مقدمة:

يشكل موضوع الأمن والاستقرار في غرب آسيا (الخليج، المشرق العربي، إيران، تركيا، القوقاز) سؤالاً ملحاً وحرجاً في واحد من أكثر الأقاليم فوضويةً واضطراباً في العالم. تعزز الفوضى من «معضلة الأمن» (Security Dilemma) بسبب تزايد الريبة والشك لدى اللاعبين السياسيين بما يطلق دينامية من السباق المحموم للتسلح والقوة؛ فكلما قام لاعب سياسي بجهد عسكري ولو دفاعي، رأى اللاعب الآخر في هذا الجهد تهديداً له وحاول حشد المزيد من موارد القوة لموازنة خطوات الطرف الأول الذي سيرى بدوره في ذلك تهديداً فيعمل على تعزيز أمنه مجدداً وهكذا دواليك. تُعَدّ هذه المعضلة من أبرز العقبات التي تعترض إقامة نظام أمني مستقر في غرب آسيا. ويستلزم الخروج من هذه المعضلة بناء مجموعة ضمانات ذات صدقية وصمامات أمان تكسر هذه الحلقة المفرغة.

تحاجج هذه الدراسة أن القوى الأوراسية الفاعلة قادرة على التصدي لهذا الدور الذي لا بد منه، وهو ما يمكن تلمُّس بداياته في غرب آسيا خلال السنوات الأخيرة. علماً أن القوى الإقليمية في غرب آسيا والقوى الأوراسية تمتلك مصالح متبادلة للتعاون في إطار تأسيس نظام إقليمي يؤمن الاستقرار في غرب آسيا.

إن بناء أي نظام إقليمي وإدارته في غرب آسيا لا بد من أن يأخذ في الحسبان صعود لعبة الجيوبوليتيك في أوراسيا التي تؤدي في إحدى نتائجها إلى تصاعد اهتمام القوى الأوراسية الكبرى (الصين وروسيا وألمانيا)، بمنطقة غرب آسيا. ويتزامن هذا الصعود مع انكفاء نسبي للدور الأمريكي وتطور أدوار اللاعبين الإقليميين. على أننا في المقابل لا نتجاهل إمكان حدوث توترات متزايدة داخل المجال الأوراسي قد تنعكس سلباً على غرب آسيا؛ لذا لا بد من توفير صمامات أمان ذاتية للإقليم في نهاية المطاف. وفي هذا السياق قد تكون تجربة التعاون مع روسيا بخصوص الحرب السورية مدخـلاً مناسباً لتطوير هذا الإطار. فما بين العولمة النيوليبرالية والانعزال المميت يبدو الخيار الأوراسي أحد البدائل الجديرة بالاهتمام، ولا سيّما من باب المعضلة الأمنية في غرب آسيا.

إن تطور دور القوى الأوراسية، بالتحديد الصين وروسيا، في منطقة غرب آسيا قد يحفز التوازن والاستقرار داخل المنطقة، وهو دور يتكامل مع جهود قوى المقاومة في درء الخطر الإرهابي التكفيري وخلق بيئة كابحة للأطماع الصهيونية، وذلك لأسباب عدة منها: إشغال جزء من الانكفاء الأمريكي، لأنها قوى لها مصلحة في الاستقرار الإقليمي، ولا تمتلك نوايا توسعية بالمعنى الإمبريالي. وتشكل السياسات الأمريكية أبرز محفزات الفوضى والحرب في المنطقة بوصفها إما عوارض جانبية للسياسات التوسعية الأمريكية وإما نتائج متعمدة لهذه السياسات بغية استنزاف القوى الفاعلة وإعادة تشكيل خارطة النفوذ والتوازنات. ربما أدى الانكفاء الأمريكي إلى ظهور الفوضى على المدى القريب إلا أنه يشكل فرصة على المدى البعيد لاستعادة دول المنطقة لقرارها والتحول نحو سياسات عقلانية ولا سيَّما مع تطور أدوار القوى الأوراسية الوازنة آنفة الذكر.

تُبدي القوى الإقليمية انفتاحاً متزايداً على القوى الأوراسية مثل الصين وروسيا، وكذلك ألمانيا إن قررت أو دفعتها واشنطن لتعميق دورها الأوراسي بفعل سياسة الانكفاء والانعزال. هذا الانفتاح من القوى الإقليمية ذات الوزن الفاعل والمرتكزة على عوامل قوة ذاتية سيشكل حافزاً للقوى الأوراسية لتوسعة وتشبيك متزايد لمصالحها الجيواستراتيجية والاقتصادية في المنطقة وذلك من منطلق ندّي ومتوازن. ويمكن لقوى المجال الأوراسي الوازنة أن تشكل شبكة أمان وقناة اتصال وتبريد تُسهم في خفض مستوى العنف وإطلاق عملية لبناء الثقة المتبادلة ورعاية التسوية السياسية. إلا أن ذلك يستدعي انتقال القوى الإقليمية من ذهنية اللعبة الصفرية نحو مبدأ الأرباح المطلقة لا النسبية، أي أن كل طرف يقبل بمكاسب عملية التسوية ولو أدت إلى مكاسب موازية للمنافس أيضاً. وهذا الانتقال تحفزه التجارب المرهقة خلال السنوات الأخيرة؛ فالحرب تصنع الدول وعقلانيتها على السواء.

