ننطلق في هذا البحث، من الوضع الذي لا يزال يَتَصَوَّر إشكالية الدولة في نشأتها وأزمتها، والتي لم تنتهِ بعد إلى الحالة التامة‏[1] للدولة العربية، ليبدأ تاريخها الفعلي الخاص.

نقصد بالدولة التامة، تلك التي اكتملت مقوِّماتها القانونية والسياسية وصارت السيادة ملكًا للشعب، توفر لها الاستقلال النهائي عن الجهات الداخلية والخارجية، إلا تلك التي ترتقي إلى حسن المعاملة وتبادل المصالح الواضحة والمفهومة، أو على ما يرى المفكر والباحث الاجتماعي ماكس فيبر: الشرعيَّة والعقلانيّة. ويقابل مصطلح الدولة التامة أو المكتملة، في التداول العربي الدولة غير التامة أو غير المكتملة، كما جاء في كتاب عَلِي مَزْغني الذي يحمل العنوان نفسه، ويدرس عدم اكتمال الدولة من ناحية غياب حكم القانون واستقلاله الذي يتطلب بناء الدولة في صلتها بالحداثة وقدرة المجتمعات العربية على تحديد وضعها حِيَال الفكر السياسي الحديث والمعاصر.

فعندما نلتمس مقاربة تاريخية تعتمد أن اللاحق يفسر ويشرح السابق، لأننا نقف دائمًا عند نهاية التاريخ، أي آخر لحظاته، فندرك فورًا، أن سبب الإخفاق هو غياب شبه تام للوازم الديمقراطية ونظرية فصل السلطات، ونظرية تعاقُب الأجيال بمراحلها، أي لكل جيل مرحلته‏[2]، بحيث ينتهي جيل المجاهدين والثوريين مع لحظة تصفية الاستعمار، وينتهي حكم العسكر مع جيل الأمن المدني المُحْتَرِف، وينتهي معه حُكْم القبيلة والعشيرة وشيوخ الطرق الصوفية والأحزاب الدينية‏[3] والتوجهات والنَّزّعات الجهويَّة والعائلية. فقد انتهت الدولة الجزائرية إلى الوصف بأنها سلطة أوليغارشية رائدها الأول والأخير احتكار الثروة والسلطة معًا، كأفضل سبيل لإطالة الحكم القائم.

بناءً على ما تقدم، يمكن أن نحدد فرضيّات البحث على النحو الآتي:

– الفرضية الأولى، أن تاريخ الدولة العربية المعاصرة، ومنها الجزائر، تاريخ بلا مفاهيم موضوعية منزَّهة ومتعَالية عن المصالح الذاتية. فالسيادة والقانون والعدالة والحرية والسياسة وغيرها من المفاهيم التي تُشكل دعامة ثقافة الدولة ونَسَق إدارتها، لَم تستقل بحَيِّزها الدلالي الخاص بالقدر الذي لا تقبل الامتلاك والاستحواذ والاحتكار من جانب السلطة الحاكمة.

– الفرضية الثانية، أن الوضع الاستثنائي المعبَّر عنه بحالات الطوارئ والأحكام العرفية والحكم بالأوامر، وتعطيل الدستور، وسنوات الدم والدمار والعصيان والإضرابات والمحاولات الانقلابية، هي خاصيَّة جوهرية لازمت تطور الدولة العربية ومنها الدولة الجزائرية‏[4]، التي ندرسها كحالة من حالات الدولة العربية المعاصرة التي لا تزال تبحث عن بنيتها الذاتية المستقلة والتامة.

– الفرضية الثالثة، وتنحدر عن الحالة الاستثنائية في تكوين الدولة العربية وتطوّرها، وهي حكم العَسْكر. فالسلطة التي تكونت لحكم الشعوب العربية هي سلطة الجيش، التي لم ترتقِ إلى مؤسسة دستورية تنضوي تحت المؤسسة العمومية للدولة، وبقيت ماسكة بزمام الحكم إلى عصر الحَرَاكَات (جمع حَرَاك) العربية الرّاهنة‏[5] التي اجترحت عصرًا جديدًا يعبر عنه بلحظة الانتقال الديمقراطي.

أولًا: الدولة الجزائرية وهويتها في سياق تاريخ الجزائر المعاصر

إن الصلة بين الدولة والهويَّة في الحالة الجزائرية صلة تلازمية وعضوية بحيث لا يمكن الحديث عن الواحد منهما إلا ويجب استدعاء الآخر، لأن الحديث يجري عن دولة قيد التَّشَكل والتَّكْوين ولم تستقر بعد على مؤسسات دستورية وقانونية وسياسية تامة، على ما انتهت إليه الوحدات السياسية التي يخاطبها القانون الدولي العام، وتتوكأ على شرعية قانونية في الداخل والخارج. فالجزائر كدولة وهويَّة لمَّا تزل بعد تعاني الصياغة النهائية لدستور‏[6] البلد والحسم النهائي في مقومات الأمة، وأن الذي حدث، طوال عهد الاستقلال هو المراجعة المتتالية لنص الوثيقة الأساسية للدولة والمجتمع، والنقاش المعاد والمكرَّر لمقوِّمات الهويَّة الوطنيَّة الذي يراد له أن لا ينتهي أبدًا، فهي في حالات تذبذب مستمر لمفهوم الدولة والهويَّة وهو ما حال دون اكتمال مؤسسات الدولة.

نعالج في هذه الورقة، موضوع الدولة الجزائرية المعاصرة كما تمخضت عن إشكالية تكوينها في الزمن الاستعماري وحقبة الاستقلال. ففي الحقبة الاستعمارية كانت المبادرة السياسية للإدارة الفرنسية، بينما في حقبة الاستقلال عادت المبادرة السياسية والفعل العام إلى النظام الجزائري الجديد المتأتي بالكامل من عصر الحركة الوطنية التي ناضلت في مرحلتها السياسية بداية من مطلع القرن العشرين إلى عام الاستقلال 1962.

خاضت الحركة الوطنية الجزائرية كفاحًا وحوارًا في مواجهة السلطة الاستعمارية ومؤسساتها سواءٌ في الجزائر المستعمَرة أو فرنسا المتروبول، على خلفية البحث الجاد عن ملامح نظام سياسي وقانوني للجزائر، أي البحث عن استقلال الكيان الجزائري عن الدولة الفرنسية. وقد تمت هذه المهمة، أي مهمة تحقيق الاستقلال عام 1962، باتفاقية إفيان، في آذار/مارس، ثم استفتاء حول الاستقلال شهر تموز/يوليو من السنة نفسها.

وهكذا، فقد كانت الدولة التي تَطَلَّعت إليها التشكيلات الجزائرية كافة، زمن الكفاح السياسي المناهض للاستعمار، هي الدولة – الأمَّة التي ظهرت عقب الحرب الكبرى (1914 – 1918) وانهيار الإمبراطوريات في العالم. هذا من جانب الدولة، أما من جانب الهويَّة، فقد أكدت التجربة السياسية العامة، أن الدين الإسلامي والاستماتة به حيال الفعل الفرنسي العام كان أحد المقومات التي حددت بصورة حاسمة وواضحة خصائص المجتمع الجزائري الذي يَميز من المجتمع الأوروبي. فقد ساهم الإسلام فعلًا، كمقوِّم للأمة وماهيتها بقدر وافر في إثباث الحالة الاستعمارية في الجزائر والتمسُّك والاحتجاج بها أمام المؤسسات الدولية، الحكومية منها وغير الحكومية، وبخاصةٍ أمام عصبة الأمم، سنوات ما بين الحربين العالميتين، وهيئة الأمم المتحدة‏[7]، مرحلة ما بعد تأسيسها عام 1945. والعامل الآخر الذي كوَّن الهويَّة الوطنية، زمن الاحتلال، هو مطلب اللغة العربية، الذي طالبت به جميع التشكيلات السياسية على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية والفكرية‏[8]. فقد كانت اللغة العربية ركنًا ركينًا في بناء الهويَّة الجزائرية، ومن ثم الدولة الحديثة، ليس فقط لأنها مقوِّم يَتَعَرَّف به الجزائريون إلى أنفسهم ويَتَعَرَّف به غيرهم إليهم، بل لأن اللغة العربية عامل حاسم في التمييز بين الجزائريين وتاريخهم وفرنسا وتاريخها. من هنا دور اللغة العربية كعامل وحدة بين الجزائريين في كفاحهم ونضالهم ضد الاستعمار.

