العروبة المطلوبة تجديد في أفاهيم الهوية وفي أزمنتها، في الأفكار التي نشأت حولها وفي المقاربات التي تناولتها، في الصيغ وفي المؤسسات التي تبنّتها. وذلك باتباع منهج تفكيكي/تحليلي يقرأ التاريخ حفراً في تحوّلاتها، وواقعيّ لا يسطّح مظاهرها بل يعلو بها إلى مراتب الأنماط يعرّيها من هوامشها ويفكّك بناها بموضوعية راجحة ونقدية جذريّة.
هذا المنهج يقوده فكر تأسيسي براكسي كما يوصّف غرامشي الفكر المراجع لمرحلة عبرتها الهوية مستخلصاً من سلبها وإيجابها نوافع تأسيس لمرحلة تجديد في الهوية.
كيف نجدّد هويتنا العربية من طريق الكتابة بعقلانية صارمة ونحن في زمن العروبة الصعبة بعد أن مجّت عقولنا الكتابة السّهلة في أزمنة «العروبات» الطربية الغنائية أو الخطابية الانفعالية؟!
العروبة هوية سياسية تقوّت بالإسلام وإن كانت كهويّة قوم سابقة عليه. قيام الدولة الإسلامية، دولة النبي، أعطى للهوية القومية مضمونها السياسي. ألم يطابق الإسلام بين الدولة والأمّة؟ العروبة السياسية لم تولد في الزمن المتأخّر، زمن الحداثة والمعاصرة. دولة النبي حوّلت الإسلام إلى إسلام سياسي، ولو لم تقم دولة النبي لما عرفنا العروبة هوية سياسية. ألا يعدّ تحويل الهوية العربية من هوية «جماعات» إلى هويّة «أمّة» تحويل ماهيّتهم الحضارية والثقافية إلى هويّة سياسية قومية؟
من العروبة الثقافية إلى العروبة السياسية هذه هي النقلة التي أتمّها الإسلام للعرب بتحويلهم من جماعات إلى أمّة.
هذا التحوّل من المجال الحضاري/الثقافي إلى المجال السياسي/الأيديولوجي ومن المجال الفكري إلى المجال الحركي/العملاني الدولاتي أو السلطوي هو تحوّل طبيعي يضع الفكرة على محكّ التجربة العملية لفحص مدى واقعيّتها وقابليّتها للترجمة والحياة، شأنها في ذلك شأن جميع الأفكار الإذهانية التي لا حكم لها أو عليها، إيجاباً أو سلباً، ما لم تتحوّل إلى حركات إعيانية. هذا التحوّل الطبيعي بالأفكار من الإذهان إلى الإعيان هو الذي يسمح بإخضاعها إلى إعادة نظر وفحص ونقد ومراجعة وتصويب، فالمقدّمات النظرية تشهد لها أو عليها نتائج تحويلها إلى وقائع.
العروبة السياسية أسّس الإسلام لها تأسيساً معرفياً وحركياً وهي ليست نتاجات الفكر القومي العربي الحديث الذي ارتفع بالعروبة إلى نصاب الأيديولوجيا. عروبة الأيديولوجيا إبداع إسلامي استغلّه الأمويون وانحرفوا به عن طبيعته الدينية وحوّلوه إلى طبيعة أموية/قومية خالصة فاشتدّ عودها في زمن دولتهم؛ ليضعف لاحقاً وينكسر في زمن العباسيين وهيمنة الحركات والسلطات «الشعوبية»؛ ثم يستعيد طبيعته الدينية مع الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية، ليقع بعدها تحت سيطرة حكم المماليك الذين تعود أصولهم إلى آسيا الوسطى ويتلاشى نهائياً في ظلّ الدولة العثمانية.
منذ ذلك الزمن حتى انكسار «العروبة القومية» التي أحياها مفكّرو القرن التاسع عشر في ما بات يعرف بنكسة 1967 والسؤال المطروح بقوّة:
ما سبب مسلسل هذه الهزائم التاريخية؟ متى يبدأ تاريخ الهزيمة الأولى والأخيرة؟ من يتحمّل مسؤولية حدوثها؟
إنّ من لا يفصل بين تاريخ العرب السياسي وتاريخهم الديني وبين العروبة والإسلام على الصعيدين الفكري والأيديولوجي يظهر أنّ سبب الهزيمة الأولى يعود إلى انشقاق العروبة عن الإسلام في الزمن الأموي، ما أضعف العروبة في مواجهة أعدائها «الشعوبيين»؛ إذ حلّت العصبية القومية محلّ العصبية الدينية. كما أنّه يظهر أنّ سبب الهزيمة الأخيرة يعود كذلك إلى العداء الذي استحكم بين الرئيس عبد الناصر وحركة الإخوان المسلمين، ولاحقاً بين الإخوان وحركات الإسلام السياسي عموماً من جهة، والبعثيين والقوميين العرب الماركسيين من جهة ثانية.
أمّا الساعون إلى محو آثار النكسات والنكبات كافة والنهوض منها بفاعلية التجدّد الحضاري فيبحثون عن التجدّد في الهوية القومية في تجدّد العروبة الإيمانية التي روحها الإسلام.
إذا كانت حركة الساعين إلى التجدّد الحضاري تضمّ الناصريين والبعثيين والقوميين العرب الليبراليين، استدراكاً منهم لما تقود إليه النزاعات بين العروبيين والإسلاميين من هزائم (موقف سياسي)، ووعياً منهم لخطورة الفصل بين العروبة والإسلام على التجدّد الحضاري (موقف أيديولوجي)، وبحثاً منهم عن تفسير تاريخي لتينك الهزيمتين، فإنّ إمكان النجاح في هذا المسعى قد يرضي الأذهان ولكنه بالطبع يخالف منطوق الوقائع لتشابك الأحداث واختلاف الظروف وتباين التحديات، وخصوصاً بعد انكشاف أوهام الإسلام السياسي في زمن «الربيع العربي»، وذلك بفرعيه «المعتدل» و«المتوحّش». هنا يبقى الرهان معقوداً فقط على إمكان التفاهم – إن لم نقل التحالف – المطلوب بين «عروبة حضارية» و«إسلام نقي»، بين عروبيين «هويتهم حضارية» (بما فيها من عقلانية) وبين مسلمين «هويتهم قرآنية» (بما فيها من مدنية).
لذلك، لا أرى موجباً للبحث عن سبب تاريخي للهزائم العربية أقلّه منذ هزيمة عام 1967حتى اليوم وحصره بانفصال العروبة عن الإسلام وذلك لسببين:
– «الإسلام الأعجمي» تحكّم بتاريخ العرب السياسي ما يقارب اثني عشر قرناً، وعاد منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران محاولاً على الأقلّ المشاركة في صناعة تاريخهم المعاصر.
– الأنظمة والحكومات التي قامت في الأقطار العربية والتي لا شأن لها ولا دعوى بالحركة القومية العربية هي وحدها تتحمّل القسط الأوفر من المسؤولية عن الهزيمة الحضارية التي أصابت العرب. وهي أنظمة وحكومات قطْرية مستتبعة لدول الاستعمار الغربي واستبدادية لا تصنع لشعوبها انتصارات بل هزائم.
إنّ هذين السببين هما من حقائق التاريخ التي لا تمحوها رغبات من يرى في التراجع العربي مظهراً من مظاهر التخلف الديني أو ارتكاسات الفكرة العربية؛ فليس ثمة دين موسوم بالتخلّف من حيث تكوينه النصّي، قد يصيبه التخلّف من حيث التفسير والممارسة، والإثنان خاضعان للتحوّل في تاريخ الأديان، وليس ثمّة هوية شعب متخلّفة بالتكوين، قد يصيبها التخلّف متى سادت فيها القوى الشهوية على القوى العقلية، وهي سيادة غير ثابتة في مسيرة شعب.
إنّ تعاظم ظواهر التخلّف في مرحلة لا يعني سطوتها في كلّ المراحل، فحركة النهوض والتجدّد تبقى إمكاناً كامناً في حياة الشعوب، وبخاصة العودة المتزايدة إلى «الدين النقي» وأصالة الهوية القومية.
السؤال البديهي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ: ماذا تعني «بالدين النقي» و«أصالة الهوية»؟
«الدين النقي» هو النصّ قبل أن تصيبه «تشوّهات التفسير أو التأويل الفاسد» أو «الفقه الديني المسيّس» الذي حوّله إلى نصّ سياسي أو أيديولوجي.
«أصالة الهوية» هي الهوية الطبيعية ذات السمات الحضارية والأنتروبولوجية الخاصة التي تنماز بها عن هويات الشعوب الأخرى قبل أن تصيبها علل الاكتساب المؤذي المفضي إلى ما أسمّيه «اصطناع الهوية»، وخصوصاً من طريق اللغة التي هي وسيلة تبنّي أنماط ثقافية وسلوكية وقيمية ومعرفية ليست من طبيعة التكوين الأصلي للهويّة.
الوطن العربي هو أكثر بقاع الأرض التي تشهد شعوبها عمليات تشويه الهوية أو استلاب الهوية وإفراغها من«حقائقها الأصلية».
الوطن العربي يعيش راهناً في ذروة صراع الهويات في الميادين كافة. وعروبته في صلب المواجهة.
بانهيار العروبة تنهار قومية المواجهة مع «عولمات» تسعى إلى شطب الهويات على الصعيد الكوني. فالهوية الكونية تسييل للخصوصيات: «الدين النقي» و«أصالة الهوية».
في زمن «الهويات المستباحة» تلجأ الشعوب إلى خصوصيات الهوية.
الخصوصية الأشد سطوعاً في هويتنا القومية هي العروبة الحضارية قبل أن تكبّلها قيود التخلّف التي فرضتها عليها هيمنات أعجمية آسيوية وعثمانية في زمن واحتلالات استعمارية غربية في زمن آخر؛ فما كانت تتحرّر من واحدة إلّا لتسقط في مقابض أخرى حتى وقعت في قطيعة فعلية مع حقائقها الأصلية. محنة الشعوب المتخلّفة هي هذه: الوقوع في قطيعة معرفية مع الذات زمن تكوّنها الأوّلي.
محنة العروبة هي هذه.. ليست الديمقراطية محنتها، وليست الحريات، وليست حقوق الإنسان، وليست التعددية السياسية والحقّ في الاختلاف والمواطنة وحكم القانون والعدالة ودولة والمجتمعات المدنية… إنّها في التجدّد الحضاري المشروط بالتعرّف اليقيني إلى الذات في منابتها الأصلية.
من ثمار تلك المنابت «صحيفة المدينة» أو «دستور المدينة» الذي يتضمّن كل هذه المبادئ التي أسّست لمجتمع عربي حضاري تعدّدي. ومن ثمارها كذلك منظومة قيم وسلوكيات نقع عليها في «ديوان العرب» ونقرأ تجلّياتها في الأخلاقيات العربية التي أتمّ الإسلام مكارمها.
إنّ قراءة التاريخ بتناقضات أحداثه ووقائعه وصراع قواه غيّبت تلك المنابت فانهزمت لصالح الوافدات إليها وبات تاريخ العرب منزوعاً عن أصليه: الدين والهوية.
من يقرأ الاتجاه العام في حركة التاريخ العربي يقع على الحقائق كما هي ماثلة فوق أرض الواقع ليبني عليها مستخلصاته الفكرية. وهذا ما بدا لي في خلاصة ما انتهيت إليه، من أنّ العرب باتوا بلا دين ولا هوية.
خرجت الاتجاهات الفرعية في الدين من الأصل الكلّي، ولم يعد الفرع امتداداً في الأصل، ما أفضى إلى طغيان النصّ البشري التأويلي على النصّ الإلهي التنزيلي وفي حال ترصّد الممارسات الناتجة من هذا الطغيان بعين فاحصة نجد أنّ «إسلاماً آخر» متعدّد الأشكال والمضامين ينمو على أطراف «الإسلام القرآني» ويعلو عليه.
أمّا الهوية، عروبة الأصل الجامع لفروع الهويات كافة، فقد تشظّت بفعل التراجعات أمام الهجمات الأعجمية في زمن والاستعمارية في زمن آخر، وقد أشرنا إليهما في كلام سابق، فضـلاً عن مفاعيل الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، ما أيقظ الهويات الإتنية والمذهبية وجعل منها حقول استثمار سياسي وثقافي لتمرير مشاريع التفكيك والتفتيت وتمزيق الهوية العربية العروبية الجامعة، تلك المشاريع التي بدأ تنفيذها بسايكس – بيكو يبدو أنّ تداعيات «الربيع العربي» الكاذب تسهّل عبورها مجدّداً إلى الوطن العربي.
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 481 في آذار/ مارس 2019.
(**) ساسين عساف: أستاذ في الجامعة اللبنانية.
البريد الإلكتروني: assafsassine@gmail.com
ساسين عساف
كاتب وباحث وأستاذ جامعي من لبنان، حائز الدكتوراة فـي الفلسفة والآداب من جامعـة مدريـد المستقلّة (1977)؛ عميد سابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية (1985)؛ أمين عام سابق للمركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة (1995). من مؤلّفاته: مشروع النهوض العربي: رؤيا وحدوية (2018)؛ مشروع النهوض العربي: رؤيا ثقافية (2015)؛ المآزق السياسية في التسوية اللبنانيـة وتداخلاتها الإقليميـة والدولية (1994)؛ مآزق الفكر السياسي في لبنان: ثلاثية العيش المشترك والتغيير والديموقراطية (1991).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.