تلتقي أغلب الكتابات التي تنحو منحى التأريخ للعصر العربي الحديث، رغم اختلافاتها المنهجية والأيديولوجية، عند نقطة واحدة، هي القول، بأن بداية عصر النهضة العربية كانت مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وإذا شئنا الدّقة أكثر نقول: ˝… إنَّ تاريخ استيقاظ العرب من سبات عميق دام ستة قرون تقريباً، يؤرخ مع حملة نابليون على مصر عام 1798، وكذلك مع انطلاقة مشروع محمد علي باشا في بناء دولة مركزية حديثة على أرض الكنانة سنة 1805..[1] ̏

هذا من النَّاحية الزمنية، أمَّا من النَّاحية المكانية، فالرقعة الجغرافية التي شهدت بزوغ الخيط الأول لفجر النهضة العربية هي عموماً المشرق العربي، وبخاصة سورية، ولبنان ومصر. ثم تركزت نشاطات النهضويين الشوام في القاهرة، ولا سيَّما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك لأسباب سياسية بالدرجة الأولى، أهمها الاضطهاد العثماني للعرب المسيحيين.[2] ولهذا، كان من الطبيعي جداً أن تبزغ مؤشرات التَّمدن، وتلوح في الأفق تباشير اليقظة، على عدَّة مستويات، وبخاصة على المستوى الثقافي، من ناحية التجديد في اللغة والأدب، والأهم من ذلك التجديد في الفكر، بالإضافة إلى محاولات الإصلاح الإداري، السياسي والاجتماعي[3].

ولا شكَّ في أنَّ هؤلاء النُّشطاء في حقول الأدب، والفكر، والصحافة، قد حاولوا في حدود إمكاناتهم والنظام الإيبيستيمي السائد عندهم وقتذاك، ومستوى الإدراك والمعرفة والفهم والوعي التاريخي، أن يؤسسوا لمشروع نهضوي عربي متكامل إلى حد ما، بكل أبعاده السياسية، وجوانبه الثقافية وحتى الاجتماعية. وأي قراءة جادَّة وموضوعية لهذا المشروع، لا بدَّ من أن تأخذ بعين الاعتبار الإطار التاريخي والحدود المعرفية للفكر العربي في تلك الحقبة. وعندما نقول إن ملامح النهضة، قد ظهرت بوضوح في المشرق العربي، فهذا لا يعني عدم وجود مؤشرات للنهوض في المغرب العربي، بل بالعكس، هناك محاولات لتجاوز التأخر، سواء من خلال الإصلاح السياسي أو من طريق التجديد الفكري[4]، أو حتى من خلال المقاومة المسلحة في الجزائر.

ولهذا لا نجانب الصواب إذا قلنا، إن عصر النهضة العربية بدأ بالفعل وبالقوة، مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ففي هذه الفترة الدقيقة من التاريخ العربي، وقعت مجموعة من الأحداث التاريخية البارزة ، التي كلها تٌؤشر على بداية عهد جديد ،ونهاية مرحلة تاريخية بأكملها.[5] الفكر العربي النهضوي هو تعبير عن ذلك العصر، والفكر شئنا أم أبينا هو انعكاس للواقع. كما تجدر الاشارة إلى أن الفكر النهضوي هو فكر سياسي بالدرجة الأولى، وبما أن السمة الأساسية لأي فكر سياسي هي الانقسام والاختلاف، فإن الخطاب السياسي النهضوي، سرعان ما انقسم الى تيارين أيديولوجيين متناقضين، كل التناقض، تيار ليبرالي- علماني وتيار إسلامي-سلفي.

وأعتقد اعتقاداً جازماً، أن هذا الانقسام كان وما يزال هو العقبة الكأداء أمام دخول المجتمعات العربية إلى الحداثة الكونية بالمعنى الحقيقي، وليس الحداثة البرانية. والسؤال المطروح: هل كان السياق التاريخي الذي تكوّن فيه الخطاب النهضوي عاملاً من عوامل اﻹنقسام الأيديولوجي؟

هذا ما ستجيب عنه هذه المقالة.

 

أولاً: حملة.. فصدمة، فمحاولة للنهوض

من الأحداث التاريخية الكبرى التي لا جدال في أهميتها ومفصليتها، حملة نابليون على مصر عام 1798 والتي مثلت منعطفاً تاريخياً حاسماً، لأنها كانت أول لقاء رسمي بين الشرق والغرب، لأن هذا التاريخ كما يقول عالم اجتماع عربي معاصر: ˝.. يمثل المجابهة المباشرة بين الغرب والشرق، أو بالأحرى بين الخلافة العثمانية وأوربا الصناعية ، في المشرق العربي. وبين مصر وإنجلترا ، وبين المغرب العربي وفرنسا، وباعتباره بداية انتشار التعليم والصحافة، وتوسع الإحتكاك بالغرب.. ̏[6].