السلطة، النظام، الحكم، الدولة، كلها مفاهيم وتصورات وآليَّات لمعنى واحد في التجربة السياسية الجزائرية عصر الاستقلال‏[9]. وهذا الترادف ينمُّ في التحليل النهائي عن خيبة المسعى إلى إرساء معالم ومحددات الدولة التامة التي تكتفي بمقوِّماتها الثابتة. فقد لاحظنا في متن هذا البحث أن الهويَّة الوطنية لمّا تزل موضوعًا لنقاشٍ لم ينتهِ إلى حدِّ الساعة، بل أريد له ألّا ينتهي كأفضل مسلك للاحتفاظ بالغموض السياسي والقانوني على مستوى معاني الحكم والجهة التي تحكم. وعليه، فإن السلطة أصبحت ترادف الدولة، ومن هنا حُرمت الجزائر مراكمة الخبرة التاريخية اللازمة التي تساعد على بلورة مقوماتها الأساسية، كاللغة العربية مثلًا. فمنذ دستور عام 1963، والحديث لا يزال يجري عن مسألة اللغة العربية رسميةً ووطنيةً للدولة الجزائرية.

ثانيًا: اللغة الوطنية كمسألة سياسية دائمة

الحقيقة أن اللغة العربية، كلغة تداول وتواصل بين الجزائريين فيما بينهم‏[10] وبينهم وبين سائر العرب، ساهمت – بوعي أو من دون وعي – بربط الجزائريين بالعالم العربي والإسلامي، رغم عمل السلطة الاستعمارية على تصفيتها من التداول العام، وما رصدته من إجراءات إبعاد العربية وتطويقها والتعامل معها كلهجة شعبية لا تقوى على الإفصاح عن حاجات المجتمع الجزائري. وعليه، فإن اللغة العربية والدين الإسلامي، وبخاصة في التجربة الإصلاحية، قد حازتا معًا شرعية بناء الهويَّة الوطنية لأنهما خاضتا معًا صراعا حضاريا وفكريا وحتى سياسيا من أجل توضيح ملامح الشخصية الجزائرية التي تستند إليها في بناء الدولة الجزائرية المعاصرة.

ما كان ليستمر طرح المسألة اللغوية، أي ترسيم اللغة العربية وجعلها لغة وطنية، لولا الخيبة العامة التي مُنيت بها سياسة النظام الحاكم منذ عام 1962، وبخاصة منذ مطلع الثمانينيات، مرحلة نظام حكم الشاذلي بن جديد‏[11]، الرئيس الذي لم تكُن له رئاسة ولا سياسة، ومنه تسللت مشكلة الهويَّة وصارت تُطرح بحِدّة معقَّدة، أُضيف إليها المسألة البربرية، بدايةً بما عرف بالربيع البربري 1980، الذي تبلور في تأليف تيار سياسي دخل الحياة السياسية التعددية ببرنامج ثقافي خاصيته الجوهرية «اللغة» البربرية، من أجل المطالبة بضرورة ترسيمها (تعديل دستوري لعام 2002) وجعلها لغة وطنية (تعديل دستوري لعام 2006)، على القدر نفسه من اللغة العربية، التي تحتاج بدورها إلى إصلاح، وأن تعمل الدولة على ترقيتها.

فالحركة البربرية، كما سادت إلى اليوم، لا تتطلع فقط إلى تعميم التعبير الأمازيغي على المناطق التي تتحدث البربرية ولهجاتها المتنوعة والمختلفة في كل مناطق الجزائر، بل تتطلع إلى إعادة النظر في اللغة العربية نفسها التي يجب ألّا تقبل التعميم في مناطق ذات أصول أمازيغية. من هنا أصل التعقيد في الطرح البربري، الذي يرمي إلى إبعاد العربية، والتماس دائم للغة الفرنسية كلغة مرجعية (référentielle)، تداولية (véhiculaire)، تسعف المستوى العلمي والتكنولوجي والوعي العالي للدولة والمجتمع.

لا يُطرح المطلب البربري لمصلحة اللغة البربرية فحسب، بل يرافقه عدم مزاحمة اللغة العربية له، فضلًا عن الاعتماد الضروري للّغة الفرنسية كلغة عَالمة (savante) لها مبرِّراتها في الفضاء الفرنسي، على أساس أن الموضوع يطرح في المجال الفرنسي أيضًا، حيث يعدُّ المطلب الأمازيغي مطلبًا لأقلية فرنسية‏[12] ذات أصول بربرية من شمال أفريقيا، المستعمرة الفرنسية سابقًا. فالنزعة البربرية نزعة نضالية لا تنتهي عند المسألة الثقافية، بل تمتد إلى المسألة السياسية أيضًا. وهذا ما عبّر عنه أبرز حزب جاء من هذا الوعاء: التَّجمع من أجل الثقافة والديمقراطية RCD.

ساهم التلازم السياسي والثقافي في المطلب الأمازيغي بقدر كبير في اعتماد الأحزاب السياسية، أو الجمعيات السياسية، على أساس من مقومات الهويَّة الدينية واللغوية والجهويَّة وحتى العائلية والمِهَنية التي تتنافى في الأصل والمفْصَل مع الحياة السياسية الديمقراطية الجديدة. وكان لهذه الخطيئة السياسية دورها البالغ في فساد السلطة برُمَّتها واجتراح مصير مُدْلهمٍّ إلى حرب أهلية ماهيَّتها الهويَّة الجزائرية، طرفاه: الاستئصالية ضد الأصولية. وهكذا، فإن القراءة الجديدة لتاريخ مؤسسات الدولة السياسية في صلتها بمسألة الهويَّة الوطنية تجعلنا نقف على الأسباب الحقيقة التي أفضت إلى إخفاق تجربة بناء دولة القانون والحقّ في الجزائر.. كل شيء بدأ باعتماد الأحزاب على أساس من مقومات الهويَّة التي تعد القاسم المشترك الذي لا يقبل التنازل دونه، يعتمده الجميع لمصلحة الدولة والمجتمع، بدل اللجوء إلى المساومة والمقايضة والتواطؤ على حساب مؤسسات البلد ومقتضياتها.

وهكذا، وفي نهاية التحليل والمطاف، وعندما نراجع تجربة الحركة البربرية في تاريخها النضالي مع السلطة الوطنية وضدّها، نصل إلى أنها حركة تتغذى من صراعها ضد العربية وضد العرب، يُراد لها أن تواصل تاريخها الفرنسي في الجزائر، لا بل لا تعترف حقيقة بالعربية إلا كمجموعة من اللغات الدارجة تتداولها كل منطقة من مناطق الجزائر على ما تتوافر عليه من لهجات وألسن. وفي علاقة متعدِّية، لا يقرُّ هذا التيار العلماني أبدًا بالتاريخ الإسلامي والعربي للجزائر ويعدّهما احتلالًا، وأن التراث العربي هو تركة ثقافية متخَلّفة لم يعد يساير العصر الحديث في تجلياته ومظاهره، بل إن الجغرافية أيضًا يجب أن تتغير من المجال العربي إلى المتوسطي.

