مقدمة

اقتحم مصطلح “العملیات الفردیة” المشھد الفلسطیني من دون سابق إنذار، وكرَّت سبحة الأسماء التي اجترحت العبارة لوصف ما قام به الأخوان إغباریة في الخضیرة، ورعد حازم في تل أبیب، وضیاء حمارشة في بني براك، ومحمد أبو القیعان في بئر السبع؛ من عملیات أثخنت في العدو من شرطة ومستوطنین وجنود احتلال على غیر عھد العدو بھا بعد طول ھدوء على جبھته الداخلیة. ويمكن ضمّ الشهيد إبراهيم النابلسي إلى القائمة الطويلة من المقاومين، لغلبة المبادرة الفردية في نشاطه، وتجاوزه الهويات الفصائلية، وبنائه علاقات سلاح مع حماس في بؤرة نابلس، بينما يحسب عليه انتماء سابق إلى كتائب شهداء الأقصى، جعلت منه مشتبكًا مستقلًا بصورة مبكرة.

ولم تكن تلك العملیات بحسبان حتى من قاموا بھا في فورة غریزة البقاء والدفاع عن النفس، والانقضاض على الفریسة من دون سابق تخطیط، إنما عندما تحین الفرصة للقیام بھا فحسب، نیابة عن الجماعة المھددة ودفاعًا عن وجودھا.

تطرح “العمليات الفردية” أسئلة عن التحولات الجاریة في أنماط النضال الفلسطیني المسلح وقدرتھا على الاستمرار في ھذا الطریق، وبما تحبل به أولًا من وعود بانتفاضة أو ھبّة طال انتظارھا، وتقادم العھد بالعمل المنظم، مع ضمور العمل المسلح الفصائلي، وتباعُد الانتفاضات الشعبیة، ومطاردة قناصة التنسیق الأمني لھا مواكبًا الشاباك والموساد یدًا بید. كما تطرح الكثیر من التحدیات على العدو الإسرائیلي أیضًا وعلى أجھزته الأمنیة التي لم تستطع حتى الآن، استباق المقاومين الأفراد إلى طرائدھم، ولا فھم دینامیات العملیات الفردیة التي نمت وترعرعت على أرضیة الاحتلال والقمع والاستیطان والإحباط وعجز الفصائل، وتوّجت عملیات الدھس والطعن، التي أوقعت في العدو أكثر مما أوقعت فيه العملیات التقلیدیة للفصائل في الماضي، وحفظ العشرات من المجھولین في قوائم الأحزاب والتنظیمات بسكاكینھم لنبض المقاومة من الاختناق والموت.

وبينت أيام العدوان الأخير على غزة، والقتال الذي اقتصر على الجهاد الإسلامي وبعض حلفائها في الجبهتين الشعبية والديمقراطية في غياب كتائب القسام، القوة العسكرية الوازنة في أي منازلة منتظرة وكبيرة مع العدو، أن العمليات الفردية، في هذا السياق، لا تزال تكتسب أهمية عملياتية ومعنوية كبيرة، بحفاظها على مستوى عالٍ من التعبئة من خلال نسق الهجمات الذي لم يتمكن العدو من تفاديه أو توقعه، ومنح المزيد من الوقت، إضافة إلى الشحنة الرمزية العالية التي وفرتها هذه العمليات للمقاومة الفلسطينية، من خلال البطولات التي أبداها صانعوها في قلب تجمعات الاحتلال، ومثلت عامل ربط مهمًا معنويًا بين البؤر المسلحة التي كانت الجهاد الإسلامي أحد صانعيها في “جنين” و”نابلس” من خلال قيادتها في الضفة مثل الشيخ المعتقل بسام السعدي، والتي مثّلت السبب الرئيس للهجوم الإسرائيلي على الجهاد الإسلامي في غزة، لامتصاص إنجازات العمليات الفردية، من بين أهداف أُخر؛ أبرزها، إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عملية سيف القدس، وإسقاط معادلة ترابط الساحات، والردع المتبادل.