أمَّا نحن فنقول، إضافة إلى ذلك، إنَّ هذه الحملة العسكرية كانت بالفعل أول احتكاك حقيقي بين الإسلام والغرب، وأول صدام بين الحضارة الأوروبية الصاعدة والحضارة العربية/الإسلامية التي أفل نجمها منذ قرون، والتي كانت مجتمعاتها غداة عصر النهضة العربية ملفوفة في بطانة التقليد والسلفية ومثقلة بالجهل والخرافة ومكبلة بالاستبداد الشرقي. كانت هذه الحملة، بالنسبة إلى العرب، بمثابة صدمة حضارية، لأنها جعلتهم يكتشفون شيئين: تقـدم الآخـر (الغرب/أوروبا) في كل المجالات، وتخلف الذات (العرب/الشرق) في كل الميادين، من هنا كانت الصدمة قوية، كما كانت الحملة عبارة عن جسِّ نبض للوطن العربي لمعرفة مدى قابليته للاستعمار، ومدى قدرة شعوبه على المقاومة. ولهذا لم يَـدَّعِ نابليون- كعادة الاستعمار- أنه جاء غازيا أو محتلاً، بل قدَّم دعاوى متعددة، ومبررات متنوعة، يسوّغ بها دخول جنود فرنسا أرض مصر المحروسة، أولى هذه الدعاوى تحرير الشعب المصري من المماليك الطغاة، وآخرها كانت، نشر الحضارة الأوروبية في دار الإسلام، وتنوير الرأي العام المصري[7].

والحقيقة أنَّ الدافع الرئيس لهذه الحملة العسكرية، كان دافع اقتصادي، هو امتلاك الطريق البري نحو الشرق، ومنافسة طريق رأس الرجاء الصالح. وبالتالي يدخل الغزو في إطار التنافس الاستعماري الشَّرس بين فرنسا وإنكلترا، لأن استيلاء الإنكليز على رأس الرجاء الصالح قد جعل وصول السفن الفرنسية إلى الهند محفوفاً بالمصاعب، ومحاطاً بالمخاطر، كما جاء في بيان الحكومة الفرنسية آنذاك[8].

وانتهت الحملة الفرنسية، أو بالأحرى اندحر جيش نابليون بعد مقاومة شعبية باسلة، وخرج آخر جندي فرنسي من مصر عام 1801. وغني عن البيان القول، أنه رغم المدة القصيرة التي استغرقتها هذه الهجمة العسكرية (1798-1801) إلا أنها تركت آثاراً عميقة في نفوس ووجدان المصريين. ولا يتوقف الأمر عند الأثر النفسي ، بل يتعداه إلى الأثر الثقافي الفكري واللغوي، حيث وضعت هذه الحملة البصمات الأوروبية على الجسم الثقافي/ الفكري المصري والعربي، وأحدثت زلزالاً في الوعي السياسي العربي، كما أنها رسمت خريطة الطريق لمستقبل مصر والمنطقة العربية برمتها[9].

وفي أعقاب اندحار الحملة الفرنسية، صدر قرار من الباب العالي العثماني في الاستانة بتعيين الضابط محمد علي، والياً على مصر، سنة 1805، وفور تعيينه شرع في توطيد أركان حكمه وتدعيم أسس نظامه. كما انطلق في بناء الدولة المصرية الحديثة.

