يصعب الفصل بين تاريخ «بلاد السودان» في صيغها المختلفة منذ عهد ممالك ما قبل التاريخ مرورًا بالممالك المسيحية في القرون الوسطى وحتى العصر الإسلامي، وبين الحروب. كان العهد الفرعوني هو عهد الحروب غير المدوّنة سوى نتف في كتب التاريخ، ولم يبق للسودانيين في ذاكرتهم الجماعية من مملكة علوة (Alodia) المسيحية التي ازدهرت لعدة قرون في المنطقة بين جنوب مصر وحتى الخرطوم سوى قصة الحرب الفاجعة التي انتهت بتدمير المملكة وعاصمتها مدينة سوبا (شمال العاصمة الحالية) واسم سيدة يقال لها («عجوبة» يحمّلها التاريخ الذكوري – بامتياز – مسؤولية الفتنة التي انتهت بتدمير العاصمة التاريخية لمملكة باذخة عاشت تسعة قرون حتى أوائل القرن السادس عشر الميلادي مخلفة لنا آثارًا محدودة من الصلصال والمثل الشهير «عجوبة الخربت – أي التي خربت – سوبا».
بعدها جاء عهد الممالك الإسلامية مثل مملكة سنار (1504 – 1821)، وسلطة الحكم التركي (1821-1885)، وسلطة الاستعمار الإنكليزي – المصري (1897-1956)، ثم عهد الدولة الوطنية منذ الاستقلال وحتى يوم حرب الجيش الوطني وقوات الدعم السريع الحالية التي انطلقت في 15 نيسان/ أبريل الماضي وستبقى آثارها أو حطامها لعهد مقبل في سودان المستقبل.
* * * *
ما عدا حروب العصر الفرعوني فإن العامل العربي – بالمعنى الوصفي وليس لتأسيس أي اتهامات – ظل حاضرًا كأحد أطراف حروب بلاد السودان وأحد عوامل صناعة الملك والسلطة فيه، وهو ما يجعل التاريخ السوداني الرسمي في المناهج المدرسية يبدأ بدخول العرب السودان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حيث انتصر الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي السرح على ملوك النوبة في دنقلا (عاصمة الولاية الشمالية الحالية).
بعد قرون قليلة قضى التحالف العربي بزعامة عبد الله جماع زعيم قبائل العبدلاب، وعمارة دنقس زعيم قبائل الفونج، على مملكة سوبا وجعلوا ازدهارها خرابًا لم يتم إعماره إلا خلال هذه العقود الثلاثة الأخيرة، إذ نشأت بعض المجمعات السكنية الراقية الجديدة. بعدها أسس الحليفان الجديدان السلطنة الزرقاء (والأزرق والأخدر [الأخضر] في عامية عرب السودان هي لفظة مخففة للأسوَد ذات الدلالة السلبية في بعض السياقات، وهي مقابلة للأسمر العربية التي تعني الأسود بلغة الصوابية السياسية).
عاشت السلطنة الزرقاء وعاصمتها سنار قرابة 3 قرون وبضع سنين كانت مثالًا لفساد الحكم وعسف الحكام وبؤس الرعية، ما عدا بعض الإشراقات المحدودة ذات الصلة بانتشار المعارف الدينية، سواءٌ عن طريق الهجرات القادمة من الغرب حيث بحيرة تشاد، والشمال، حيث الأكابر يبعثون بأبنائهم للدراسة في الأزهر الشريف، وانتشرت تبعًا لذلك الطوائف والطرق الدينية الصوفية التي لاذ الناس بسلطتها هروبًا من عسف السلطة السياسية، وصارت الإنتليجنسيا الجديدة المتكونة من الشيوخ والأئمة هي صاحبة النصيب الأكبر في بناء الوعي والتوجه العام للمجتمع.
قضت جيوش حاكم مصر ومؤسس دولتها الحديثة محمد علي باشا على مملكة سنار بسهولة، وبسط السلطان الجديد نفوذه من شمال البلاد وحتى مناطق في جنوب السودان، حيث عانى المواطنون بشاعة الصلف الاستعماري لتنتظم في البلد ثورة جديدة قادها متصوف شاب هو الإمام محمد أحمد المهدي (العربي الأصول من شمال السودان) فنجح في طرد الترك ليتوفى بعد أشهر قليلة ويخلفه أحد أقسى الحكام في تاريخ السودان المعاصر وهو الخليفة عبد الله التعايشي (العربي من أصول تونسية) والقادم من إقليم دارفور.
* * * *
هنا تبدأ قصة الحرب الجديدة، فقد توجَّس عرب الشمال من إعادة التاريخ لنفسه في بلد مجبول على استعادة السياسيين خطايا أسلافهم. أدى الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع (وهي قوات خفيفة التسليح ذات قدرة عالية على التخفي والانتشار السريع وتنفيذ مهمات الاستطلاع والعمليات الخاطفة) دورًا أساسيًا ومحوريًا في عملية إسقاط نظام مؤسِّس هذه القوات وراعيها الرئيس السابق عمر البشير، وفي صناعة الحاكم الجديد الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الحالي.
هذه الأدوار تعيد إلى الذاكرة الحية قيام التعايشي بإقناع الشاب محمد أحمد قبل أقل من 150 عامًا بأنه المهدي المنتظر الذي سيملأ أرض السودان عدلًا بعد أن ملئت جورًا، تنصيبه حاكمًا قبل أن يخلفه فيُذيق السودانيين من أولاد البحر (أي أبناء النهر من عرب نهر النيل) وغيرهم مرارات العيش والذل وعنف السلطة على نحو ما زالت حكاياته حية في البيوت وسرديات التاريخ العائلي لعرب السودان وعجمه.
تمدد حميدتي تمددًا هائلًا خلال سنوات ما بعد البشير، وبينما كانت قواته محدودة حول الـ20 ألف مقاتل تسيطر عليهم بصورة مباشرة القيادة العامة للقوات المسلحة، ويتلقون تموينهم وميزانياتهم من الخزينة العامة للدولة، فقد بلغت في السنوات الأربع الماضية عشرات الآلاف وحصلوا على موافقة الرئيس البرهان على العمل بمعزل عن قيادة الجيش في الاستقطاب والتجنيد، والتدريب، والتسليح، والتمويل.
بنى حميدتي إمبراطورية مالية ضخمة من احتكار إنتاج الذهب وشرائه عبر شركاته وتحت حماية قواته، واشترى عددًا من المصارف والشركات والعقارات المميزة والصحف، وحصل على تسليح حديث ومدافع وأسلحة مضادة للطيران، وسعى إلى تأسيس قوات جوية وللحصول على طائرات مسيرة.
* * * *
غامَرَ حميدتي وهو صغير السن نسبيًا بين شيوخ الطبقة الحاكمة (مولود في عام 1976)، وحاصل على تعليم نظامي محدود، بسلطة هائلة وحيثيات للبقاء فيها كتيّار جديد ممثل للقوى الريفية التي ظلت مستبعدة من التمثيل العادل في السلطة وفي التمتع بالثروة، وتصور بصعوده السهل والسريع بلا عوائق أن في إمكانه الحصول على السلطة والثروة والبلاد بصيغة احتكارية مطلقة ومن دون شراكة مع أحد.
تمدد حميدتي على الخارج ونسج علاقات خاصة به وبشركاته مستغلًا وظيفته السامية وجهاز الدولة، فزار دول العالم والتقى بزعمائها، وتدخل بصورة مباشرة في تشابكات الصراعات الإقليمية والدولية في غرب أفريقيا، فوضع طموحه في مرمى النيران بين الإمبراطورية الروسية الصاعدة في مجال النفوذ الفرانكوفوني التقليدي وخصومها.
* * * *
كان أحد عوامل مشاركة قوات الدعم السريع في المعركة حول السلطة مؤسسًا أيضًا على مشاركتها في حرب اليمن، حيث نجح قائدها حميدتي في تمكين مقاتليه – وهم بطبيعة حال الجيوش من خلفيات أقل حظًا في المال والنفوذ – من الحصول على أموال وزاد طموحهم في الترقي الاجتماعي.
لم تكن هذه التجربة الأولى للمقاتلين السودانيين الذين شاركوا في حروب خارجية في القيام بعمليات لزعزعة السلطة القائمة وتغيير شروط مشاركتهم فيها، إذ تمرّدت قوات الجهادية التي كانت تحارب ضمن جيش الوالي محمد علي باشا في كسلا على الحدود مع الحبشة عام 1864 لأسباب متعلقة بالعلاقة بين العرب والسود. لكن تم إخماد التمرد بصعوبة في العام التالي، وتمردت مجموعات كبيرة من الجنود الذين شاركوا ضمن القوات الإمبراطورية البريطانية في الحرب العالمية الأولى ضد الاستعمار بعد انتهاء الحرب وقاموا في ما عُرف في التاريخ الحديث بثورة 1924 التي أعاد البريطانيون بناءً على حيثياتها صوغ سياستهم الاستعمارية في السودان على خطوط عرقية تحابي العرب/ المنتسبين إلى أصول عربية بالأحرى، وتنظر بريبة إلى السود المنتمين إلى قبائل أو أحفاد المسترقين، وطبقوا سياسة المناطق المقفولة التي قادت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان عن شماله وما زال البلدان يعانيان عقابيله.
* * * *
ينتمي الفريق حميدتي إلى قبيلة الرزيقات ذات الأصول العربية التي لها امتدادات واسعة في دول تشاد والنيجر ومالي. وكان الكثير من أبناء هذه القبيلة محاربين عابرين لحدود دولهم. شارك أبناء هذه المجموعات القبلية العربية في حروب الزعيم الليبي السابق معمر القذافي ومغامراته العسكرية التي لم تنقضِ إلا بغيابه. وكانت تلك الجماعات هي العنصر الأبرز في مكونات ما عرف بـ«الفيلق الإسلامي» الذي كان أقرب إلى كونه فيلقًا عسكريًا عربيًا كان العقيد يعده لتأسيس ملكه المشتهى في الحزام الصحراوي الأفريقي.
هذا الإرث العروبي، والعسكري مضافًا إلى فقر دول الحزام الصحراوي وضعف الحكومة الانتقالية في السودان بقيادة الفريق البرهان، ووفرة المال في يد الجنرال الطامح، هيأت لحميدتي فرصة غير مسبوقة في تأسيس جيش ضخم لا يُعرف عديده على وجه التحديد، إذ لا يمكن الاعتماد على سجلات الرواتب التي تمنحها وزارة المالية له في ظل توافر موارد هائلة خارج الميزانية الرسمية.
وبينما ظلت مقاعد الطبقة الحاكمة في السودان محتكَرة طوال عهد ما بعد الممالك المسيحية في السودان للقبائل العربية النيلية، فإن حميدتي وجماعته يرون أنهم أكثر عروبة من الشماليين، وهو أمر تسنده الكثير من الخصائص الثقافية والأنثروبولوجية. وبالتالي فإن عامل العروبة في تولي السلطة سيكون في خدمتهم لا ضدهم على النحو الذي كان يعيق سير القبائل الأفريقية نحو السلطة، إذ غالبًا ما كانت الشعوب والمؤسسات العربية توفر السند للخرطوم.
أثبتت هذه الحجة فعاليتها، ولعله لا يخفى الآن أن تمرد حميدتي يحظى بتيار متواطئ ومشجع في غير فضاء عربي.
لقد ظل العامل العربي حاسمًا ومهمًا في حماية السلطة المركزية في السودان خلال معاركها مع التيارات الأفريقانية.
يواجه الجيش السوداني حاليًا عدة حروب غير نشطة في دارفور وجبال النوبة، لكن حربه مع قوات الدعم السريع مختلفة، إذ إنها تدور بين جيشين ذوَي هويتين عربيتين ويحظيان بدعم لا يخفى من عواصم عربية.
يرجّح الكثيرون أن هزيمة حميدتي في حربه الحالية هي مسألة وقت قبل أن يتشتت شمل قواته في الصحراء الواسعة، لكن الخشية أن تعود العاصمة إلى شكلها الأول الذي كانت عليه عقب دمارها قبل خمسة قرون على يد عبد الله جماع وحلفائه.
لقد كانت حروب السودان السابقة طوال القرون الخمسة الماضية حروبًا عربية – أفريقية، وكانت اتفاقيات السلام – التي أنهيت أغلبها في عهد ما بعد الدولة الوطنية – غربية بمساعدة عربية؛ فهل تتدخل الدول العربية هذه المرة؟ وهل تنجح الجهود السعودية في وقف الحرب؟ هذا ما ستكشف عنه تبدلات الأحوال في الأسابيع المقبلة… أما إعمار الخرطوم فهذا بند ليس على الطاولة الآن.
المصادر:
نُشرت هذه المقالة بالأصل في مجلة المستقبل العربي العدد 532 لشهر حزيران/يونيو 2023.
محمد عثمان إبراهيم: كاتب وصحافي سوداني.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.