تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الحراك الاحتجاجي الذي تعيشه منطقة الريف بشمال المغرب. وتتجلى المشكلة البحثية لهذه الدراسة في تحديد الشروط الاجتماعية والسياسية (والتاريخية أيضاً) التي تتحكم في إنتاج المشهد الاحتجاجي بالريف المغربي، وانعكاس ذلك على علاقة المجتمع بـ «المخرن» وبالمشهد الانتقالي المغاربي والعربي. وتفترض الورقة أن الحراك الاحتجاجي بالريف هو نتيجة طبيعة لإجهاض «الحلم الثوري» بالمغرب مع حركة 20 فبراير التي انطلقت سنة 2011، لتختفي ترسيماتها الموضوعية بعد إقرار دستور 2011. وبذلك يمكن النظر إلى كون المرحلة الانتقالية (الديمقراطية والعدالة الاجتماعية) التي تعيشها المجتمعات العربية قد أسهمت في «إعادة إنتاج ربيع عربي جديد» بالمجال المغربي، وذلك لكون العوامل والأسباب المنتجة لحراك الريف لا تختلف عن شروط إنتاج حراك «الربيع العربي»: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. وتستند الورقة إلى التحليل السوسيوسياسي والتاريخي، وتقترح أن الأفق السياسي والاجتماعي لهذا الوضع يقارن بأربعة سيناريوهات سوسيولوجية محتملة: أولاً، النهاية السلمية للحراك برد الاعتبار لـ «الإنسان» المغربي عامة على المستوى الاجتماعي والسياسي والحقوقي وضمان التوزيع العادل للموارد والحقوق والثروات؛ ثانياً، تزايد حدة الأزمة نحو إسقاط الحكومة المنتخبة والتفكير في الإصلاح السياسي البنيوي؛ ثالثاً، جر الحراك نحو المطالبة بإسقاط النظام السياسي القائم (النظام الملكي) والبحث عن التدخل الخارجي بالمنطقة للخروج من التداعيات البنيوية لهذا الوضع على الجسم المغربي. رابعاً، المطالبة بانفصال الريف و«إقامة الجمهورية الريفية»، الأمر الذي ستكون له تداعيات سياسية وإقليمية (عودة قضية انفصال المناطق الصحراوية إلى طاولة النقاش) واجتماعية وثقافية (تزايد حدة الصراعات والتطاحنات الإثنية: الريف، الأمازيغ، العرب، الصحراويين…).

في سياق توالي الأحداث، وأمام تأزم الأوضاع السياسية والاجتماعية بين «المجتمع الريفي» والمخزن من جهة والحكومة من جهة أخرى، سنعمل على تبيان الشروط الاجتماعية والسياسية والتاريخية للحراك، وبعض الحلول والمقترحات الصريحة والضمانة المقدمة (داخلياً وخارجاً)لإنهاء الأزمة، والمآلات والسيناريوهات المتوقع أن ينتهي بها هذا «الفعل الاحتجاجي»، وذلك من خلال المحاور الآتية:

– الأسباب الاجتماعية والسياسية والتاريخية للحراك الاحتجاجي بالريف.

– بعض الحلول والاستراتيجيات التوافقية والاستباقية التي يتبناها النظام السياسي لحل الأزمة.

– المآلات والسيناريوهات المستقبلية للحراك.

أولاً: شروط إنتاج الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: من التاريخي والاجتماعي إلى السياسي

انطلقت الشرارة الأولى للحراك الاحتجاجي بمدينة الحسيمة المغربية مباشرة بعد مقتل تاجر السمك الشاب محسن فكري طحناً داخل شاحنة جمع القمامة، في 28 تشرين الأول/أكتوبر من سنة 2016، احتجاجاً على مصادرة السلطات المحلية أسماكه، بحجة أنه يحظر بيعها، ليتم رفع شعار «طحن مو»‏[1] (اطحن أمه) كصورة جديدة من الشعار الكلاسيكي «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي تم رفعه من قبل حركات «الربيع العربي» بمجموعة من البلدان العربية‏[2]، وكتعبير عن الرفض الشعبي لمظاهر الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تتعرض له المنطقة، كما باقي مناطق المغرب، ودعوى إلى «إحياء» و«عودة» حراك «الربيع العربي» في صورة جديدة.

عقب توالي الاحتجاجات، وبعد رفع شعارات العدالة وفتح تحقيق في الحادثة التي راح ضحيتها الشاب الثلاثيني، انتقل «صوت الشارع» نحو المناداة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة ورفع التهميش والحيف الذي أصابها منذ عقود (وبخاصة خلال فترة حكم الحسن الثاني). فضـلاً عن ذلك، وفي سياق الفراغ الذي عاشه المشهد السياسي المغربي بين الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة، تعالت الأصوات المنددة بفشل الحكومة السابقة في تدبير المرحلة الانتقالية ومعاناة البسطاء من بؤس السياسات النيوليبرالية المنتهجة من قبل الفاعلين في النسق السياسي والاقتصادي المغربي. وتبعاً لتطور الأحداث وتواليها، ونتيجة لسلمية معظم الحركات الاحتجاجية (وهي الصورة التي أضحت اليوم تميز الحركات الاحتجاجية المنتجة والمنظمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي)، سرعان ما جاء رد النظام الذي اتسم بالمهادنة والديماغوجيا الاستراتيجية (الفعل وفق ما تقتضيه المرحلة والوضع) من أجل امتصاص الاحتقان الاجتماعي‏[3] في منطقة لها تاريخ «أسود» مع النظام المخزني‏[4] (سواء خلال المرحلة الكولونيالية وبعدها أو في انتفاضة الخبز سنة 1984)‏[5].

في حقيقة الأمر، ما ميز التاريخ الطويل للتعاطي السياسي والاستراتيجي للمخزن‏[6] مع الحركات الاحتجاجية والاجتماعية بالمغرب هو تبنيه نسق المهادنة المجتمعية واستحضار منطق الشرعية والمشروعية الدينية – على غرار نمط الهيمنة التقليدية الذي يميز الدول المزاوجة بين السلط الدينية والسلط الدنيوية ضمن نسق الحكم السياسي (بلغة ماكس فيبر) – من أجل تدبير المرحلة والخروج بأقل الخسائر (سواء الاجتماعية أو السياسية). منذ تعاطي النظام مع حركة 20 فبراير‏[7]، نجد حضوراً قوياً لمفهوم «الفتنة» (بحمولته الإسلامية) ضمن بنية الخطابات السياسية لمختلف الفاعلين في المشهد السياسي المغربي، الذي يترجم «مفارقة إيبيستيمولوجية» في التعاطي مع المرحلة الانتقالية: «حشد كافة الجهود الممكنة [تغير أو تحول من نوع ما] كي لا يحدث التغيير الاجتماعي أو السياسي (النسق السياسي المغربي يتغير كي لا يحدث التغيير)‏[8]. لذلك، لم يسلم حراك الريف أيضاً من هذا الوصم السياسي لشروط إنتاجه، آخذاً في الحسبان الحساسية التاريخية للمنطقة مع النظام، واستحضاراً أيضاً لسلمية الحراك الذي يفرض التدبير السلمي للأزمة نفسها. والغريب في الأمر، أن هذا الخطاب المنتج سياسياً قد تم تمريره سياسياً من قبل النسق الثقافي للمجتمع نفسه (في مجمله)، على اعتبار شرعية المخزن والنظام الملكي ما زالت رهينة بذاك «الفلاح المغربي المدافع عن العرش» (بلغة ريمي لوفو)‏[9] الذي يمجد الاستقرار و«الخصوصية المغربية» و«يمقت» التغيير والاحتجاج بوصفه صورة من صور الدمار وشرط لإنتاج حرب أهلية بين طوائف المجتمع (على الشاكلة السورية أو اليمينة).

ضمن هذا الوضع، توالت كرونولوجيا الأحداث الاجتماعية والسياسية لتجعل من حراك الريف «قضية شعبية» (تهّم مختلف الفئات المهمشة في مواجهة الفئات المستفيدة من خيرات وثروات الوطن)، وليستمر النظام السياسي والحكومة المنتخبة الجديدة في سحب الشرعية السياسية والاجتماعية من هذا الحراك الاحتجاجي وربطه بأشكال التمرد والرغبة في زعزعة الأمن والاستقرار الوطني. لكن ما يثير الدهشة، بخصوص هذا الوضع الاحتجاجي، وبعيداً من الرهانات السياسية أو الاجتماعية أو الإثنية والثقافية، هو غياب أي رد فعل أو تفاعل يذكر من طرف الفاعل العلمي والأكاديمي (الجماعات العلمية) والمثقفين والمفكرين بالمغرب‏[10]: «نستنكر» هنا صمت «الجمعية المغربية لعلم الاجتماع» و«الجمعية المغربية للعلوم السياسية» حول الوضع، وعدم قيامها بواجبها العلمي والإيبيستيمولوجي بمدارسة الأوضاع والحفاظ على الروح النقدية للعلم ومبدأ الكشف عن الحقائق والمساهمة في تحليل الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية بالمغرب على غرار تجارب الدول الرائدة‏[11].

مع تشكيل الحكومة المغربية، وتعيين سعد الدين العثماني لقيادة المرحلة الانتقالية وبروز بعض القيادات الكاريزمية على رأس تدبير «الحراك الريفي» (بخاصة شخصية ناصر الزفزافي)، ارتفعت حدة المطالب الاجتماعية والسياسية (لم يعد مقتل محسن فكري هو المحرك الوحيد للحراك) وتغيَّرت معها مواقف الفاعلين في النسق السياسي الرسمي. لقد تم الانتقال من منطق البحث عن رد الاعتبار لـ «الذات الجريحة» و«المواطن والمجال المهمش» إلى الرغبة في «إسقاط الفساد وفضح شروط إنتاج اللعبة السياسية والتعبير عن رفضها»، وهو الأمر الذي يجعلنا نتحدث بذلك عن «عودة للربيع العربي» في صورته المغربية؛ من منطلق التكامل بين المطالب الاجتماعية والسياسية في مسلسل إنتاج الفعل الاحتجاجي العمومي. وتبعاً لذلك، يجوز لنا الحديث عن انتقال الفعل الاحتجاجي بالريف نحو البعد السياسي، وما يترتب عن ذلك من احتمال «تسييس» المطالب الاجتماعية سواء على نحوٍ معلن أو خفيٍّ في المستقبل.

ظل التعاطي السياسي والرسمي مع الحراك ملازماً لتطور الأحداث المحلية والإقليمية. وفي سياق الشرط المتأزم الذي طبع علاقة المخزن بالريف تاريخياً‏[12]، انتقل البراديغم السياسي لمواجهة الأحداث من نسق «الفتنة» إلى نسق «الانفصال»‏[13] (مع تزايد حدة الاحتجاجات وانتقالها إلى مدن وأقاليم مجاورة)، وذلك من أجل سحب الشرعية «المجتمعية» عن أي مطلب يأخذ شكـلاً سياسياً ورفع ورقة «الوحدة» في وجه انتشار عدوى الاحتجاج. وتبعاً لذلك، عبّرت القوى الفاعلة في الحراك عن تشبثها بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية ورفضها لأي تسييس للقضية أو تدخل خارجي غير مباشر (كما حدث في انتفاضة الخبز). لكن مع ذلك، يمكن النظر إلى هذا الإعلان كرد فعل مباشر على الاستراتيجيات الاحتوائية للنظام أكثر منه دعوة فعلية إلى التخلي عن المطالب السياسية (التي لا تعني دوماً مطالب انفصالية)؛ على اعتبار أن الاجتماعي يوجد في عمق السياسي.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن من أبرز عوامل استمرار وامتداد «الحراك الريفي»، إلى جانب «جمعانية المطالب الاقتصادية والاجتماعية الديمقراطية»، هو استعمال ورقة الخطاب الديني‏[14] نداً للند مع النظام السياسي القائم، من أجل الدفاع عن «إسلامية الحراك» من جهة، وعدم انفصاله عن البراديغم النظري العام للحراك العربي من جهة أخرى. وبما أن إنتاج الحراك الاحتجاجي وصوغ القرارات الحاسمة، تحاك في إطار النخبة القائدة للحراك نفسه (سواء داخلياً أو خارجياً)‏[15]، فإن الحدث الذي عرفته مدينة الحسيمة يوم الجمعة 26 أيار/مايو 2017، والذي تم بموجبه توقيف صلاة الجمعة ومغادرة المساجد التي جعلت «الحقل الديني في خدمة الأجندات السياسية للنظام [حسب قادة الحراك]، هو في الأساس صورة من صور الصراع على احتكار الشرعية الدينية والبحث عن التعاطف المجتمعي مع القضية‏[16]، ولعل رد الفعل القوي من قبل الفاعل السياسي دليل ملموس على ذلك: نزع الشرعية الدينية من المملكة يعني نزع الشرعية السياسية عن النظام الحاكم.

ثانياً: الحلول والاستراتيجيات التوافقية والاستباقية التي يتبناها النظام السياسي لمواجهة الحراك الاحتجاجي بالريف

بداية، لا بد من التأكيد أن «حراك الريف» هو بالأساس «حراك احتجاجي» لا «حراك اجتماعي»، رغم حضور الرهان الاجتماعي على رأس مطالب الحراك؛ من منطلق أن التصنيف الذي قدمه السوسيولوجي الفرنسي ألان تورين (Alain Touraine) لمفهوم الحركات الاجتماعية (والمبادئ الثلاث التي حددها: مبدأ الهوية، ومبدأ التعارض، ومبدأ الكلية)‏[17] لا ينطبق على النسق العام لإنتاج الحراك بمنطقة الريف، وفي عدد من التجارب الاحتجاجية العربية أيضاً‏[18]. لذلك، نجد أن نهج النظام السياسي استراتيجيات المهادنة أو نزع الشرعية الدينية والاجتماعية عن الحراك، وكذلك التعاطي الدبلوماسي مع شروط إنتاج الفعل الاحتجاجي بمنطقة الريف، هي دلالة قوية على الخصوصية المحلية (ذات الأبعاد التاريخية) لحراك الريف، رغم كون المطالب تعبِّر عن رأي شعبي واسع النطاق، واقترانه بشروط موضوعية وذاتية خاصة: يمكن أن نعتبر تأرجح الحراك بين الاجتماعي والسياسي أساس الدفع بالحراك نحو الفعل الاحتجاجي أكثر من الفعل الاجتماعي.

في الواقع، ورغم الهالة «البانورامية» التي أضافتها المواكبة الصحافية (وليس العلمية) لحراك الريف، نجد أن التعاطي السياسي (سواء بالنسبة إلى الحكومة أو المخزن) ظل محدوداً في الزمان والمكان، ولم يخرج عن القاعدة الاستراتيجية لـ «التصرف والفعل بحسب الوضع». يعلمنا تاريخ التعامل السياسي للدولة المغربية مع الحراك الشعبي أن «مؤسسة المخزن» تعمل على موقعة نفسها داخل الحراك (هل الحراك ضد الملكية أم ضد الحكومة؟) من جهة، وتموقع الحراك ضمن اللعبة السياسية (هل يسعى الحراك لكسب شرعية دينية وثقافية أم شرعية اجتماعية واقتصادية؟)، في إطار البحث عن «إجهاض الاجتماعي بالاجتماعي» قبل التفكير في «إجهاض الاجتماعي بالسياسي» وبخاصة ضمن ظرفية انتقالية متأثرة بـ «نجاح» تجارب احتجاجية مجاورة، ليس فقط في إطاحة النظم السياسية وإنما أيضاً في نشر «عدوى» الاحتجاج على نطاق واسع ومستمر.

كما أشرنا سابقاً، أخذ تعامل النظام السياسي مع حراك الريف طابعاً توافقياً واجتماعياً أكثر منه سياسي، مركزاً على صورة «الوطن» و«الدين» كخطوط حمر لإضفاء الشرعية أن سحبها سواء من النظام نفسه أو من بنية الفعل الاحتجاجي. جاء رد الفعل السياسي تجاه الحراك متبايناً بين ثلاثة أطراف:

– المخزن (الملك): جاء رد فعل مؤسسة المخزن محايداً في البداية، نظراً إلى الوظيفة التحكيمية التي تميز النظام الملكي المغربي، حيث نظر إلى «مقتل» محسن فكري بمدينة الحسيمة (بماضيها التاريخي مع الحسن الثاني) كحدث اجتماعي (بائع سمك) وجب معالجته قانونياً (تحميل المسؤولية لرجال السلطة وسائق شاحنة نقل القمامة) وليس سياسياً (التهميش والإقصاء الذي تعانيه المنطقة). لكن مع توالي الأحداث، ظهرت من جديد «الوظيفة التحكيمية» للملك في الأزمة، من خلال محاولة المعالجة الاقتصادية والاجتماعية للحراك، مع الحرص على إبعاده من الشرط الديني والسياسي، والدفع به نحو «احتجاج ضد الحكومة وليس ضد المخزن». ولعل عدم تقديم الديوان الملكي والملك نفسه لأي خطاب أو تصريح حول الحراك يجعلنا نؤكد الطابع الدبلوماسي والتوافقي لتفاعل مؤسسة المخزن مع الحراك والرغبة في إنهاء الأزمة.

– الحكومة: بالنظر إلى الفراغ الذي عاشه المغرب بين الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة، نجد أن تأخر تبني مواقف أو حلول مباشرة وصريحة للفاعل الحكومي بخصوص حراك الريف راجع إلى غموض موقف المخزن نفسه؛ من منطلق أن تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية خلال الأسبوع الرابع من شهر أيار/مايو، وتأكيده شرعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمحتجين وضرورة عدم تسييس الحراك (الابتعاد من المطالب الانفصالية)، هو دليل على تفويض حل مثل هذه القضايا لمؤسسة المخزن ولشخص الملك من جهة، ورغبة في إدارة المرحلة الانتقالية بما يقتضيه تطور الأحداث المحلية والوطنية كما الإقليمية والدولية من جهة أخرى.

– الأحزاب السياسية: في ما يتعلق بموقف الأحزاب السياسية، ونظراً إلى انشباكية مؤسسة الحزب بالمغرب من جهة، وفقدان شرعيتها السياسية أمام المجتمع من جهة أخرى، نجد أن موقفها أو مقترحاتها لحل الأزمة ظلت غامضة وغير رسمية في أغلب الأحيان، بل إن الأحزاب المشكلة للحكومة، ورغم اعتراف الحكومة بشرعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية للاحتجاج، لم تعمل على تبني أو رفض «الحراك الاحتجاجي» في صورته السياسية على مستوى قيادياتها الوطنية.

ما دام هناك اختلاف وتضارب في بناء موقف سياسي صريح وواضح بخصوص حراك الريف من قبل الفاعلين في إنتاج المشهد السياسي المغربي، بعيد من التلوينات الإثنية والثقافية والتاريخية، فإننا لا نلمس وجود حلول ومقترحات حقيقية لتدبير المرحلة والخروج بأقل الخسائر من هذه الأزمة.

هناك مخاوف سياسية كبيرة من وجود أطراف خارجية أو أجندات دولية فاعلة في إنتاج المشهد الاحتجاجي بالريف، ورغبة في تفادي أي تدخل خارجي في رسم خارطة طريق حل المشكل؛ بوصفه تدخـلاً مباشراً أو غير مباشر في الشؤون الداخلية للبلد، وبخاصة مع تأزم قضية الصحراء والمواقف الدولية حولها خلال السنوات الأخيرة. لذلك، لا ننكر وجود تحركات أولية لحل المشكل – وبخاصة على المستوى الاقتصادي – لكنها تظل ظرفية وعفوية ولا ترقى إلى مستوى الإصلاح البنيوي الشامل الذي تحتاج الظرفية الانتقالية إليه وتعبِّر عن تخوف سياسي من تطور أي موقف دولي يصرح بوجود «مشكل» (إثني أو تاريخي) بين منطقة الريف والنظام السياسي المغربي، الذي من شأنه أن يؤثر في صورة المغرب لدى المجتمع الدولي:

– خلق مناصب شغل للشباب العاطل من العمل في القطاعات الحكومية بصورة استثنائية؛

– ضخ مبالغ كبيرة في الميزانيات الجهوية للأقاليم المعنية بالحراك الشعبي دعماً لها من أجل المشاركة في تحقيق الانتقال الاجتماعي والتنمية البشرية والمستدامة وتعزيز فرص الاستثمار في المنطقة.

– توجيه اهتمام القطاعات الحكومية (في كل المستويات) خلال المرحلة الانتقالية صوب منطقة الريف.

– بعث بعض النشطاء الاجتماعيين كوسطاء للبحث عن حل سلمي للأزمة.

– ترويج فكرة أن يقوم «الملك» بزيارة شخصية إلى المنطقة…

بالتزامن مع تفعيل «لجنة الحراك الشعبي في مدينة الحسيمة»، كتنظيم لقادة الحراك الاحتجاجي بمنطقة الريف، وتنديدها بـ «عسكرة المنطقة» وإصدار بيان استنكاري لما وصفته بـ «حملة العنف غير المبررة ضد نشطاء مسالمين وساكنة مسالمة ليس لها من مطالب سوى تحقيق حقوق اقتصادية واجتماعية مشروعة» ودعوتها النظام السياسي إلى البحث حل سلمي للأزمة وليس تأجيج الصراع بين المواطنين والنشطاء وقوى الأمن‏[19]، تأسست مؤخراً تنسيقية أوروبية لدعم الحراك الشعبي في الريف المغربي بمدينة مدريد الإسبانية، تضم نشطاء ينتمون إلى إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا، وأصدرت بياناً رسمياً أعلنت فيه ما يلي:

– «دعمها اللامشروط لنضالات الحراك الشعبي في الريف؛

–  تضامنها اللامشروط مع المعتقلين السياسيين بالريف؛

–  تحميل المسؤولية الكاملة للنظام السياسي القائم بالبلاد على حالة العسكرة والحصار الذي فرضه بالحديد والنار على المدنيين العزل بالريف؛

– إعمال وتفعيل مبدأ عدم الإفلات من العقاب في حق المسؤولين عن اغتيال الشهداء بالريف؛

–  عهدها على مواصلة النضال والصمود والمقاومة السلمية إلى جانب نشطاء الريف حتى تحقيق المطالب العادلة والمشروعة كافة»‏[20].

على الرغم من أنه من الصعب الحديث عن وجود أطراف خارجية، في غياب المعطيات أو الدراسات المعنية بالموضوع، سواء داعمة للحراك أو راغبة في الإنهاء السلمي للمسألة، إلا أنه يبدو أن مثل هذه المبادرات السياسية بالدول الأجنبية تظل مجرد ردود فعل «عفوية» من المهجرين المغاربة بهذه الدول من أجل دعم الحراك الاجتماعي: هناك رهانات اجتماعية وإنسانية كما هناك رهانات سياسية واستراتيجية في ثوب تاريخي.

ثالثاً: سيناريوهات مستقبلية محتملة للحراك الاحتجاجي في الريف المغربي

ننظر إلى كون الحراك الذي يعرفه الريف المغربي، بوصفه حراكاً شعبياً يدخل في خانة الأفعال الاحتجاجية المطالبة برد الاعتبار للإنسان والمجال ورفع التهميش الاجتماعي والسياسي عن مختلف المناطق المغربية، هو امتداد للتجارب العربية المجاورة. وسواء تعلق الأمر بتجارب تسير في اتجاه تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي (تونس) أو ما زالت تعتريها عقبات اقتصادية واجتماعية (مصر)، أو أخرى جنحت نحو الطائفية والصراعات الإثنية والحرب الأهلية (اليمن، ليبيا، وسورية)، فإن السيناريوهات التي نقدمها بخصوص التجربة المغربية تظل مجرد أرض للنقاش من جهة، وفرصة لقياس درجة التوتر المحلي في ضوء التاريخ الانتقالي للمجتمعات العربية بعد الحراك الربيعي، من جهة أخرى.

لذلك، نقترح أربعة سيناريوهات متباينة نرى أن الحراك الاحتجاجي بمنطقة الريف المغربي سيتجه نحوها إذا ما تفاقمت حدة الأزمة، سواء نحو السيئ أو الجيد، ونجعلها أرضاً لنقاش المسألة على المستوى السياسي والاقتصادي (بين الفاعلين في المشهد السياسي المغربي) كما المستوى العلمي والأكاديمي (بين الجماعات العلمية):

– السيناريو الأول: نهاية الحراك الاحتجاجي على نحوٍ سلمي (على غرار التجارب الغربية (وبخاصة الحراك الطلابي بكندا سنة 2012 أو حركة عباد الشمس بتايوان سنة 2015)) برد الاعتبار لـ «الإنسان» المغربي بعامة على المستوى الاجتماعي والسياسي والحقوقي وضمان التوزيع العادل للموارد والحقوق والثروات. يظل هذا السيناريو معقولاً إلى حد كبير إذا ما انتهج الفاعل السياسي (الحكومة والمخزن بالأساس) استراتيجيات انتقال اجتماعي واقتصادي يجعل من مرتكزات الجهوية الموسعة قاطرة لتعزيز مسلسل التنمية البشرية والتنمية المستدامة ومحاربة الفساد الذي ينخر «الجسم الاقتصادي والسياسي» المغربي.

– السيناريو الثاني: تزايد حدة الأزمة، في ظل صمت مختلف أطياف المشهد السياسي وعدم التفكير في الحل الاجتماعي والسياسي للمشكل – وليس التاريخي أو الإثني – وإسقاط الحكومة المنتخبة، بوصفها المسؤول المباشر أمام المواطنين عن فشل مسلسل الانتقال الاجتماعي والاقتصادي ورفع التهميش عن المناطق المسحوقة، ومواصلة الإصلاح في إطاره البنيوي. يمكن اعتبار هذا السيناريو قريباً للواقع إلى حدٍ كبير، ومن شأن تفعيله أن يعطي نَفَساً جديداً للممارسة السياسية بالمغرب ويعيد ثقة المواطن في السياسة والفعل السياسي، بوصفه الفاعل الأول والأخير في المشهد الديمقراطي المغربي.

– السيناريو الثالث: جر الحراك الاحتجاجي نحو المطالبة بإسقاط النظام السياسي القائم (النظام الملكي)، نظراً إلى طبيعة العلاقة المتوترة بين المنطقة والملكية منذ فجر الاستقلال، والبحث عن التدخل الخارجي في المنطقة للخروج من التداعيات البنيوية لهذا الوضع على الجسم المغربي. رغم كون هذا السيناريو ليس ببعيد الحدوث، في إطار وضع إقليمي جد متأزم، إلا أن المستقبل الديمقراطي للمجتمع المغربي يظل رهين وجود الملكية ودفع المخزن نحو الانخراط في مسلسل الإصلاح الحقيقي والبنيوي‏[21]، ولن تكون نهاية الملكية بالمغرب سوى بداية ميلاد الطائفية والإثنية في صورة لم تشهد لها المنطقة من مثيل؛ نظراً إلى الغنى الإثني للمجتمع المغربي ولوجود أفكار وتصورات انفصالية لدى عدد من مكونات الجسم المغربي.

– السيناريو الرابع: مطالبة قادة حراك الريف بالانفصال عن المغرب (أو المطالبة بالحكم الذاتي) و«إقامة الجمهورية الريفية»، الأمر الذي ستكون له تداعيات سياسية وإقليمية (عودة قضية انفصال المناطق الصحراوية إلى طاولة النقاش) واجتماعية وثقافية (تزايد حدة الصراعات والتطاحنات الإثنية: الريف، الأمازيغ، العرب، الصحراويون…). لا يزال هذا السيناريو مطروحاً بحدة على طاولة النقاش السياسي ضمن بنية «المخزن العميق»، ويمكن عدُّه السبب الرئيس وراء تباين مواقف الفاعلين السياسيين بخصوص الحراك الاحتجاجي بالريف؛ من منطلق وجود فصائل اجتماعية متعددة ظلت تطالب مند عقود بالانفصال السياسي قبل الاجتماعي عن الجسم المغربي (بعض الحركات الأمازيغية بمنطقة الشرق والريف المغربي بالخصوص). لكن مع ذلك، نرى أن تفعيل هذا السيناريو من شأنه أن يجر المغرب إلى ويلات حرب أهلية قد تنتهي ببروز أربع دويلات أو تشكيلات إثنية محلية: تشكيل ريفي، تشكيل صحراوي (أو تشكيل البوليساريو)، تشكيل أمازيغي، وتشكيل عربي أو مركزي…

خاتمة

تبقى هذه الدراسة مجرد أرض أولية تجعل من الموضوعية والعلمية والابتعاد من المضاربات الإثنية والأيديولوجية هدفاً لها، وتسعى إلى تسليط الضوء على قضية إقليمية في أبعادها الاجتماعية والسياسية، وبعيداً من الحساسيات التاريخية والثقافية. وفي ظل تراجع الفاعل العلمي والأكاديمي عن أداء دوره النقدي في مثل هذه الأحداث والتحولات الإقليمية، أضحت الخطابات الصحافية والتنميطية والسطحية تحتكر الساحة الفكرية، وتسهم في تشويه أو حجب الحقائق والتلاعب بها بما يخدم مصالح طبقية وداخلية أو سياسية وخارجية. إننا لا ندعو المثقفين إلى التسرع في بناء خطاب سطحي حول الحركة الاحتجاجية، وإنما رد ماء وجه «العلم والمعرفة» كآلية للكشف عن اختلالات الواقع الاجتماعي والتأثير في القرارات السياسية والاقتصادية بما بخدم «المصلحة الإنسانية» في تعدديتها وشموليتها، في ظل تزايد حدة الليبرالية الجديدة ضمن المرحلة الثالثة من «سوقنة» و«سلعنة» العالم.

نذكّر بأن السيناريوهات التي قدمناها تظل أرضاً لنقاش مستقبل الوضع في سياق تطور الأحداث الإقليمية والجهوية؛ من منطلق أن سلطة العلم والموضوعية تعلمنا رفع منطلقات التعاطف أو نبذ وضع أو فعل اجتماعي أو احتجاجي معين وإنتاج معرفة عالمة تتجاوز الخطابات الصحافية والتنميطية أو الأيديولوجية والإثنية نحو مقولة «العلم للعلم» قبل «العلم للواقع» في سياق اللاتكافؤ العالمي.