ولا شك في أنَّ الكثير من مظاهر الحداثة في مصر، مدينة لهذا الوالي، والتي لا تعدُّ ولا تحصى، من بينها اهتمامه الشديد ببناء جيش مصري عصري، قوي وقادر على صدِّ أيِّ عدوان خارجي، وفي نفس الوقت على أهبة الاستعداد لخوض الحروب والغزوات. ولتــدعيـم قوة الجيش، كان لا بدَّ له من اقتصاد قوي، وهذا ما تفطّن له ̋ الجنرال/الباشا̏ منذ البداية، فأنشأ لذلك مصانع كبيرة، ومتعددة لسدّ حاجات الإدارة والجيش، كما عني بالزراعة عناية خاصة. كما اهتمَّ اهتماماً كبيراً بالـرَّيِّ، فعمل على تجديد وترميم نظام الرَّي الذي أهمله المماليك طويلاً. وهكـذا نشطت التجارة، وانتعشت الفلاحة، فوقع ما نسميه اليوم الازدهار الاقتصادي الذي يؤدي إلى الاستقلال السياسي. وفي مجال التَّعليم والصِّحـة، واصل̋ الجنرال̏ جهوده التحديثية، فأنجز العديد من المدارس، المعاهد، العيادات والمستشفيات، وأرسل العديد والعديد من البعثات العلمية للتعلّم وإكتساب الخبرة، والاستفادة من التَّقدم الهائل الذي حقَّقته أوروبا وخاصة في فرنسا. ومن أبرز مـن سافـر مع البعثة العلمية في تلك الحقبـة كإمام للبعثة، رفاعة رافع الطهطاوي(1803‑1873). ولكن، وكما جاء في العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فإنَّ الإنجازات ولو عظيمة في ظلِّ سلطة الحاكم/الفرد، وحكم مطلق، تنهار بسرعة، وهذا بالضبط ما حدث مع دولة محمد علي، الذي يبدو أنَّ طموحاته كانت أكبر من قدراته، كما كان ينقصه الدهاء السياسي في التعامل مع الدول الأوروبية الكبرى، بدليل أنَّه لم يأخذ مأخذ الجدِّ، أطماع هذه الدول الاستعمارية/الإمبريالية، وبخاصة إنكلترا، ولم ينتبه إلى أنَّ الدولة العثمانية كانت تعاني مرضاً عضالاً، أقعدها الفراش. والنتيجة التي نخلص إليها، أنَّ الاستبداد السياسي، والتَّدخل الخارجي، عجَّـلا بضرب دولة/الباشا أولاّ عام 1840، وثانياً بسقوط دولة الخديوي فريسة سهلة في قبضة الاحتلال الإنكليزي عام 1882، والذي بقي جاثماً على أرض الكنانة إلى غايـة قيام ثورة الضباط الأحرار عام 1952. وهكذا عـاش الشعب المصري الظلم مُضاعفاً، فهو من ناحية يعاني أصلاً النظام الملكي الاستبدادي، ومن كبار الملّاك الإقطاعيين الذين كانوا يعاملون الفلاحين معاملة العبيد، كما اكتوى بنار الإمبريالية الصاعدة والاستعمار الذي لا يرحم. وكما لا يخفى على أحد، فالاستعمار ليس مجرد جنود وعساكر وأسلحة، بل هو نظام يسعى للسيطرة سياسياً والاستغلال اقتصادياً والهيمنة اجتماعياً وثقافياً.

وبالفعـل، فإنَّ الاستعمار الأوروبي ساهم مباشرة في تكريس الاستبداد السياسي، وفي تشويه البناء الاجتماعي، وفي خلق نخبة ثقافية مُقَـاوِمَـة، تدحرجت في فكرها من الانبهار بالحضارة الأوروبية والقول بأن الإسلام لا يتعارض مع الحداثة كما كان يعتقد الشيخ محمد عبده إلى رفض الفكر المعاصر والثقافة الحديثة، كما كان يصرح به خطاب الشيخ محمد رشيد رضا، إلى رفع شعار الإسلام دين ودولة كما كان حال دعوة حسن البنا.

ما نبغي تأكيده ههنا أن الفكر الإسلامي كان نهضوياً في بداياته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع الطهطاوي والتونسي والأفغاني ومحمد عبده، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت نبرة الخطاب تتغير وبدأ منسوب التطرف يرتفع، في النصف الأول من القرن العشرين، مع محمد رشيد رضا في كتابه الخلافة أو الإمامة العظمى الذي كان بداية الإنقلاب على فكر الإصلاحية العربية[10]، وازداد تطرفاً مع سيد قطب في كتيبه معالم في الطريق الذي هو بمثابة ʺمانفيستوʺ حركات الإسلام السياسي، ومع محمد قطب في مؤلفه جاهلية القرن العشرين، ومحمد فرج عبد السلام في كتيبه الفريضة الغائبة.

ثانياً: تنظيمات في المركز.. وإصلاحات في الأطراف

ولا يمكن أن تكتمل الصورة، إلاَّ بالحديث عمَّا جرى في هذه الحقبة التي نحن بصددها في الشام وتونس والدولة العثمانية. صحيح أنَّ الحدث الأبرز هو حملة نابليون على مصر 1798 كبداية للنهضة العربية الحديثة. وصحيح أيضا أنَّ التجربة الأكبر هي تجربة محمد علي باشا في بناء دولة مركزية حديثة، ولكن لا يجب أن نتغافل عن الأحداث التي جرت في الشام والإصلاحات التي كانت تتم على قدم وساق في كل من تونس، وفي مفاصل الدولة التركية، أقصد، الإمبراطورية العثمانية التي بلغت مرحلة متقدمة من الترهل والتفسخ ودرجة عالية من التفكك.