أولاً: معضلة الأمن في غرب آسيا

بدأ النظام الإقليمي الذي أرساه الأمريكيون في المنطقة بالتصدع منذ عام 2000، أي مع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت وطأة عمليات المقاومة. ثم تلقى هذا النظام ضربتين قاصمتين في 2003 – 2005 (فشل إقامة نظام بديل متعاون ومستقر في العراق)، وفي 2006 (العدوان الإسرائيلي على لبنان)، قبل أن يتهاوى في 2011 (الانتفاضات العربية). يمتاز وضع النظام الإقليمي في غرب آسيا حالياً بضمور بنى الدولة الوطنية وفشلها وتفككها وصعود الهويات الفرعية، وانكفاء الدور الأمريكي والغرب عموماً، واحتدام تنافس القوى الإقليمية، والميل المكثف نحو العنف، وغياب آليات التعاون وامتصاص الأزمات، وصعود الدورين الروسي والصيني، والحضور الوازن للقوى ما دون الدولتية في توازن القوى الإقليمي. يمكن اختصار كل ذلك بالحديث عن ظاهرتَي «انتقال» و«تشظي» القوة داخل غرب آسيا، وهما سمتان مصاحبتان للنظام الدولي ككل خلال الأعوام الأخيرة.

لقد عانت منطقة غرب آسيا ثلاثة انسدادات كبرى أعاقت نهوضها واستقرارها: فشل الدولة الوطنية على الصعد كافة من التنمية إلى السياسة؛ والتضخم الأيديولوجي المتطرف في المجال الاجتماعي – الثقافي؛ وسياسات الهيمنة الأمريكية والاحتلال الصهيوني. وقد عملت هذه الانسدادات على تغذية بعضها البعض إلى حد الاستنزاف الكارثي لموارد المنطقة البشرية والمادية ووضعها على حافة الانهيار التام. غير أن قوى المقاومة والاستقلال الوطني تمكنت من خلال إيجاد فجوات ونوافذ أمل في هذه الحلقة المدمرة من خلق فرص للخروج من هذا المسار المغلق بالتشديد على إمكان مواجهة الاحتلال والصمود بوجه الهيمنة والنضال في سبيل الاستقلال وتقديم خطاب منفتح وتصالحي مع الآخر في المنطقة وبناء شبكة مصالح متبادلة مع قوى دولية صاعدة.

كان خيار اللحاق بالغرب وعولمته ومؤسساته الدولية خياراً كارثياً على غرب آسيا، إذ وضع دوله وشعوبه وموارده تحت وصاية المصالح الغربية التي أمعنت في عملية إعادة خلق لهذا المجال الجغرافي ليؤدي أدواراً وظيفية تعمّق مشروع الهيمنة وتؤمّن استدامته ليكون منطقة خاضعة مجردة من قدرة المقاومة والمشاركة في صنع المصير، ومن ثم دمجها في استراتيجية الهيمنة الأمريكية ولا سيّما لجهة احتواء القوى الدولية والإقليمية الأوراسية الصاعدة، بالتحديد إيران والصين وروسيا.

يضاف إلى ما تقدم صعود النزعات القومية الانعزالية في الغرب التي تمثل ردة فعل عميقة على مسار العولمة النيوليبرالية، وهو ما يعكس رغبة غربية متزايدة بالانكفاء النسبي عن المسرح العالمي. ويرى الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، أن آلية التراكم الرأسمالي التي ترعاها العولمة الرأسمالية تتعرض لتحدٍّ جدي نتيجة صعود شرق آسيا، وهذه الآلية هي مفتاح الهيمنة الغربية وبقائها في مركز النظام العالمي وما يضمنه ذلك من عوائد ومردودات هائلة. هذا التحول يعزز اتساع مناطق الفراغ داخل النظام الدولي ويحفز أدوار جملة من القوى الدولية التي من الممكن أن تشكل بديـلاً لدول وشعوب غرب آسيا لتستكشف معها فرصاً ومصالح مشتركة تفتح أمامها مسار الخروج من الهاوية.

ثانياً: انزياح محور الصراع الدولي

إذا كانت أوروبا محور التنافس الدولي خلال الحرب الباردة، وكانت منطقة غرب آسيا والوطن العربي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فإن قلب أوراسيا وحافتها الشرقية تمثل اليوم قلب الصراع الدولي في سياق إعادة تشكيل النظام العالمي. ويقارب اللاعبون الدوليون الرئيسيون توازنات غرب آسيا من منظار أوراسي أي من منظار التنافس على الهيمنة على أوراسيا الصاعدة. وعلى هذا الأساس تصبح الاستراتجيات الشرق أوسطية للقوى الدولية ملحقة برؤيتهم لاستراتيجيتهم الأوراسية.

