مقدمة:

تتميز الرواية من غيرها من الفنون الأدبية بأنها الأكثر دينامية وواقعية، حيث تملك الخصائص التي تؤهلها استنطاق روح المجتمع الذي تنتمي إليه والتعبير عن همومه وشجونه وأحلامه، والقدرة على خلق حياة متكاملة تلمس بيدين مجردتين ملامح المشاعر الإنسانية، وتصوير تلك العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، وبين الذات الإنسانية وضميرها والفكر الجمعي وشروطه وأحكامه، لتقدم مضامين غنية وخلاصات إنسانية وفكرية تخترق الأنساق الاجتماعية الثابتة والراكدة نحو آفاق أكثر رحابة واتساعاً، حيث استطاعت الرواية أن تتغلغل في أماكن قصية ومعتمة من حياة المجتمعات الإنسانية وذلك من خلال شخوصها وأحداثها التي قد تتناول قضايا وإشكاليات إنسانية عديدة، مما يخوِّلها لتشريح واقع اجتماعي مغيَّب عن الإعلام في بعض المجتمعات المحافظة لأسباب كثيرة قد تعود إلى طبيعة هذه المجتمعات وخصوصيتها.

أولاً: بدايات الرواية وتطورها في السعودية

ارتبط نشوء الرواية في المجتمعات العربية بعدة تحولات مهدت لازدهارها، إذ إن «ديناميكية النهضة في المجتمعات العربية ساعدت على نمو الرواية ومهدت لظهورها، خصوصاً بعد انهيار النظام العثماني» و«قيام مرحلة عابرة إلى البحث في طبيعة النهضة وأسسها الاجتماعية والسياسية، ووجد المفكرون الأول أن الأسلوب الأنسب لنشر أفكارهم هو الرواية والقصة». ثم إن نشوء الصحافة والمجلات دعا بدوره إلى الاهتمام بهذا الفن الجديد حيث أخذت الصحافة على عاتقها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر نشر مجموعات قصصية في المقتطف والأهرام والهلال. وكان من أوائل كتّاب القصة سليم البستاني الذي نشر في مجلة الجنان عدداً من القصص، التي لا تبلغ مستوى الرواية من حيث الحبكة والطول والزمن، فهي قصص مليئة بالمفاجآت وتكثر فيها المواعظ وتحمل خاتمتها النهايات السعيدة‏[1].

أجمع النقاد‏[2] الذين أرّخوا لنشأة الرواية السعودية على أن أول رواية أصدرت في عام 1930 وكانت من تأليف عبد القدوس الأنصاري بعنوان التوأمان وهي تُعَد رواية تاريخية وتبعتها بعد خمس سنوات رواية الانتقام الطبعي لمحمد نور جوهرجي عام 1935 و«هذا التاريخ يعد متزامناً مع بدايات الرواية في أقطار عربية أخرى مماثلة»‏[3].

ويشير الناقد حسن النعمي إلى أن تطور الرواية السعودية مر بأربع مراحل زمنية رئيسية‏[4]، ترتبط هذه المراحل بنمو وتطور المجتمع وخروجه من البساطة والتقليدية في التفكير ونمط الحياة إلى مراحل أكثر تعقيداً وتطوراً على الصعيد الاجتماعي والثقافي.

المرحلة الأولى: تجسد المرحلة الأولى نشأة الرواية منذ عام 1930 إلى عام 1954 حيث يجد عدد من النقاد رواية فكرة لأحمد السباعي التي أصدرت عام 1948 أنها البداية الحقيقية للجنس الروائي؛ إذ تتمتع تجربته بوعي روائي وتحمل كثيراً من التطلعات الاجتماعية الحديثة‏[5]. وأصدرت رواية البعث لمحمد علي مغربي في العام نفسه، وتنتهي هذه المرحلة برواية الانتقام الطبعي 1954 لمحمد نور جوهرجي.

المرحلة الثانية: تعدّ المرحلة الثانية هي مرحلة التأسيس والتي وصفها النعمي بفترة الجمود الروائي‏[6]، حيث صدرت فيها رواية ثمن التضحية لحامد دمنهوري عام 1954 بعد أن توقف الإنتاج الروائي على مدى أربع سنوات. ويجد النقاد رواية دمنهوري أول رواية متماسكة من الناحية الفنية والحبكة في تلك الفترة. وتمكن دمنهوري من إصدار روايته الثانية في عام 1963 بعنوان ومرت الأيام والتي تفصح عن نضج فني‏[7]، وفي الحقبة نفسها يقدم إبراهيم الناصر مجموعة من الأعمال الروائية ويعدَّ الروائي الأوحد الذي امتدت تجربته من أوائل الستينيات حتى الوقت الحالي حيث أصدر روايتين بعنوان ثقوب في رداء الليل عام 1961 وسفينة الموتى عام 1969، وتعد روايته ثقوب في رداء الليل أول رواية تتناول ثنائية القرية والمدينة وأزمة العلاقة بينهما.

المرحلة الثالثة: تعَدّ ثمانينيات القرن العشرين هي مرحلة انطلاق الرواية السعودية حيث تزايد الإنتاج الروائي وتعددت موضوعاته ونضجت تجاربه وتقنياته الفنية، حيث تمكنت روايات عبد العزيز مشري من إحداث نقلة نوعية في فضاء الرواية السعودية من حيث غزارة الإنتاج ونضج التجربة وتماسكها، حيث قدم خمس روايات خلال عشر سنوات، وكانت تدور مضامين رواياته حول نقاء الإنسان في واقع متغير والعلاقة بين القرية والمدينة والانتماء والهوية‏[8]. وبالرغم من حضور مشري الطاغي على المشهد الروائي في الثمانينيات إلا أن هذه الفترة تميزت بمجموعة من الإصدارات لمجموعة من الكتاب والكاتبات منهن رجاء عالم ورواية 4/صفر عام 1987 وعبد العزيز الصقعبي وروايته رائحة الفحم عام 1988 وحمزة بوقري وروايته سقيفة الصفا عام 1984 ويشير النعمي‏[9] إلى أن هذه الأسماء حضرت بتجاربها الأولى حيث لم تترك أثراً كبيراً في المشهد الثقافي باستثناء رواية 4/صفر لرجاء عالم التي فازت بجائزة ابن طفيل دلالة على جودتها الفنية.

المرحلة الرابعة: يفترض النعمي واليوسف أن مرحلة التحولات الكبرى كانت في فترة التسعينيات الميلادية‏[10]، حيث برزت في هذه المرحلة أسماء من خارج الكتابة السردية التقليدية للإسهام في كتابة الرواية، مثل غازي القصيبي وتركي الحمد وانطلقت هذه المرحلة المتزامنة مع عدد من التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية في آن واحد إلى طفرة في السرد الروائي حيث أصبح هناك حضور لروايات عبده خال ويوسف المحيميد ومحمد حسن علوان وعبد الحفيظ الشمري وعبد الله التعزي ورجاء عالم وليلى الجهني ونورة الغامدي ورجاء الصانع ومها الفيصل ونداء أبو علي وبدرية البشر وأميمة الخميس وغيرهن.