من مكر التاريخ، أنه عندما بدأت تظهر أعراض المرض على الإمبراطورية العثمانية، كانت هناك قوى أوروبية استعمارية صاعدة. ومن هذا المنطلق حاول السلاطين منذ القرن السابع عشر، وعلى امتداد القرن الثامن عشر إيجاد حلّ للتقهقر العسكري الذي أصاب المؤسسة العسكرية العثمانية.. كانت المسألة تنحصر في إيجاد الإدارة العسكرية الصالحة للسلطنة؛ذلك أنَّ هذه الأداة التي كانت في الأساس قوة السلطنة وتوسعها في المراحل الأولى، أضحت في المراحل اللاحقة، ولا سيَّما ابتداءً من القرن السابع عشر العقدة التي تشابكت بداخلها مشاكل الخلل الإداري والمالي في السلطنة، لذلك انصبت الأفكار والجهود منذ مطلع القرن السابع عشر، وحتى مطلع القرن التاسع عشر – وبالتحديد حتى عهد السلطان “سليم الثالث” (1798-1807) – على إصلاح المؤسسة العسكرية إصلاحاً يتناسب مع المثل الأوروبي في نشأة الجيش النظامي.. وكان ذلك يعني على صعيد الخطوات العملية، وكما تمثلت بخطوات السلطان محمود (1808-1839) الاستغناء عن دور الانكشارية، والاستعاضة عنه بفرق نظامية جديدة، والتخفيف من دور المؤسسة الدينية المتمثلة بمشيخة الإسلام التي كانت تقدم لأعمال الانكشارية أحياناً التغطية الشرعية من طريق الفتاوى، والبدء بسياسة مركزية من شأنها ربط الولايات بالمركز والقضاء على نفوذ العصبيات المحليَّة فيها، ولا سيّما بعد تجربة قيام الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، وحركة محمد علي باشا في مصر وبلاد الشام، والأسرة القرمنلية في طرابلس الغرب..̏ [11].

بالفعـل، قام السلاطين بإصلاحات داخل العمود الفقري للدولة، وهو المؤسسة العسكرية، حتى يتحول الجيش من الإنكشارية (ميليشيات) إلى جيش نظامي شبيه بالجيوش النظامية الحديثة في أوروبا الغربية. كما مسَّ الإصلاح المؤسسة الدينية، بالحدّ من نفوذها داخل الدولة. وهذه الإصلاحات لم تقتصر على الجانب العسكري والديني فقط، بل شملت عدّة قطاعات. ولكــن مـا يعاب على هذه التنظيمات، أنها جاءت متأخرة جد̋ا، ثم أنها كانت مجرد ردّ فعل واستجابة لضغوط النظام العالمي المُتَمركِـز في أوروبا، كما أنها لم تصل إلى بنية نظام الحكم التَسلُّطَـي. وبعبارة أخرى، كان هناك إصلاح إداري، لكن الإصلاح السياسي الحقيقي، كان غائباً، الإصلاح الذي ينتقل بعلاقة الحاكم والمحكوم من مستوى الراعي والرعية إلى مستوى أكثر تطوراً. وحتى الامتيازات التي مُنِحت لبعض الملل والنحل داخل الإمبراطورية العثمانية، كانت نتيجة لضغوط كبيرة مارستها الإمبريالية الصاعدة على الاستانة في إطار حسابات تخدم دول المركز الأوروبي.

والفكرة التي نخلص إليها، أنَّ ما كان غائباً في هذه الإصلاحات هو ما كان مطلوباً بدرجة أكبر، وهو الإصلاح السياسي، وكذلك تجديد الخطاب الديني السني الذي كان مقيداً بسياج الإتباع والتقليد، ولكن رغم ذلك تركت هذه الإصلاحات بعض البصمات الإيجابية، وغرست بعض بذور الحداثة السياسية. وفي هذا السياق يقول باحث أكاديمي: ̋ إنَّ التشريعات الأساسية للتنظيمات لم تؤسس نظاماً ديمقراطياً، ولا هي أثبتت العلمانية مبدأ مرتبطاً بالديمقراطية ارتباطه بتحرّر الفكر الفردي من أيَّ سلطة غير سلطة الضمير الفرد، ولكنها بذرت بذوراً ترعرعت، وأفضت إلى الحركة الدستورية في إستانبول والقاهرة، في فترة لاحقة عندما أفضت هذه التنظيمات إلى بروز فئة جديدة من المثقفين المرتبطين بعملية التحديث السياسي والإداري̏[12].