يخوض الأمريكيون والروس والصينيون تنافساً محتدماً، أصبح يُعرف بعودة لعبة الجيوبوليتيك، لحيازة الموقع الأول داخل المجال الأوراسي‏[1]، بعدما سادت لأكثر من عقدين فكرة نهاية الجغرافيا في عالم معولم يطيح الحدود والثقافات لمصلحة حضارة واحدة كونية تتزعمها الولايات المتحدة، ويشهد النظام الدولي في سنوات ما الأزمة المالية 2008، ردة عميقة على هذه العولمة الموعودة. ويبدو أن الصراع في أوراسيا بين هذه القوى سيسيطر على المشهد الدولي لسنوات قادمة وستحسم نتيجته هوية النظام الدولي لما بعد الأحادية الأمريكية.

يطمح الأمريكيون لإبقاء توازن قوى يمنع الروس أو الصينيين من الهيمنة على هذا المجال، أي منع ظهور قوة هيمنة إقليمية على أوراسيا. من المستحيل أن تحكم الولايات المتحدة العالم على الرغم من كونها قوة عظمى، فالولايات المتحدة تتحرك من خلال إدارة توازنات القوى الإقليمية. الولايات المتحدة ليست انعزالية، لكنها تتبنى الطرق البريطانية والرومانية والتدخلات المحدودة وتدعم بالمقابل القوى الإقليمية للحفاظ على التوازنات، وتحتفظ بالتدخل للحظة الأخيرة.

أما الروس فهم يسعون لحماية مجالهم الجيوبولوتيكي من وسط أوروبا إلى وسط آسيا من التمدد الأمريكي، ومنع الصين من الهيمنة على المنطقة الممتدة من شرق آسيا إلى وسطها. في سبيل ذلك، يعود الروس لترويج الفكرة الأوراسية كبديل للأطلسية والعولمة الأمريكية؛ فمن خلال دور قيادي أوراسي ستفرض روسيا شراكتها في النظام الدولي. أما الصين فتواصل صعودها وتعمِّق شراكاتها الاقتصادية داخل النطاق الأوراسي، فتسعى لمنع واشنطن من احتوائها في شرق وجنوب آسيا، للتوازن مع روسيا، كما تعمل على تعزيز دورها في غرب آسيا لتأمين مواردها الطاقوية والممار البحرية. أي أن الصين تسعى للفكاك من لعبة توازن القوى الإقليمية بالتركيز على فكرة الشراكة من مدخل اقتصادي وتستكشف بهدوء وذكاء مناطق «الغفلة» والفراغ الأمريكية وتزحف نحوها.

تستحوذ أوراسيا اليوم على أبرز الكتل السكانية في العالم، وأهم القوى الاقتصادية الصاعدة، وكذلك المخزون العالمي للطاقة، وتحوي أبرز الممارّ البحرية والتجارة الدولية، وقبل كل ذلك تمتلك جملة من القوى العسكرية النووية والتقليدية الأكبر في عالم اليوم ولا سيّما في ظل الضمور العسكري المتواصل للاتحاد الأوروبي.

إلا أن هذا القسم من العالم يعاني فجوات تنموية هائلة وأنظمة سياسية غير مستقرة وندرة في الموارد، ما دفع موقع «Geopolitical Futures» إلى التحذير من أن «عدم الاستقرار المستشري في أوروبا وآسيا وصل إلى معدّل لم يشهده العالم حتى خلال الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الثانية… واللااستقرار الذي سبق الحرب العالمية الثانية انتهى إلى حرب شاملة. أمّا عدم الاستقرار اليوم فيمكن أن يصعّد إلى حرب، وهذا الاحتمال غير مستبعد»‏[2]. وأشار التقرير إلى أنّ «المرة الأخيرة التي اهتز فيها الاستقرار كانت قبيل الحرب العالمية الثانية. وهذا لا يعني بالضرورة أننا متجهون نحو حرب جديدة في المنطقة، لكن لا شك في أننا دخلنا في مرحلة تاريخية جديدة، ونظام عالمي كله تغيرات ويحمل مخاطر متزايدة إلى حد كبير. ولا يبدو أنّ هناك قوة قادرة على احتواء الأزمات الحاصلة في الوقت الحالي. الاستنتاج الوحيد المتبقي هو تصاعد الأزمات في أوراسيا ما يعني إعادة تشكيل المنطقة كما حصل من قبل خلال الحرب العالمية الثانية.

ثالثاً: القوى الأوراسية في مواجهة واشنطن: حدود التوقعات

هل صحيح أن سلوكيات الدول الثلاث الصين، روسيا وإيران، التي تقاربت بوتيرة متزايدة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تسعى لإطاحة النظام الدولي أم مجرد تعديل موازين القوى فيه؟ هل أن النظام الدولي الحالي متماسك رغم الوهن الذي يعتريه أحياناً وهو عصيّ على الإطاحة؟ هل تشهد الساحة الدولية انفجاراً للصراعات الجيوسياسية أم أن النظام الدولي لا يزال يفرض قواعد اللعبة الناظمة له؟

