرقل إنهاء كل الأعراق (…)، أضف إلى هذا حقيقة أن مايكل قد رفع وجهه، وعدَّل شعره، وقام بتنقيح جلده. باختصارٍ قام بإعادة بناء مع أكبر قدر من الاهتمام بالتفاصيل. وهذا ما جعله مثل الطفل البريء والنقي (الخنثى المصطنع من الخرافة)، وأقدر على تحسين الأوضاع حتى من السيد المسيح لحكم العالم وإصلاح متناقضاته. أفضل من أله الطفل لأنه بديل للطفل، والجنين من كل تلك الأفلام يحلم في الطفرات التي سوف تنقذنا من العرق والجنس (Baudrillard, 1993: 21).

وكل هذا التناقض يجلب أيضاً مقياساً للأجساد ويُقدِّمها كأشكال. وأكثر من ذلك، نحن يمكننا الآن أن نتدخل كثيراً في وسط تشكيل أجسادنا إلى أشكالٍ مثالية، ونمحو آثارها، وجعلها شيئاً مثالياً بين الآخرين: نحن تحت تسلط الإلزام الجراحي الذي يريد إعادة تشكيل الأشياء بشكلٍ صناعي إلى الأشكال المثالية. الجراحة التجميلية: ترتب وجه المصادفة، جماله أو قبحه، آثاره المتميزة، ميزاته السلبية. كل هذه يجب أن تُصحح، لكي ينتج شيء أكثر جمالاً من الجميل: كوجه مثالي، وجه جراحي (…). حتى الجنس الذي ننتمي إليه، وذلك الجزء الصغير من القدر الذي لا يزال باقياً لنا، بحيث إن الحد الأدنى من أمور القضاء والقدر والاختلافات، ستكون قابلة للتغيير عند الرغبة، من دون الحاجة لذكر الجراحة التجميلية (…).

كل شيء يجب أن يصبح ما بعد التوافق قادراً طبقاً لمعايير الملاءمة والتوافق المثالي (…) كل شيء يجب أن يؤمن بمبدأ أن تلك الأشياء يجب أن يكون عندها قدرة تكوينية شغالة (Baudrillard, 1993: 45).

كما أن أغلب السمات المتميزة للوجه تنمحي بشكلٍ مستمر من قبل الكريمات، وتدخلات البوتوكس أو الجراحة، وتتأثر بلا ريب لغة الجسد، وفي الغالب الإيماءات الدقيقة للوجه. إنه مثل الاتصال بالصورة، وهي لا تعبر عن أي شيء، ونحن لا نستطيع قراءة أي شيء، وهذا ليس نوعاً من الأحوال التي تمكننا من فك شفرة حتى الصمت، وهو أحد الأمور التي لا يمكن فك شفرتها؛ فلم يعد هناك اختلافات كثيرة بين الوجوه و(الأجساد). وفي هذا النظام يتصل الجزء بعضه ببعض فقط بواسطة أصغر الاختلافات، كاختلافات غير موجودة، وليس هناك مزيد من الاتصال، وعلى الأقل ليس من تعبيرات الوجه. ونحن يجب أن نعتمد على علامات مختلفة، كحركة العين، وبُعد المسافة، والإيماءات، والموقف… إلخ.

لكن الإيماءات الدقيقة كانت مهمة على وجهِ التحديد، لأنها لا يمكن السيطرة عليها، خلافاً لهذه العناصر الأخرى التي يمكن أن تكون. لذلك فالتدخلات على الوجه تمحو/تُضعف الجزء الأكثر حقيقة من لغة الجسد، كما في نماذج باودريلارد، ويستقر جمالها العملي في «الخيال» وليس في «التعبير» وهي أولاً وقبل كل شيء، تفتقر إلى التعبير الكامل. وعدم الانتظام (أو البشاعة) يصبح إحساساً، لكنه مرفوض (Baudrillard, 1998: 172).

لذا هناك تناقض في الجسد الاصطناعي، من ناحيتين: الأولى فهو يبيِّن أفضل (حتى إن الله يمكن للمرء أن يجادله) صورة خاصة لنفسه، ورغباته، وفكرته من الكمال. والثانية، هو يُقلل من العواطف والمواقف الظاهرة، ماذا يعني ذلك للغة الجسد؟

2 ـ أسلوب الحل ـ الوظائف المُعدَّلة للغة الجسد

أولاً وقبل كل شيء، نجادل بأن الجسد الاصطناعي يُخفِّض وظائف لغة الجسد بشكلٍ واضح، وهو لا يستطيع بعد الآن أن يكون مُعبِّراً، كما أنه لا يستطيع أن يجعل الوجه مُعبِّراً وفق الحالة التي يمر بها، وهو لا يستطيع تحمُّل اللغة اللفظية، لكن من خلال الإيماءات والمواقف، وهو أيضاً لا يستطيع أن يكشف عن الحقيقة، لأنه لن يكون قادراً تلقائياً على التعبير عن الشيء الذي يمكن أن يُناقض الكلام.