سیر الخروج إلى القتال الفردي

لا شيء في السِّیَر الیومیة لضیاء حمارشة أو رعد حازم أو الأخوین إغباریة یشي بخروجھم عن مألوف الاندراج في حیاة لا التزام جماعي فیھا بینما یطرق الجمیع أبواب العقد الثالث حیث تنضج التجربة ویسود التأني في اتخاذ القرار بالخروج إلى العدو. وبالرغم مما قیل عن انتماء إغباریة إلى داعش، إلا أن ذلك لا یمسّ حقیقة كونھا عملیة فردیة بحتة. ولم یوقع أي منھم رسالة أو یسجل شریطَ وصیةٍ یشرح ما قام به، حیث لم یسمح الوقت بذلك، وبدا جميع ھؤلاء في عجلة من عملیتهم، التي لا تحتمل وصیة ولا وداعًا لأھل أو أحباب.

لم یثبت التحاق رعد حازم من مخیم جنین بأي فصیل باستثناء بنوّته لوالد أسیر محرر ھو حازم زیدان العقید في الأمن الوطني الفلسطیني، وعمله في میدان العملات الرقمیة والبرمجیات الإلكترونیة. ولیس في سیرته ما ینبئ باقتداره على إعادة الجیش الإسرائیلي وقوات النخبة فیه لمطاردة في شارع دیزینغوف في قلب تل أبیب. ویتقاسم ھؤلاء تجارب شخصیة أسریة، كأسر أب أو استشھاد قریب، أو ھدم منزل، وإحباط العجز عن القیام بأي عمل منظم، والشعور بالحصار، وعجز الفصائل عن الرد. وھكذا لم یقیَّض لرعد حازم أن یشارك في معركة جنین الكبرى عام 2002، لصِغر سنّه (تسع سنين)، فقام من بین الركام بعد عشرین عامًا في جولة أخیرة مع العدو في تل أبیب.

ولیس في حیاة ضیاء حمارشة وھو ابن تاجر تبغ وھواتف خلیویة میسور من بلدة “یعبد” ما یخلع عنه رداء المقاوم المنفرد. فبعد سجنه 30 شھرًا في معتقلات الاحتلال لحیازته أسلحة والمتاجرة بھا، وتعرُّج في الانتماء قاده من الیسار إلى الإسلامیین خلال تجربة السجن، لم یعرف عنه – أسوة بمن سبقوه – انتماؤه إلى أي تنظیم أو حمله خطابًا أیدیولوجيًا أو طلیعیًا بلورت التجربة الشخصیة المباشرة، مما نصادف منه الكثیر في سیَر الشباب الفلسطیني، ما بعد أوسلو، الذي مثّل في شقه الاقتصادي تحدیدًا، معطوفًا على التنسیق الأمني، منعطفًا في مسیرة الحركة الوطنیة الفلسطینیة.

 أوسلو: عولمة ضد فلسطین والمقاومة

عندما انخرط الشباب في الانتفاضتین الأولى والثانیة، لم تكن السیاسة اللیبرالیة وانفتاح فرص الارتقاء الاجتماعي، التي وفرتھا “أوسلو” والسیاسة المالیة لحكومة سلام فیاض (2007- 2012) وتدفق القروض الشخصیة التي تجاوزت أكثر من 4 ملیارات دولار لمليونین من الضفّاویین إبّان تلك المرحلة (أقل من 20 في المئة من القروض نالت الغزّاویین)، وتسھیل الاستدانة على نطاق واسع ومقصود، قد كبلت المجتمع الفلسطیني بالتزامات فردیة مادیة تحول دونه والعمل الوطني الجماعي، جاعلة من العودة إلى الصراع أو خیار الكفاح المسلح عملیة باھظة الكلفة، یدفعھا الفلسطینیون وحدھم ولیس الاحتلال. ولم تكن قد برزت بعد نزعات استھلاكیة، أسھمت في تغییر منظومة القیم لتعبّر عن توق فردي للمنافسة على كسب مواقع اجتماعیة على حساب القضیة الوطنیة، في حین كان الموقع النضالي في الأحزاب والفصائل والعمل السیاسي، ما قبل أوسلو، عاملًا محددًا لمكانة الفرد الاجتماعیة.

لقد جرى تطبیع المجتمع الفلسطیني ما بعد أوسلو مع متطلبات السیاسات النیولیبرالیة بناءً على طلب الجھات المانحة إمساك إسرائیل بموارد السلطة الفلسطینیة، وإغداق المساعدات علیھا وعلى المنظمات غیر الحكومیة التي توسعت بصورة غیر مسبوقة، وتوفیر الاستقرار لعملیات التوسع الاستیطاني، الأمر الذي حدّ من إمكانات العمل الجماعي الذي ساد لعقود.

أوغلت الفصائل في وھن “أوسلوي”، إذ تركت الأفراد بلا مرجعیات تنظیمیة، وتخلت عن دورھا في توفیر بنى وأدوات قادرة على حمل أعباء النضال الجماھیري الواسع، وعانت أزمات قیادة، وترھلھا، وانعدام تجدید أجیال المناضلین واجتذاب الشباب إلى صفوفھا.

ومثّلت الھبّات والانتفاضات مرصدًا جیدًا لمراقبة أعراض ترھُّل الفصائل؛ إذ تقول الاستطلاعات أن 90 في المئة من المستطلَعین یرون أن الاحتجاجات والعملیات الفردیة لا ترتبط بأي مرجعیات فصائلیة أو سیاسیة، مع الأمل أن تؤدي إلى ظھور أحزاب وتنظیمات تجدد العمل الوطني. وبدلًا من ذلك، أسھمت مرحلة ما بعد أوسلو في نشوء نخبة فلسطینیة معولمة تكنوقراطیة ومدینیة ناشطة في المنظمات غیر الحكومیة، بعیدة من نموذج المقاوم الفلسطیني، تتحرك ضمن المساحة المرسومة لھا من الجھات الدولیة المانحة لمساندة أوسلو والسلطة الوطنیة في رام ﷲ. كما ساھمت في تحوُّل حركة فتح من حركة تحریر وطني إلى ردیف للاحتلال لا مشروع له سوى تثبیت سلطة فلسطینیة بأي ثمن فوق أي رقعة من فلسطین، بما فیه ثمن التنسیق الأمني. وأغلق الانقسام بین فتح وحماس أفق أي عمل مسلح أمام حماس في الضفة الغربیة.

الإرث الجمعي، أبعد من الانتماء إلى الفصیل

نجا الرأسمال الكفاحي للشعب الفلسطیني من مجزرة أوسلو، ومن جرافات التنسیق الأمني. إذ برغم تراجع الالتزام الفردي في التنظیمات والأحزاب والنقابات، إلا أن العملیات الفردیة تقوم على رأسمال كبیر، وجمعي، وبنیة رمزیة قویة وكثیفة لمقاومة الشعب الفلسطیني تألفت من عملیات مسلحة ومخزون لا یفنى من الأسماء والشھداء والبطولات والتضحیات والخبرات القتالیة. كما تستمد هذه العملیات قوتھا من بؤر قتالیة، كمخیم جنین، تستعصي على الإخضاع، وحیث لا تزال التنظيمات تؤدي دورًا في تأجیج المواجھة مع العدو، وتعبئة الأفراد في ما یتعدى حدود المخیم.

كما یؤدي الرأسمال الاجتماعي، من عائلات وصداقات وخبرات تنظیمیة، دورًا كبیرًا في اقتناء السلاح لتنفیذ العملیات الأخیرة. وھو الرأسمال الذي جعل من العملیات الفردیة ممكنة، بحمایة بیئتھا وأفرادھا من الاختراق الأمني السلطوي والصھیوني الذي عانته شبكات التنظیمات والفصائل في الضفة الغربیة.

 مستقبل العملیات الفردیة، في ضوء العدوان الإسرائيلي على غزة

لا شك في أن العملیات الفردیة مثّلت إنجازًا تكتیكیًا عسكریًا مھمًا، ونجاحًا معنویًا كبیرًا أصاب العدو الصھیوني في الصمیم، الذي لم یتمكن من منعھا بسبب طبیعتھا البعیدة من الأحزاب والفصائل التي اعتاد اختراقھا، والحصول عبر التنسیق الأمني على معلومات مسبقة عنھا. وھي إنجازات تكتیكیة مھمة جدًا وثمینة، بحفاظھا على شعلة خیار الكفاح المسلح مستعرة، وھي ظاھرة مرشحة للاستمرار من دون شك طالما ظلت بعیدة من شبكات العمل الفصائلي المكشوفة لسلطة رام ﷲ. ویمكنھا أن تستمر لوقت طویل طالما استمر الاستعصاء في إعادة ھیكلة السلطة الفلسطینیة وإصلاح الفصائل، وتوحید العمل الوطني، وتحقیق المصالحة، كما بيّن فشل لقاءات بيروت قبل شهرين بين حماس والشعبية والديمقراطية في التوصل إلى شكل من التحالف يتجاوز منظمة التحرير أسيرة سلطة التنسيق الأمني، وإنشاء جبهة وطنية جديدة، أو محور للمقاومة.

وقد يتباين تقييم نتائج عمليات غزة الأخيرة وصمود الجهاد الإسلامي، لكن يمكن إضافة العمليات الفردية إلى رصيد المقاومة الفلسطينية، حتى ولو لم يملك إطارًا ناظمًا. إذ بات يندرج هذا المحور المهم المثلث الأضلاع من العمل المسلح في إطار الاستراتيجية المنوعة التي تعتمدها المقاومة: الأول يضم حماس التي لم تشارك في العمليات العسكرية، لأنها تعتمد استراتيجية بناء ومراكمة القوة والسلاح على المدى الطويل ضد الاحتلال، بينما تبنت الجهاد الإسلامي استراتيجية العمليات الاستنزافية، حيثما استطاعت، وخاضت في إطارها خمسة مواجهات منفردة مع العدو في الأعوام الأخيرة. ويمكن وضع العمليات الفردية في إطار التكامل بين الاستراتيجيتين من خلال الضربات المفاجئة والاستنزاف خلف خطوط العدو.

وقد تنجح الظاھرة باستنزاف محدود للاحتلال، ولكنھا ستظل عاجزة عن التحول إلى عملیات استراتیجیة كبیرة، قادرة على زعزعة الاحتلال بسبب الحصار المفروض على الضفة، والتعاون المتزاید بین التنسیق الأمني والأجھزة الإسرائیلیة. كما أن احتمالات تحولھا إلى انتفاضة ثالثة، أو التبشیر بھا، لا یزال وعدًا صعبًا، إذا لم تعد الفصائل إلى العمل الجماعي، أو تخرج قیادات شابة قادرة على تجدید الاشتباك مع العدو على نمط ما تقوم به البؤر المسلحة، في جنین خصوصًا، ونابلس.

 

قد يهمكم أيضاً  العمليات الاستشهادية الفلسطينية: تطور الجسد كأداة مقاومة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العمليات_الفردية #العمليات_الاستشهادية #المقاومة_الفلسطينية #العمليات_الفردية_الاستشهادية #مقاومة_الاحتلال #الاحتلال_الصهيوني #ابراهيم_النابلسي #رعد_حازم #الأخوان_إغبارية #رعد_حازم #محمد_أبو_القیعان #العدوان_على_غزة