ثانياً: الفضاء الاجتماعي العام: نزال فكري بين التنوير والتكفير

تزدهر الفنون الأدبية وتتطور في بيئة حاضنة لهذا التطور المقترن بتطور المجتمعات الإنسانية، إلا أن تطور الرواية السعودية اتخذ شكـلاً متفاوتاً زمنياً وكمياً بالرغم من وجود بدايات مشجعة ومتزامنة مع بدايات الرواية في حواضر عربية أخرى. انطلقت الرواية في السعودية من منطقة الحجاز عام قبل أن يتم توحيد الحجاز ونجد تحت مسمى المملكة العربية السعودية، واستمر تركز الحراك الثقافي في الحجاز حتى بعد التوحيد نظراً إلى انفتاح المجتمع الحجازي على عدد كبير من الثقافات بفضل قابليته على تقبل واستيعاب الآخر المختلف، وهو ما سهّل عملية المثاقفة والتبادل الثقافي بين المجتمع الحجازي وغيره من الحواضر العربية كالقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد بوصفها في تلك الحقبة المنافذ التنويرية بالنسبة للمجتمعات العربية التقليدية التي يسود فيها نمط الحياة البدوية والقروية وما يتبعه من ندرة التعليم‏[11].

«أدباء الحجاز اهتموا بتطوير أدب وطني حديث كما دفعهم مفهوم عالمية الأدب إلى أن يناقشوا الأفكار المتعلقة بالأشكال الجديدة للأدب كالقصة والرواية وكيف يمكن أن تكون جزءاً من خدمة فكرة الأمة الإسلامية وقيمها»‏[12]. وكان للصحافة دور كبير في خلق أرض خصبة وممهدة لنشر البدايات القصصية في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين حيث برزت «كجزء من ذلك الخطاب الإصلاحي الذي بثته الأعداد الأخيرة من صحيفة شمس الحقيقة ثم القبلة وصوت الحجاز وأدت مجلة المنهل الدور الأهم في بلورة شقه الأدبي والسردي منه على وجه التحديد»‏[13].

يعوّل إيان واط (Ian Watt) على نمط التعليم كمحفز وسبب رئيسي لنشأة الرواية وازدهارها في إنكلترا في نهاية القرن الثامن عشر، إذ إن التغير في نمط التعليم وخروجه من بوتقة العلوم التقليدية والنصوص المقدسة إلى العلوم الدنيوية والفنون والمنطق والفلسفة، وتزامن ظهور المدارس الحديثة مع عصر النهضة ثم الثورة الصناعية كانت محفزاً على الفردية والاستقلالية اللتين امتد تأثيرهما إلى موضوعات الرواية، مما كان له الأثر في تشكيل وعي الجماهير وخلق جمهور جديد من القراء (القارئ الواقعي)‏[14]. وتعَدّ إحالة وات جوهرية وهامة في ما يختص بالضرورات التي تمهد لنمو أي فن أدبي في أي مجتمع، فإذا أمعَنّا النظر في بدايات الرواية في الوطن العربي فسنجدها مرتبطة بالتعليم والحداثة والتبادل الثقافي مع المجتمعات والحواضر الأوروبية.

تعَدّ نهاية الستينيات ميلادية إلى نهاية الثمانينيات هي الحقبة الذهبية للطفرة النفطية في تاريخ السعودية على الصعيد الاقتصادي واستثمار العوائد النفطية التي ساهمت في تنمية المجتمع بما يلبي متطلبات التحديث بما في ذلك التعليم الأساسي والعالي‏[15] ويشير عبد العزيز الخضر في كتابه السعودية سيرة دولة ومجتمع إلى أن الطفرة النفطية في السبعينيات كان لها أثر سلبي في المبدع السعودي؛ إذ كانت بمنزلة مثبِّط لهمته نحو الإنتاج الإبداعي الأدبي ففضّل الانخراط مثل الكثير من أبناء المجتمع الذين انخرطوا في الوظائف الحكومية والأعمال الحرة. إلا أن هناك قلة واصلت انشغالها بالحركة الإبداعية ومهدت الطريق لجيل الثمانينيات حيث شهد ذلك العقد المعركة ما بين أنصار الصحوة وأنصار الحداثة‏[16].

وفي حال قمنا بمقارنة ما اعتمد عليه وات في نشأة الرواية في إنكلترا وارتباطها بالتعليم الحديث كمقارنة بديهية باستثناء الخصائص الاجتماعية والثقافية الخاصة بالمجتمع البريطاني آنذاك وبين ما تم في السعودية، نجد أن التعليم في ظل الطفرة الاقتصادية في السعودية ازدهر وتوطد داخل منظومة ثقافية تقليدية ومجتمع تقليدي يعد الحفاظ على الأخلاق والفضائل من خلال العلوم الشرعية الإسلامية من أهم ركائز التعليم، فالتعليم في السعودية منذ السبعينيات ميلادية وحتى وقت قريب من الألفية الثالثة هو تعليم ديني ولا سيّما في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية ولا يغيب عن بعض المناهج الاجتماعية والعلمية التي تدرّس في إطار ديني أيضاً، حتى إنه تم الترويج في تلك الفترة بضرورة أسلمة العلوم الاجتماعية‏[17].

أسهمت هذه المعادلة التعليمية التي تجمع بين الحداثة وقوانينها وشروطها وبين الموروث الثقافي وانفعالاته ودلالته الإقصائية على إنتاج ما يسمى «جيل الصحوة»، حيث خلقت الصحوة بدعاتها وتلاميذها مُناخاً عاماً يسوده التفكير الأحادي الذي ينظر إلى العالم من خلال زاوية محددة وضيقة تبحث عمّن يشابهها وينبذ من يخالفها الرأي وأحياناً يكفِّره، وتحاول أن تخضع كل ما حولها لشروطها ومنهجها وتفسيراتها وفق منظورها ومنقولاتها التي غالباً ما كانت تتسم بالجمود والتشدد. وقد أثرت هذه الصحوة في المشهد الثقافي والحياتي العام للمجتمع السعودي، ولعل من أبرزها ما يعرف بمعارك الصحوة ضد الحداثة، ويوضح الغذامي أن الحداثة مفهوم لم يستطع فهمه وتفكيكه دعاة الصحوة وغيرهم‏[18]، حيث ترمز الحداثة في الفكر الصحوي إلى الانحلال والتفسخ عن القيم الأصيلة وأن ما يقوم به دعاة الحداثة ما هو إلا مشروع لتغريب المجتمع المحافظ في ظل سيطرة رموز الصحوة ودعاتها على التعليم والجامعات والصحافة ومن ثم الأندية الأدبية والمحافل الرسمية والثقافية‏[19]؛ حيث كان للسجال بين تيارات الصحوة والحداثة وما ارتبط بها من النزعة الدينية السائدة في التعليم سبباً في تقلص الإنتاج الروائي وقصوره على الرد على تلك الحروب، وانحصاره بالدفاع عن نفسه في زاوية الاتهام والتشكيك.

ثالثاً: الطفرة الروائية: تسونامي/ربيع الرواية

تعد حقبة تسعينيات القرن العشرين حقبة الطفرة في حياة الرواية السعودية، حيث تزامن النضج الروائي على مستوى غزارة الإنتاج والجرأة في الموضوعات ومهارة السرد مع العديد من التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي طرأت على المجتمع آنذاك، وازدهرت الدراسات النقدية والتاريخية التي ترصد تطور الرواية السعودية كما هو الحال في دراسة خالد اليوسف والتي قدمت معلومات كمية عن تطور الإنتاج الروائي وحركة النشر وعدد الروائيين والروائيات وحركة النشر الداخلي والخارجي، لإلقاء الضوء على التطور التاريخي للرواية السعودية في ظل الظروف الاجتماعية والثقافية‏[20].

تشير الإحصاءات التي قدمتها دراسة اليوسف إلى تزايد عدد الروائيين والروائيات مقارنة ببدايات الرواية في عام 1930، وأخذت أعداد الروائيين والروائيات في الازدياد منذ عام 1990 حيث كان هناك 42 روائياً مقابل 10 روائيات. وكانت الزيادة المفاجأة في أعداد الروائيين والروائيات منذ عام 2000 بواقع 176 و86 روائياً. أما بالنسبة إلى حركة النشر فتمركزت في خارج السعودية وخصوصاً في الفترة من 2000 إلى 2009 بواقع 216 رواية منشورة في دور نشر خارجية نظير 148 رواية تم نشرها في دور نشر داخلية، ويمكن إعادة زيادة عدد الروايات التي نشرت في الخارج إلى تنوع وجرأة مضامينها الروائية التي قد تكون أحد أسباب عدم فسح النشر في داخل السعودية‏[21].

رابعاً: الرواية بين الحلال والحرام

تعَدّ رواية شقة الحرية لغازي القصيبي وثلاثية أطياف الأزقة المهجورة لتركي الحمد نقلة نوعية في تاريخ الرواية السعودية في فترة التسعينيات الميلادية، حيث تتمتع هاتان الروايتان بجرأة لم يشهدها السرد السعودي على مستوى المضامين السردية والتي كانت تخضع للرقابة الذاتية لدواعي النشر في مجتمع محافظ، وهو ما تمكن كلٌ من القصيبي والحمد على كسره وخصوصاً أن روايتيهما نشرتا في دور نشر غير سعودية‏[22] وظلت ممنوعة من التداول في السعودية لفترة من الزمن. إلا أن رواية شقة الحرية تمكنت من اجتياز الحصار وهي متاحة الآن على أرفف المكتبات السعودية على العكس من ثلاثية الحمد‏[23].

لم تكن الجرأة في السرد والتطرق إلى ما هو محظور من جنس أو سياسة أو دين تنقص كتّاب الرواية السعودية، إلا أن الرواية السعودية تتطور ضمن ما هو متاح لها في الفضاء العام‏[24]. ويمكننا أن نضيف عنصراً آخر قد يعد أحد العوامل التي ساعدت على تطور الرواية السعودية في التسعينيات الميلادية من حيث جرأة الطرح، وهي المنزلة الاجتماعية. فالمنزلة الاجتماعية التي يحتلها كلٌ من القصيبي والحمد سمحت بتخليهما عن نموذج السارد – الرقيب وخصوصاً أنهما يمثلان الاتجاه الحداثي والليبرالي، فمن المعروف أن القصيبي كان سياسياً ورجل دولة بارزاً وشاعراً حين أنتج روايته شقة الحرية والتي «فيها قدر من الحرية غير المعتادة عند غازي، لكنها حرية جاءت في سياق زمن ومكان سياسي آخر في مصر الخمسينيات»‏[25]. أما الحمد فهو أكاديمي وصحافي وتعَدّ روايته صادمة وحادة على مستوى الحياة السياسية الصامتة روائياً والمحافظة اجتماعياً، إذ تتخذ ثلاثيته الروائية من المجتمع السعودي مجالاً مكانياً لها بخلاف ما قدم القصيبي. ولم يقتصر نضج التجربة الروائية على مرحلة التسعينيات الميلادية وعلى اقتحام الحمد والقصيبي مجال الكتابة السردية المتحررة من الرقيب الذاتي، حيث يُجمع عدد من النقاد العرب والأجانب‏[26] على أن خماسية عبد الرحمن منيف مدن الملح (1984) تمثل الرواية السعودية والعربية في أرقى صورها على مستوى السرد والتأريخ لحقبة محورية وهامة في تاريخ المجتمع السعودي، وهو ما لم يتم ذكره في كتب المؤرخين والنقاد السعوديين‏[27] وذلك لعدة اعتبارات رقابية ترى في أدب منيف أدب المعارضة والثورة وهو ما يخالف حالة الثبات والركود التي ألفتها النخب الثقافية السعودية.

تُكتب الرواية في السعودية وفق شروط محددة، منها ما يتعلق بالموهبة السردية وهو الشرط الوحيد المنوط بقدرة الروائي على الإبداع، وتجتمع أغلب الشروط في ما هو متاح ضمن الفضاء الاجتماعي العام سواء على مستوى القراء أو دور النشر أو الرقابة بشقيها سواء كانت ذاتية أو مفروضة من قبل المؤسسات، وهذه الشروط لا تختص بالرواية السعودية فقط، بل حتى إن الرواية العربية والغربية ليست بمنأى عن هذه الشروط، ولكن تختلف حدتها وسطوتها باختلاف مستوى الحريات في الحياة الثقافية والاجتماعية في هذه المجتمعات؛ فالعوائق الدينية والمحظورات الاجتماعية كان لها أثر كبير في المشهد الثقافي السعودي مما رسخ وجود خطاب تقليدي حيث أدى ذلك إلى أن «لا نجد الكثير من الفوارق بين الخطاب التحديثي والديني والرسمي، سوى في الشكل الأدبي»‏[28].

استطاعت الرواية السعودية الانطلاق بمضامين روائية جريئة بعد حرب الخليج الثانية، نظراً إلى انفتاح المشهد الثقافي السعودي آنذاك وتأثره بانفتاح الفضاء الإعلامي والمعلوماتي، في ظل العولمة التي كان من الصعب إخضاعها للرقابة، وفي مرحلة لاحقة استفاد كثير من الروائيين من الشبكة العنكبوتية والمنتديات الثقافية في تمرير ونشر رواياتهم التي منعت من التداول في المجتمع السعودي‏[29]. وأخذت هذه الجرأة في التزايد وخصوصاً بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر حيث كانت موضوعات التشدد الديني والإرهاب من المضامين الروائية البارزة في الإنتاج الروائي السعودي‏[30]. وشقت الرواية السعودية طريقها نحو التخييل الواقعي وتجردت من الخطب الوعظية والإصلاحية التي سادت في بدايتها، حيث أصبح المجتمع بما يحمل من متناقضات وإشكاليات مادة ينسج منها الروائي موضوعاته‏[31].

وكلما تحررت موضوعات الرواية من المحظورات الاجتماعية تعرضت للنقد والهجوم من فضائها العام المحلي، إذ أصبحت الرواية أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل والانتقاد، سواءٌ في الصحف اليومية أو الكتب الدعوية أو الدراسات الأكاديمية، والمدونات الشخصية والمنتديات في فضاء الإنترنت. وتركزت الحملات المضادة على مضامين الرواية في كونها تعبِّر عن واقع المجتمع، وأن ما تقدمه هو صورة خاطئة عن مجتمع محافظ يتمتع بالفضائل والخصال الإسلامية، ومنهم من يرى أنها دعوة للرذيلة وانتهاك لخصوصية المجتمع السعودي المسلم كما جاء على لسان الشيخ بندر الشويقي في مقدمة كتاب من عبث الرواية حيث يذكر: «لو أن قارئاً لا يعرف شيئاً عن مجتمعنا وقرأ تلكم الروايات، لاستيقنَ أنَّا بلغنا في عالم الضياع مبلغاً لم يسبقنا إليه سابقٌ. فـ «بنات الرياض» بناتُ هوى، ونساء جدة «على خط الاستواء»، والـ «سعوديات» عاشقاتٌ للمراقص والكؤوس، غارقاتٌ في «جاهليةٍ» وعفنٍ، لا همَّ لهنَّ إلا «اختلاس» اللذة المحرَّمة. و«شبابُ الرياض» فجرةٌ زناةٌ شاذُّون، يعشقونَ الـ «عَرَق البلدي»..»‏[32].

نجد الشيخ الشويقي في الاقتباس السابق يستخدم عناوين الروايات السعودية واضعاً إياها بين معقوفتين ومن ثم يشير إلى ما تحوي من مضامين بطريقة تمثيلية متقنة، قد تربك القارئ ليصدر حكمه حتى على ما لم يقرأ أو على ما قرأ باعتباره إثماً في إثم. ومن اللافت للانتباه أن كتاب من عبث الرواية أحد أشهر الكتب في المنتديات الإسلامية ومنتديات المناطق‏[33]؛ إذ يمكن تحميله من تلك المواقع. هذا بالإضافة إلى توافره في سوق المكتبات الإلكترونية، وهو يقع في 182 صفحة تدور في مجملها حول التفسخ الأخلاقي والعقائدي الذي يعتري الرواية السعودية. ويبرر مؤلف الكتاب هجومه على الرواية لقدرتها على التأثير في الجماهير بأسلوبها غير المباشر نظراً إلى كثرة القراء والمتعلمين مع أنه لم يستند إلى أي إحصاءات في هذا الصدد، ويذكر مؤلف الكتاب في هذا السياق ما يلي: «الناظر في شأن هذه الروايات المسمومة يجدها حافلةً بمختلف الانحرافات العقدية والفكرية والخلقية فـمقلُّ منها ومستكثرٌ – ولا مقلّ بين القوم اليوم -، ويمكن أن يقال إن هذه الروايات تعمل على مسارين رئيسين: الأول: يسعى لضرب القيم الشرعية والأسس الدينية. والآخر: يسعى لضرب القيم الخُلقية، والآداب المرعية»‏[34]، إذ إن في إشارة مؤلف الكتاب للمسارين الرئيسين كأنما يلمح إلى أن الرواية تكتب وفق أجندة أو مؤامرة هدفها الإخلال بقيم المجتمع وعقيدته.

لا تختلف تصريحات بعض الأكاديميين في الصحف اليومية عن انحلال الرواية السعودية عما قدمه العجيري في كتابه، إلا أن هذه التصريحات تمحورت حول تجاوزات الرواية الأخلاقية والقيمية، حيث صرح أستاذ اللغة العربية بجامعة الملك فيصل ظافر الشهري بأن الروايات السعودية النسائية تتبنى «قضايا خاصة شاذة وسلوكيات اجتماعية منحرفة تعد من محرمات المجتمع المسكوت عنها‏[35]، متجاهلة القيمة الفنية الأدبية للرواية، ومبتعدة عن إجابة على سؤال أو حل مشكلة، في محاولة لبلوغ الشهرة بأي شكل من الأشكال»، حيث يمثل ذكره عبارة «محرّمات المجتمع المسكوت عنها» إقراراً بوجود المحرمات في المجتمع السعودي وبوجوب السكوت عنها وغض الطرف في الرواية وفي الحياة الاجتماعية، ومن ثم يطالب الرواية بتقديم إجابات لأسئلة أو حلول لمشاكل مما يكلف الرواية بوظيفة اجتماعية تربوية ليس من المؤكد أن تكون مناطة بالأدب عموماً، حيث تكتسي رؤيته بحلة سياسية بحتة وختم محاضرته بـأن «تسويق هذا النموذج الهابط المثير هل كان لتغيير الصورة المحافظة في المجتمع السعودي، وهل هو محاولة لجعله الأدب الجديد الذي يمثل المملكة، أم أنه هجمة على الأخلاق لترسيخ مثل هذه الانحرافات في وعي الجيل القادم؟!».

أما الخطاب الصحافي فلا يبتعد كثيراً عمّا سبق تقديمه في الخطاب الأكاديمي والخطاب الديني، وإن كان يتخذ منحى حالماً ورومانسياً في بعض الأحيان، وتغلب عليه روح الأسى على ما أصاب الرواية السعودية من تدهور وانهيار قيمي؛ حيث تعاتب كاتبة العمود الأسبوعي في صحيفة الرياض بدرية البليطيح تدني مستوى مضامين الرواية السعودية، حيث ذكرت: «فما الذي جرى في نص الرواية السعودية مؤخراً على يد بعض الكتاب لتصاب بأنيميا الولاء للدين والقيم والمبادئ والأخلاق وتصبح جسداً مسكوناً بهاجس الجنس..»‏[36]. تطالب البليطيح برواية هادفة تحمل مغزى أخلاقياً وتبتعد عن الجرأة التي تمس الولاء للدين، حيث تحصر البليطيح ما ينبغي أن تكون عليه صورة المرأة في الرواية السعودية بأدوار محددة ومثالية مسقطة من حساباتها إشكالية الإنسان في الحياة وصراعه مع ما يحمل من نوازع ورغبات وشرور.

بالرغم من أن الرواية جنس أدبي إبداعي تخييلي، إلا أنه مفهوم يشوبه الغموض لدى بعض المختصين والوعاظ والدارسين في السعودية، حيث يفترض عليها أن تحمل رسالة قيمية ودينية وأخلاقية، وهو ما يتنافى مع طبيعة الرواية؛ فالهدف الأساسي من الرواية كما يشير كولن ولسون في كتابه فن الرواية ارتبط بالإحساس بالحرية كما أصبحت مشكلة الحرية أحد موضوعاتها الرئيسية، وهي تهدف إلى تقديم وعي متسع الزاوية للحياة ذات الوعي اليومي المحدود، فالرواية شكل من أشكال التجربة الفكرية ويشابه هدفها هدف الفيلسوف من التجارب الفكرية وهي أن تخبرنا ولو الشيء البسيط عن العالم الواقعي‏[37].

قدم الناقد علي الشدوي دراسة عن معتقدات القراء نحو الرواية حيث استطاعت نتائج الدراسة أن تعكس صورة هامة عن تفضيلات القراء وما يعتقدونه نحو فن الرواية إجمالاً‏[38]، والجدير بالذكر أن الشدوي جمع مادة المعتقدات القرائية مستخدماً طرقاً متنوعة ما بين الحوارات والأسئلة ومتابعة نوادي القراء الإلكترونية وتغطيات الأمسيات الأدبية وما نشر في الملاحق الثقافية، حيث صنفها إلى أربع مجموعات، مجموعة تتعلق بطبيعة الرواية من حيث هي نوع سردي ومجموعة من حيث علاقة الرواية بالمؤلف، ومجموعة من حيث علاقتها بالمجتمع، وقد اقتصرت هذه المقاربة كما أشار: «على تأمل العمليات المعرفية التي تشكلت من خلالها المجموعة الأولى من المعتقدات القرائية، لأسباب تتعلق باختيار فكرة واحدة وتأملها»‏[39] وتلخصت نتائج الدراسة في ما يلي:

1 – الرواية نوع سردي كرسه الغزو الفكري للمجتمع.

2 – الرواية نوع سردي يهدف إلى التسلية وقضاء أوقات الفراغ.

3 – الرواية نوع سردي لا يعدو أن يكون نسيجاً من أوهام المؤلفين.

4 – الرواية نوع سردي مبتذل وغير محترم.

5 – الرواية نوع سردي يعيش على التافه ومخالفة المألوف.

6 – الرواية نوع سردي خطر على الذوق والأخلاق العامة.

7 – الرواية نوع سردي لا علاقة له بالحياة التي نعيشها.

8 – إذا كان لا بد من الرواية، فيلزم أن تخدم الدين، وتتقيد بقيمه.

9 – يلزم أن تظل الرواية تربوية في المقام الأول.

10 – هناك خطورة من إدراج الرواية في التعليم العام أو الجامعي.

11 – إذا كان لا بد من إدراج الرواية في التعليم، فيلزم أن تكون رواية إسلامية.

12 – دعم الرواية نشراً وإعلاماً جزء من استراتيجية لتفكيك قيم المجتمع.

13 – الرواية نوع أدبي، قراءته لا تنفع، وعدم قراءته لا تضر.

يستخلص الشدوي من خلال رصده بعض الخصائص التي أشار إليها غولدمان مطلقاً عليها «مأساة الرفض» وهي حالة ذهنية تعبِّر عن أوضاع تعانيها بعض المجموعات البشرية التي «تواجه تنامي انفلات السلطة الاجتماعية التي تملكها»‏[40]. ويتضح من الدراسة التي قدمها الشدوي أن هناك إشكالية في فهم وظيفة الرواية من جانب القارئ السعودي، وتتمحور هذه الإشكالية حول عدم الاعتراف بالواقع في صورة مشكلة اجتماعية، مما يؤدي إلى مثل هذه المعتقدات القرائية.

لقد أسهم النظام التعليمي الذي يقوم على التلقين والنقل وقولبة الوعي من خلال ثنائية الحلال والحرام في خلق جيل من القراء يكيف تفاصيل وملامح حياته اليومية طبقاً لتوجيهات فتاوى العلماء واجتهاد المجتهدين وتسجيلات الصحويين وما يمتدحونه أو يذمونه أو يكفرونه من فن أو أدب أو فكر، وهو ما يؤثر في عملية تقييم العمل الأدبي والروائي خاصة. «هناك نخب دينية تشيع مثل هذه المعتقدات القرائية، لأنها تتصور أنها تعرف كيف ترى الأشياء التي تبقى مخفية عن الآخرين، وتملك القدرة على رؤية ما هو تحت الظاهر، أما الباقون فهم من وجهة نظرها غير موجودين ثقافياً، لذا ينبغي أن يتمثلوا طرق تفكيرها»‏[41].

خامساً: الرواية النسائية: اللحاق بالركب

تعَدّ التجربة الروائية النسائية في السعودية من التجارب المتفردة لعدة أسباب، منها ما يتعلق بظروف نشأتها، ومنها ما يتصل بمضامينها الروائية، فتأخرت الرواية النسوية 33 عاماً عن صدور رواية عبد القدوس الأنصاري التوأمان في عام 1930 حيث كانت أول رواية نسائية في عام 1963 لسميرة خاشقجي بعنوان ودعت آمالي‏[42].

ارتبط تأخر الرواية النسائية بعدد من العوامل الاجتماعية والثقافية، يؤدي التعليم الدور الكبير فيها، فمن المعلوم أن التعليم الرسمي للمرأة في السعودية لم يتم السماح به إلا في عام 1959، وقد واجهته مقاومة البعض خصوصاً مجتمع بريدة، ولكن لم تُلقِ الحكومة آنذاك بالاً لهذه المعارضة، ولم يكن تعليم البنات إلزامياً «فلا يمنع أولياؤهن من أتى ولا يدعى إليها من أبى»‏[43]. لم يكن التعليم الحكومي هو النافذة التعليمية الوحيدة والأولى للمرأة في السعودية، فقد ازدهرت الكتاتيب النسائية في الحجاز وفي مناطق متعددة من السعودية، حيث يتم تلقين الفتيات القراءة والدروس الدينية وكيفية إتقان المهام المنزلية‏[44].

كان السبب في تأخر التجربة الروائية النسائية في السعودية عزلتها عن الفضاء العام وما يتيحه من فرص عمل وتعليم وحضور في الحياة العامة؛ فالمعرفة والتعليم يخضعان لشروط إعدادها زوجة وأمّاً في المستقبل لا لإعدادها كاتبة أو قاصة، ويذكر باقادر في هذا الصدد أنه: «جاءت أجيال لاحقة تمثل ما كان سائداً عند البشرية، وهو أكثر شيء أن تتعلم المرأة القراءة، ولكن يحال بينها وبين الكتابة أو أن تكتب، ذلك لأن الكتابة تخليد وتجسيد لفكر وتيار وهذا تأخر كثيراً في السعودية أسوة بما كان سائداً في العالم جميعاً […] إذا منعت المرأة أن تكتب فهي بهذا تمنع من مسألتين، مسألة التمكين والقوة والتعبير عن الرأي، وأيضاً ألا يكون هناك قدوة خالدة يمكن الإشارة إليها»‏[45].

وبدأت أولى إرهاصات الرواية النسائية من خارج السعودية بواسطة سميرة خاشقجي (وهي صاحبة أول رواية لكاتبة سعودية) التي نشأت وتعلمت في القاهرة ولم تحمل من السعودية سوى جنسيتها، وتعبر تجربتها الروائية عن طبقة موسرة من المجتمع المصري تتمتع بمساحة من الحرية لم تنلها المرأة في السعودية في تلك الحقبة في حين كان من السائد في الروايات النسائية السعودية أن تتخذ حيزاً مكانياً خارج المجتمع السعودي كمسرح للأحداث.

كانت البداية الفعلية للرواية النسائية في الثمانينيات الميلادية حيث نشرت رواية غداً أنسى لأمل شطا عام 1980 وكان ذلك نتيجة طبيعية لتعليم الإناث الذي بدأ في عام 1959. وأصدرت رجاء عالم روايتها 4/صفر في عام 1987، وبهية بوسبيت روايتها درة من الأحساء في العام نفس، وصفية عنبر روايتها وهج من بين رماد السنين 1988، وصفية بغدادي في روايتها ضياع والنور يبهر عام 1987‏[46].

لم تكن طفرة الرواية السعودية في التسعينيات الميلادية وما بعدها حكراً على الروائيين الذكور، إذ حضرت الرواية النسائية من حيث الكمّ والكيف؛ فقد صدرت، من جملة ما صدر، رواية ليلى الجهني الفردوس اليباب عام 1998، ورواية نورة الغامدي وجهة البوصلة عام 2002، ورواية بنات الرياض عام 2005 لرجاء الصانع.

وبالرغم من قِصر تجربة الرواية النسائية إلا أنها أثبتت وجودها في الفضاء المحلي والعربي حيث حصلت الروائية ليلى الجهني على المركز الأول عام 1998 عن روايتها الفردوس اليباب في مسابقة الشارقة بدولة الإمارات العربية واختيرت الرواية للنشر ضمن مشروع كتاب في جريدة‏[47] الذي تشرف عليه اليونسكو وترجمت إلى أهم لغات العالم، ثم تبعتها الروائية قماشة العليان التي فازت بالمركز الثاني بجائزة الشارقة للمبدعات عام 2000 عن روايتها أنثى العنكبوت وحصلت الروائية رجاء عالم على جائزة البوكر بالمناصفة مع الروائي المغربي محمد الأشعري عام 2011 عن روايتها طوق الحمامة، ورشحت رواية بدرية البشر غراميات شارع الأعشى لجائزة البوكر في القائمة الطويلة لعام 2014، هذا بالإضافة إلى الروايات التي أثارت جدلاً مجتمعياً وإعلامياً كرواية البحريات لأميمة الخميس، وسعوديات لسارة العليوي، والآخرون لصبا الحرز. فلقد عبّرت الرواية النسائية عن تجربة إنسانية رصينة قادرة على سبر أغوار الذات وعلاقتها بالمجتمع ومتمكنة من تكوين هوية سردية خاصة بها، وشكلت خطاباً نسوياً محمـلاً بالإقصاء والدونية وسلطة الرجل المطلقة، وفي الوقت نفسه تعرضت لحملات التكفير والتشهير من المحافظين والوعاظ‏[48].

فالسرد في الرواية النسائية السعودية يعبّر عن جدل الذات مع الواقع، فهي تضع تجربتها وتاريخها المهيمن عليه من قبل الرجل ركيزة أساسية لكتاباتها، حيث تتحول كتابات المرأة إلى: «ذات ناقمة تفترض سوء الرجل مقدماً»، ومن خلال دراسة قدمها مجموعة من الباحثين والنقاد بالنادي الأدبي في جدة تحت عنوان خطاب السرد في الرواية النسائية لمجموعة من الروايات النسائية، يرى النعمي أن معظم الروايات التي تم طرحها للنقاش تتسم بضعف فني بارز ويبرر ذلك الضعف بأن: «مرده على الأرجح الافتقار إلى الموهبة لدى أغلب الكاتبات. ولعل منطلق بعض هذه الروايات لم يكن الفن في الدرجة الأولى، بل استغلال الكتابة لفرض هيمنة الحضور، فالكتابة قادرة على حمل انتصارات متخيلة للمرأة في مقابل انتصارات الرجل الواقعية»‏[49]، ويخالفه الوهابي في أن الروايات النسائية تعكس الواقع الذهني للروائية المتفاعلة مع قضايا المرأة‏[50]، كما أنها تختلف عن الروائي الرجل بعدم الانغماس في التصور الأيديولوجي، ويعدّها أكثر صدقاً من الناحية الفنية في التعبير عن قضايا تمس المرأة كالهوية وسلطة الرجل المطلقة وحقوقها في المجتمع.

خاتمة

يمكننا أن نَخلص مما استعرضناه سابقاً إلى أن هناك تياراً فكرياً واجتماعياً ذا حضور فاعل في المجتمع السعودي يرفض من منطلقات عقائدية واجتماعية وأخلاقية الإنتاج الروائي بشكله الحالي؛ فالرواية بمكتسباتها الجديدة وجرأة طروحها تستفز الكثير من المحافظين في المجتمع، وتعَدّ فناً حداثياً – بكل ما تحمله الكلمة من تداعيات تقييمية سلبية بالنسبة إلى تلك الشريحة الاجتماعية – لا نفع منه سوى هتك المستور وتشويه صورة المجتمع بإبراز عيوبه وخفاياه، حتى أصبح الخطاب الروائي بمضامينه الجديدة خطاباً لاأخلاقياً من منظور المحافظين. ورغم أن حضور الرواية قد يغيب في سياق الثقافة المحافظة، إلا أنها ما زالت صامدة بغض النظر عن موضوعاتها كحراك فكري نقدي وتنويري.