ما تبقَّى هو تركيز الجسد الاصطناعي على وظيفةٍ أخيرة واحدة من لغة الجسد ـ هي تقديم نفسه ـ على أن الجسد الاصطناعي يتصل فقط بواسطة نفسه، من خلال وجوده.

نحن نتكلم عن موقفٍ معمم من جانبٍ، وتفادي التعبيرات البدنية الجسدية من جانبٍ آخر، بافتراض صورة جسد مثالي، كممثل عن واحدٍ من الناس. لكن المشكلة هي أن الجسد الواحد بات مُشابهاً للآخر، والوجه الواحد هو مُشابه للآخر، وفي قلة الاختلاف هذا، لا تُعبِّر الأجساد عن أي شيء أكثر بعد الآن.

إنها محاكاة فقط. إنها اهتمام بالمحاكاة، إنها محاكاة الموقف والعاطفة، لكن في الحقيقة لا تعبر عنهما. كما يوضح باودريلارد بأن المحاكاة تعني أن تتظاهر أن لديك شيئاً وأنت لا تفعل ذلك. لذا نحن يمكن أن نتحدث عن المحاكاة هنا، لأن الأجساد الاصطناعية تُحاكي تعبيرهم عن مشاعرهم، لكنهم لا يفعلون ذلك، كما الحال في أي حالة من المحاكاة. وهذا يضع فقط علامة استفهام أعلاه في التمييز بين الواقع والخيال.

لذا، نحن نجادل بأن الجسد الاصطناعي هو الذي يختفي أكثر مما يُكشف، وهو وحده الذي يمثل شيئاً بطريقة ثابتة فقط، لأنه يمثل فهم قيم المجتمع، أو صورة واحدة لجسدٍ مثالي، لكن هذا ليس إلا صورة، ولا يساعد على الاتصال بأي شكلٍ من الأشكال، ويساعد المشاركين فقط لتحديد أنفسهم بشكلٍ أفضل في عيون البعض الآخر، لكن لا يعبر عن المشاعر، ويدعم أو يناقض الفكرة… إلخ. يقتصر الاتصال في هذه الحالة فقط على إرسال المعلومات، ولا يتعلق أو يُعبِّر عن المشاعر.

التأثير الآخر هو توحيد تعبيرات الجسد. فالجسد الاصطناعي يفتقر إلى التخصيص، والتعبير والاختلاف، وهذا يجعل من الصعب التفاعل وجهاً لوجه، لأن الوجه غير المُعبِّر في الجسد الاصطناعي لا يعبر عن أي شيء. ونحن أكثر اتصالاً مما نعتقد بلغة الجسد وتعبيرات الوجه، وحتى لو كنا في الآونة الأخيرة نستعمل كل أنواع الأدوات التقنية كالاتصال عن بعد، ونتعود على الاتصال مع شخص ما بدون استعمال لغة الجسد ودعمها، وما زلنا غير معتادين فهم الوجه اللامعبِّر وتقبُّله، وهو غريب كما لو كنا نتحدث لصورةٍ ثابتة، وتوقع، كل لحظة أن تتحرك؛ لكنها لا تفعل ذلك، إنها مُربكة أو مشلولة! وهذا يجلب صعوبة في تفاعل بعضهم مع بعض، وفي الوقت نفسه، صعوبة في قراءة لغة الجسد الطبيعية الأخرى.

الاستنتاجات ـ لغة الجسد الاصطناعي، أو فقط التطور الطبيعي؟

قدَّمنا هنا بعض التعديلات في لغة الجسد بسبب التدخلات في/على الجسد، وقد جادلنا بأن أغلب التدخلات على مستوى الوجه تُقلل التعبيرات الدقيقة عليه، وتلك التدخلات الشاملة على الجسد أدت إلى زيادات في أوجه تشابه الأجساد وبرغم ذلك تقلَّصت لغة الجسد، والحقيقة أن الجسد الاصطناعي يتصل فقط من خلالِ وجوده، وليس بالتعبير عن المشاعر أو المواقف.

وكنتيجةٍ مباشرة للطلب الجديد من المجتمع على الجسد العاري، يجب أن تبدو الأجساد معصومة. وبالنسبة إلى الكمال الحالي فهي ترمز بطبيعة الحال إلى كمال الشخص الذي يعيش في ذلك الجسد المثالي، وفي الوقت نفسه، جنباً إلى جنب مع ظهور الجسد العاري المثالي، تتوقف الأجساد عن التعبير عن أي شيء آخر من ذلك الكمال، وهي مليئة بالبوتوكس والسليكون السائل، الذي يُقلل الحركات وتعبيرات الوجه، ويوقف التعبير عن المراد وعن المشاعر والمواقف. هذه الأجساد هي فقط تقَّدم نفسها، تفرض نفسها كمثالية وعملية، لكن إلى حدٍ بعيد، يؤثر هذا في العلاقات، والهويات وفي الاتصال نفسه.