وَمَا يلاحظ بحقٍّ، في سياق تاريخ تكوين ونشأة الدولة الحديثة، أن اللغة هي القاعدة الأساس التي استندت إليها كل الأمم الأوروبية في الخروج من مفهوم العصر الديني الوسيط إلى الأخذ في مفهوم العصر «اللغوي» الحديث. فقد نشأت الدولة الفرنسية على مقوِّم اللغة الفرنسية، والأمر نفسه بالنسبة إلى بقية الدول، مثل ألمانيا، إنكلترا، إسبانيا، البرتغال، روسيا، بولونيا..، لا بل حتى الدولة العربية كادت تأسس على مقوم اللغة العربية لولا حالة الانقسام والتشرذم الذي رافق لحظة الاستعمار وما بعده في المنطقة العربية. ولعّل هذه الخطيئة السياسية الكبرى التي ألمَّت بالعرب في تاريخهم الحديث هي المسؤولة عن تخلُّفهم، ومراوحتهم عند لحظة استئناف النشأة، على حد تعبير ابن خلدون.

لا ريبَ أن المجتمع الجزائري أفاد من اللغة العربية من حيث التكوين المدني والسياسي والثقافي، إذ ساعدته على تنمية الشعور بالانتماء إلى الفضاء العربي الإسلامي، الذي صار في نظره مجالًا قابلًا للتداول التلقائي والعادي، يتغذّى منه ويتفاعل معه، حتى ولو بعيدًا من جغرافيَّة الجزائر. فقد حلّ عصر الفضائيات والأثير ثم شبكة التواصل الاجتماعي التي ساعدت المواطنين على تحصيل وتوصيل الروابط الثقافية والعلمية والسياسية على نحو يلحّ على مجال مواطني عربي واحد. يعيش كل الجزائريين لحظة ثقافية واحدة ويتطلَّعون إلى غاية سياسية واحدة هي الدولة العربية المكتملة.

هذا على مستوى المجتمع، أما على صعيد الدولة فلم تكن اللغة العربية بهذه القيمة والاعتبار القومي، بل فضحت القيادةَ العليا الحاكمةَ أمام العرب والعالم إخفاقها في التعبير عن قضايا الجزائر المستقلة عن الاستعمار الفرنسي، وبقيت هذه العقدة تلازم رجال الحكم إلى اليوم، وبقي الدستور يثير مسألة اللغة العربية، كأننا لا نزال قابعين في عصر بدايات الاستقلال.

الحقيقة أن ما يمكن أن يترتب على عدم تمكُّن اللغة العربية من مجالها الرسمي والوطني والعربي والعالمي هو مسألة شرعية ممثلي الدولة على مستوى قيادة الحكم وممثلي النظام في نواتها وفي أعلى سلطتها، وبخاصة رئيس الجمهورية، الذي يبقى دائمًا رئيس دولة ما دام لم يحسم بعد في تماهي الحاكم مع لغته الرسمية والوطنية، ولم يعتمدها كمرجع أعلى ونهائي في تصور التشريعات وتفسيرها. فالوضع في الجزائر، بناءً على عناصر الهويَّة الجزائرية يؤكد وضع وجود دائم لحالة طوارئ لم نتخلص منها بعد. وعند التحليل النهائي، نخلص إلى أن السلطة هي أيضًا جهاز تجريد الدولة من مقوماتها الأساسية وأدواتها السياسية والمدنية والحؤول دون الوصول إلى الساحة التمثيلية العليا للبلد التي توفر حق التمثيل الشرعي لنظام الحكم على أساس من وجود الشخصية الاعتبارية للدولة.

ثالثًا: مدى قدرة الجيش وأجهزة الأمن
على تمثُّل الأمة وتكوين الدولة

صلة الجيش الجزائري بالسلطة أو بالنظام صلةٌ مربكةٌ ومعقَّدةٌ، لا تتم على صعيد التحليل السياسي فحسب، بقدر ما تتم على صعيد تحليل التاريخ الحديث والمعاصر أيضًا، أي عصر بداية تأسيس الدول القومية في العالم بأسره. تأثرت الجزائر، بحكم الاستعمار الفرنسي وقوة وجوده في العالم، بنوعية العلاقات الدولية الجديدة، وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى. فالتاريخ العسكري للدولة الجزائرية، يبدأ حقيقة مع انخراط الجزائريين‏[13] في الحرب الكبرى (1914 – 1918)، وما نتج منها، والسياق التاريخي الذي رافقها. والحكم في الجزائر، لحظة ما بعد الاستقلال، يحيل إلى النظام الذي يحمل معنى الانضباط والتراتبية والحزم في الأمور، وهذا ما تنطوي عليه مؤسسة الجيش، فضلًا عن أن الثورة التحريرية تمَّت بالسلاح، الأمر الذي أكّد صلة الجيش بالسلطة والسيادة والاستقلال، والتحرير.. وكلُّها من مقوِّمات الدولة الحديثة ومن عُدَّتها.

هذا على مستوى التصوُّر والمفهوم، أما على صعيد التحقيق والإنجاز، فالأمر مختلف، فيجب أن يخضع لتحليل التجربة برمَّتها طوال قرابة نصف قرن من الاستقلال. ولعلّ الإخفاق الكبير الذي مُنيت به التجربة هو قدرة الجيش على اللجوء إلى الانقلاب‏[14] و«تصحيح» المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، بعيدًا من هويَّة الأمة وتعبيراتها، وحتى التَّدخل في المجال السياسي والمالي، لا بل حتى الانفراد بالحكم المطلق الذي يعني السيطرة الكاملة على السلطة في خاصيتها الحيوية ونواتها الصلبة. فإذا اعتمدنا التاريخ المعاصر بناءً على آخر كارثة حلّت بالبلد، فالذاكرة تحيلنا إلى الحرب الأهلية‏[15]، بعد ما أقدمت قيادة أركان الجيش‏[16] على وقف مسار أول انتخابات تشريعية ديمقراطية تجرى في الجزائر المستقلة، كانون الثاني/يناير 1992.

صلة الجيش بالأمة والسلطة صلة عضوية، تتطلب تحليلًا معمقًا، يَنفذ إلى جوهر الظاهرة، حتى نقف على طبيعتها المعقَّدة التي تعني في حالة واحدة: السلطة؛ الدولة؛ النظام؛ السيادة؛ الحكم. فقد استحوذ الجيش على هذه الخصائص وامتلكها رغم أنها تاريخيًّا لا تعني الشيء نفسه ولا تعبّر عن المعنى عينه. ففي المجتمعات الديمقراطية، كل هذه المصطلحات لا تعني شيئا واحدًا، بل متفاوتة الدلالة، كل كلمة تشير إلى معنى يعَبِّر في نهاية التحليل عن وضع سياسي واضح من حيث استقلال السلطات والمجالات والصلاحيات. ولعّل هذا ما أفضى إلى نكسة حقيقية مُنِيَ بها الجيش الجزائري كمؤسسة للدولة، عندما اختار العقيد الشاذلي بن جديد رئيسًا للجمهورية لمقتضيات لا تمتُّ إطلاقًا إلى النظام الجمهوري، لا بل تأكد أن اختياره كان لأنه أبعد عسكري تَمَثُّلًا وتَمْثِيلًا لمقَوِّمات الأمة، لا يمتلك اللغة العربية اللغة الرسمية والوطنية للدولة والأمة والمجتمع الجزائري، لا يملك أي تصور لدين الدولة ولا يستطيع أن يحتج بقضاياه أمام الشعب والعالم، كما أنه جاء على خلفية عسكرية ثورية، بعيدة إلى حد كبير من النظام التراتبي العسكري وثقافته.