فالتعليم الديني وأدواته الموازية من ندوات وتسجيلات وخطب تمكن من خلق بيئة متشددة ذات نفس معادٍ للفن والأدب بصورة عامة والرواية بصورة خاصة، مما أسفر عن خطاب مسكون بالماضي لا يقبل النقد أو أسس التفكير العقلاني في التعاطي مع الفن والأدب، كما أوجد عقـلاً جمعياً يجرد كل ما لا يخضع له ولموروثه من قيمته ومعانيه. ولذا ترسخت صورة نمطية للروائي في العقل الجمعي على أنه مجرد شخص منحرف متأثر بالثقافة الغربية يهدف إلى بث سمومه التي ستدك المنظومة الأخلاقية لمجتمع يعُدّ نفسه حاضنة تاريخية للرسالة الدينية.

ختاماً تمثل الظروف الحالية أمـلاً جديداً، إذ ما زال الخطاب الروائي السعودي حامـلاً مضامين متعددة تتسم بالجرأة، حيث كتب لها الصمود أمام ما تواجهه من هجوم ونقد ومنع من قبل ما يمكن أن نطلق عليهم حراس البوابات‏[51]، كالمحتسبين والمحافظين ورقابة المطبوعات ودور النشر، حيث باتت تنتج الرواية محلياً وتطبع وتسوق أغلبها في خارج وطنها الأم كوسيلة ناجعة يتم من خلالها تجاوز القيود والحدود المحلية المفروضة على الإنتاج الأدبي.

 

اقرؤوا أيضاً  المنحى التنويري عند جرجي زيدان من خلال كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”

#مركز_دراسات_الوحة_العربية #الرواية #الأدب #الفن #الرواية_السعودية #الرواية_في_السعودية #الرقابة_في_السعودية #الأدب_في_السعودية #الرواية_السعودية_بين_الحلال_والحرام

المصادر: 

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 463 في أيلول/سبتمبر2017.

(**) علياء عبد الله العمري: علياء عبد الله العمريباحثة في علم اجتماع الأدب – السعودية.

[1] حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984)، ص 362.

[2] للاستزادة، انظر: موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث: نصوص مختارة ودراسات، 10 مج (الرياض: دار المفردات، 2001)، مج 5؛ سلطان بن سعد القحطاني، الرواية في المملكة العربية السعودية: نشأتها وتطورها، 1930 – 1989م: دراسة تاريخية نقدية (الرياض: شركة الصفحات الذهبية المحدودة، 1998)؛ حسن النعمي، «مراحل تطور الرواية السعودية،» ورقة قُدِّمت إلى: ندوة «الحركة النقدية السعودية حول الرواية» التي أقامها ملتقى النقد الأدبي في السعودية، الدورة الخامسة، نيسان/أبريل 2014؛ حسن بن حجاب الحازمي، البناء الفني في الرواية السعودية (جازان: نادي جازان الأدبي، 2006)، وحسن بن حجاب الحازمي وخالد بن أحمد اليوسف، معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: الرواية: مدخل تاريخي.. دراسة ببليوجرافية ببلومترية (الرياض: نادي الرياض الأدبي، 2010).

[3] عرفت فلسطين أول رواية في عام 1920 الوارث لخليل بيبرس والحياة بعد الموت لإسكندر خوري. وتُعَدّ رواية جلال خالد لمحمد السيد عام 1928 أول رواية تصدر في العراق. وفي تونس صدرت أوّل رواية عام 1935 «حول حانات البحر الأبيض المتوسط» لعلي الدوعجاني. وفي سورية رواية نهم لشكيب الجابري الصادرة عام 1937، ورواية الرغيف عام 1939 في لبنان لتوفيق عواد، وفي نفس العام كانت أول محاولة روائية في اليمن سعيد لمحمد لقمان، وفي الجزائر عام 1947 رواية غادة أم القرى لأحمد رضا حوحو، وفي السودان رواية تاجوج صدرت عام 1948 لعثمان محمد هاشم، وفي المغرب رواية في الطفولة لعبد المجيد بن جلون عام 1957، وتعدّ مصر السبّاقة في أول عمل روائي متكامل لمحمد حسين هيكل زينب عام 1914. انظر: محمد بن عبد الرزاق القشعمي، «الرواية العربية وبداياتها في المملكة،» مجلة الجوبة، العدد 35 (ربيع 1433هـ/2012م)، ص 11 و18       <http://www.aljoubah.org/Issues/35-Jobaforweb.pdf>.

[4] حسن النعمي، الرواية السعودية: واقعها وتحولاتها (الرياض: وزارة الثقافة والإعلام، 2009).

[5] القحطاني، الرواية في المملكة العربية السعودية: نشأتها وتطورها، 1930 – 1989م: دراسة تاريخية نقدية؛ الحازمي، البناء الفني في الرواية السعودية، والقشعمي، المصدر نفسه.

[6] النعمي، الرواية السعودية: واقعها وتحولاتها.

[7] القحطاني، المصدر نفسه، ص 126.

[8] الحازمي، البناء الفني في الرواية السعودية.

[9] النعمي، الرواية السعودية: واقعها وتحولاتها.

[10] حسن النعمي، رجع البصر: قراءات في الرواية السعودية (جدّة: النادي الثقافي الأدبي، 2005)، وخالد اليوسف، معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: الرواية (الرياض: النادي الأدبي، 2010).

[11] القحطاني، الرواية في المملكة العربية السعودية: نشأتها وتطورها، 1930 – 1989م: دراسة تاريخية نقدية.

[12] علي الشدوي، «ما هو صلب يتحول إلى أثير: شرارات التنوير الأولى،» في: حسن النعمي، محرّر ومقدِّم، خطاب التنوير: قراءات في مشروع التنوير النقدي والإبداعي في المملكة (جدّة: النادي الثقافي الأدبي، 2011)، ص 23.

[13] نشرة أخبار المكتبة (مكتبة الملك فهد الوطنية)، العدد 18 (1422هـ/2001م)، ص 22، <http://www.kfnl.org.sa/Ar/mediacenter/Publications/Pages/default.aspx>.

[14] إيان واط، نشوء الرواية، ترجمة ثائر ديب (القاهرة: دار شرقيات للنشر والتوزيع، 1997)، ص 35 – 42.

[15] أبو بكر باقادر، ثريا التركي وآمال طنطاوي، جدة: أم الرخا والشدة: تحولات الحياة الأسرية بين فترتين (القاهرة: دار الشروق، 2006).

[16] عبد العزيز الخضر، السعودية: سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011)، ص 453.

[17] ستيفان لاكروا، زمن الصحوة والحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، ترجمة عبد الحق الزموري (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012)، ص 60 – 68.

[18] عبد الله الغذامي، حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005).

[19] سيطرة الصحويين على الأندية الأدبية وعلى مهرجان الجنادرية. انظر: لاكروا، المصدر نفسه.

[20] اليوسف، معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: الرواية.

[21] اليوسف، المصدر نفسه، ص 53.

[22] صدرت الطبعة الأولى لرواية شقة الحرية عام 1994 من دار نشر رياض الريس في بيروت، وصدرت ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة من دار الساقي في بيروت: «العدامة» (1995)؛ «الشميسي» (1997)، و«الكراديب» (1998).

[23] القشعمي، «الرواية العربية وبداياتها في المملكة».

[24] الشدوي، «ما هو صلب يتحول إلى أثير: شرارات التنوير الأولى».

[25] الخضر، السعودية: سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية، ص 460.

[26] Nijmeh Hajjar, «The Humanity of a Modern Arab City: A Novelist’s Biography of Amman.» Open Journal System: vol. 15, no. 2 (2005), <http://openjournals.library.usyd.edu.au/index.php/LA/article/view/5399>.

[27] يُعنى الناقد والمؤرخ السعودي محمد القشعمي بتقديم دراسات جادة وموثقة عن سيرة منيف وأدبه. للمزيد انظر: محمد المرزوق، «القشعمي: «أدبي القصيم» رفض ورقتي عن «منيف» وتحولاته السياسية.. وعاد للقبول بها،» الشرق (الرياض)، 17/1/2013، <http://www.alsharq.net.sa/2013/01/17/679083>، ومحمد بن عبد الرزاق القشعمي، عبد الرحمن منيف في عيون مواطنيه (الرياض: دار المفردات، 2009).

[28] الخضر، السعودية: سيرة دولة ومجتمع: قراءة في تجربة ثلث قرن من التحولات الفكرية والسياسية والتنموية، ص 461.

[29] كانت رواية الأوبة لوردة عبد الملك، قبل نشرها بعدة سنوات تُنشر على هيئة سلسلة من الحلقات تحت اسم مستعار «وردة الصولي» في منتدى طوى وبعد أن تمّ إغلاق المنتدى من قبل السلطات السعودية عام 2004، تمّ استكمال نشرها في منتدى دار الندوة وعدّة منتديات أخرى. انظر: وردة عبد الملك، الأوبة (بيروت: دار الساقي، 2006).

[30] تركي الحمد، ريح الجنة (بيروت: دار الساقي، 2008)؛ عبد الله ثابت، الإرهابي 20 (بيروت: دار المدى، 2006) وطاهر الزهراني، جانجي (بيروت: رياض الريس، 2007).

[31] هويدا صالح، «الرواية السعودية بين الواقع والمتخيل،» (محاضرة أٌلقِيَت في النادي الثقافي الأدبي في الأحساء، 2013)، ص 6.

[32] عبد الله بن صالح العجيري، من عبث الرواية، تقديم بندر الشويقي (جدّة: دار الخراز، 2008)، ص 2.

[33] للمزيد، انظر: المفكرة الدعوية (موقع إلكتروني)، <http://www.dawahmemo.com/show_d.php?​id=1920>؛ منتدى سدير، <http://www.sudayr.com/vb/showthread.php?p=283318>، وملتقى أهل الحديث الذي يستنكر بشدة حال الرواية في السعودية ويشيد بكتاب الشويقي. انظر: ملتقى أهل الحديث (موقع إلكتروني)،      <http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=245883>.

[34] العجيري، المصدر نفسه، ص 23.

[35] عدنان الغزال، «الشهري: روايات سعودية تخترق محرمات المجتمع بقضايا شاذة،» الوطن أون لاين (18 كانون الثاني/يناير، 2011)، <http://www.alwatan.com.sa/Nation/News_Detail.aspx?ArticleID=37979&CategoryID=3>.

[36] بدرية البليطيح، «الرواية السعودية،» اليمامة (5 كانون الثاني/يناير 2013)، <http://www.alriyadh.com/alyamamah/article/968393>

[37] كولن ولسون، فن الرواية، ترجمة محمد درويش (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2008)، ص 72 – 73.

[38] علي الشدوي، القراءة كسياق له معنى: مقاربات (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2010).

[39] المصدر نفسه، ص 20.

[40] المصدر نفسه، ص 23.

[41] المصدر نفسه، ص 27.

[42] علي الشدوي، «ما قبل البدايات في مسيرة الرواية النساية في السعودية،» في: حسن النعمي، محرر، خطاب السرد: الرواية النسائية السعودية (جدّة: النادي الأدبي الثقافي، 2007).

[43] عبد الله الوشمي، فتنة القول بتعليم البنات في المملكة العربية السعودية: مقاربة دينية وسياسية واجتماعية (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2009)، ص 35 – 42.

[44] بكري شيخ أمين، الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية (بيروت: دار العلم للملايين، 1984)، ص 171 – 172.

[45] حسن النعمي، «خطاب الإحلال والإقصاء في الرواية النسائية السعودية،» في: النعمي، محرر، خطاب السرد: الرواية النسائية السعودية، ص 37 – 38.

[46] اليوسف، معجم الإبداع الأدبي في المملكة العربية السعودية: الرواية.

[47] لم يتمّ نشرها في صحيفة الرياض، بالرغم من الاتفاق على نشرها، لأسباب مجهولة، ولكن تمّ توضيحها لاحقاً من قِبَل رئيس تحرير الصحيفة. انظر: تركي عبد الله السديري، «عن ملابسات التعامل مع كتاب في جريدة ولماذا لم ينشر كتاب «الفردوس اليباب»،» الرياض، 2/3/2005، <http://www.alriyadh.com/43988>.

[48] معجب الزهراني، «ربيع الرواية السعودية: جاذبية الخطاب الروائي ودلالاته،» الجوبة، السنة 6، العدد 35 (2012).

[49] النعمي، محرر، خطاب السرد: الرواية النسائية السعودية، ص 674 – 675.

[50] عبد الرحمن الوهابي، الرواية النسائية السعودية والمتغيرات الثقافية: النشأة والقضايا والتطور (القاهرة: العلم والإيمان للنشر والتوزيع، 2009).

[51] «حراس البوابات» (Gate Keepers): مصطلح مجازي تمّ صكّه بواسطة عالم النفس الألماني كورت ليفين (Kurt Lewin) عام 1951 في نظريته عن الطرق التي يصل بها الغذاء للفرد، قاصداً بها القنوات التي يعبر من خلالها الغذاء حتى يصل للمستهلك، ومن ثم تمّ استخدام المصطلح في الإعلام والاتصال والعلوم الاجتماعية. انظر: Don W. Stacks and Michael B. Salwen, eds., An Integrated Approach to Communication: Theory and Research, 2nd ed., Routledge Communication Series (New York: Routledge, 2009).


علياء عبد الله العمري

باحثة في علم اجتماع الأدب- السعودية.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز