بعد طول سبات، وبعد ربع قرن تقريباً أو يزيد، تطل «الشرق الأوسطية» برأسها مرة أخرى. وهلّا نتذكر ما جرى أيام «حرب الخليج الثانية» عام 1991، التي أطلق عليها البعض مسمّى «حرب تحرير الكويت»؟
أيامها عمل الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) على تجييش الجيوش وتجنيد الجند العرب، للالتحاق بالحرب، وشاع مصطلح «الربط»، أي الربط بين الدخول العربي في الحرب تحت مظلة «جامعة الدول العربية» وبين البدء بالتسوية السياسية لـ «الصراع العربي – الإسرائيلي».
ولم يكن بدٌّ من أن يقوم بوش الأب بجهد سياسي ودعائي كثيف في اتجاهين: أ – الدعوة إلى بناء «نظام دولي جديد» ردّاً على انهيار الاتحاد السوفياتي، نظام يحل محل «القطبية الثنائية» التي استمرت زهاء نصف القرن التالي للحرب العالمية الثانية، عبر مرحلة «الحرب الباردة» بين القطبين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ب- الدعوة إلى محادثات للتسوية بين العرب وإسرائيل، بعد انقشاع غبار معركة «الكويت». وبالفعل تم عقد «مؤتمر مدريد للسلام» عام 1991 الذي انتهى بمسار من خطَّيْن: خط العلاقات متعددة الأطراف بين الدول العربية وإسرائيل، وخط العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكل من الدول العربية المعنية على حدة وهي فلسطين والأردن ولبنان وسورية. وسبقت العلاقات المتعددة العلاقات الثنائية، حيث عقدت سلسلة من المؤتمرات حول ما سمّي «التعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» من خلال «مؤتمر القمة الاقتصادي». وانعقد المؤتمر الأول بالدار البيضاء (المغرب) في 30 تشرين الأول/أكتوبر – 1 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1994، والثاني في عمّان (الأردن) في 29-31 تشرين الأول/أكتوبر 1995، ثم الثالث بالقاهرة في تشرين الأول/أكتوبر 1996.
صاحبت الحركة العملية للتعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل – التعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما قيل – حركة فكرية عربية دائبة، كان أصحاب السهم الوافر فيها المثقفون، الذين هبّ فريق كبير منهم للتنبيه إلى أخطار إدماج الكيان الصهيوني في الجسم (الهيلامي) في منطقة «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، لتمييع الهوية وإذابة إسرائيل في الجسم الكبير. وظلت المعركة الفكرية قائمة لا تريم طوال عقد زمني أو يزيد (1994 – 2004)، وأشعل أوارها إصرار الغرب بالقيادة الأمريكية على الدعوة إلى بناء «الشرق الأوسط» تارة، ليضم تركيا بصفة خاصة وبعض ما حولها، أو «الشرق الأوسط الكبير» تارة أخرى، عبر قوس ممتد من «إسلام أباد» إلى الدار البيضاء، وتارة ثالثة دعوْهُ «الشرق الأوسط الموسع» ليصل إلى إندونيسيا وجنوب شرق آسيا. وفي جميع الأحوال ظل الهدف الغربي الثابت هو هو: إدماج إسرائيل في كيان أوسع منها، لعله «السوق الشرق أوسطية»، لتؤدي فيه دوراً محورياً، سعياً في النهاية إلى طيّ صفحة فلسطين عبر الزمن.
ولكن لم تحقق الدعوة إلى الشرق الأوسطية شيئاً مذكوراً، تحت ضربات الانتفاضة الفلسطينية الثانية – انتفاضة الأقصى والاستقلال – في سنوات مطلع الألفية، وتحت تأثير التغير الجذري في بنية السياسة الإسرائيلية، وبخاصة بعد «اتفاق أوسلو» عام 1993 واغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، وفق اتجاه ثابت لرفض خيار (حل الدولتين) مقابل فرض خيار «الدولة اليهودية إسرائيل».