حول صلة المصالح الأمنية بالدولة، يرى الباحث والمثقف الجزائري هوَّاري عدّي «أن تأميم السيادة العامة، يُطلق عليها في علم الاجتماع السياسي بالنزعة التراثية الجديدة (patrimonialisme)»‏[17]. والنزعة التراثية هي توجُهٌ مستمر في الاستئثار بمزايا الدولة ومنافعها بلا وجه حق، كون أجيالًا جديدة طرأت في المجتمع ولها الحق والواجب في إدارة شؤون البلد والاستفادة من خيراته ومردوده. والحقيقة أن النزعة التراثية هي المفهوم الذي يوضح لنا مشكلة الاستبداد وظاهرة السلطوية في الجزائر والوطن العربي التي تكوّنت بسبب مصادرة لحظة الانتقال الديمقراطي للسلطة ومؤسسات الدولة إلى الأجيال الجديدة، ولعلّ هذا ما يؤكد ويبرر نشوب ثورات الربيع العربي في البلدان التي استأثر فيها الجيش وقوات الأمن بالحكم ولم يدرك بأن له أن يسلّم العهدة إلى غيره صاحب الشرعية في إدارة الشأن العام ويعاصر بكل إمكانّياته وحيويته وتاريخه اللحظة السياسية بكل قوتها. ثم يضيف الباحث الجزائري: «فبالنسبة لي، إن مديرية الاستخبارات والأمن DRS، مصلحة من مصالح الدولة التي حُرِّفت عن مهمتها وصارت تتعاطى أنشطة مخالفة تمامًا للدستور»‏[18].

من هنا، ظهرت فجوة سحيقة بين السلطة والمجتمع عندما آلَ الأمر إلى قيادة عسكرية ومصالح أمنية لا يعنيهم شأن تَمَثَّل قيم الأمة ومقوماتها، ولا تَمَثِّل صراحة الشعب لا في واقعه ولا في تطلعاته. لم يلبث هذا الفراغ أن تحوّل، في أقل من عقد من الزمن، إلى صراع بين استئصاليين في صفوف قيادة أركان الجيش ورؤساء مصالح «الأمن الوطني»، وبين إسلاميين في صفوف المجتمع، أي أن هذا الصراع تحدد ضدًّا على الدولة كبنية ومؤسسة عمومية. بعدها استُهْلِكَت القطيعة تمامًا بين قيادة الجيش والأمن الوطني وبين المجتمع للتوجُّه إلى حرب أهلية، رتَّبت لاحقًا «دولة العصابة». فقد كانت «سنوات الشاذلي» بؤرة سياسية وتاريخية انفجرت فيها كل المشاكل الثقافية‏[19] والسياسية‏[20] والمالية‏[21]، انهارت بسببها حياة الجزائريين وتدهور الدِّين وتوقف التأهُّب إلى الديمقراطية واستُنزفت خيرات الدولة وإمكانيّاتها، لا بل شُرِّع باب الفساد على مصراعَيْه وبدأ التشريع القانوني لنهب المال العام. ودائمًا في إشكالية الجيش وعدم قدرته على استبطان مقدّرات الأمة وخصائصها وتمثيلها، فقد صارت بنية الدولة تشير إلى جزائر السلطة التي تمثل الدولة وتزاول نشاطها في الداخل والخارج باسم الشرعية. وجزائر الشعب التي تعبِّر عن أمة‏[22].

رابعًا: الدولة وهويَّتُها في الدساتير الجزائرية

يعبِّر مفهوم الدستور عن القانون الأساسي الذي تستند إليه السلطة من أجل تسيير مؤسسات الدولة الآيلة إلى التَّكوُّن. وفي التجربة الجزائرية لما بعد الاستقلال، فقد كان مفهوم الدستور ليس تسيير المؤسسات الناجمة عن العهد الاستعماري فحسب، بل خلق مؤسسات جزائرية أيضًا وفقًا لهويتها المتمشّية مع مفهوم الدولة الحديثة. وقد كان أول عهد نظام الحكم الجديد مع الدستور هو دستور 1963، في عهد أول رئيس للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‏[23]، أحمد بن بلة. واعتبارًا للمرحلة التاريخية التي سُنّ فيها هذا الدستور، فقد أوكلت إليه مهمة تأسيس الدولة الجزائرية وتسييرها وفق هويَّتها ومقوماتها الذاتية وازدهارها في مرحلة ما بعد الاستعمار. ومن هنا فالدستور في هذه اللحظة من تاريخ الجزائر هو بمنزلة مشروع لا قانون أساسي لتسيير البلاد في عهدها الجديد، فلا الشرعية القانونية والسيادية حُسمت ولا الخلافات السياسية استقرَّت على عهدٍ متوافق عليه. وهذا ما سيجعل دستور 1963، مثار صراعات جديدة.

جاء في ديباجة هذه الوثيقة الأساسية، حول موضوع الدولة في صلتها بالهويَّة: «أن الإسلام واللغة العربية قد كانا ولا يزال كل منهما قوة فعّالة في الصمود ضد المحاولة التي قام بها النظام الاستعماري لتجريد الجزائريين من شخصيتهم. فتعيَّن على الجزائر التأكيد أن اللغة العربية هي اللغة القومية الرسمية لها، وأنها تستمد طاقتها الروحية الأساسية من الإسلام. بيد أن الجمهورية تضمن حرية ممارسة الأديان لكل فرد واحترام آرائه ومعتقداته». وواضح، أن الهويَّة التي تعادل هنا الشخصية تتعلق بالإسلام كدين واللغة العربية كوسيلة تعبير وثقافة وتواصل بين الجزائريين، وأن الأقليات الأخرى لديها مكانتها في الحيز القانوني والاجتماعي والسياسي في الجزائر المستقلة. وما يستوجب توكيده هو دائمًا الإحالة إلى العهد الاستعماري الذي صنع الجزائر الحديثة، ومنها مقوماتها الذاتية، بمعنى أن المقاومة عبر الدين واللغة العربية هما اللذان استحقّا نيل شرف التعبير عن الشخصية الجزائرية. فالعبرة بالعامل النضالي في المقاومة الذي كانت فيه اللغة العربية والدين في صلب الكفاح التحرري التاريخي للجزائر.

ما جاء في الديباجة، شرحته المادة الرابعة على النحو الآتي: «الإسلام دين الدولة، وتَضْمن الجمهورية لكل فرد احترام آرائه ومعتقداته وحرية ممارسة الأديان». ويمكن اختزال هذه المادة إلى أن الدين الإسلامي دين الدولة والمجتمع عدا الأقلية المسيحية واليهودية. كما أوضحت المادة الخامسة مسألة اللغة العربية كبُعد ومقوِّم للشخصية الجزائرية على النحو الآتي: «اللغة العربية هي اللغة القومية والرسمية للدولة». في حين جاءت المادة 76، من باب الأحكام الانتقالية، تحرص على الطابع الاستعجالي لموضوع اللغة العربية: «يجب تحقيق تعميم اللغة العربية في أقرب وقت ممكن في كامل أراضي الجمهورية، بَيْد أنه خلافًا لأحكام هذا القانون، سوف يجوز استعمال اللغة الفرنسية مؤقتًا إلى جانب اللغة العربية». الحقيقة، أن ورود هذه المادة في باب الأحكام الانتقالية، يؤكد من جملة ما يؤكد، استخدام اللغة العربية في مؤسسات الدولة الجزائرية الناشئة هو برسم تطور البلد وازدهاره، هذا من ناحية وضع اللغة العربية التي عدّها الدستور لغة قومية، المصطلح المتداول في ذلك الوقت للتعبير عن لغة العرب أجمعين، وأنها الواصلة والآصرة التي يشتركون فيها في أفق وحدة عربية مرتقبة. من ناحية أخرى تلح المادة نفسها على جواز استعمال اللغة الفرنسية بصورة مؤقتة. لكن المؤقت طال وأضحى حالة عادية، واللغة الفرنسية لا تزال تُستخدم، على نحوٍ فعلي على مستوى الدولة والمجتمع، رغم عدم الاعتراف بها من الناحية الرسمية وبأنها هي المرجع النهائي في حالة تفسير القوانين وشرحها وحتى في صيغتها المبدئية.

وهكذا، فإن مجيء المواد المتعلقة باللغة والدين على هذا النحو، في دستور 1963، ساعد على تأكيد الدور التاريخي للدِّين واللغة، مع إمكان الاستخدام الأمثل لهما في الحياة المدنية الجديدة في الدولة والمجتمع، أي تعليق الأمر على مستقبل محتمل لم يكن سارًّا في كل الأحوال، لأن اللغة الفرنسية ما زالت مستخدمة، ولها أولوية في أجهزة الدولة، وأن الدين الإسلامي خرج من يد الدولة التي لم تعرف كيف تتصرف به كمقَوّم للتنمية الوطنية، وتحوّل إلى مجتمع تصرفت فيه الحركات الاجتماعية وخاضت به معارك احتجاجية اجتماعية وسياسية، أفضت إلى حرب أهلية حقبة تسعينيات القرن الماضي.

وعن الجيش ودوره في الجمهورية الجزائرية، يقول دستور أحمد بن بلة صراحة: «إن الجيش الوطني الشعبي الذي كان بالأمس جيش التحرير الوطني هو بمنزلة سنان الرمح في النضال القومي. من ثم سيظل هذا الجيش مسهمًا في خدمة الشعب، ساهرًا على النشاط السياسي داخل إطار الحزب، عاملًا على تشييد الأنظمة الجديدة الاقتصادية منها والاجتماعية للبلاد». تمسَّكت هذه الفقرة، كما في غيرها من الفقرات والموضوعات، بالإحالة إلى زمن الاستعمار، وترى أن الجيش، الذي أصبح الجيش الوطني الشعبي هو حلقة متواصلة عن جيش التحرير الوطني، وأن له مهمات سياسية واقتصادية واجتماعية فضلًا عن الدفاع عن حياض الوطن وحدوده. ومن ثم، يصرف الاهتمام عن مسألة الفصل بين السلطات الذي يجب أن يتضمنه دستور الدولة المدنية حتمًا. وقد بقي هذا الدور للجيش إلى اليوم، ولم يتغير، بل زاد واستفحل إلى حد نشوب أزمات خلخلت الوضع العام للجزائر كدولة ومجتمع.

خامسًا: الملامح التأسيسية للدولة الجزائرية الحديثة من خلال حكم بومديَن

وصل المناضل هوّاري بومديَن إلى الحكم في إثر انقلاب قاده ضدّ الرئيس أحمد بن بلة يوم 19 حزيران/يونيو 1965. فقد كان هوَّاري بومدين قائد أركان الجيش الجزائري، ووعد في «بيانه التصحيحي الثوري» بإقامة دولة مؤسسات لا تزول بزوال الرجال. وطوال الحقبة التي حكم فيها إلى غاية وفاته عام 1978، أنجز الرجل فعلًا ما يمكن أن يؤسس لدولة القانون والحق، تتمتع بشخصية اعتبارية ذات صفة عمومية وخصوصية دائمة. وما يحفّز على تناول شخصية هوّاري بومدين في صلتها بالحكم أنه الرجل المؤسس وتجربته التي رشّحته بأن يحظى بالشخصية الكاريزمية المهابة ظهرت بخاصة عقب وفاته، التي خرج فيها الشعب كلّه وعن بكرة أبيه لتوديع «الأب الكبير» للأمّة الجزائرية‏[24] وباعث دولتها الحديثة.

كانت ثلاث عشرة سنة من حكم الرئيس هوّاري بومدين حقبة لإرساء معالم النظام الاشتراكي وفق حقائق ومعطيات لواقع بلد خرج لتوِّه من وضع استعماري، ينشد المدنية الحديثة ويحرص على أن دين الدولة والمجتمع الإسلام واللغة العربية رسمية ووطنية، وقد فصّل كل ذلك في الميثاق الوطني والدستور، اللذين صدرا عام 1976. فقد كانت خطواته في إدارة الشأن العام تستند إلى الشرعية الثورية وأداته في الحكم والتسيير مجلس الثورة، وسنده في تنفيذ القرارات والبرامج والخطط مجلس الحكومة، وخلال مدَّة حكمِه كان رئيسًا لمجلسَي الثورة والحكومة.

ارتبط تأسيس الدولة الجزائرية المعاصرة، بسياسة الرئيس هوَّاري بومدين، لِمَا كان هو بالذات يتمتّع به من قدرة على تمثيل خصائص الجزائر في آخر حالاتها: التطلع إلى لغة عربية يتواصل بها الجزائريون بعضهم مع بعض ومع العالم العربي والإسلامي والعالم، لغة تساهم عبر الفكر والثقافة في التَّخَلص من رطانتها وتَكَلُّسها وجمودها التاريخي. كما أن الرئيس كان يرنو أيضًا إلى دين يساهم كرصيد لرأس مال معنويٍّ وأخلاقيّ ورمزيّ في تنمية شاملة للبلد. والغالب أن مفهوم الهويَّة الذي تم تصوّره في سنوات بومدين هو ما سارت عليه الحركة الإصلاحية الجزائرية وتراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أيْ لغةٌ عربيةٌ تسَعُ كل الجزائريين وكل العرب وإسلامٌ يدين به كل المسلمين في الجزائر وفي سائر بقاع العالم.

الرئيس هوَّاري بومدين هو ثالث ثلاث شخصيات تماهت الأمَّةُ معهم، لأنهم ساهموا في توضيح ملامحها وقَسَماتها: الشيخ عبد الحميد بن باديس‏[25] الذي توفي يوم 16 نيسان/أبريل عام 1940. وكانت لجنازته الأثر الرهيب والبيان البليغ في توديع أمة كاملة لشخص عظيم إلى مثواه الأخير. فلم يحدث في تاريخ الجزائر إطلاقًا أن شَيَّع شعبٌ أحد أفراده بتلك المظاهر وآيات الإجلال والتمجيد. وقد كانت تلك اللحظة لحظة مؤثرة ومؤسِّسة للأمة الجزائرية في آخر ملامحها العربية والإسلامية في حجمها وأبعادها الوطنية. ثم أتت لحظة الوفاة المباغتة للرئيس هوَّاري بومدين، يوم 29 كانون الأول/ديسمبر عام 1978، وسارت خلفه الجماهير إلى مثواه الأخير تعبيرًا منها عن استفتاء حقيقي لرجل كان بمنزلة أمة عاش ومات من أجلها. وأخيرًا، لحظة وفاة المناضل الثوري والمعارض السياسي للنظام السيد حسين آيت أحمد، الذي امتد به العمر إلى تحقيق ما خيَّبَ ظنه في المسار الذي قطعته الجزائر بعد استيلاء الجيش على الحكم وانقلاباته على الحكومة الجزائرية المؤقتة صيف 1962. فقد توفي آيت أحمد في 23 كانون الأول/ديسمبر 2015 واستقطبت جنازته كل الجزائريين الأحرار، وبخاصة معارضو نظام الحكم، كرست لحالة دولة تحتاج فعلًا إلى مجال المعارضة لكي تقوم مؤسسة الديمقراطية على قوامها الشرعي: موالاة ومعارضة. وكان آيت أحمد مؤسسًا لفضاء المعارضة في الجزائر المستقلة‏[26].