نحن نعيش ونتطور من خلال التفاعل مع الآخرين، ومثل هذا التفاعل هو الأكثر كفاءة وتغذية؛ حيث يتم ربطٌ أكثر للخصائص الغنية والمعقدة من التعبير الجسدي. إن الاستسلام أو قمع الجسد يؤديان إلى إفقار خطير لمهارات الاتصال لدينا، والتي تتناغم بشكلٍ دقيق جداً وتعطينا الكثير من الارتياح، كأجزاء من نظام اتصالات واسع، والبشر لديهم نزعة فطرية للاتصال، تفسير إشارة، التفاعل اللغوي، أكاذيب، مسرح، رد فعل وهكذا. والاتصال في المقام الأول ليس تجربة معرفية أو مفاهيمية، هو نشاط عالمي من وحدة العقل والجسد التي نسميها الشخص. نحن نتحدث، نسرد القصص، نجادل، ونؤدي، ويرتكز نشاط التواصل المستمر والمنتشر هذا على جسدنا الأصلي وطبيعة العقل، الذي يتصل حتى قبل أن نتواصل بشكلٍ صريح (Fortunati, Katz and Riccini, 2003: 27).

الجسد الاصطناعي يتصل كصورة، وكوجود، ويعاد الصنع ثانيةً وفقاً لإرادتنا الخاصة والشخصية. ويصبح الجسد الاصطناعي التعبيرَ المطلق عن فرديتنا، لكنه يوقف الضرورة التي كان عليها الجسد الأصلي. حتى الآن هذه سمة طبيعية، فلجسد المُعاد لا يتصل بأي شيء أكثر من إعادة الصنع، كالتعبير المباشر للاعتناء بالذات، ولا يمكن فصل الذات عن طريق صورتها؛ إذ يتصل الجسد الاصطناعي من خلال نفسه، وليس من خلال الاختلاف.

لذا، فنحن لا نشعر بالحاجة (كما في الاتصال بالإنترنت) للحفاظ على كلماتنا مع الشيء الذي يمكن أن يعبر عن المشاعر والمواقف (كالرموز ـ كلمة أخرى تعبيرات الوجه). نحن لا نشعر بهذه الحاجة لأن الجسد موجود هناك، لكنه وحيد هناك فقط كشيء، وليس كموضوع؛ وهو بوجوده البسيط يعطي الفكرة بأن هناك شيئاً يُفترض أن يتم التعبير عنه، مثل توقعنا بأن يكون هناك غطاء هام فوقه. لكن لا يوجد هناك شيء. إنه مجرد وهم؛ محاكاة لشيء لا وجود له، ولا يوجد شيء وراء الستار؛ لا يوجد شيء وراء الصورة. وكما في فكرة باودريلارد عن الواقع الملموس، فإن الصورة تقف وتستثني الحقيقة بنفسها، ويتوقف الجسد عن أن يكون رمزاً. ويفقد الجسد قيمته الرمزية، وتنمو قيمته التقنية والتجارية ويتم تعديل وظائفه.

وهناك أيضاً تطور مؤكد في إيماءاتنا، كما في حركاتنا ومهاراتنا: حيث نبني قفص التكنولوجيا حول أنفسنا مثل البدلة الضيقة، وبعض مهاراتنا ستكون عديمة الفائدة كآثار ما قبل التأريخ. ومع ذلك سوف يتم الاستمرار بالمطالبة بأن توضع للاستعمال، أو ستتألم مثل الأعضاء الوهمية. ومن الواضح أن المهارات الأخرى ستتعزز، وسوف تعمل التكنولوجيا نوعاً ما على تصفية انتقائية لشخصنا (الوحدة المعقدة للعقل والجسد) (Longo, 2003: 25).

ونحن أيضاً نجادل بأن لغة الجسد لا يمكن إلا أن تتطور، حتى لو عُممت التدخلات في الجسد الآن، ولا نستطيع أن نتحول إلى آلات عملية، ولا يمكن أن نكون فقط صوراً، حتى إذا كان هذا هو المنظور الجديد. يجب علينا أن نتكيَّف، لتعديل الطريقة التي نُعبِّر بها عن مشاعرنا، ولاستخدام أكثر من وسائلنا الأخرى للتعبير عن لغة الجسد، وأيضاً لاختراعِ الأخرى.