خلال الفترة من 2004 حتى 2010 سكتت مدافع الأيديولوجيا الهجينة، المروّج لها باسم السوق وباسم الشرق الأوسط، حتى جاءت أحداث «الثورات» في تونس الخضراء وفي ميدانَي التحرير بالقاهرة وصنعاء، وأحداث «الربيع» المصنوع المصبوغ بالدم في ليبيا، وأحداث «الفجر الكاذب المتحول» في «قلب العروبة النابض». وقد جاءت لتطوي صفحة القعقعات المختلطة بغير سلاح، وشقشقات المثقفين، وانطوتْ معها صفحة الجدل حول التعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل. وظل الأمر كذلك سبعَ سنين. وإذا بصوت جهوري جديد يصك الأسماع حول التعاون الاقتصادي بين بعض العرب وإسرائيل في مجال الطاقة والغاز، ولكن هذه المرة بدون «أيديولوجيا» وبدون أي نوع من «الربط» السياسي بين المطلب الفلسطيني الحق ومبادلة الغاز.
فماذا جرى خلال الفترة منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 حتى التبشير ببناء (مركز لوجيستي إقليمي ودولي للغاز) في إطار «الشرق الأوسط» و«ساحل البحر المتوسط الجنوبي» عام 2018؟ وبصفة خاصة، ما هي المسارات التي اتخذها التصور الاستراتيجي للعلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل، وكيف جرى الفكر والعمل لذلك ثلاثين عاماً تقريباً؟
هذا ما نحاول معالجته في ما يأتي، من خلال إعادة بناء المسارات الأساسية، وصولاً إلى وضع راهن تبزغ فيه على البعد أضواء باهتة وظلال لسوق شرق أوسطية (منزوعة الدسم) – إن صح هذا التعبير – سوق في الشرق الأوسط وجنوب البحر المتوسط، في قلبها إسرائيل ولكن بدون «خيار شرق أوسطي» على النحو القديم..! فكيف يجري لمّ الشتات بين النقيضين المفترضيْن، دون إراقة نقطة من الحبر- مداد الكتابة – ولا نقطة من الدم المهراق؟
وفي كلمة: كيف يجري العمل على قدم وساق، من أجل أن تقام «السوق»، دون أن تكون سوقاً شرق أوسطية بالذات على نحو ما كان يجري عليه التصور ذات يوم قبل عشرين عاماً أو ربع قرن تقريباً؟
وإنها لسوق تتصل بأوثق العُرى مع الخيار الشرق الأوسطي للإدماج الصهيوني، ولكنها لا تمتّ بأي صلة للإرث السياسي (الرومانسي) القديم بشأن «العلاقات الاقتصادية بين العرب وإسرائيل».
ولنراجع المسارات المتصورة في الفكر الاستراتيجي- السيناريوات – منذ البداية وإلى ما قبل المحاولة الأخيرة لإزاحة الستار.
أولاً: احتكار إسرائيل ثمار التعاون الشرق الأوسطي
فحوى هذا المسار أن تتركز ثمار التعاون المفترضة للتعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل في جانب واحد، هو إسرائيل، بينما تحرم الأجزاء العربية المحيطة من الثمار؛ فإذا كانت فقيرة بقيت على حالها أو تطورت بـ «قصورها الذاتي» وفق ما هو متاح لها من موارد داخلية أو خارجية؛ وإذا كانت غنية بالمال فإنها ستخضع لـ «قسمة ضيزى»، تعطي فيها ولا تأخذ، أو لا تأخذ ما هو مناسب لعطائها. وقد استند تصور هذا المسار في بداياته إلى احتكار إسرائيل قوة الردع العسكري النووي بصورة خاصة، وانفرادها بوضع المنصة التصديرية المحتملة كوكيل منفرد للغرب الرأسمالي في مواجهة الإقليم المحيط، وخصوصاً ما يمكن تصنيفه على أنه «منطقة النفوذ»، ثم «المجال الحيوي» المستهدف، أي كل من الأردن والكيان الفلسطيني، ثم سورية ولبنان وساحل الخليج من جانبه العربي.
بواسطة الاحتكار العسكري والاقتصادي إذاً، أي النووي والصناعي، تستطيع إسرائيل – وفق هذا التصور – أن تواصل ممارسة «الاستعمار الصهيوني» (Zionist Colonization)، سواء كان استعماراً غير مباشر، باستخدام أداتَي الردع الوقائي والتفوق التكنولوجي، أو استعماراً مباشراً من خلال «قضم» بعض المناطق الحدودية أو بعض منابع الثروة المائية والنفطية والمنجمية والزراعية، إما بالاحتلال وإما بفرض السيطرة الفعلية دون احتلال (de facto) بحيث تصير الأرض العربية المحيطة بالأرض «العبرية» رهينة في يد إسرائيل.
لكن على أي أساس تم طرح مثل هذا التصور؟
إن الأساس الذي انطلق منه هو شواهد الممارسة التاريخية المعاصرة للكيان العبري حتى في غمار العملية المسماة «عملية السلام»، وهي الممارسة الدالة على الدور المزدوج للإرهابي والتاجر – المرابي. وكانت إسرائيل قد وجدت أمامها في فترة (ما بعد مؤتمر مدريد 1991) مثالاً «تاريخياً» للتفاوض الناجح وفق مفهومها، بل ومبهر النجاح؛ ذلك هو النموذج التفاوضي الأمريكي في عهد ريغان مع الاتحاد السوفياتي السابق في عهد غورباتشيف.
هنا ينطرح تساؤل جوهري: ما هو هذا الشرق الأوسط الذي كانوا ولم يزالوا يتحدثون عنه؟ ألا يشمل الشرق الأوسط وفق التصنيف الاستراتيجي والعسكري الغربي (الأصلي) كلاً من تركيا وإيران، وأحياناً باكستان، وجميعها دول إسلامية؟ ولكن هل نجد لإيران وتركيا، ولا نقول باكستان، دوراً رئيسياً في الحديث عن «الصفقة الشرق الأوسطية»…؟
لا نجد لإيران دوراً بالتأكيد، سوى أنها «موضوع» للخيار الشرق الأوسطي المطروح، وليست «ذاتاً فاعلة»، لا لشيء إلا أنها يحكمها نظام سياسي غير موالٍ للولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، من دون أن ندخل في جدل حول طبيعة هذا النظام، ونوعية الجماعة الحاكمة فيه، وسياساته، وهويته العقائدية…! وإننا، في الغالب، لا نسمع عن دور لها إلا بمناسبة الحديث عن الخيار النووي. وفي المقابل، إن علاقة تركيا مع إسرائيل أكثر أهمية. بل قلْ إن علاقة الكل مع إسرائيل هي «كلمة السر» في «الصفقة الشرق الأوسطية» التي هي جزء مما يقال له هذه الأيام «صفقة القرن» المقترح طرحها أمريكياً في مجال التعامل مع «القضية الفلسطينية». وسيان أن نقول، على العكس، إن «صفقة القرن» جزء من «الصفقة الشرق الأوسطية». وليس متصوراً، على كل حال، أن يطرح الغرب مشروعاً للتعاون أو التبادل، دع عنك (التكامل)، بين أجزاء المنطقة الشاملة لتركيا وإيران والدول العربية، كمنطقة شاملة، حتى لو دُسّت إسرائيل فيها جانبياً وجزئياً؛ فهذه هي «المنطقة العربية –الإسلامية المركزية»؛ فلا يعقل أن يقيم الغرب، أو يسمح، بصيغة تكاملية (عربية – إسلامية خالصة أو غالبة) بالمدلول الجيوسياسي. إنما يسعى الغرب إلى تحقيق مشروع إقليمي يضع في بؤرة التركيز من اهتماماته مصلحة إسرائيل، فهذا هو «مربط الفرس» كما يقولون.
إذاً، من الممكن طبقاً للمخطط الشرق الأوسطي أن يتم التصور أن تحصل إسرائيل على المياه من تركيا مثلاً ولو في المدى المتوسط أو البعيد، وأن تبادل الغاز الطبيعي مع مصر والأردن وبعض الخليج (ومع غيرها أيضاً… ومن يدري؟). ومن بعض الخليج أيضاً، من الممكن تصور أن تحصل إسرائيل على شيء من التمويل الميسَّر، بالوسائل المناسبة لها، من دون إعطاء اهتمام كبير للاستثمارات العربية في إسرائيل، سواء في الأصول العينية أو المالية (الاستثمار المباشر وغير المباشر) بما قد يفتح باباً أمام ملكية عربية للأصول الإسرائيلية!