وفي منطقــة الشام، التي كانت في التقسيم الإداري ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية، وإن خضعت في فترة من الفترات لحكم محمد علي باشا، فلقد استفادت من هذه الإصلاحات من حيث “.. فسح المجال أمام القوى الاجتماعية التجارية الجديدة، ذات الانتماء غير الإسلامي أن تحمل مواقع مهمة في الهيكلة الإدارية الجديدة..” [13]. كما استفادت هذه الفئات والطوائف من امتيازات في التعليم، وخدمات اجتماعية أخرى… ومن حيث إنَّ هذه التنظيمات كانت تستهدف إنقاذ الإمبراطورية من الضياع، فقد خففت من مركزية السلطة على هذه الولايات. من جانب التقسيم الإداري الجديد الذي يمنح بعض السلطات والصلاحيات للوالي والهيئات المحليَّة الحاكمة. كما تمَّ تنظيم القضاء وفق صيغ جديدة، وإن تمَّ الانتقاص من سلطة القاضي. ولكـن كـلّ هذه الإصلاحات لم تمنع من وقوع مذابح 1860 في لبنان، لكنها لم تمنع كذلك حركـة النشر والطباعة، ونشاط الإرساليات التبشيرية، والاحتكاك بالحداثة الأوروبية بأشكال مختلفة، بما فيها الشكل الاستعماري السافر. هذا المناخ الإصلاحي هو الذي سمح ببروز أسماء لامعة في الأدب واللغة والفكر والصحافة خاصة في الأوساط المسيحية، وأغلب هذه الأسماء هاجرت إلى أرض الكنانة حيث المناخ ̋ الليبرالي̏ الذي يوفر الحرية والأمان، نذكر منهم فرح أنطون وشبلي الشميل وجرجي زيدان… إلخ.

وفي تونس التي كانت تابعة هي الأخرى للإمبراطورية العثمانية، وإن كانت تتمتع بما نسميه اليوم الحكم الذاتي، وفي المقابل تدفع الجزية للسلطة المركزية في الاستانة، لكنها كانت تدير بنفسها شؤونها الخاصة،وإلى حدٍّ بعيد علاقاتها الخارجية؛ وقد مارس السلطة، منذ القرن السابع عشر فريق عسكري محليّ، ومنذ القرن الثامن عشر آل الحسيني التي إنبثقت من هذا الفريق وشغلت منصب الباي. وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، واجه الباي إنحطاطاً في النظام والأمن وإتساعاً في النفوذ التجاري الأوروبي، فسارع إلى استعادة سلطته بإنشاء جيش حديث، وبتغيير أساليب الإدارة، وبتشجيع التجار الأجانب على الإقامة في البلاد لتأمين المال الضروري للجيش وللإدارة..̏ [14]، ولكن هذا الأسلوب، بقدر ما كان إيجابياً بقدر ما كانت له سلبيات، إذ إنَّه ̋.. نجمت عن ذلك مشاكل جديدة، إذ أفسحت مصالح الأجانب والمرابين المتزايدة مجالاً لتدخل الدول، وأصبح ضباط الجيش الحديث حمَلَة أفكار جديدة. فقام محمد باي، لإزالة الشكاوي المشروعة الصادرة عن الجماعات الأجنبية ولاجتذاب تأييد أصحاب الأفكار الجديدة ولتثبيت جذور الولاء للحكم لدى جميع فئات الشعب، بإعلان إصلاح من عنده على غرار الإصلاح التركي. دَبَّج مبادئه في عهد الأمان الصادر في 1857..̏ [15] وفي هذا العهد يؤكد أن المصلحة العامة كمبدأ من مبادئ تفسير الشرع، والمصلحة العامة تنهض على قواعد الحرية والعدل والأمان والمساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين. وفي عام 1860 صدر القانون السياسي الذي يمكن أن يطلق عليه اسم الدستور. وهو عبارة عن ̋.. وثيقة متحفظة، تقبل بمبدأ التمثيل، لكن في نطاق حدود معينة، وتترك السلطة التنفيذية في يد الحاكم..̏ [16]. ولكن مع الأسف هذه الإصلاحات الدستورية، لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما انهارت بسبب الضائقة المالية والتوترات القبلية والضغط الأوروبي، والتنافس الحاد بين فرنسا وإنكلترا، وكذلك – وهو الأهم إرادة الباي في الاحتفـــاظ بسلطات ليس لها حدود، وليس عليها قيود[17]. كل هذه العوامل ساهمت في فشل الإصلاح السياسي والاقتصادي، الأمر الذي سهَّـل وقوع تونس في قبضة الاحتلال الفرنسي عام 1881،  ولكن مناخ الإصلاح ساعد على ظهور جيل سياسي جديد، مثقف، وواع، البعض منهم من جامع الزيتونة والبعض الآخر تخـرّج في المدرسة الجديدة للعلوم العسكرية، والتي كان يشرف عليها خير الدين التونسي[18].

نستنتج من كلِّ ذلك، أنَّ الأوضاع السياسية/الاجتماعية سواء في المشرق أو في المغرب كانت متشابهة إلى حد بعيد، وبخاصة بين تونس و مصر، حيث كانت الدولة في كل منهما مستقلة إلى حد ما. كما عاشتا أجواء الإصلاح، ولو بدرجات متفاوتة، سواء على المستوى الإداري أو على الصعيد الاقتصادي، في ظل سياسة التنظيمات التي بادرت بها السلطنة العثمانية تحت الضغط الأجنبي، لكن نظراً إلى التأخر التاريخي في كلِّ المجالات، ونظراً إلى عتاقة البنى الاجتماعية التقليدية، ونظراً إلى سيادة نمط الإنتاج الإقطاعي، بالإضافة إلى هيمنة المؤسسات التعليمية الدينية التقليدية، كل هذا الركام من أثقال الماضي وفرامل التخلف، جعل الإصلاح يراوح مكانه، وهذا ما أدى إلى تعثر محاولات النهوض في المشرق والمغرب على حد سواء. بسبب واقع التأخر التاريخي الذي أشرنا إلى بعض وجوهه، وبسبب الضغط الأوروبي. ولكن السبب الأهم في فشل كل هذه الإصلاحات، هو الاستبداد السياسي التاريخي المضاعف الذي ليس فقط ساهم في منع التقدم ولكنه جعل البلدان العربية في وضع القابلية للاستعمار، وبالفعل وقعت البلدان العربية كلها، باستثناء الحجاز تحت نير الاحتلال الأوروبي، بمسميات مختلفة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، بينما الجزائر قد احتلتها فرنسا منذ عام 1830 احتلالاً استيطانياً، لا يضاهيه إلا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. الخلاصة التي نصل إليها ههنا، هي أنَّ الخطاب السياسي النهضوي العربي بكل ألوانه وتياراته، ما كان ليكون لولا هذه الأحداث الجسام والوقائع التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية المتلاحقة منذ حملة نابليون على مصر 1798 وحتى الحرب العالمية الأولى 1914.

ثالثاً: إشكالية واحدة.. ورؤى متعددة

ففي هذا السياق، سياق التأخر التاريخي، والهيمنة الاستعمارية المباشرة والاستبداد السياسي، واحتكاك النخبة المثقفة بالحضارة الغربية، وانبهارها بالتقدم الحاصل هناك في أوروبا، أي أن النخبة النهضوية العربية وقعت تحت ما يمكن أن نسميه بصدمة الحداثة، هذه الصدمة زعزعت الاعتقادات الراسخة لديها منذ قرون.

أقول في هذا السياق، ظهرت كوكبة من المثقفين النهضويين العرب، في الشام ومصر وتونس في ثلاثة أجيال مختلفة، الجيل الأول، مثَّلَـه خير الدين التونسي (1810-1899) ورفاعة الطهطاوي (1801-1873). والجيل الثاني، يمثله كل من جمال الدين الأفغانـي (1839-1897) ومحمد عبده (1846-1905) وعبد الرحمان الكواكبي (1855-1902). والجيل الثالث، يمكن أن نجسده بـسلامة موسى (1888 -1957) وأحمد لطفي السيد (1870-1961) وطه حسين (1889-1973).                                                                                                                        كما كان هؤلاء الذين ندعوهم بالمثقفين النهضويين يختلفون في أصولهم الاجتماعية، وفي الطبقات التي ينتمون إليها، فمنهم من انحدر من الطبقات الأرستقراطية المدينية، ومنهم من جاء من طبقة الأعيان الريفية، ومنهم من كان ينتمي إلى الطبقة الوسطى إذا صح هذا التعبير. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يمكن تقسيم مفكري النهضة من حيث الانتماء الديني إلى المثقف المسلم والمثقف المسيحي، أمَّـا الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية، فقد كان هناك الإصلاحي الليبرالي، والإصلاحي السلفي، كما كان هناك أيضاً موجوداً على ساحة التفكير في طرق الترقي وأساليب التمدن الليبرالي العلماني، والعلماني المسيحي، والعلماني المسلم[19].

وغنـي عن البيان القول: ̋… إنَّ المثقف – شاء أم أبى – يعبّر عن مصالح الطبقة التي ينتمي إليها، فالمثقف السلفي صاحب الخطاب الإصلاحي يُعبّر عن الطموح التاريخي للبرجوازية الريفية للزعماء الدينيين، وللحرفيين والتجار الصغار. أمَّـا المثقف الليبرالي فهو يعكس الطموح التاريخي للبرجوازية الصناعية والحرفية..̏[20].

ولهذا، فالخطاب النهضوي عكس بشكـل أو بآخر الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية الموجودة في الشام وتونس ومصر، كما كان يعبر عن التحولات الاقتصادية /الاجتماعية التي ظهرت إثر الهيمنة الاستعمارية. فهو خطاب في البداية والنهاية بمضامينه السياسية/الاجتماعية خطاب مصالح، ويبرز في الصراع الثقافي الحاد الذي عرفته البلدان العربية منذ خمسينات القرن العشرين إلى غاية اليوم، وبخاصة الاستقطاب الحاد بين من يطرح سؤال الحداثة وبين من يطرح سؤال الهوية، بين من يطالب بالعلمنة السياسية/الاجتماعية وبين من ينادي بصوت عال، بالعودة إلى صدر الإسلام، والسلف الصالح والتشبث بأهداب الدين، وتطبيق الشريعة[21].                                                  وبالرغم من تنوّع الاتجاهات الفكرية، فإن زعماء الإصلاح ودعاة التنوير في الفكر العربي الحديث منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سعوا كل في موقعه، وكل وحسب موقفه الأيديولوجي إلى البحث في أسباب التأخر، والنبش في عوامل الإنحطاط والتخلف. كما حاولوا فهم كنه التَّقدم والتَّمدن عند الأوروبيين. وبعبارة أخرى،طرحوا السؤال الكلاسيكي: لماذا تأخـر المسلمون وتقدم غيرهـم؟ وبين فهم أسباب التأخر، والوعي بشروط النهضة، قدَّم الإصلاحيون، الليبراليون والعلمانيون رؤى في الإصلاح ومناهج في التجديد وأفكار في التحديث، أقصد الإصلاح الاجتماعي والتجديد الديني، والتحديث السياسي. وهذه الرؤى والمناهج والأفكار هي التي أسست ما نسميه الخطاب النهضوي، الذي كان ســؤاله المركزي: كيف نتقدم؟، ومنه تتفرع أسئلة أخرى، هي: كيف نتجاوز التَّأخر وكيف نتخلص من التخلف؟، وكيف نواجه الآخر/الغرب المبهر والمخيف؟، وكيف نستفيد من حضارة أوروبا المتفوقة علينا في كلِّ المجالات؟[22].

كانت هذه الأسئلة هي الحقل الاستفهامي لإشكالية النهضة، الأسئلة التي يحركها الوعي بالفارق بين الذات والآخر، ويختلط فيها الانبهار بأوروبا الحضارة والتقدم، والخوف من الغرب الإمبريالي الذي بالفعل كشَّر عن أنيابه للهيمنة والاستعمار في المنطقة العربية. ونظراً إلى اختلاف مواقع النهضويين العرب، وتباين مواقفهم، وتعدد انتماءاتهم الاجتماعية والمهنية وكذلك مدى اقترابهم من السلطة، أو مدى ابتعادهم عنها، جاءت إجاباتهم في متونهم ونصوصهم متباينة ومختلفة ومتعددة، تصل إلى درجة التضاد تارة والتناقض الحاد مرة أخرى. فالتَّيَّـار الإصلاحي، بمختلف فروعه، كان يرى النهوض في التوفيق بين الإسلام والعصر، ثم تراجع خطوة الى الوراء بالقول أن مبادئ الحداثة موجودة في الإسلام ثم انتهى عند محطة العودة الى النَّص/الوحي، أي الرجوع قروناً إلى الوراء، إلى السنَّة والسلف الصالح، إلى الإسلام الأول، النَّقي والصحيح، إسلام الصحابة والخلفاء الراشدين، وبالتالي فسبب الانحطاط يكمن في تخلي المسلمين عن دينهم، وابتعادهم عن عقيدتهم، هذه العقيدة التي لحقت بها تشويهات وبدع وخرافات لا علاقة لها بالدين. فالتقدم يكمن في العودة إلى الإسلام، كما أن الطريق الى الحضارة عبر وحدة المسلمين في إطار جامعة إسلامية لمواجهة الاستعمار الأوروبي الشَّرس، الذي كان لا يسعى فقط إلى احتلال الأرض ونهب الثروات، بل كان يهدف أساساً – حسب زعم الحركة الإصلاحية – إلى مسخ الهويَّـة، وطمس الشخصية العربية/الإسلامية.[23]

أمَّا التيَّار الليبرالي، بمختلف روافده ومساراته، فكان يعتقد أنَّ أسس التَّقـدم تكمن في تمثل قيَّم الغرب وأفكاره، وبعبارة أخرى؛ لا سبيل للتَّرقي والنهوض، إلا بالأخذ بالعلم والعقل والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سبباً في تقدم المجتمعات الأوروبية وتمدنهـا. وهكــذا، فالليبرالي العربي لا يرى بديلاً للتَّقدم من غير الأخذ بقيم العلم والحرية والعقلانية، وفي نفس الوقت القطيعة مع الاستبداد الشرقي والفكر الغيبي3.

وهذا التيَّار، كان يرى كذلك أنَّ حتى مواجهة الاستعمار، لا تكون إلا بفكر حديث، أي بأسلحة الآخر المتفوق، فلا يمكن مواجهة البارود بالرماح! ولا مجاراة العقلانية بالخرافة ولا العلم بالأسطورة.

وعلى هذا الأساس، انقسـم الفكـر النهضوي العربي إلى قسمين رئيسيين، هما: التَّيَّـار الليبرالي بمدارسه المتعدّدة، والتَّيَّـار السلفي الذي تفرع بدوره إلى فروع مختلفة. وكل من الاتجاه السلفي والليبرالي سوف يشكلان جزءاً كبيراً من الخريطة الفكرية للعالم العربي، خريطة الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، طوال القرن العشرين، أي خريطة الأيديولوجيات العربية المعاصرة.

والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الخطاب النهضوي، ونظراً إلى معارفه المحدودة وعدم قدرته على استيعاب علوم تلك الحقبة، وكذلك لعدم فهمه الفهم الكافي للأحداث السياسية والاجتماعية في أوروبا، وتداخل الوعي والوعي الزائف فيه، وارتباطه بالسلطة السياسية، كل ذلك ساهم في انزلاقه نحو الأيديولوجية السافرة، ولهذا تحول بسرعة إلى خطاب أيديولوجي بامتياز يحركه هاجس النهوض ويقلقه التأخر ويسكنه الخوف على الهوية.

وبالتالي كان من الطبيعي أن تغطي الأيديولوجيا على الإيبيستيمولوجيا وأن يتغلب خطاب الهوية على خطاب الحداثة. وأن يتصدر المشهد طيلة عقود، الثنائيات القاتلة، الإسلام والغرب، الدين والدولة، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة. وهي الثنائيات التي تحولت فيها المعركة من ساحة الفكر إلى ساحة الواقع. وبعبارة أخرى، الانقسام في الخطاب النهضوي تحول في خضم الأحداث والوقائع السياسية/الاجتماعية المتلاحقة والمتسارعة في النصف الأول من القرن العشرين إلى صراع أيديولوجي مدمر، صراع على كرسي السلطة ونزاع على هوية الدولة (إسلامية أم قومية أم وطنية) إنتهى هذا الصراع/ النزاع، في بعض الأقطار العربية في بداية الألفية الثالثة، إلى حرب أهلية هوبزية (نسبة الى هوبز) طاحنة، حرب الجميع ضد الجميع، حرب أدت ليس فقط إلى سقوط السلطات والأنظمة، ولكن إلى إنهيار الدولة (القطرية) وتفسخ المجتمعات. ومما زاد الطين بلة، هو تداخل الصراع الأيديولوجي مع النزاع الطائفي مع التناطح السياسي مع التدخل الأجنبي مع ظاهرة الانتفاخ المطرد لورم سرطاني اسمه الأصولية الدينية في جسم الأمة العربية، كل ذلك انتهى عند مشهد دراماتيكي، لم يكن يخطر ببال أشد المتشائمين.

 

قد يهمكم ايضاً  التسامح بين سياقين حضاريين: السياق الغربي والسياق الإسلامي