يحاجج والتر ميد، أستاذ الشؤون الخارجية في كلية بارْد (Bard) في الولايات المتحدة الأمريكية، في أن الاندفاعات والطموحات المستجدة لكل من روسيا والصين وإيران تشير إلى عودة ظهور لعبة القوة التقليدية والجيوبوليتيك في محاولة لتغيير النظام الدولي. لقد أربكت أدوار القوى الثلاث النظام الأوراسي لما بعد الحرب الباردة، ومع أنها لم تنجح حتى اللحظة في تغييره، فإنها تهدد «الستاتيكو» الأوراسي القائم. في سياق مشابه يرجح كريستوفر هيل حصول مواجهة طويلة في أوكرانيا، لأن روسيا تتحدى «العالم الحر» كله وليس أوكرانيا وحدها. لذا لا بد، فضـلاً عن العقوبات، من حشد البنى الأمنية لعملية جذب طويلة الأمد لأوكرانيا نحو الغرب‏[3].

إلا أن ميد يعتقد أن القوى الثلاث رغم رغبتها في الحد من النفوذ الأمريكي، تفترق حول عدة مصالح استراتيجية داخل أوراسيا، وهو ما يرجّح أن تتنافس في ما بينها مستقبـلاً‏[4]. بل إن إيمانويل فالرشتاين يعتقد، انطلاقاً من أن «الوقائع الجيوبوليتيكية أقوى من الفروق الأيديولوجية»، بوجود قلق روسي – ألماني مشترك من تحالف صيني – أمريكي محتمل مستقبـلاً‏[5].

لقد تصدى جون إيكنبيري، بروفيسور السياسات والشؤون الدولية في جامعة برينستون، لأطروحة ميد ورفضها لأسباب عديدة؛ فالنظام الدولي الحالي مستقر وثمين أكثر مما يتصور ميد، وهو ما حداه على المبالغة في تقدير قوة وقدرة «محور السوس» على توهينه. ثم إن الصين وروسيا لا تهدفان إلى قلب النظام الدولي بل تستغلان بعض الظروف لتعديل موازين القوى فيه، لأن كلتا القوتين مندمجتان ومستفيدتان من النظام الليبرالي القائم ولا يمتلكان معاً لا الرؤية ولا الشرعية ولا القدرة لصوغ نظام بديل. ثم إن للولايات المتحدة أفضلية مهمة، وهي أنها ليست مستنزفة في لعبة التوازن مع جيرانها، بما يسمح لها بتوجيه مواردها نحو ما وراء المحيطات. أما القوى الأخرى الثلاث فغارقة في لعبة توازن قوى ضمن حيزها الإقليمي. فالصين وروسيا، حسب إيكنبيري، محاصرتان بقوى «ديمقراطية» ناشئة ملتزمة بالنظام الدولي ومنخرطة فيه، وبالتالي فإن أي محاولة لقلب هذه النظم سيضع روسيا في مواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها أيضاً.

إن الولايات المتحدة تقيم نحو 60 شراكة عسكرية، بينما روسيا نسجت 8 شراكات فقط، والصين مجرد شراكة واحدة مع كوريا الشمالية. ثم إن «صعود الطبقة الوسطى العالمية للدول الديمقراطية جعل من الصين وروسيا بمثابة الخوارج». ورغم ما قام به بوتين في جورجيا وأرمينيا وأوكرانيا إلا أن روسيا ليست في حال صعود بل تختبر أعظم «انكماش جيوبوليتيكي» تتعرض له قوة كبرى في العصر الحديث، كما يجادل إيكنبيري. الخلاصة أن على واشنطن تمتين النظام الدولي من خلال «الانخراط العالمي العميق» عبر التجارة والأحلاف والمؤسسات المتعددة الأطراف والدبلوماسية، بما يمكن الولايات المتحدة من ضمان مصالحها من خلال دور «القيادة» وليس من طريق ممارسة «القوة»‏[6].

وقد سبق لإيكنبيري أن كتب مع زميليه ستيفن بروكس ووليم وولفورث دفاعاً عن الانخراط الأمريكي العميق في النظام الدولي من باب أنه رغم تكلفة الانخراط إلا أن منافعه أكبر كثيراً، سواء في دعم استقرار النظام الدولي، وحفظ موقع أمريكا في الاقتصاد العالمي، والحد من الصراعات الإقليمية، إضافة إلى لجم أعداء واشنطن عن محاولة السعي لتحقيق توازن قوى بوجهها. إلا أنهم لم ينكروا الحاجة إلى تكييف السياسة الخارجية الأمريكية مع الظروف والتحديات الجديدة وتجنيبها المغامرات الطائشة‏[7]. تبدو أطروحة «متانة النظام الدولي» التي يقدمها إيكنبيري أكثر واقعيةً بوجه عام.

إن صح القول بأن هناك دولاً إضافية تندمج في النظام الدولي وفقاً للرغبة الأمريكية فمعظم هذه الدول من الديمقراطيات الناشئة غير المستقرة سياسياً واقتصادياً. ويبدو أن تشتت القوة الاقتصادية العالمية بعيداً من الثالوث التقليدي (الولايات المتحدة اليابان الاتحاد الأوروبي) سيحفز مع الوقت القوى الصاعدة نحو مزيد من الجرأة، بالتعاون والتعاضد، في المطالبة بحصص وصلاحيات أوسع داخل النظام الدولي تتناسب مع مسؤولياتها وقوتها على حساب الولايات المتحدة. وإن كانت القوى الثلاث تبدو مثل «السوس» إلا أن كثيراً من الشجر يبدو عتياً أمام الريح غير أنه لا يملك المناعة الكافية أمام التآكل الداخلي، في عملية طويلة الأمد.

إن تغير توازنات القوى داخل النظام الدولي الحالي وتكريس التعددية والقضم من هيمنة الولايات المتحدة، بالتوازي مع تنمية مشاريع تكامل إقليمي ونسج شراكات عميقة بين الدول المتضررة من دور الولايات المتحدة الحالي، تبدو جميعها حتى الآن أهدافاً واقعية وضرورية وقابلة للتحقق ضمن المدى المنظور. من ناحية أمريكا فهي بحاجة إلى إشغال القوى الدولية المنافسة بالصراعات وإنهاكها بلعبة التوازنات من خلال حلفائها إلى حين اكتمال عملية الترميم الداخلي لتصبح قادرة على إعادة تجديد هيمنتها على النظام الدولي. ولعلّ أعظم إشكالية يعانيها خصوم الولايات المتحدة بوجه عام هي في مقولة كيسنجر: الأمم لا تتعلم إلا بالتجارب… وعندما «تتعلم» أخيراً يكون الزمن قد فات على العمل.

رابعاً: الدوافع والمصالح للالتفات شرقاً

تتعدد مصالح قوى وشعوب غرب آسيا في السعي نحو تشبيك المصالح ومد الجسور مع القوى الأوراسية الوازنة، ولا سيَّما مع «صعود الإحساس بالقوة لدى المواطنين في المنطقة، فأصبحوا أكثر جرأة على مساءلة النظام الإقليمي الذي يقوده الغرب في المنطقة، والرؤى العالمية المعبَّر عنها من روسيا والصين تبدو جذابة وتخلق فرصاً جديدة لهذه الدول لممارسة النفوذ»‏[8]. وتمتاز القوى الأوراسية بإرث حضاري شرقي الطابع لا يهدد حضارات غرب آسيا بالذوبان والإلحاق، كما تبرز كقوى اقتصادية صاعدة لها مصالح واسعة مع المنطقة، سواء من ناحية منابع الطاقة أو من ناحية الممار الحيوية والأسواق. هذه المصالح المتبادلة يمكن أن تنتقل إلى مستوى متقدم من «الاعتماد المتبادل المركب»، وهو ما يعزز بدوره «دوافع الاستقرار والتوازن» لدى القوى الأوراسية.

للصين حاجة ملحة إلى الاستقرار الإقليمي الذي يضمن تدفقاً آمناً للنفط والغاز كما أن منطقة غرب آسيا تُشكل إحدى عُقد مشروع «الطريق والحزام الواحد» الذي يضمن وصولاً أسهل وأقل تكلفة للصين نحو أفريقيا وأوروبا. من جهتها، لروسيا مصلحة بالاستقرار من باب احتواء ظاهرة الإرهاب ذات الجذور السلفية كي لا تمتد إلى داخل روسيا ومحيطها الحيوي في آسيا الوسطى. والأهم أن صعود روسيا كضامن للاستقرار الإقليمي سيكرّس زعامتها الأوراسية ويعزز من فرص شراكتها داخل النظام الدولي. أما ألمانيا فتبدو مسكونة بالهواجس الأمنية للفوضى في غرب آسيا، ما يعني موجات من المهاجرين والإرهاب إلى قلب المجال الأوروبي كما أثبتت السنوات الأخيرة. فقد برز الدور الألماني في كل من الجهود السياسية للاتفاق النووي مع إيران والأزمة السورية، وهو ما دفع فرانك فالتر شتاينماير للإشارة إلى أن المانيا تسهم في مسؤولية المساعدة على بناء هيكل أمني جديد في المنطقة‏[9].

إذاً، يشكل موضوع «الاستقرار الإقليمي» نقطة تقاطع شديدة الأهمية بين دول وشعوب غرب آسيا والقوى الأوراسية. وتغيب النزعة الإمبريالية عن هذه القوى الأوراسية وهي بالأصل لا تملك الإمكانات الضرورية لمثل هكذا مشروع، بعكس اللاعب الأمريكي الذي أسهمت سياساته التوسعية وطموحاته الإمبراطورية في نشر الفوضى داخل الإقليم إما بكونه هدفاً مقصوداً ضمن سياسات «الفوضى البناءة» وإعادة هندسة البيئة الإقليمية وإرهاق قوى المقاومة فيها، وإما كمضاعفات جانبية لسياسات الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية. إن التباعد الجغرافي بين الولايات المتحدة وغرب آسيا يزيد لديها حس المغامرة بالفوضى واختبار نتائجها، بعكس حال القوى الأوراسية.

يضاف إلى ذلك، أن الانكفاء النسبي الأمريكي، المرشح للاستمرار مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خلق فراغات قوة في الحيز الإقليمي حفزت التنافس والصراع والفوضى. وتمر منطقة غرب آسيا بمرحلة انتقالية تجاه نظام إقليمي جديد وفق توزانات ومبادئ مستحدثة يجري ترسيمها غالباً من خلال الميدان كما في سورية والعراق واليمن وليبيا، والقدرة على حماية قوة الردع بوجه الكيان الصهيوني. وقد أثبتت أحداث «الربيع العربي» استمرار تراجع الدور والنفوذ الغربيين في المنطقة ويبدو التأثير الغربي على النظام الإقليمي الجديد محدوداً‏[10].

ولطالما اصطدم السعي الأمريكي لبناء منظومة أحادية في المنطقة بجهود قوى الاستقلال والمقاومة. إن فشل عدوان 2006 على لبنان ضاعف انهيار المشروع الأمريكي في العراق، وهو ما عنى أن الشراكة الاستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية لإعادة تصميم غرب آسيا أصبحت في مأزق عميق‏[11]. هذا التحول في ميزان القوى أتاح خلق بيئة مؤاتية للأقطاب الأوراسية في العودة لتطوير حضورها في المنطقة وهو أمر من شأنه موازنة الدور الأمريكي بل والتضييق على بعض مصالحه وتالياً سد الفراغات والمساهمة في الاستقرار الإقليمي.

إلا أن الاهتمام الصيني – الروسي بغرب آسيا يمثّل دافعاً آخر شديد الأهمية ويرتبط بالحاجة إلى إيجاد نقاط ضغط موازية على المصالح الأمريكية، لاحتواء التحشيد الأمريكي في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي وشرق أوروبا، أي على القشرة الخارجية لأوراسيا. وتعزز كل من الصين وروسيا دورها في غرب آسيا، كما تفعل روسيا في سورية، استناداً إلى قناعة مفادها أنه في سبيل الدفاع عن مصالحها ضمن مجالها الحيوي القريب يجب عليها أن تؤدي دوراً عالمياً‏[12]. لا بد من ملاحظة أن كـلاً من روسيا والصين أطلقت مساراً من «التوزان الناعم»‏[13] منذ أحداث «الانتفاضات العربية» وهو توازن بدأ يأخذ أحياناً شكـلاً صلباً من خلال الدعم العسكري لخصوم الولايات المتحدة في غرب آسيا‏[14].

خامساً: نموذج روسيا والدور الإقليمي في غرب آسيا

كيف يمكن تعريف دور روسيا في الشرق الأوسط في حقبة ما بعد التدخل السوري؟ بمعنى آخر ما هي حدود طموحات القيادة الروسية في المنطقة، ولماذا؟ لا شك في أن السؤال سجالي وحيوي في دوائر صنع القرار والأكاديميا والتحليل، وتسمح الإجابة عنه بتقدير حدود الدور الروسي المتوقع داخل المنطقة والمشرق العربي خصوصاً.

يمكن المحاججة أن روسيا تطمح إلى حيازة موقع «ناظم وضامن الاستقرار الإقليمي في غرب آسيا»، أي أن روسيا لا تسعى للاصطفاف الصلب ضمن أي من المحاور المتنافسة، ولا تحدي الولايات المتحدة على نحو مفتوح، ولا محاولة الحسم العسكري. بإيجاز تسعى موسكو لنيل كرسي الشراكة في النظام الدولي مع الغرب من خلال البوابة الأوراسية التي تمثل «الجائزة الجيوبوليتيكية الرئيسية» لأمريكا وفقاً لبريجينسكي‏[15].

يبدو الرئيس بوتين، على عكس ما يحاول الإيحاء به، قائداً شديد الواقعية ومتواضعاً في تقدير قوته كما يظهر بوضوح من خطواته السورية. تقوم السياسة الخارجية الروسية من أوكرانيا إلى سورية على الحد من الخسائر وتثبيت خطوط تماس والتفاوض في نهاية المطاف. ثم إن استعراضات القوة العسكرية المبهرة لا تخدع صانعيها، وتبقى صورة القوة الحديثة المتوثبة والطامحة صورة بالنسبة إلى صانعها، لكن يراد لها أن تربك وترهب منافسي موسكو وأعداءها. تدرك موسكو فجوة القوة الهائلة بينها وبين واشنطن، ومواضع الوهن البنيوي الجوهرية في الداخل الروسي، وكذلك خطورة وتعقيدات البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط. فضـلاً عن أن المعركة السورية ساهمت في ضخ مزيد من النضج والحذر في العقل الروسي، كما عقول جميع المنخرطين في هذه الحرب. العقل الروسي بالأصل مؤهل بفعل التجربة والخبرة والممارسة والمؤسساتية ليلعب أدواراً باردة.

بناءً على ما تقدم، تتجسد المصلحة القومية المركزية لروسيا في المنطقة والعالم في الانتقال إلى مقعد الشراكة في إدارة النظام الدولي وأن يُعترف لها بهذا الدور، أي التخفيف من أحاديته قدر المستطاع لا تحطيمه، كما يتصور البعض أو كما يروّج بعض اليمين الأمريكي لتبرير سياسات عدائية ضد موسكو. تتيح هذه الشراكة لروسيا ممارسة قيود على الدور الأمريكي ونفوذ داخل مؤسسات هذا النظام المالية والسياسية وتثبيت ذاتها كقوة دولية لا إقليمية فقط كما تطمح واشنطن، وخلق نطاقات إضافية لمصالح مشتركة مع القوى الصاعدة في النظام الدولي. إلا أن المدخل المفترض للحصول على مقعد الشراكة هو محط انقسام في موسكو، بين من يبغونها من بوابة الاندماج بالغرب واللبرلة وبين التيار الأوراسي الذي يميل إليه بوتين ويعبّر عنه تنظيرياً ألكسندر دوغين.

في ظل تفوق التيار الأوراسي تكون موسكو بحاجة إلى تحقيق توازن داخل أوراسيا بوجه ثلاث كتل أساسية هي: الاتحاد الأوروبي وحلفاء واشنطن في شرق وجنوب آسيا والصين؛ وهو توازن يمكن أن يتحقق بتحالف استراتيجي مع أي من هذه الكتل الثلاث، وهذا ما يبدو متعذراً مع الركيزتين الأمريكيتين (الاتحاد الأوروبي – جنوب شرق آسيا)، فيما التحالف مع الصين ليس مضموناً ولا ندياً. إن تطوير روسيا لموقعها الأوراسي يفرض عليها تطوير وضعيتها أمام هذه الكتل الثلاث إما لاحتوائها أو لبناء علاقات أكثر ندية وإما لردعها. من هذا المنطلق تحتاج روسيا إلى التموضع في الشرق الأوسط أي غرب آسيا، لكن وفق أي هدف؟

في ظل عجز روسيا عن الهيمنة على هذه المنطقة أو التورط في حروب طويلة الأمد، يبدو أن بوتين يسعى في السنوات الأخيرة إلى: أولاً، تقاسم إدارة الفوضى والفراغ في المنطقة أثناء المرحلة الانتقالية في الإقليم؛ وثانياً، ضمان الاستقرار والتوازن في مرحلة ما بعد ولادة النظام الإقليمي الجديد. هذه الأدوار الروسية تتطور على حساب الولايات المتحدة فيما التنافس بين الدولتين في الإقليم يتناول حجم الحصص حالياً. مثـلاً يظهر أن الأمريكي حاز حصة إدارة التوازنات في شمال شرق سورية، بينما يدير الروسي توازنات «سورية المفيدة». كما أن الروسي أصبح شريكاً أساسياً، إلى جانب واشنطن، في بناء مسار لإدارة التوازن بين الرياض وطهران.

أي أن موسكو تسعى لتكريس وجودها في المنطقة باعتبارها «ناظمة للاستقرار والتوازن الإقليمي». لذا، لا تهدف أي خطوة روسية عسكرية إلى تكريس انتصارات حاسمة، بل هي بمنزلة إجراء تأديبي أو زجري لإجبار الآخر على التسليم لموسكو «بحقها وقدرتها» على أداء هذا الدور الإقليمي. ما تقدم لا ينفي حقيقة أن موسكو أقرب إلى «محور المقاومة» ولكن من دون أن تكون جزءاً منه، إنما هو تموضع إلى جانب القوة التي أثبتت نديتها بوجه واشنطن والتي أنقذت موسكو من تنازلات «جنيف واحد». وتطمح موسكو لموقع «ما فوق المحاور» عبر التشبيك، بنسب مختلفة، مع القوى الإقليمية جميعها من دون استثناء، أي مع تركيا وإيران ومصر والسعودية والكيان الصهيوني، مع ما يستلزمه ذلك من عمليات تفاوض ومساومة دائمة.

إن نجاح موسكو في تكريس هذا الدور في غرب آسيا يمنحها ميزة تفاوضية كبرى مع الكتل الأوراسية جميعها، إذ يمكنها، من خلال الإمساك بورقة الاستقرار والتوازن الإقليمي، ردع الأوروبيين في شرق ووسط أوروبا وجذب الصينيين لعلاقات متوازنة وفرض الشراكة الكاملة على واشنطن في «دورها التحكيمي»، وهو الدور الذي رأى بريجينكسي، منذ التسعينيات، أنه ينبغي على واشنطن أن تتأكد دوماً من عدم قدرة أي قوة على التقليل منه داخل أوراسيا.

خاتمة

إن الخيار الأوراسي لم ينضج بعد، لذا يمكننا المساهمة في تطويره من خلال فهمنا لأهدافنا ومصالحنا وظروف المنطقة، والمساهمة في النقاش حوله مع القوى الأوراسية. وننطلق هنا من فرضية أن «الجغرافيا هي مجرد منتج لمخيلتنا وأن الفضاء الأوراسي مبني اجتماعياً»، فمن خلال إعادة تعريف الجيوبوليتيك بتقديمه «كخطاب ذي طموحات تأسيسية مميزة للعالم حيث تستخدم الاستعارات والصور المرئية في عملية صنع قصص وبناء صور للسياسة الدولية»‏[16]. ويبرز هذا البناء الاجتماعي للجيوبوليتيك بوضوح من خلال عرض الباحثة أمينة مصطفى دلة لاتجاهات الفكر الأوراسي الخمسة، من المدرسة الديمقراطية المتكيفة مع الهيمنة إلى الغربية، إلى مدرسة حفظ التوازن الأوراسي وصولاً إلى المدرسة الأوراسيانية التوسعية‏[17].

أي إننا بحاجة إلى جهد لإعادة بناء هوية وقيم مشتركة مع عمقنا الآسيوي من دون ذوبان، فالدول بحسب النظرية البنائية (Constructivism)، قادرة من خلال إعادة بناء معنى الأفكار والمعايير التي تحكم النظام الدولي والإقليمي على أن تُشكل تصرفات هذا النظام‏[18]. وبالتالي، يمكن البدء بعملية بناء هوية أوراسية مشتركة تماثل ما قام به الأوروبيون والأمريكيون في بناء هوية أطلسية مشتركة. فالأفكار والقيم عندما يعاد تشكيلها يمكن أن تعيد تعريف وتحديد طبيعة البنى المادية التي تعود بدورها لتؤثر في تلك الأفكار والقيم. والبنائية قادرة على شرح التغير والتحول في العلاقات الدولية وتقديم بدائل وفق ما ينبغي أن يكون على عكس المدرسة الواقعية التي تكتفي بتفسير الواقع كما هو والتي تتعامل مع مفاهيم العلاقات الدولية باعتبارها أمراً ثابتاً. ذلك بأن البنائية لا تنطلق من المصالح، مثل النظريات التقليدية في العلاقات الدولية، بل من الأفكار والقيم التي تُشكل المصالح القومية. ومن خلال ذلك يمكن لدول المنطقة وقواها إعادة تعريف مصالحها بما يتناسب مع كون هذه المنطقة هي «غرب آسيا» وليس «الشرق الأوسط». هنا تظهر مسؤولية النخب ومراكز القرار في تقديم خطاب جديد يبث قيماً وأفكاراً تعزز الهوية الآسيوية للمنطقة وتظهر عمق صلاتها ومصالحها من الأمن إلى الثقافة مع العمق الأوراسي. إن العولمة النيوليبرالية والتحالف الأطلسي ليسا قدراً بل إنهما يتعرضان حالياً لتحدٍ داخلي غير مسبوق يهدد شرعيتهما واستمراريتهما. لا بد من تعزيز الحوار والتواصل مع القوى الأوراسية الوازنة وبناء جملة من المفاهيم والقيم المؤسسة وهو جهد ينبغي أن يشمل المستويات الرسمية وما دون الرسمية في آن واحد.

في هذا السياق دأب مرشد الثورة الاسلامية في إيران السيد علي الخامئني على التشديد على الطابع الآسيوي للمنطقة «التي يصرّ الأوروبيون على أن يطلقوا عليها اسم الشرق الأوسط، وهو شرقٌ بالنسبة إلى أوروبا بحسب مقياسهم، وعلى هذا الأساس يقسمون المنطقة إلى شرق أقصى وشرق أوسط وشرق أدنى، وهذا يدلّ على تكبر الأوروبيّين، حيث أطلقوا منذ البداية على هذه المنطقة اسم «الشرق الأوسط» وهو اسم مغلوط، وتعتبر هذه المنطقة غرب آسيا. فإن آسيا قارة كبيرة ونحن نعيش في غربها»‏[19]. وقد عقد في كانون الأول 2016، مؤتمر «طهران الأمني الأول» في العاصمة الإيرانية تحت عنوان «نحو نظام أمني إقليمي في غرب آسيا».

هذا الجهد في صوغ هوية مشتركة مع المجال الأوراسي لا بد من أن يكون متبادلاً بين قوى غرب آسيا والقوى الأوراسية. من شأن مساهمة قوى غرب آسيا في هذا الجهد أن يضمن أخذ مصالحها ودورها بعين الاعتبار. وتتحمل القوى الإقليمية في غرب آسيا مسؤولية خلق مناخ إقليمي يحتضن الفكرة الأوراسية كما تراها، وهذا ما سيسهم في رسم حدود تدخل القوى الأوراسية ومنعها من استخدام المنطقة للتنافس ومساعدتها على صوغ آليات للتعاون والشراكة في ما بينها. إن ذلك يسهم في تفادي تهديدين محتملين لا بد من أخذهما بعين الاعتبار بناءً على التفكير بمنطق السيناريو الأسوأ: إما أن تتجه القوى الأوراسية نحو منطق الهيمنة داخل غرب آسيا، أو أن يتحول الإقليم إلى ساحة صراع بين القوى الأوراسية.

 

قد يهمكم أيضاً سياسة روسيا الخارجية اليوم: البحث عن دور عالمي مؤثر

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القوى_الأوراسية #غرب_آسيا #الأمن_في_غرب_آسيا #اللاعبين_الاقليميين #إيران #الصين #ألمانيا #روسيا #التوازن_الإقليمي #القوى_الإقليمية #النظام_الدولي