وفضلاً عن المياه والغاز الطبيعي والأموال، من الممكن تصوّر أن تحصل إسرائيل على قدر من العمالة الرخيصة، من (الكيان الفلسطيني) المقترح شرق أوسطياً، وربما من مصر أيضاً، لمَ لا؟ أوَلم يتحدث «شيمون بيريز» – الرئيس الإسرائيلي الأسبق على الأقل – في كتابه الذائع الشرق الأوسط الجديد (New Middle East) عن عالم شرق أوسطي يقوم على مبادلة التكنولوجيا الإسرائيلية بالأيدي العاملة العربية، حيث الشرق الأوسط العربي، كما قال، «روضة أطفال كبيرة» في إشارة إلى غلبة العنصر الفتيّ أو الشاب على الهيكل السكاني العربي، على العموم؟
وماذا تعطى إسرائيل في غمار «السوق الشرق الأوسطية»؟
إنها يمكن أن تبادل المياه والغاز والمال والعمال بالسلع والخدمات الإسرائيلية، وخاصة الخدمات، في مجالات تتمتع فيها بالتفوق النسبي، وضمن تقسيم عام للعمل الدولي المتفق عليه ولو ضمنياً مع شركائها الكبار في الغرب، حكومات وشركات عملاقة. ومن يدري؟ ربما تؤدي دور مورّد السلع العسكرية والأسلحة، يوماً ما، لبعض من العرب المتنازعين فيما بينهم، أو المتنازع بعضهم مع إيران مثلاً…!
بعبارة موجزة، يمكن أن تتحول المنطقة المحيطة بالكيان الصهيوني إلى سوق لمنتجاته المتنوعة، وإلى «منجم» للموارد الاقتصادية النادرة.
الخلاصة إذاً، أن «السيناريو» محل البحث، بدايةً، هنا (سيناريو: احتكار إسرائيل ثمار التعاون الشرق الأوسطي) لن يقدم نموّاً يذكر إلى البلدان العربية المحيطة بإسرائيل، بل لن يحدث حتى النمو المحدود الذي تكلم عليه البعض، وإنما هو نمو حقيقي في جانب واحد، هو إسرائيل، يقابله استنزاف محتمل لبعض مصادر النمو في الجانب الآخر، الجانب العربي بطبيعة الحال..!
ثانياً: «إسرائيل المندمجة شرق أوسطياً»، مقابل «إسرائيل المنتفخة»
لقد واجه الكيان العبري في الداخل نزاعاً سياسياً وفكرياً بين اتجاهين رئيسيين، وبخاصة بعد عدوان حزيران/يونيو 1967: الأول هو الاتجاه الداعي إلى القبول بتنازلات في الأراضي المحتلة للفلسطينيين والعرب الآخرين مع ضمانات تسمح بتحقيق الأمن الكامل لإسرائيل، بما في ذلك إقامة مناطق منزوعة السلاح، أو مخفضة التسليح، أو محدودة التسليح على الجانب العربي دون الجانب الإسرائيلي، مع الاحتفاظ بقوة الردع الشاملة – كل ذلك مقابل «الاندراج الهادئ» للكيان الصهيوني في المنطقة العربية المحيطة، وكذا «المنطقة العربية- الإسلامية المركزية» الأوسع، مع طمس الهوية التاريخية لكلتيهما، حتى تضمن إسرائيل اجتثاث جذور العداء للصهيونية فيهما.
بتعبير آخر، إن هذا الاتجاه يقبل بمخاطرة خيار «إسرائيل الصغرى»، لكنها إسرائيل العاملة تحت المظلة الغربية والأمريكية للحصول على أكبر مزايا اقتصادية ممكنة، بتحويل «الشرق الأوسط»، وبخاصة «الشرق العربي» إلى منجم وسوق. إنه الخيار الشرق الأوسطي الخالص باختصار، وكان يمثله في وقت ما، جناح قوي من «حزب العمل» وبعض قادته التاريخيين مثل إيغال ألون وإسحق رابين.
لكن هذ ا الاتجاه، لم يعمل في بيئة سياسية خالية من المواجهة، بل قوبل بمعارضة قوية من منافسه على الحكم والممثل في تكتل «الليكود» الذي يعود إلى جناح آخر في القيادة التاريخية للكيان الصهيوني، يمثله مناحيم بيغين ثم أرييل شارون، وورثته (الضعاف) حالياً مثل بنيامين نتنياهو. وقد أخذ ما يسمى اليمين الصهيوني، الرافض لأي نوع من «الصفقة التاريخية» لتسوية القضية الفلسطينية ولو من خلال ما بات يعرف بحل الدولتين، بالزحف رويداً ليستولي على المجال العام الإسرائيلي استيلاء شبه كلي، ليقصي بعيداً جداً من كان يمثل كلاً من «التيار الصهيوني المعتدل» كجماعة «المؤرخين الجدد» سابقاً، واليسار الصهيوني، و«أنصار السلام» على مروحة واسعة من النزعات الأيديولوجية، وممثلي المهاجرين الأكثر «شوفينية» القادمين خاصة من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وأوربا الشرقية. في ضوء ذلك باتت النخبة المتنفذة في إسرائيل، ومعها «الرأي العام» إجمالاً، تميل إلى خيار آخر، «خيار غير شرق أوسطي»، إذا صح التعبير.
هذا إذاً هو الاتجاه الثاني الذي أخذ يتنافس مع الاتجاه الأول المذكور. هذا الخيار (غير الشرق الأوسطي) يفضل تجنب مخاطرة التنازلات في الأراضي، ويراها مقامرة لا تضمن المحافظة على إسرائيل، أو حتى أمنها، وإنما الأضمن، من وجهة نظره، هو الاحتفاظ بالأراضي، مع عرض الحكم الذاتي الإداري على الفلسطينيين ولو بهامش واسع نسبياً، والإبقاء على المستعمرات الصهيونية في الأراضي المحتلة، والاستمرار في جذب أكبر عدد ممكن من اليهود خارج إسرائيل للهجرة إلى «أرض الميعاد»، مع تهجير أو ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين أنفسهم (الترانسفير) إلى فلسطين التي يرونها تقع شرق نهر الأردن (أي الأردن الحالية). وإن اقتضى الأمر، فيمكن السماح بإقامة كيان سياسي فلسطيني منزوع السيادة، مع مبادلة قسم من الأراضي للاحتفاظ بالمستوطنات في الضفة الغربية، مع الإزاحة المبرمجة لقضايا «الحل النهائي» إلى حيز النسيان، وبخاصة حق العودة، والسيادة على القدس.
كل ذلك مع الاستمرار في استخدام «العصا الغليظة» المُشْرعة دائماً بالعنف والحروب المسماة بـ «الوقائية» ضد الجيران العرب، وبخاصة في إقليم «سورية – لبنان»، ولو من خلال استخدام «فزّاعة» (إيران – حزب الله). هذا من أجل إبقاء إسرائيل آمنة (عزيزة الجانب ومرهوبة)، وقبل كل شيء نقية عنصرياً (إسرائيل دولة يهودية)، كبيرة في سكانها ومساحتها إلى أقصى حدّ ممكن، منتفخة، إذا صح التعبير. إنه خيار الاستمرار في الاستعمار التقليدي إلى نهايته الطبيعية!
هذا المسار «غير الشرق الأوسطي»، من حيث الجوهر، كان مجرد مسار محتمل، حينما كنا نكتب عنه وغيرنا، كثيراً جداً، في التسعينيات الماضية، وكنا نقول يومئذ إنه خيار غير مستبعد، وخصوصاً في ضوء مؤشرات اتجاهات «الرأي العام الإسرائيلي». وكنا نقول أيضاً إن تحقيق هذا المسار تقف دونه مصاعب جمّة، منها معارضة الغرب والولايات المتحدة (في ذلك الوقت) لخيار «إسرائيل المنتفخة» وتفضيل خيار «إسرائيل الشرق الأوسطية». ومن هذه المصاعب أيضاً – كما قلنا وقتها – إنه يضرب في المجهول، فليس أمامه من ضمانات لتحقيق أحلامه، مقابل الضمانات التي حصل ويحصل عليها الطرف الآخر – ذو الميل الشرق الأوسطي وفق أطروحة شيمون بيريز – سواء من الغرب، حكومات وشركات، أو من بعض العرب، من أجل مكافأة إسرائيل على تقبُّل الصيغة المطروحة. وقلنا أيضاً – في التسعينيات المنصرمة دائماً – إنه برغم الصعوبات، يجب على أي حال، أن نأخذ «إسرائيل المنتفخة» مأخذ الجد، كأحد الاحتمالات المتصورة الرئيسية.
واليوم – 2018 – وجدنا أن «إسرائيل الكبرى» على غرار شعار «من الفرات إلى النيل» لم تعد تمثل خياراً جدياً مطروحاً على سبيل الحقيقة، برغم آلام المخاض الرهيبة في سورية والعراق ولبنان، بل ولا نرى مستقبلاً حقيقياً في الأجل «فوق المتوسط» لخيار «إسرائيل المنتفخة». ولكنّا نرى في الأفق المرئيّ إسرائيل (المضغوطة جبراً) تحت تأثير قوة التيار المقاوم فلسطينياً وعربياً ومن بعض العالم الإسلامي، صموداً وتصدياً، وبخاصة من حيث إفشال التصور الغربي، ولو نسبياً فقط، لما سمّوه «الربيع العربي» وبخاصة بإزاء سورية.
وإننا لنرى أمامنا في الأفق محاولة لتفعيل إسرائيل «غير كبرى»، ولا بأس: منتفخة إلى حدّ معين، تستقوي بالاتجاه الأشد عنصرية و(تصهْيُناً) في النظام السياسي الأمريكي، كما هو الحال في إدارة ترامب، وذلك من أجل التنكر لما يسمى «حل الدولتين» و«قضايا الحل النهائي» في آن معاً، وباعتبار الكيان الصهيوني «دولة يهودية». والأكثر من ذلك أنها يمكن أن تحصل على عوائد «مجانية» من بعض البلدان العربية وغير العربية المحيطة – بدءاً من صفقات الغاز – دون أن تكون مضطرة إلى دفع أي أثمان لقاء «العربدة».
إنها الشرق الأوسطية الجديدة إذاً، تلك التي تقوم على المبادلة الاقتصادية «الرسمية» مع بعض الحكومات العربية وشطر من القطاع الخاص العربي الكبير المدعوم رسمياً على كل حال، شرق أوسطية لا تترجم سياسياً في شكل تنازلات إسرائيلية حقيقية في مضمار القضية الفلسطينية، كما لا تطمح لبلوغ هدف إقامة سوق شرق أوسطية مندمجة وذات غلاف فج صريح.
هي شرق أوسطية «مكتومة» إذاً، ذات طابع واقعي نفعي غير مبال بالسياسة والأيديولوجيا، طرفاها صهيونية مغالية تسعى لإعلان انتصار بغير مهرجان، من جانب أول، وبعض عرب غير مبالين يقدمون الفتات لشعوبهم لقاء ضمان مظلة تسمح بالاستمرار في «لعبة السلطة» إلى أمد يظنونه بعيداً، ويراه البعض قريباً. هو إذاً يمكن تسميته الخيار «غير الشرق الأوسطي الجديد».
ثالثاً: التقطع والارتباك في المستقبل الاقتصادي للشرق الأوسط
يفترض هذا المسار دخول «الخيار غير الشرق الأوسطي الجديد» حيز التجربة، وأنه ستتاح له فرصة زمنية مناسبة للاختبار، غير أنه سوف يكون حافلاً بالمرارات…! ذلك أن هذا الخيار يشترط طمس معالم الهوية، عربياً على سبيل العموم، وفلسطينياً على سبيل الخصوص، مع محاولة الترويج لثقافة بديلة يسمح فيها بانتعاش الهوية الصهيونية (وربما المعدلة) ولو تحت مسمّى بديل مثل «حق الشعب اليهودي في إقامة دولته» أو «الدولة اليهودية» باختصار.
إذْ ما الذي يضمن ألّا تنتفض قوى المعارضة الحية في الجسد العربي و«الإسلامي – المسيحي» المؤتلف، للدفاع عن حق البقاء، انطلاقاً من الجذور؟ أليس هذا احتمالاً قوياً ؟ بل أليس هذا هو الاحتمال الأقوى في إطار من تقابل العنف الاستعماري الماثل والعنف الثوري المضاد؟
ولسوف يكون «التبادل» (Trade-off) بين العنف ومواجهة العنف قائماً، يترك ظله الثقيل في المنطقة العربية المحيطة بإسرائيل بخاصة، ومن المتصور بدرجة عالية نسبياً من اليقين أن يولّد هذا التبادل ضغوطاً متزايدة على قوى المجتمع العربي لإعادة بناء التصور العربي المستقبلي نحو الأفضل وفرضه في الواقع العملي باضطراد.
وأما الكيان العِبْريّ، فإنه من جانبه، لن يكون لديه الاستعداد المجاني لأن يفرط في شىء..! فلن يعطى مما بين يديه من أراض محتلة إلا بحساب شديد، ولن يتخلى عن جزء من مشروعه المعادي للسنن التاريخية المعززة بالإرادة الإنسانية، إلا تحت ضغط القوة القاهرة.
رابعاً: تحوّل «إسرائيل» عبر تحلل الكيان السياسي
نقصد بهذا المسار البديل الرابع، سيناريو التخلي الطوعي لإسرائيل عن طابعها الصهيوني، أي تحولها إلى كيان غير عنصري، بما يتضمنه هذا من اجتناب دعوى «أرض الميعاد»، وبالتالي من اعتبار إسرائيل وطناً لجميع اليهود في العالم، وإلغاء «قانون العودة»، والتسليم بإعادة جميع الأراضي المحتلة بعد عام 1967، وقبول حق تقرير المصير القومي السياسي للشعب العربي الفلسطيني، والتخلي عن أي نزعة عدوانية تجاه البلدان العربية الأخرى مع تصفية ما يتعلق بهذه النزعة من ركائز عسكرية… إلخ؛ وأخيراً – ولكن ليس آخراً – القيام بما يعدّ «ثورة ثقافية» على مستوى التجمع اليهودي كله يكون جوهرها نقد الأيديولوجيا الصهيونية وإدانتها كأيديولوجيا عنصرية قام على أساسها ذلك الكيان…! وباختصار، تحول الجماعة اليهودية المقيمة داخل إسرائيل الحالية إلى تجمع بشري غير صهيوني، وتحلل كيانها السياسي، ليحيا أفراد هذا التجمع في إطار جامع للعيش وفق قواعد مختلفة جذرياً عما سبق. ويمكن أن يتم ذلك عبر مراحل متنوعة، قد يكون من بينها «دولة المواطنين» من منابع مختلفة.
وإن تخلّى التجمع اليهودي في فلسطين عن صهيونيته يعني نسف اليهودية السياسية ذاتها، وذوبان «اليهود» كأفراد في المجتمع الأشمل، لمن يرغب في ذلك، ومن ثم «اضمحلال» الكيان السياسي اليهودي و«تلاشيه».
قد يهمكم أيضاً البعدان التعليمي والاقتصادي في المشروع الإسرائيلي ضد القدس المحتلة
اقرؤوا أيضاً المخيلة الاستعمارية تقتلع مدينة من ماضيها وحاضرها: القدس العربية نموذجاً
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السوق_الشرق_الأوسطية #الشرق_الأوسط #إسرائيل #العلاقات_الاقتصادية_بين_العرب_وإسرائيل #التعاون_الاقتصادي_العربي_الاسرئيلي #التطبيع
المصادر:
(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 473 في تموز/يوليو 2018.
(**) محمد عبد الشفيع عيسى : أستاذ في معهد التخطيط القومي، القاهرة.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.