كان الرئيس هوّاري بومدين يتمتع فعلًا بشخصية كاريزمية، ويمكن نعت سنوات حكمه بسنوات بومدين، أهّلته إلى تشييد شرعية تاريخية ثورية، بفضل قدرته على تمثُّل قيم الوطن وخصائصه الحديثة، وبخاصة اللغة والدين وتراث‏[27] الجزائر. حقق الرئيس بومدين مفهوم الكاريزم الذي ساد الفكر السياسي في القرن العشرين وفق ما بلوره وحدَّده المفكر وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. وفي الأغلب، أن عددًا كبيرًا من الدول، بما في ذلك فرنسا‏[28]، ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرّت بلحظة الشخصية الكاريزمية الذي أمَّن للأمة الانتقال من دولة الشخص إلى دولة المؤسسة. وكانت الصيغة القانونية السياسية التي حكمت لحظة الانتقال من الشخص إلى الشخصية الاعتبارية هي صيغة «الشرعية – العقلانية» «Légalité–rationalité»، التي تعود دائمًا إلى تنظير ماكس فيبر. بمعنى أننا يمكننا أن نتفهَّم شرعية الشخص في تمثيل الأمة في لحظات حرجة وصعبة وبخاصةٍ منها بدايات التأسيس لعهد جديد، مثل بناء دولة قومية حديثة.

وخلاف ذلك، نجد أن ما بعد حكم الرئيس هوَّاري بومدين كان انقلابًا تاريخيًّا، ليس بمعنى ما ولكن بكل معاني الكلمة، لأنه أتى على كل مقوِّمات الهويَّة الوطنية وأفرغ تمامًا عناصرها الأساسية من جوف السلطة، ولم يعد لها أي اعتبار في إضفاء الشرعية على شخص الرئيس ومن ثم نظام الحكم. وكان هذا التَّصرف بمنزلة القطيعة التاريخية مع مسار تكوين الدولة ومؤسساتها وفق النمط الوطني الذي ساد لحظة ما بعد الاستعمار: كيان سياسي يستوعب رئيسه مقوّمات الأمة في شخصه كأفضل مبرر لشرعية الحكم ومعقوليته للانتقال من الشخص إلى المؤسسة. فقد كان الرئيس الشاذلي بن جديد المعيَّن من جانب القيادة العليا للجيش‏[29] الوجه المناقض تمامًا لشخصية الرئيس الراحل هوّاري بومدين، ولم يكن أبدًا يَدُور في خلد الجزائريين أن يطلع عليهم اسم العقيد الشاذلي بن جديد، الأمر الذي يدفع التحليل إلى أن القطيعة بين الشعب والنظام قد استهلكت بالفعل، وأنهما خطّان لا يلتقيان إلا في لحظات العنف والحرب والفوضى المنتظرة. وقد فُسّرت حقبة الشاذلي بن جديد بحقبة التراجع: عن مكتسبات بومدين، والرجعية عن الخط الاشتراكي، والشروع في الاستحواذ على خيرات البلد وتراثه والتنازل عن إنجازاته.

والواقع، أن الشَّاهد الذي فضح النظام من الداخل هو اعتراضه على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات تشريعية ديمقراطية في الجزائر المستقلة. فقد فاز التيار الديني، ليس بسبب قوته الاجتماعية وتمثيله الجماهيري فحسب، بل للفراغ الذي اعترى السلطة في مجال استيعاب الدين الإسلامي والقدرة على تَمَثّلِه والاحتجاج به على مستوى شخص رئيس الجمهورية وقيادته العسكرية العليا. فتعيين الرئيس بن جديد من دون مراعاة مسألة المقَوِّمات أفضى، من جملة ما أفضى، إلى إقالة الرئيس، الذي لم يجد على ما يتوكأ عليه من أجل مواجهة ومواجهة الوضع، إلا الخنوع والخضوع، في مشهد أهان الدولة الجزائرية ذاتها.

كتب ذات صلة:

مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية المعاصرة وحالة المواطنة في الجزائر

مجلس الأمة الجزائري بعده التمثيلي ودوره في الاستقرار المؤسسي

الجزائر إشكاليات الواقع ورؤى المستقبل

الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك

الفساد النسقي والدولة السلطوية.. حالة الجزائر منذ الاستقلال

الفرص الضائعة مع عبد العزيز بوتفليقة

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 555 في أيار/مايو 2025.

نور الدين ثنيو: كاتب وأكاديمي جزائري.

[1]Ali Mazghani, L’Etat inachevé: La Question du droit dans les pays arabes (Paris: Gallimard, 2011).

[2] حول صلة الثورات العربية بعصر البحث عن التأسيس النهائي للدولة العربية، انظر: عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)؛ هيثم فرحان صالح، إشكالية الدولة في العالم العربي وتحول السلطة على أبواب الألفية الثالثة (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، وطيبي غماري، الجندي والدولة والثورات العربية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2019).

[3] انظر في استحالة قيام الدولة الدينية في العصر الراهن: وائل ب. حلاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). الحقيقة أن الدولة الإسلامية مستحيلة لأن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء ولا أن يكرِّر نفسه، وهذه حقيقة مكرَّسة في علم التاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانية بوجه عام. لكن المؤلف يترك الموضوع كله عند لحظة المأزق، فحتى التطلع إلى دولة حديثة تجايل وتعاصر تاريخها أيضًا غير ممكنة أو دولة غير أخلاقية. ونرى من جهتنا أن البحث عن العصر الأخلاقي أو الديني أو الروحي في عصر سياسي مستحيل أيضًا، لأن التاريخ المطلق لم يعد من التاريخ المعاصر الذي خاصِّيَّته الكبرى أنه عصر التفاوت الدلالي والتقييم النسبي والعلاقات البينية والاعتماد المتبادل للمجالات.

[4] حول المقاربة لما بعد الاستعمار، انظر: نور الدين ثنيو، «قراءة وكتابة تاريخ الاستعمار في لحظة ما بعد كولونيالية،» المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 33 (شتاء 2012)، ص 57 – 73. وفي موضوع استيراد الدولة في العالم المتخلف، انظر: Bertrand Badie, l’Etat importé-l’occidentalisation de l’ordre politique (Paris: CNRS Editions, 2017).

[5] حول الحراك الجزائري كموجة جديدة لما بعد الثورات العربية، يمكن العودة إلى سلسلة من المقالات التي كتبناها في جريدة القدس العربي: «في قوة الحراك السلمي،» 29/3/2019؛ «الحراك الجزائري: نقاط على بعض الحروف،» 8/5/2019؛ «الحراك الجزائري: كلمات إلى العقل،» 23/5/2019؛ «الحراك الجزائري والانتقال الديمقراطي،» 10/6/2019، و«الحراك الجزائري والجيل الذي يصنعه،» 8/7/2019

[6] تعبِّر ظاهرة التعديلات المتتالية والمتعددة للدستور، القانون الأساسي للدولة والمجتمع عن حالة عدم استقرار في الهويَّة الوطنية، كما أنها تفصح عن غياب متواصل للديمقراطيَّة، الآلية الجوهرية لبناء الدولة وإرساء معالمها ومقوماتها. حول ظاهرة التعديل المستمر لوثيقة الدستور كأفضل طريقة لمواصلة حكم النظام السلطوي في الجزائر، انظر: نور الدين ثنيو: «الدستور الجزائري .. المسودة الدائمة،» الرأي اليوم، 3 حزيران/يونيو 2020، و«محنة الدستور الجزائري،» القدس العربي، 17/6/2020.

[7] Messali Hadj, «Mémoire aux nations-Unies, 1950,» dans: Jacques Simon, Messali Hadj par les textes (Paris: Bouchène, 2000), pp. 64-77.

[8] مثل ما جاء في وثيقة البيان الجزائري التي حظيت بإجماع كل التنظيمات السياسية، خلال الحرب العالمية الثانية: «الاعتراف باللغة العربية كلغة رسمية، على نفس المنوال والقدر من اللغة الفرنسية». البند الثالث من برنامج المطالب التي قُدِّمت إلى الحاكم العام في الجزائر، من جانب الزعيم فرحات عباس صاحب المبادرة. انظر البيان الكامل، في: Claude Collo et Jean-Robert Henry, Le Mouvement national algérien textes 1912-1954 (Alger: Office des publications universitaires (OPU), 1981), pp. 155-165.

[9] الحقيقة، أن مسألة الاستقلال كمفهوم ومشروع سيادة يحتاج إلى إعادة تفكير ودراسة وفق مقاربات تاريخية وعلمية، لأن شحنة هذا المفهوم جاءت من قوة انتشاره في العالم، وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تلازم مع مبدأ تقرير المصير، وتحرير الشعوب والدولة/الأمة.. بتعبير آخر، إن المصطلح له تاريخه، فمعناه في العهد الاستعماري يختلف عنه في تجربة حكم الأنظمة لما بعد الاستقلال، حيث صارت تتأبَّى وتخْشى الاستقلال، استقلال السلطات داخل الدولة نفسها. فالاستقلال، لحظة ما بعد الاستعمار، صار يعني الانفراد بالحكم، والاستقلال به عن أي مساعٍ لاتحاد جِهوي أو وحدة عربية. فالثورة الجزائرية في ماهيتها ثورة من أجل الاستقلال، كما أن تجربة الاستقلال في وعي الحركة الوطنية العامة يتخللها أيضًا تفاوت في الدلالة والمعنى. انظر في هذا الموضوع: Sylvie Thénault, Histoire de la guerre d’indépendance algérienne (Paris: Flammarion, 2005).

انظر أيضًا:      Nadjib Sidi Moussa, Algérie une autre histoire de l’indépendance (Paris: PUF, 2019).

[10] اللغة العربية تعني في الحالة الجزائرية، وبخاصة في سياق الحركة الإصلاحية والوطنية، أنها لغة عالمة (savante)، بها يتم التحصيل العلمي ومواصلة التكوين والتعليم. فاللغة العربية هي المُسْعف للجزائريين، على اختلاف نَزَعاتهم الدينية وتَوَجُّهاتهم الفكرية والسياسية من الخروج من اللهجات المحلية والتعبير الدارج الذي حاولت دائمًا الإدارة الفرنسية التعامل معهم بها. ومن هنا، تظهر اللغة العربية ليس كمطلب ثقافي، أي لساني وديني وتربوي فحسب، بل كمطلب سياسي أيضًا، لأنها وسيلة تداول مُجْمَع عليها من جانب الأهالي الجزائريين، وسوف تساهم، دائمًا في حوارهم وصراعهم مع السلطة الاستعمارية، في بلورة وعيهم نحو وضع المواطن في الدولة. حول اللغة العربية وصلتها بالهوية الجزائرية الآيلة إلى التشكُّل، زمن الاستعمار، انظر: نور الدين ثنيو، «اللغة العربية كمجال للاسسثمار في الهوية.. حالة الحركة الإصلاحية الجزائرية في العهد الاستعماري،» في: الحركة الإصلاحية الجزائرية: بحوث ووثائق (الجزائر: شركة الأصالة للنشر، 2018)، ص 73 – 94.

[11] كان الرئيس الشاذلي بن جديد، يجهل اللغة العربية ولا يعرف من الإسلام إلا ما يعرفه الجزائري الأمي البسيط جدّا. ومن ثم، لم يكن يدرك ما تريده الدولة الجزائرية. وانعكس هذا الفراغ أو النقص الفادح على أجهزة الدولة ورشّحها إلى الضعف والهشاشة، ومنها تسللت قضايا الهوية ومشاكلها على نظام الحكم، وكأن الثورة الجزائرية، بقوتها وعظمتها ومجدها الرّائع لم تحسم في مقومات الأمة والدولة بصورة نهائية. وهكذا، وبناءً على المقاربة التي التمسناها في البحث، حول الدولة والهوية، نجد أن هذه الأخيرة ذات صلة متينة بمؤسسات الدولة، حيث يكون الرجل ممثلًا رصينًا لمقومات الأمة، تكون الدولة على منواله من حيث خصائص التمثيل الشرعي، ومتانة المؤسسات ودائمية الدولة ومرافقها.

[12] Hocine Sadi, «La Charte européenne des langues minoritaires et son incidence sur la langue berbère en France,» Revue Boite à documents (Paris), nos. 29-30 (2010), pp. 345-359.

[13] نور الدين ثنيو، «الجزائريون في الحرب العالمية الأولى،» في: مجموعة مؤلفين، مئة عام على الحرب العالمية الأولى، مقاربات عربية: المجلد الثاني: مجتمعات البلدان العربية: الأحوال والتحولات (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 307 – 328.

[14] يعود أصل الخلافات والصراعات وحتى الاغتيالات إلى عهد الثورة، وبخاصة عقب مؤتمر الصومام وما بعده. جاء في وثيقة الصومام: – «البند الثامن: تقرير جبهة التحرير – جيش التحرير: أولوية السياسي على العسكري. في المراكز القيادية، القائد السياسي – العسكري يتولى السهر على توازن كافة فروع الثورة. وفي تقرير الداخلي والخارجي: الأولية للداخل على الخارج، وفق مبدأ القيادة المشتركة.»، انظر: Mohammed Harbi, Les Archives de la révolution algérienne, Postface Charles-Robert Ageron (Paris Editions Jeune Afrique, 1981), p. 166.

وعليه، فالقراءة في النص الأصلي تؤكد الجمع بين السياسي والعسكري والداخل والخارج وليس الفصل بينهما. والصوغ المربك لهذا النص هو الذي فتح المجال للصراع السياسي والثوري بين عناصر القيادة المناضلة، واستمرت إلى ما بعد الاستقلال.

في أصل الخلافات وتوتر الوضع بين المناضلين في صفوف الجيش قيادة الأركان والمناضلين السياسيين والحكومة الجزائرية المؤقتة، يمكن العودة إلى التقارير التي نشرها المناضل والمؤرخ محمد حربي في كتابه أرشيف الثورة الجزائرية:

- «Mémoire de l’Etat-major général de l’ALN à Monsieur le président du GPRA sous couvert de CIG, 15 juillet 1961»;

-«Message de l’Etat-major au GPRA et au bureau du CNRA à l’occasion de la nomination des délégués algériens à la commission du cessez-le-feu, 7 avril 1962»;

– «Message du colonel Chaabani au GPRA et à l’Etat-major, 19 avril 1962»;

– «lettre de démission du groupe FLN de l’Exécutif provisoire, adressée au GPRA, 27 juin 1962»;

– «proclamation du bureau politique de FLN, 22 juillet 1962»;

– «Communiqué de l’Etat-major de l’ANL, juillet 1962»;

– «Décision du conseil de la Wilaya 4, décrétant l’Etat d’urgence, 19 aout 1962».

[15] مرور قرابة ثلاثين سنة على وقف المسار الانتخابي كانون الثاني/يناير 1992، وبداية الأزمة الجزائرية، يسمح لنا بوصف سنوات التسعينيات بأنها حرب أهلية، خاضها الجزائريون في ما بينهم، فضلًا عن أن الشواهد والشهادات التي قدّمت بعد ذلك إلى غاية الانهيار الكبير لدولة العصابة 2019، تؤكد أن سنوات النار والدمار والقتل والخراب هي حرب أهلية بكل دلالة الكلمة، وبخاصة أن عناصر قيادة الأركان وأجهزتها الأمنية، التي قادت هذه الحرب هي موضع اتهام، سواء توفيت أو في السجن أو في حالة فرار.

[16]  Nicole Chevillard, Algérie: Après guerre civile (Paris: Nord-sud export, 1995).

يقدّم الكتاب معالجة تاريخية وسياسية لما جرى في الجزائر بداية من عام 1992 كاشفًا عن الصراعات المحتدمة بين أجنحة السلطة العسكرية وامتداداتها في المجالات المدنية والسياسية والأجنبية.

كما يمكن العودة إلى كتاب المؤرخ والباحث الفرنسي بنيامين سطورا، في دراسته التاريخية التي تحلل الحدث في صلته بالثورة التحريرية والحركة الوطنية: Benjamin Stora, L’Algérie en 1995, la guerre, l’histoire, la politique (Paris: Michalon, 1995).

[17] Lahouari Addi, Algérie, chronique d’une expérience postcoloniale de modernisation (Alger: Barzakh, 2012), p. 30.

[18]  Ibid., p. 23.

[19] بسبب ما حُرِم منه الرئيس الشاذلي بن جديد من مقوِّمات الأمة، بوصفه مجسّدًا للجمهورية، ظهرت المسألة الثقافية في وجهها اللغوي بين البربرية/الفرنكوفونية وبين التيار العروبي والديني الإسلامي، وما أسفر عنها من احتدام سياسي ثم مسلح سنوات التسعينيات كان أبرزها تنحية الرئيس الشاذلي نفسه واستيلاء صريح وواضح للقيادة العليا للجيش والأمن على مقاليد النظام والدولة.

[20] حول بداية وجه جديد من الصراع السياسي في صلب السلطة وصلته بمصير آخر للجزائر، انظر: Smail Goumeziane, Algérie, Histoire en héritage (Alger: Non Lieu, 2011), pp. 383-483.

[21] حول الفساد المالي كعائق لبناء وإنجاز الدولة القارة، انظر عبد الرحمن حاج ناصر المثقف والحاكم العام للبنك المركزي. وكتابه شهادة من الخيبة والشعور بفقدان الأمل والإخفاق العام: Abderrahmane Hadj-Nacer, La Martingale algérienne réflexions, sur une crise (Alger: Barzakh, 2011).

[22] François Gèze, «Armée et nation en Algérie, l’irrémédiable divorce?,» Hérodote, no. 116, (2005), p. 183.

[23] الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، مجرد شعار أعلنته السلطة الجديدة من أجل تحقيقه، ولا يعني تَحَقّقه لحظة إعلانه، لأنه يفتقر إلى التجربة الضرورية التي بموجبها يمكن أن يتحقق إذا أحسنت السلطة صنعًا. والتجربة اللاحقة تفصح عن انتهاك نظام الجمهورية لأكثر من حالة، وأن نظام رئيس الدولة دام أكثر من نظام الجمهورية، وأن النظام لم يتأسس ويستقر إلى حد اليوم على الحالة الديمقراطية، بل شهد دائمًا حكم العسكر بدل الحكم المدني، بينما الجمهورية الشعبية اختزلت في التعامل بالخطاب الشعبوي المناسباتي الذي يفترض وجود مستعمر الأمس لتعلّق عليه كل المصائب والأزمات التي حلّت بالبلد وإخفاقاته المتوالية.

[24] من أهم الكتب التي حاولت رسم ملامح وقسمات الرئيس هوَّاري بومدين: Ania Francos et Jean-Pierre Séréni, un algérien nommé Boumediène (Paris: Stock, 1976).

وحول شخصية الرجل الثورية، انظر: Hamid Abdelkader, Un homme une révolution, 1954-1962 (Alger: Chihab Edition, 2012).

[25] حول شخصية ابن باديس مُعَبِّرة عن الأمة، انظر: نور الدين ثنيو، «التسامح والتعايش الديني في تجربة ابن باديس،» المستقبل العربي، السنة 42، العدد 492 (شباط/فبراير 2020)، ص 120 – 135.

[26] نور الدين ثنيو، «آيت أحمد، رجل المعارضة،» الرأي اليوم، 11/2/2016.

[27] من جملة المفاهيم التي نقارب بها دراسة تكوين الدولة الحديثة، مفهوم النزعة التراثية (Patrimoniale)، التي تعني نزعة استيلاء الحاكم على تراث المجتمع وتاريخه، على ما عهدناه في الكثير من دول العالم الثالث سابقًا، بما في ذلك الوطن العربي. فقد عمدت بعض الأنظمة إلى الاستيلاء الرمزي والمعنوي وحتى الاستثمار المادي فيه (خادم الحرمين الشريفين). لكن هذه الحالة أو الظاهرة، لم تكن تصدق وتنطبق على تجربة الرئيس هوّاري بومدين، الذي سعى منذ البداية إلى التجرد من مراكمة التجربة لشخصه بقدر ما توجه بها إلى فائدة الأمة وتراثها، ومن أجل مؤسسات دولة منشودة، ولم يعرف له أي حساب خاص ولا ثروة خاصة، ولم يَدْنُ من حكمه أي من أفراد عائلته. وإذا كانت الغاية من تكوين وإنشاء مؤسسات دولة لا تزول بزوال الحكّام شريفة، فيجب أن يُلتمس لها الوسيلة الشريفة أيضًا، حتى لا يسقط صاحبها في الحكم المكيافيلي الذي يؤكد الشخص على حساب الشخصية الاعتبارية للدولة، وهذا ما حاول تجنبه الرئيس بومدين.

[28] شخصية الجنرال شارل ديغول، صاحب كتاب الخلاص (Le Salut)، هو باعث فرنسا في التاريخ المعاصر، بعد الحرب العالمية الثانية، خلّصها من الاحتلال الألماني وأعادها إلى سكة الشرعية الدستورية، مع دستور 1958. وقد توقف حكمه بعدما انتهت حالة التماهي بين شخصه وقيام مؤسسات الدولة التي تستغني عنه. وقد بادر إلى الاستقالة فور اعتراض الشعب على مشروع الاستفتاء الذي تقدَّم به عام 1969. وكان لإجراء الاستقالة مفعوله القوي في تمتين مؤسسات الدولة التي لا ترتهن بالأشخاص وترسيخها.

[29] المقتضيات التي استندت إليها القيادة العليا للجيش في تحديد خليفة الرئيس الراحل هوّاري بومدين، أن يكون أقدم واحد في أعلى رتبة في الجيش، وأقَلُّهم قُدْرة على امتلاك ناصية الثقافة الوطنية. حول الظروف التي أُجريت فيها عملية انتقال الحكم، انظر: Mohamed Harbi, «Au cœur du système, la sécurité militaire,» dans: Reporteur sans frontières, dir., Le Drame algérien (Paris: La Découverte, 1996), p. 72.


نور الدين ثنيو

أستاذ باحث، جامعة الأمير عبد القادر،- الجزائر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز