مدخل

[1]منذ إرهاصات ما يسمّى «عصر النهضة»، نهاية القرن التاسع عشر، وحتى اليوم، يأخذ مفهوم «المثقف» حيزًا واسعًا من اهتمام المفكرين العرب، إذ أفردوا صفحات وصفحات لتعريفه، وتصنيف أنواعه، وأدواره، وعلاقته بالسلطة والجمهور. وكثيرًا ما أُسبغ عليه وجود ما فوق تاريخيّ، بوصفه أحد وجوه الحالة الضميريّة – القيميّة (مثلما يرد عند إدوارد سعيد مثلًا)، لا يُنتَج في، ويتأثر بالتحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لمجتمعه، أو التأثيرات الاستعماريّة، البنيويّة منها والتدخليّة، في حين يغيب نقد الخيارات التي اقتضتها محاولة إسقاط الحداثة على سياق لم يُنتجها، والتبعات التي اقتضتها تلك المحاولات.

على النقيض من الـ intellectual الأوروبيّ، المفكّر، المشتغل بذهنه، الذي نشأ وتطوّر «داخليًّا» في خضمّ صعود البرجوازيّة، وتحوّلات الثورة الصناعيّة، وأخذ صوره المتعدّدة العضويّة داخلها، نشأ المثقف في المنطقة العربيّة كحالة مرتبطة بالاستعمار وحداثته: من بداية الانبهار بـ«تقدّمه» و«حضارته»، إلى الدراسة في جامعاته ومعاهده، وصولًا إلى محاولة نسخ ذلك التقدّم للحاق بصاحب السّبق الحضاري الذي صار نموذجًا وخصمًا في آنٍ معًا. أضحى إحداث «الطفرة الحداثية»، والانتقال من «التخلّف» إلى «التطوّر»، ضرورة من ضرورات مواجهة الاستعمار، وإنجاز الاستقلال الوطنيّ، بعد أن قُدّمت الحداثة بوصفها سياقًا كليًّا غامض المعنى، ذا لبّ ثقافيّ محايثٍ للتحوّلات التي أنتجتها ومستقل عنها، أو ضرورة للـ«عصرنة» يجب الوصول إليها عبر استنساخ محليّ (مُستحيل) للثورة البرجوازيّة-الصناعيّة.

هكذا، صار المثقّف يحاول أن يحشر مجتمعه حشرًا داخل قوالب الحداثة الغربيّة، وهي قوالب فريدة ناتجة من مسار تاريخيّ محدد لا يمكن تكراره. وفي الوقت الذي حكم المثقّف العربيّ على مجتمعه بـ«التخلّف» و«الرجعية»، قام بترفيع نفسه إلى مرتبة رسوليّة فرديّة مُنسلخة عن واقعها، عمادها التبشير بالحداثة ومتطلّباتها، وانطلق يبحث عمّن ينفّذ مشروعه الحداثيّ المثاليّ-المتخيّل. وحيث إن نبيّ الحداثة فردٌ مغتربٌ لا يفهمه المجتمع، ولأن المجتمع متخلّف لا يمكن الرّهان عليه ليكون رافعةً للنّهوض والتغيير، بل هو موضوع التّغيير، لم يبق للمثّقف من خيارات سوى السّلطة يعرض عليها رؤيته التّحديثيّة، بأدوات تم اشتقاقها من سياق تطوّري آخر.

انطلاقًا من هذه المقاربة، ستقدّم هذه الورقة قراءة مغايرة للمثقّف، بوصفه ظاهرة نشأت في سياق الانبهار بالمُنجز الاستعماري، بالتجاور مع نزعة للّحاق به والاستقلال عنه، وبالترافق مع ظاهرةٍ تقوم على عبادة الحداثة، لم تعجز عن نقدها فحسب، بل هاجمت مُنتقديها، وعدّت كل ما هو محليّ متخلّفًا بالضرورة، ليتحوّل المثقّف لاحقًا إلى جزء من أدوات ديمومة السّلطة، وإعادة إنتاج التسلّط والوظيفيّة. أخيرًا، وبالاستناد إلى فلسفة «التّفعيل» (Praxis)، ومفاهيم التصاق النظريّة بالعمل، تحاول الورقة (في مواجهة المثقّف والسلطة معًا) وضع إطار مفاهيميّ لـِ«المفكّر الممارس»، المنخرط بديناميّة مع مجتمعه في إنتاج التّغيير بوصفه «فعلًا – فكرًا» إبداعيّا مستمرًّا، يعيد موضعة الفكر داخل ديناميّة الحركة والتاريخ اللذين لا يتوقّفان.

أولًا: نشأة المثقّف في عصر النهضة بداية القرن العشرين

ثمة شبه إجماع على أن مصطلح l’intellectuel المعروف في الثقافة الأوروبيّة بتنويعاته اللغويّة الشبيهة ولد في فرنسا مع قضيّة درايفوس عام 1894 ودخول الكتّاب والأدباء على خطّها عام 1898 [2] وإن كان محتوى المفهوم قد وُجد قبل سكّ المصطلح في خضمّ قضايا أخرى شبيهة، مثل «قضية سقراط» أو «قضيّة فولتير»[3]، إلا أنه أخذ تأطيره الاصطلاحيّ من خلال أول بيان في تاريخ الفكر الأوروبيّ المعاصر، وقّعه مجموعة من رموز الأدب والفكر، وابتدأ بعبارة «إن الموقّعين أسفله يحتجّون…»، وبرسالة إميل زولا إلى رئيس فرنسا، وعنوانها: «إني أتّهم»[4]، وهو ما أثار موجة عارمة من النقاش، ركّز فيها معارضو تلك الجماعة على سخف هذا التدخّل وتجاوزه الحدود[5]. ويضع محمد الشيخ تعريفًا سياقيًّا وافيًا للـ intellectual هو: «المفكّر أو الفيلسوف أو رجل الآداب الذي لا تشغله همومه المعرفيّة وتأمّلاته الفلسفيّة عن الاهتمام بشؤون المدينة والنزول إلى الساحة العموميّة صادعًا باسم «الحقّ»، و«العدل» و«الخير» ومدافعًا عن القيم الإنسانيّة العامة المجرّدة»[6].

بتاريخ الولادة المذكور وسياقاته، نستطيع استشراف ملمحين ظلّا يميّزان حاملي هذا الاسم الاصطلاحيّ، خضعا مرارًا لنقاشات مريرة وتحولات متعددة، لكنّهما ظلّا في اللبّ منهم على الدّوام: الأوّل، معارضتهم عسف السّلطة وظلمها؛ والثاني، تجاوزهم حدود معارفهم المختصّة بتدخّلهم في الشؤون العامة. لهذا، سأشير إلى مصطلح The intellectual في هذه الورقة بكلمة «المفكّر»، تمييزًا له عن «المثقّف» الذي ولد عندنا في ظروف وسياقات أخرى مختلفة.

في مقالةٍ له في مجلة الهلال عام 1927، يعدّ سلامة موسى نفسه «أوّل من أفشى لفظة «الثقافة» في الأدب العربي الحديث»[7]، وهو يقول إنه «سرقها» من ابن خلدون، إذ وجده «يستعملها في معنى شبيه بلفظة «كُلْتور» الشائعة في الأدب الأوروبي»[8] . يميّز موسى بين الحضارة بوصفها «مادة محسوسة في آلة تُخترع، وبناء يُقام، ونظام حكومة يُمارس»، وبين الثقافة بوصفها «المعارف والعلوم والآداب والفنون يتعلّمها الناس ويتثقّفون بها، وقد تحتويها الكتب، لكنّها خاصّة بالذهن»[9]، أو، في مقالة أخرى، «هي مجموعة المعارف والأفكار التي تمثّل حياة الشعب، والتي بها ينمو ويتّجه نحو مثله العليا»[10]، فالحضارة ماديّة أما الثقافة فذهنيّة، ومن هذه الأخيرة يشتقّ موسى «المثقّف»، إذ «قد يكون الإنسان مثقّفًا غير متحضّر، وقد يكون متحضّرًا غير مثقّف»[11]، ويقرّر أن «التفكير يسبق العمل والثقافة تسبق الحضارة»[12]، والثقافة من الحضارة «بمثابة الروح من الجسد والسبب من النتيجة»[13].

لا حاجة لنا، والحال هذه، إلى العودة إلى الأصول المُعجميّة لجذر «ثقف»، الذي يفيدنا لسان العرب، من ضمن اشتقاقاته المتعدّدة، بأنه ما تُقوّم به الرّماح، ولكنه أيضًا: الحاذق والفَهِم وذو الفطنة والذكاء[14]. الاشتقاق مُوَلّدٌ حديث، وسياقيّ، جاء من كلمة الثّقافة-كُلْتُور كما تصوّرها سلامة موسى، وحمل معه تصوّرات موسى ونزعاته الثقافويّة مستبطنة فيه، يُعزّز ذلك منصور فهمي، بينما أظنّه الظهور الأوّل لكلمة «مثقّف» في عنوان مقالة، هي «الثقافة والمثقّف»، المنشورة في مجلّة المعرفة عام 1931، وفيها يحيل معنى المثقّف إلى «لفظة الثقافة، أو ما يُشتقّ منها»[15]، ويشير إلى دخول هذه اللفظة في العربيّة بعد «احتكاك الأمم العربيّة بالأمم الغربيّة ولغاتها وآدابها»[16]، وهو يقدّم تعريفًا غير محدّد يقوم على عناصر التعليم وسعة الاطلاع وترابط المعارف والربط بين مجهودات العقل في الماضي وحقائق العلم الحديث[17]. أما طه حسين فيقول، في استطلاع قامت به الهلال عام 1934 لتعريف المثقّف، إنه الرجل «الذي لا يقف بعلمه واطلاعه عند حد محدود، ولكنه يضيف إليهما ما يستطيع من وقت إلى وقت»[18]، في إعادة تدوير لمفهوم «الأدب» في التراث العربي الإسلامي الذي يتطلّب من صاحبه «الأخذ من كلّ علمٍ بطرف»[19].

اشتقاق المثقّف من «كُلْتور» ليس غريبًا، فمفكّرو النهضة العرب في عمومهم انبهروا بأوروبّا، وخصوصًا فرنسا التي زارها ودرس فيها كثيرون منهم. كان لبّ المشروع النهضويّ العربيّ «اللحاق بالغرب» عبر اعتماد وسائل الغرب وطرائقه، وتعيين التقدّم في العلوم التطبيقيّة، التي تفوّق فيها الغرب، ضرورةً لمثل هذا اللحاق (كما عند شبلي الشميّل[20] وسلامة موسى[21])، وعدّ الثقافة الأوروبيّة سببًا في تقدّم الحضارة الأوروبيّة، ومن ثم عد الثقافة العربيّة سببًا في انحطاط الحضارة العربيّة، بذور الانحطاط كامنة فيها منذ نشوئها[22]، وعدّ المجتمع متخلّفًا نتيجة لأسره في التقاليد الرجعيّة، وارتباطه بالدّين الذي كان لا بدّ من إنهاء تأثيره، أو إصلاحه على الأقل، فطه حسين استبعد «الشرق» من خطابه التعليميّ و«سار بخطىً هادئة إلى «الغرب»»[23] ، أما سلامة موسى فأعلن من دون مواربة: «أنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب»[24]، ووصل به الأمر في بداياته إلى تثبيت شَبَهٍ في الشّكل بين المصريّين والأوروبيّين[25]، وإعلان أن المصريّ آريّ مثلهم[26]، وصولًا إلى آراء عنصريّة من نوع «ينحطّ المصريّ إذا تزوّج بزنجيّة»[27].

أولويّة الفكريّ على الماديّ التاريخيّ، والرّهان على التغيير الثّقافيّ كسبب للتغيير الحضاريّ، وإحالة الانحطاط العربيّ إلى أسباب ثقافيّة تقع في جوهر الثقافة العربيّة نفسها، وعلى رأسها الدّين، ظلّت مستمرّة منذ ذلك الحين، عابرةً لحقب متتالية، فهشام شرابي، في معرض تأسفه على قراره السّفر من فلسطين للدراسة خارجها في ذروة محنتها عام 1947، يقول: «ربما كوننا مثقفين ساعد في ذرّ الرماد في أعيننا، فصرنا نرى الأشياء من زاوية الفكر المجرّد وحده، وهكذا بدت الدنيا لنا موضوعًا لكلامنا وفكرنا، لا مجالًا لتحقيق أفعالنا وأعمالنا»[28]. وبالرّجوع إلى عدّة مجلّات فكريّة كانت أساسيّة في ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينيّاته وبداية الألفيّة الجديدة، مثل الطّريق والنّهج والقاهرة وأدب ونقد والآداب[29]، وبعض الكتب الرّئيسيّة في تلك الحقبة، مثل كتاب برهان غليون اغتيال العقل، الذي يخلص إلى أن التّغيير «يعني قلب المناخ الثقافيّ السّائد، والتخلّص من الأوهام، وتغيير إطار الرّؤية والممارسة، وفتح فضاء جديد لازدهار الفكر والشعور معًا»[30]؛ أو كتاب عزيز العظمة العلمانيّة من منظور مختلف، الذي يخلص إلى نتيجةٍ شبيهة: «لا استعادة لأسس الدّيمقراطيّة إلا بانفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق»[31]، يوضّح لنا هذه الخصائص ويؤكّدها، فهي تتحدّث عن محنٍ وأزماتٍ تتعلّق بالعقل العربيّ نفسه، الرّجعيّ في ذاته وفي مرجعيّاته[32]، لا بالظّروف والشّروط التي تنتجه وتوجّهه وتؤثّر فيه وتتسلّط عليه، وتتبنّى مقاربات ثقافويّة، ترى أنّ الخلل فكريّ متعلّق بالقناعات الذّاتيّة، لا بُنيويٌّ متعلّق بالواقع الموضوعيّ المتمثّل باحتكار السّلطة، والقمع، والفساد، والفقر، والتّبعيّة، والرّأسماليّة، ووظيفيّة الكيانات العربيّة الناشئة بعد الاستعمار.

إنّه «الظّلام الذي يحلّق بأجنحته السّوداء، والذي سوف يظلّ يلد نفسه لو لم يعمّ الضياء»[33]؛ هذا هو لبّ تعليق محرّرة أدب ونقد، فريدة النقّاش، على قرار قضائيّ (أقدمت عليه، ونفّذته، السّلطات في مصر)، بالتفريق بين الأستاذين الجامعيّين نصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس، بعد تكفير الأوّل لبحوثه المتعلّقة بالنصّ القرآني، من دون أن تتناول بجدٍّ دور السّلطة. وبينما شنّ مثقّفو الثمانينيّات والتسعينيّات حملةً فكريّةً شرسةً على «الدّولة الدّينيّة» (المفترض صعودها في مصر والمشرق العربيّ)، بوصفها الخطر الأوّل على الحريّة والنّاس والدّيمقراطيّة، لم ينبس هؤلاء ببنت شفة عن المجموعات الحاكمة (الموجودة حقًّا، لا افتراضًا) التي كانت تقمع وتضطهد النّاس فعليًّا، بأشرس ما يكون القمع والاضطهاد.

ثانيًا: احتقار المحليّة المُتخلّفة وتمجيد التقدّم «الغربيّ»:
ما هو «المثقّف» في الاصطلاح العربيّ؟

المثقّفون الذين سأتناولهم هنا، والمعروفون اصطلاحيًّا، أو يُعرّفون أنفسهم، بهذه الكلمة، يشتقّون أنفسهم، والتّغيير الذي يُفترض أّنهم يمثّلونه، من الحداثة الأوروبيّة وتمظهراتها المختلفة، ويرتكزون عمومًا على التّحصيل المعرفيّ الأوروبيّ الحداثيّ، ويستلهمون مفاهيم وأشكال ومؤسّسات الدّول الأوروبيّة، والنّقاشات الفكريّة التي تمّت وتتمّ فيها أو في محيطها، بوصفها «تقدّمًا»، منذ الانبهار الأوّل لروّاد «النّهضة» بما شاهدوه في دول الاستعمار من «حضارةٍ» وعلومٍ وإدارة[34]، مرورًا بمثقّفي مرحلة التّحرّر من الاستعمار الذين حافظوا على كلّ هياكل وأدوات الاستعمار قائمةً وفعّالةً (مؤسّسات «الدّولة»، الإدارة، الجيش، القوانين، التّعليم والجامعات، المُتخيّل الموطنيّ/القوميّ) من دون نقدها واستبدالها[35]، وصولًا إلى مثقّفي «مواجهة الإرهاب الإسلاميّ» بشعارات العلمانيّة والدّولة المدنيّة، وبالشّراكة مع السّلطة، اليوم[36].

يُرفّع المثقّفون أنفسهم عن «محليّة مُتخلّفة» يغتربون عنها، مقابل تمجيدٍ للتقدّم الغربي، إلى الحد الذي دفع مفكّرًا بارزًا من مفكري النهضة (هو شبلي شميّل) إلى موقف مؤيّد للصهيونية نشره في المقطّم عام 1914، ضمن مقالة عنوانها: «عمّروا واستعمروا، فالأرض ميراث المجتهد»؛ كرّر فيها – صراحةً وضمنًا – مقولات حول أحقيّة الصهيونيّ النشيط المتقدّم في الاستعمار، وكسل العربيّ وتخلّفه واستحقاقه هذا المصير[37]. وفي حين يصبّ المثقّفون جام غضبهم على التّعبير الثّقافيّ الشّعبيّ المحليّ الأبرز: «الدِّين»، بعد تبسيطه ونزعه من سياقاته التّاريخيّة والسّياسيّة، واختزاله في نوعٍ واحدٍ أو نوعين؛ يتجنّبون السّلطة، ويبتعدون من السّياسة (بوصفها ممارسة ماديّة، تاريخيّة، مشتبكة مع الواقع وفيه، وتتجلّى بالاشتباك المباشر مع الفاعل السّياسيّ الأوّل: السّلطة نفسها)، باتّجاه ما هو ثقافيّ، أو على نحوٍ أدقّ: ثقافويّ، يجعل من التّغييرات الثّقافيّة (الذّهنيّة، المثاليّة) أساسًا لتغيير الواقع، بدلًا من تغيير علاقات القوّة، وتغيير النمط الاقتصاديّ السّياسيّ الاستغلاليّ الوظيفيّ التّسلّطيّ التابع القائم.

إذًا، تضمّ شريحة المثقّفين، حصرًا، من ينطبق عليهم هذا الوصف، وتتضمّن انتماءاتهم أو مرجعيّاتهم الفكريّة أو الأيديولوجيّة أو السّياسيّة طيفًا واسعًا تبدأ من الليبراليّة وصولًا إلى الماركسيّة مرورًا بالقوميّة، أمّا أصحاب المرجعيّات الفكريّة الإسلاميّة فهم مُستثنون من دخول الحلقة الحصريّة هذه، إلا إذا قدّموا مراجعات «حداثيّة» للدِّين، تؤهّلهم الدّخول إليها. مثلًا، لا يُعدّ أيّ من: أبو الأعلى المودودي، أو تقيّ الدّين النّبهاني، أو أبو محمّد المقدسيّ، أو حتى سيّد قطب[38]، «مُثقّفًا»؛ أمّا: علي عبد الرّازق، ومحمد عبده، وعبد الله العلايلي، وخليل عبد الكريم، فمثقّفون مُكرّسون.

ولا ينبغي في هذا السياق أن نُغفل الدور الذي أداه مفهوم الحداثة نفسه في ترسيخ النظرة الاستعلائية الأوروبيّة-المركزيّة، وتعزيز صورة «المتفوّق» و«المتنوّر» الأوروبيّ مقابل الآخر «المتوحّش» و«غير المتحضّر». يقول إنريكه دوسيل: «تظهر الحداثة عندما تثبّت أوروبا نفسها كـ«مركز» لتاريخ عالميّ يُفتتح بها، أما «الأطراف» المحيطة بهذا المركز فتصبح، تبعًا لذلك، جزءًا من التعريف [الأوروبيّ] الذاتيّ [لنفسها]»[39]. هكذا، تأسست النظرة الاستعلائية الحداثيّة على منظور مركزانيّ أوروربيّ يعدّ الطبيعة، والإنسان غير الأوروبيّ، أجزاءً من فوضى متوحّشة ينبغي تطويعها وتنظيمها وتحضيرها وانتزاع ما يكمن فيها من ثروات غير مُستغلّة، وهو ما انتقل (بالتبعيّة والتأثّر) إلى صلب خطاب المثقّفين النهضويّين العرب كما رأينا أعلاه.

ثالثًا: حيّز المثقّفين الإقصائيّ:
نقد الدّين بديلًا من نقد السّلطة

تمارس شريحة المثقّفين -معنويًّا- سلطةً سلبيّة، إقصائيّة، هي سلطة الاعتراف والتّكريس عبر بوّابة الحداثة الأوروبيّة ومقولاتها، فتتشابه بذلك مع السّلطة السّياسيّة التي تستند هي أيضًا إلى الإقصائيّة في المجال العامّ، وتمتلك المفاتيح الماديّة للاعتراف والتّكريس والتّوظيف. هكذا، لا يمكن فهم الحيّز الثّقافيّ العربيّ المُعاصر، حيّز المثقّفين، إلا بوصفه مساحةً إقصائيّةً معنويّةً تملكها شريحة المثقّفين، تميّز نفسها من الحيّز العام، الشّعبيّ، المُتخلّف، وتقع داخل الدّائرة الماديّة الأوسع للسّلطة ونشاطها التّسلّطيّ و/أو الرّامي إلى السّيطرة السّياسيّة والاجتماعيّة، مميّزةً نفسها أيضًا من الحيّز العامّ، الشّعبيّ، موضوع تسلّطها.

لا يمكن عدّ المثقّف في المنطقة العربيّة – إذ يُكِنّ احتقارًا لمجتمعه، وينظر إليه بدونيّة – مثقّفًا جماعيًّا، أو مجتمعيًّا، وفي الوقت نفسه لا يمكن المثقّف أن يُشكّل علاقةً عضويّةً مع أيّ طبقةٍ بعينها (إذ لم تتبلور تشكّلاتٌ طبقيّةٌ في المنطقة العربيّة)؛ لذا، نخلص إلى أنّ المثقّف ظاهرةٌ فرديّة، يشتقّ وجوده من نفسه، يعبّر عن منظوراتٍ ذاتيّةٍ وخارجيّة (من خارج المجتمع والاشتباك فيه ومعه)، ولا تجد أفكاره إمكانًا للتّحقّق على أرض الواقع إلا من خلال وسيط قادر، وفي غيابٍ واضحٍ للمجتمع والطّبقة عن تأدية دور هذا «الوسيط»، واستنكافٍ للمثقّف عن الانخراط في عمليّة تحوّل المجتمع إلى فاعلٍ سياسيٍّ تاريخيّ، لا يبقى أمام المثقّف من أبوابٍ يطرقها ليشتقّ لنفسه ولأفكاره أهميّة ما، سوى باب السّلطة، فيُلحِق نفسه بها، لعلّها تفتح له الباب[40].

رابعًا: اشتقاق المنزلة من الدِّين والاستعمار: المثقّف بوصفه مُخلّصًا حداثيًّا

تتطابق الفرديّة التي بُنيت عليها فكرة المثقّف مع الآمال الكبيرة التي حُمِّلت عليه (أو ألحقها بنفسه)، ومع هالة القداسة الحداثيّة الخلاصيّة التي بُنيت حوله (أو بناها حول نفسه)، والتي تبدو في حقيقتها امتدادًا لفكرةٍ دينيّة: فكرة المُخلِّص الغائب الذي يجب أن يعود ليدلّ الجموع التّائهة، المُنتظِرة دومًا وأبدًا، إلى الطّريق الصّحيح المؤديّ إلى فردوس «الحداثة» ونعيم «التّقدّم»، وهي فكرة شبه دينيّة أخرى تفيد الدّيمومة والأبديّة، ودفعت بفرانسيس فوكوياما إلى إعلان «نهاية التّاريخ»[41] بتحقُّق الاستقرار النّهائيّ للرّأسماليّة المُعولَمة في إثر انهيار الاتحاد السّوفياتيّ. وهي امتدادٌ أيضًا لمقام «الشّيخ»، مرجع المريدين والمجتمع، في جميع الشّؤون؛ إذ يَختزل في شخصه، ويُسبغ على نفسه، المعرفة الكليّة؛ هذا المقام الذي بحثه فيصل درّاج بتوسّعٍ[42]، ووضعه في موقع التّعارض مع مقام «المثقّف الحديث»، وإن كنت أرى أنّ الصّفات التي يُسبغها الشّيخ على نفسه تشبه السّلطة والمرجعيّة التي يدّعيها المثقّف لنفسه، بعد أن تحلّ «المعرفة المعاصرة» مكان «المعرفة القديمة»، ويوتوبيا الغرب/المستقبل مكان يوتوبيا الإسلام/الماضي.

يتضمّن المُخلّص الحداثيّ، المُختزَل في فكرة «المُثقّف»، داخله صفات العارف الذي يملك «الهدف» ويعرف إلى أين يسير، وتختلط فيه سمات النّبوّة والسموّ بصفات الألوهة، إذ هو مصنوع من غير «الصلصال العاديّ» الذي صنع منه باقي البشر[43]. يصف درّاج طه حسين بأنّه «كما لو كان رسولًا تنصره الرسالة الصادقة»[44] ، بينما يؤشّر إلى تضمّن أسلوب كتابة مهدي عامل «نبرة رسوليّة ذاتيّة الضمان»[45]، ومن ثم، سيكون طبيعيًّا أن يَصطدم المثقّف مع، ويُصدَمُ بـِ، ويغترب عن، «الواقع المتخلّف الذي لم يستجب لغالبيّة التفكير النظريّ التقدميّ»[46]، وهو أمرٌ يستدعي فكرةً أخرى شبيهة: «المثقّف» في السياق العربيّ هو اشتقاقٌ من المُستعمِر المتحضّر الفرد في مقابل الجموع المُستعمَرة المتوحّشة، وامتدادٌ لمهمّةٍ نبيلةٍ مُتخيّلةٍ قدّمها المستعمِر عن نفسه[47]، وصدّقتها نخبة المُستعمَرين المثقّفة مع تعديلٍ بسيط: أزاحت المستعمِر الأبيض من عليائه، ووضعت نفسها مكانه، منتبهين ثانيةً إلى أنّ جلّ هذه النّخبة المثقّفة تلقّت تعليمها في جامعات ومعاهد المستعمِر نفسه، وتنظر إليه وإلى إنجازاته كنماذج ينبغي السير على خُطاها.

يُعقّد كلّ هذا أنّ المثقّف – المخلّص هو فكرة خاصّة لا نجد صنوًا لها في «الغرب»، لأنّ موضوع المثقّف – المخلّص هو الالتحاق الفوريّ بالحداثة عبر قفزةٍ نوعيّةٍ – خلاصيّةٍ تنقله من الماضي إلى المستقبل، والحداثة في شمال العالم تمّت ابتداءً، ومن خلال صيرورةٍ تاريخيّة، لا بقفزةٍ نوعيّةٍ – خلاصيّة، لذا يأخذ الـ intellectual هناك محتوىً آخر يُحيل أوّل الأمر إلى التّفكير، وهي عمليّة لها علاقةٌ بالصّيرورة والتّحوّل والتّغيّر، في النّظر والتّأمّل والبحث، على عكس كلمة «المثّقف» المتعلّقة أكثر بالتّحصيل، أو إيداع المعلومات والأفكار، والقادمة من «الثّقافة» بوصفها مساحةً عامّةً شموليّةً ترتبط بوضع قائم شبه تامّ ومُنجز (هو الثقافة الأوروبيّة)، والعناصر المحدّدة الثّابتة المستقرّة التي تمثّل النّسق الثّقافيّ المرغوب فيه، والتي يُراد الانتقال إليها.

خامسًا: من اقتراح التّغيير إلى الالتحاق بالسّلطة:
إشكاليّات التّصوّر الذّاتيّ الفرديّ الخلاصيّ للـمثقّف

يولّد هذا التّصوّر الذّاتيّ، الفرديّ، الخلاصيّ، للـ«مثقّف» عدّة إشكاليّات:

أُولاها، أنّه يجعل من المثقّفين شريحةً متوهّمةً و«مستقلّةً» بذاتها في «عالم الأفكار»، تُعرّف نفسها ذاتيًّا من خلال دورٍ تدّعيه لنفسها يضعها فوق المجتمع، ومن ثمّ فوق التّاريخ، مُلغيًا التّعارضات البينيّة التي تنشأ بين المصالح التي يمثّلها كلّ مثقّف، ويسلخها ماديًّا عن أيّة إمكانيّات حقيقيّة للتّغيير، إذ يُصبح التّغيير مُتخيّلًا، مُتَمَنَّيًا، مُقترحًا من خلال الأفكار الذّاتيّة، من دون الأخذ في الحسبان القوى الاجتماعيّة التي يُفترض فيها تحقيق التّصوّرات المطروحة، أو السّلطة التي تُعيقها أو تمنعها.

ثانيتها، أنّ المثقّفين، بتنوعهم الشرائحيّ المُتوهَّم، وأفكارهم المثاليّة اللاتاريخيّة الواجبة التّطبيق، يمثّلون بديلًا من الطّبقات الفعليّة، المُضطهَدة، المُفقَرة؛ وتتحوّل صراعاتهم الفكريّة، النّظريّة، التي يخوضونها عادةً ضدّ تجريداتٍ ذهنيّة (مثل «التّخلّف»، أو «الدِّين»، أو «الإرهاب»)، إلى بديلٍ من الصّراع الطّبقيّ، فالخلاص الذّهنيّ نظريّ، يستكمل نفسه في عالم الأفكار، ولا يتكون في خضمّ الصّراع الماديّ، الفعليّ، داخل التّاريخ.

ثالثتها، أنّ هذه الشّريحة المتوهّمة، بتصوّراتها الذّاتيّة التي طرحناها سابقًا، تكرّس نفسها «سلطةً» معنويّةً، فكريّةً، استعلائيّةً، مُغتربة، لكن من دون أن يتمكّن أفرادها من التّشكّل الماديّ إلا إن اعترفت بهم السّلطة الفعليّة الحاكمة. لذلك فهم يقضون جلّ وقتهم متمسّحين بها، دائرين حولها، عارضين أفكارهم عليها، مخترعين لأنفسهم وظيفةً ما داخلها، آملين أن تتبنّى السّلطة بعض صياغاتهم الخلاصيّة لتطبيقها بقوّة الإكراه (من أعلى) لإحداث التّغيير المنشود.

يؤشّر سماح إدريس في كتابه المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصريّة[48]، إلى هذا الارتباط، بل والافتتان[49]، من طرف واحد، بين المثقف والسّلطة، ويوضّح مصدر تناقض الموقف الكلاميّ المُعلن للمثقّف من السلطة، وموقفه الفعليّ، بـ«اعتماد غالبيّة الكتّاب العرب ماديًّا-اقتصاديًّا على سلطات بلادهم (وأحيانًا على السلطات المجاورة لهذه السلطات!) [ما] قد يدفع أكثر الكتّاب «رفضاويّة» إلى خدمة السلطة أو مساومتها»[50]. كما يقرأ إدريس بعمق ما أسمّيه أنا علاقة الحب المازوشيّ التي جمعت مثقفي اليسار بعبد الناصر الذي اعتقلهم وعذّب بعضهم، ومراوحتهم بين الزّعل منه والأمل فيه[51]، وهي علاقة تجعل من ارتباطهم بالسّلطة (لا بالجماهير) هي المركز في إحداث التغيير المأمول.

وفي سبيل هذا التّغيير المأمول، يتجاهل المثقفون أربعة أمور: أنّ السّلطة غير معنيّة بالتّغيير، بل بالثّبات وإعادة إنتاج نفسها ووظيفيّتها داخليًّا وخارجيًّا، وهي تنتقي ممّا يعرضه المثقّف ما يناسب ذلك؛ أنّ السّلطة قويّة، تمتلك إمكانيّات السّيطرة، وبالتالي فهي القادرة على توظيف المثقّفين واشتقاق الشّرعيّة لنفسها من خلالهم لا العكس؛ أنّ التّغيير المُتخيّل، الذهنيّ، لن يؤدّي إلّا إلى المزيد من التشوّهات المجتمعيّة، وحرف اتّجاه النّظر عن مكامن الخلل الفعليّة وآليّات التّغيير الفعّالة، فتستفيد بذلك السّلطة وحدها؛ وأخيرًا: أنّ المثقّف فرد، ضعيف، هشّ، ومتى ما وضع نفسه تحت تصرّف السّلطة (لأنّها الجهة الوحيدة القادرة على «تطبيق الأفكار») فسيسهل ابتزازه، وإن أراد المكانة (القادرة هي وحدها على إسباغها عليه) فسيضطر إلى إعادة إنتاج خطابه ليصير متوائمًا معها، فتنغلق الدّائرة التي بدأت باقتراح التّغيير النّظريّ على السّلطة، إلى نقطة البداية الصّفريّة التي لم يحدث فيها أيّ تغيير، مُضافًا إليها طبقةً جديدة، هي الشّرعيّة التي أسبغها المثقّف على السّلطة، والانتهازيّة التي ثبّتها على نفسه.

ولا تنجو أفضل وظائف مثل هذا النّوع من المثقّف، من الوقوع في فخ الفردانيّة، والمثاليّة، والتّوجّه للسّلطة، بوصفها الإطار الوحيد القادر على التّغيير؛ فلندقّق في ما يقوله إدوارد سعيد كنموذجٍ على هذا النّوع من السّقوط في الفخّ: «وفي رأيي، إذن، أنّ الواجب الفكريّ الأساسيّ هو البحث عن تحرّر نسبيّ من هذه الضّغوط [ضغوط المجتمع، والمؤسسات بمختلف أنواعها، والدّولة]. ومن هنا كان تصويري للمثقّف كمنفيّ، وهامشيّ، وهاوٍ، وخالق لغة تحاول قول الحقّ للسّلطة»[52]. يريد المثقّف، بمقاربة إدوارد سعيد، أن يتحرّر من، لا أن يشتبك مع، المجتمع والمؤسسّات والسّلطة؛ أن ينفي نفسه خارج حركة التّاريخ؛ ومن ذلك الموقع الخارجيّ، الهامشيّ، الخاسر مسبقًا، يخاطب السّلطة بالحقّ لعلّها تسمع كلامه.

سادسًا: مثاليّة المثقّف وماديّة الدّاعية:
في الفرق بين الرّهان على السّلطة والرّهان على الجُموع

ربّما كان «تنويريّو عصر النهضة» مفتتحَ ذلك التّوجّه ودليله، فكثيرٌ منهم وضع رهانه على تغيير تقوده السُّلطة (سواءً بالتّعليم، أو التّصنيع، أو التّحديث)، بل إن المبتعث الأوّل من جيل النهضة، رفاعة الطهطاوي، كان مُبتعثًا من السّلطان، ولم يكن وصوله إلى باريس أو مشروع الترجمة الذي قام عليه بعدها ممكنًا لولا السّلطة، أما أفوله فلم يكن سوى صدىً لوفاة محمد علي وتراجع مشروعه[53]. وكذلك كانت حال جمال الدين الأفغاني الذي – بحسب ألبرت حوراني - «صرف حياته بكاملها يفتّش عن حاكم مسلم يمكنه بواسطته العمل على إحياء الإسلام» الحديث الذي كان يعدّه عماد التقدّم المُتخيّل[54]. أما طه حسين، العلامة الأبرز والأهمّ لذلك الجيل، و«أكثر العقول جذريّة» فيهم بحسب فيصل درّاج[55]، فتولّى وزارة المعارف[56]. إضافة إلى ذلك، كان بعضٌ من النتاجات الفكريّة لذلك الجيل يتوجّه للسّلطة على شكل خطط عمل، أو نصائح، أو إرشادات، أو تمنّيات، أو كتب تقدّم نفسها بوصفها دليل استرشاد للوصول إلى نتيجة مرجوّة (مثلًا: كتاب مستقبل الثّقافة في مصر[57]).

يحيلنا هذا الرّهان ثانية إلى الفرق (والشّبه) بين المثقّف والدّاعية: فبينما يشتقّ المثقّف نفسه ودوره من الحداثة (التي لم تتحقّق)، والمستعمِر (الذي ظلّ متفوّقًا، ونموذجًا مكرّسًا للّحاق به وبركب حضارته)، والذاتيّ، ومستقبلٍ مُتخيَّل، يشتقّ الدّاعية نفسه من الرّاسخ الثّقافيّ، والمحليّ، والموضوعيّ، وواقعٍ فعليّ؛ وبينما يتوجّه المثقّف أساسًا إلى السّلطة ويتوسّلها، دافعًا نفسه إلى دورٍ وظيفيّ، يتوجّه الدّاعية إلى النّاس، دافعًا نفسه إلى دورٍ شعبيّ، عُضويّ؛ وبينما يتوجّه المثقّف عادةً إلى السّلطة بغرض توظيفه إذ يحتاج هو إليها، تتحرّك السّلطة عادةً باتّجاه الدّاعية للغرض نفسه إذ تحتاج هي إليه، فيملك بذلك هامشًا أكبر في مفاوضتها وتوسيع مساحة حركته باستقلاليّةٍ عنها.

نقطة الشّبه الوحيدة أنّ كليهما يُحيلان «التّغيير» إلى تجريدٍ ذهنيٍّ فردوسيٍّ مستقبليّ، يفترقان فيه وفي آليّات تحقيقه: فالمثقّف نبيّ، فرد، ينتظر جماعة مؤمنين تلتحق به وتناضل من أجل أفكاره، أو سلطةً تُنفِّذ له رؤاه، أمّا الدّاعية فجزء من بُنيةٍ حركيّةٍ مُتحرّكةٍ مُتفاعلةٍ وفاعلة، هي الجماعة، تتفاعل مع المجتمع من طريق التّماسّ المباشر بمبادرةٍ منه، ويدفع معها لتحقيق رؤاه التي هي رؤى المجموعة التي ينتمي إليها.

سابعًا: المُثقّف المتسوّل من السُّلطة، والمُفكّر المُمارس السّاعي إلى تقويضها

يجعلني كلّ هذا أرى تعارضًا بين الدّلالات التي تحتويها كلمة «المثقّف،» وبين ما سأسميّه: المُفكّر المُمارس، فالأفكار من دون الممارسة تتكلّس عبر تحوّلها إلى مقولات لذاتها، تجترّ ذاتها لتثبت نفسها بنفسها، أو تتضخّم لتبني أوهامًا نظريّة إضافيّة فوق مقولاتها الذّاتيّة اللاماديّة، أو تختزل نفسها في شعاراتٍ للاستهلاك العامّ السّريع. أمّا الممارسة من دون الأفكار فتصبح مُتاحةً للحَرف والاستغلال والتّوظيف، تصبح غير منتجةٍ لأصحابها وممكنة الإنتاج لغيرهم، والمثال الأوضح على ذلك هو الجولة الأولى من الانتفاضات العربيّة (2010 – 2013) ومآلاتها.

بحسب هنري لوفيڤر، لا يمكن الفصل بين التّفكير والممارسة الثّوريّين، فهما ينبثقان من بعضهما في «جدليّة المُعاش والمُدرَك». صحيحٌ «أنّ التّفكير والفعل ليسا مُتماثلين»، يقول لوفيڤر، «إلا أنّ عليهما دومًا العودة لبعضهما لتجديد نفسيهما»، هذا فضلًا عن أن «نظريّة أيّ حركة، يجب أن تنبثق من الحركة نفسها، لأنّ الحركة هي التي كشفت، وأطلقت، وحرّرت، الإمكانيّات النّظريّة»[58]. علاقة المفكّر المُمارس بالعالم، إذًا، هي علاقة نقدٍ واستنطاقٍ وتحليل، لا تكتمل إلّا من خلال اشتباكه المباشر، العمليّ، الماديّ، مع الموضوع المُفكَّر فيه، ليتمّ اختبار هذه الأفكار وتطويرها (وتغييرها) في هذا الاشتباك.

والمفكّر الممارس شخصٌ يتعلّم على نحوٍ دائم، لا يُقدّم المقولات بل المقترحات المعرفيّة، متفاعلًا مع محيطه ومجتمعه، ومُستفيدًا من التّطوّرات المُتسارعة في حقول العلوم في قراءة هذا المُحيط، وهو نقديّ في مواجهة السّلطة وبُناها وأُطرها المختلفة؛ وهو معادٍ للدّوغمائيّة والأفكار الرّاسخة كمقولاتٍ جامعةٍ مانعةٍ لا تاريخيّة؛ وهو نقديٌّ أيضًا في ما يخصّ التّواضعات الاجتماعيّة والسّياسيّة والبديهيّات؛ وهو مشتبكٌ مع اليوميّ وفيه، متّسقٌ مع ذاته من دون انفصام بين عالم الأفكار وعالم تطبيقاتها. لا يبحث المفكّر الممارس عن مريدين، بل يبحث عن مُتفاعلين، مُناقشين، وهو لا «يقود الجموع» بل يُساهم في تمليك الفئات المضطهَدة الوعي بذاتها، واقتراح الأدوات عليها، من واقع حركتها، لتقود هي التّغيير بنفسها، فهي صاحبة المصلحة الأولى بالتّغيير، لا هو.

يلخّص الجدول أدناه الفوارق التي بحثتها بين المفكّر الممارس والمثقّف:

المفكّر المُمارسالمثقّف
مجتمعيّ، جماعيّفرديّ
تاريخيّ – ماديّ (يشتبك مع الواقع ويريد تغييره)ثقافويّ – مثاليّ (يشتبك مع الأفكار ويريد تغييرها)
موضوعيّ (ينطلق من المصلحة الاجتماعيّة والواقع)انتهازيّ (ينطلق من المصلحة الذّاتيّة وأفكاره)
تثويريّ، تحريضيّخلاصيّ
العمل الذّهنيّ/الفكريّ وتعبيراته اليدويّة/العمليّة لديه هما الشيء نفسه، وجهان لعملةٍ واحدةيفصل (عمومًا) بين العمل الذّهنيّ/الفكريّ والعمل اليدويّ (لا يوسّخ يديه بشؤون العامّة)
يستدعي شكلًا جدليًّا، نقديًّا، تخليقيًّا للمعرفة، هي حصيلة عمل ذهنيّ في الأفكار وفعليّ في الواقعيستدعي شكلًا إيداعيًّا–استيراديًّا للمعرفة، هي حصيلة اطلاعٍ واسعٍ فرديّ
أفكاره صيرورةٌ متحرّكةٌ تشتبك مع الواقع، فهو يفعل في الواقع إذ يفكّر فيه، ويفعل الواقع في أفكاره إذ يشتبك معهأفكاره هياكل جامدة يرجو أن يتقولب الواقع على أساسها، أو يريد إسقاطها على الواقع بأدواتٍ إكراهيّة
نقديٌّ دائمًاتسوويٌّ عمومًا
يُسائل القبول العامّيسعى للقبول العامّ
يتحرّك بلا قيوديتحرّك ضمن المُتاح
السّلطة عقبةٌ في طريق مشروعهالسّلطة أداةٌ لتحقيق مشروعه
يشتبك مع السّلطة وينقدهايتوسّل السّلطة ويناورها
يهتمّ بفتح المساحات العامّةيهتمّ بفتح المساحات الخاصّة
يريد تحقيق تغييرٍ فوقيّ (في السلطة) انطلاقًا من ثورةٍ تحتيّةيريد تحقيق تغييرٍ تحتيّ (في الجمهور) باستخدام أدواتٍ فوقيّة

ثامنًا: التحاق المفكّر الممارس بالعامّة،
وتقدّم العامّة على المثقّف

ليتمكّن المفكّر المُمارس من اتّخاذ هيئة الوجود الموضوعيّ، وليكون جزءًا من حركة التّاريخ لا عبئًا عليه، ولتتوقّف مقولاته عن اجترار نفسها في تجريدات مثاليّة، عليه أن يلتحق بالعامّة والمجتمع، مرجل التغيير التاريخيّ، عبر آلية نقديّة هي الصّدق، والصّدق (بحسب غرامشي): «هو فعل ثوريّ»[59]، فلا يناور المفكّر الممارس، ولا يقدّم أفكاره بصياغات «مخفّفة» تستبطن منزلةً عليا يُسبغها على نفسه مقابل عدم جهوزيّة العامّة، فالعكس – بالمعنى التاريخيّ – هو الصّحيح كما هو ثابتٌ في الانتفاضات العربيّة المتتالية التي تفوّقت، حركيًّا وفكريًّا، على المثقّف بنقدها الشّديد للسّلطة، وتعلّمها من عثراتها وأخطائها، ومناوأتها لأشكال التّفتيت والتّوظيف الطّائفيّة والدّينيّة، وإصرارها على «تغيير النّظام» ورحيل ومحاسبة «الجميع» من شركاء المجموعات الحاكمة. صحيحٌ أن مسار أغلبيّة تلك الانتفاضات (بسبب تمكّن وعنف السلطة، والتدخّلات الخارجيّة) قد انقلب رأسًا على عقب، لكنّ خطّ الوعي العامّ الشعبيّ التّصاعديّ فيها كان واضحًا.

إن كانت المطالب الانتفاضيّة حالمةً وطوباويّةً في ظلّ إغفالٍ للدّور المتدخّل الذي يؤديه النّظام الاقتصاديّ الرّأسماليّ العالميّ، وإغفالٍ لدور القوى الدّوليّة والإقليميّة والمحليّة التي تحاول توظيف الانتفاضات الشّعبيّة بشتى الوسائل، وانعدامٍ لوجود تنظيماتٍ متماسكةٍ تنقل المطالبات إلى حيّز التّحقّق السّياسيّ، إلا أنها، والتّحرّكات التي عبّرت عنها، تجاوزت جذريًّا، وبمراحل متعددة، نطاق مطالب المثقّف وحركته؛ وفي حين عبّر الشّارع المُنتفض عن موقفٍ حاسمٍ وحازمٍ من السّلطة، وجد المثقّف – الذي راهن طويلًا على السّلطة بوصفها رافعة التّغيير الأساسيّة، ومنفّذة مشاريعه المقترحة التي يتسلّق من خلالها إلى موقعٍ ما فيها – نفسه مُهدَّدًا، لا بفقدان المكانة المتخيّلة التي عمل طويلًا على توسّلها من السّلطة فحسب، بل وجد نفسه مُتّهمًا (بحقّ) في إدامة عمر السّلطة وعسفها، وجزءًا من الكلّ الذي ينبغي الإطاحة به ليَحدث التّغيير.

تاسعًا: أنطونيو غرامشي وأدوار المفكّر المتعدّدة

لهذا يبدو، وبالنّظر إلى مآلات الانتفاضات العربيّة وتحوّلاتها، أنّ نتيجة عمل المثقّفين في سياق التّاريخ العربيّ المعاصر كانت ترسيخ السّلطة وتقوية موقفها، من خلال عدم مساهمتهم في بناء البدائل الفكريّة الماديّة، وعدم مشاركتهم في خلق وتطوير التّنظيمات والفعل التّنظيميّ وبناء الائتلافات الاجتماعيّة، وعدم انخراطهم في التّغيير والاشتباك مع السّلطة على الأرض، وعدم عملهم على رفع المستوى الفكريّ والنّقديّ لأكبر شريحةٍ ممكنةٍ من النّاس، واقتصار نشاطهم على الحدود النّخبويّة التي تسمح بها وترعاها السّلطة، وإبقاء النّقاش الفكريّ والنّظريّ خارج متناول العامّة، وخارج الممارسة.

هذه المهمّات المركزّيّة لنجاح التّغيير، يضعها أنطونيو غرامشي، في صلب المهمّات المنوطة بالـ intellectuals، فمن حيث بناء التّنظيمات السّياسيّة التّي تقدر على العبور من حالة اللاتحديد العامّة، الحالة الهُلاميّة، للجُموع، إلى الحالة المُشخّصة، الشّخصيّة، السّياسيّة لها، يقول غرامشي: «إنّ كتلةً بشريّةً ما لا تُميّز نفسها، ولا تصبح مُستقلّةً «بنفسها»؛ من دون أن تُنظِّم نفسها (بالمفهوم الواسع للكلمة)؛ ولا يوجد فعلٌ تنظيميٌّ من دون مُفكّرين، أي من دون مُنظِّمين وقادة، ودون الجانب النّظريّ من ثنائيّة نظريّة – ممارسة» [60].

أمّا من حيث التّركيز على أهميّة كسر احتكار المعرفة النّقديّة، واقتصارها فقط على مجموعة المفكّرين، وتمكين أكبر عددٍ ممكنٍ من النّاس منها، فيؤكّد غرامشي أنّ «على كلّ حركةٍ تريد أن تُغيّر المفاهيم المستقرّة عن العالم […] أن تعمل بشكل متواصل لرفع المستوى الفكريّ لشريحةٍ لا تني تتوسّع، أي: إعطاء وجودٍ شخصيٍّ مُعيّن (Personality) لتلك الكتلة التي بلا شكل، والتي هي جموع النّاس»[61]. هذا التّحوّل في نظر العامّة إلى الفلسفة من «اعتبارها إيمانًا»[62] إلى كونها «التّاريخ مُمَارسًا (History in Action)؛ إلى الحياة بذاتها»[63] ، سيؤدّي – في نظر غرامشي – إلى أن يتغيّر «فعليًّا المشهد الأيديولوجيّ للعصر» [64].

يطرح غرامشي مفهوم «المفكّر العضوي»، أي المفكّر الذي يُعبّر عن مصالح طبقةٍ بعينها، ويصوغ لها مفاهيمها التي تُعطيها «شخصيّتها» التّاريخيّة، أي معالم وجودها الفاعل في التّاريخ، ويُساهم في تحوّلها إلى «كتلة». في سياق التّحوّلات السّياسيّة والاجتماعيّة العربيّة، لن نجد مثل هذا المفكّر العضويّ لسببٍ أساسيّ: انعدام وجود طبقات سياسيّة – اجتماعيّة بالمعنى الذي وجدت عليه في البلدان الصّناعيّة في أوروبّا مطلع القرن العشرين. وإذ ينبثق مثقّفو المنطقة العربيّة من طبقةٍ وسطى هلاميّةٍ ومتغيّرةٍ وغير محدّدة المعالم، فهم يحملون معهم، ويستبطنون فيهم، مصالحها، ومحدّداتها، ومخاوفها، وانتهازيّتها، وميلها إلى «الاستقرار» والحفاظ على الوضع القائم كما هو، وارتباطها بالسّلطة، ورُعبها من التّغيير؛ أمّا القلّة من المثقّفين الصّاعدين من الطّبقات المسحوقة والهوامش، فجلّ اهتمامهم ينصبّ على قبولهم في «مجموعة المثقّفين» الحصريّة، لهذا فعليهم أوّلًا أن يستنكروا «تخلّف» الطّبقات والمجتمعات التي قَدِموا منها، ويتبنّوا خطاب ونسق ومظاهر الطّبقة الوسطى التي يريدون الانخراط فيها، ويرغبون في أن تقبلهم في مصافّها. ويعقّد انسلاخهم الطّبقيّ، ويسهّله في آن، تكريس المقولة اللّيبراليّة – الرّأسماليّة التي تنظر بوضاعةٍ إلى العمل اليدويّ، وتضعه في منزلةٍ دنيا في مقابل المنزلة الرّفيعة التي يحوزها العمل الذّهنيّ، فيرفّع مُثقّف الطّبقات المسحوقة نفسه من هذا الباب، لينسلخ طبقيًّا بالاتّجاه المُعاكس، ويفاقم من تفريغ طبقته من إمكانيّاتها الثّوريّة.

سينطبق على المثقّفين العرب، إذًا، دورٌ آخر يصفه غرامشي بكونه «ضباط شرطة الطّبقة الحاكمة»، الموكلة إليهم تنفيذ مهمّات الهيمنة الاجتماعيّة، واختلاق بداهةٍ تتعلّق بـ«الموافقة التّلقائيّة لجموع النّاس على التّوجّه الذي تطبعه الطّبقة الحاكمة على الحياة الاجتماعيّة»، وترويج «أدوات الإكراه التي تستخدمها الدّولة، والتي تضمن – «قانونيًّا» – تأديب المجموعات التي لا «توافق»»[65]. إن استبدلنا بـ«الهيمنة» مفهوم «السّيطرة»، ستنسجم الوظيفة أكثر مع الاستعارة التي استخدمها غرامشي، فمثّقفو المنطقة العربيّة لا ينتجون أيديولوجيا لـ«الدّولة» وطبقتها الحاكمة، لتُمكّنها من بسط هيمنتها على النّاس، إذ لا «دولة» ولا «طبقة حاكمة» ولا «نظام» في المنطقة العربيّة منذ ما بعد الاستعمار، ما يوجد هو كيانات وظيفيّة تتسلّط عليها مجموعاتٌ حاكمةٌ تتقلّب وتتغيّر مصالحها باستمرار مع تغيّر التّوازنات المحليّة والإقليميّة والدّوليّة[66]، لذا، يمثّل المثقّفون أبواق الدّعاية والتّبرير للبهلوانيّات السّياسيّة التي تؤدّيها المجموعات الحاكمة على حبال تلك التّوازنات، أو للقرارات الارتجاليّة/النّزقيّة التي تتّخذها على الصعيد الدّاخليّ (في ظلّ انعدام وجود مؤسّسات حكمٍ فعليّة).

وفوق هذا، يؤدي المثقّفون دور الكابح، واللاجم، في مواجهة المفكّرين الممارسين وأفكارهم النّقديّة، التي يُسحب عنها الغطاء أمام الإجماع البديهيّ الذي يُسبَغ على السّلطة ومقولاتها، فتتحوّل إلى مجرّد أفكارٍ «إشكاليّة» و«جدليّة» يتمّ تجاهلها والتّعتيم عليها في أحسن الأحوال، و«تخريبيّة» تستدعي العقاب في أسوئها، ويمارس المثقّفون حريّةً انتقائيّةً على المقاس، فيُدان بشدّةٍ القمع الذي تمارسه الأفكار الدّينيّة أو تنظيماتها من دون أن يُدان القمع الذي تمارسه السُّلطة؛ أو – من جهةٍ أخرى، نقيضة – يُحتفى بالحريّة بينما يُدان ما قد يُعدّ «تحرّرًا زائدًا» يُحرج السّلطة أمام مجتمع ما يزال محافظًا في أغلبه[67].

عاشرًا: لا وجود لـ«غير المفكّرين»، والثّورة يمكن أن تنطلق من أيّ نقطة

يقول غرامشي «كلّ النّاسِ «مفكّرون» لكنّهم لا يؤدّون وظيفة طبقة المفكّرين […] وبالمعنى نفسه، لا يمكن الحديث عن طبقة مفكّرين مقابل «غير المفكّرين»، فلا وجود لهذه المجموعة الأخيرة»[68]. يلتقي غرامشي هنا مع ماركس المتأخّر، المتأثّر بكُمْيُونَة باريس، إذ تلاحظ رايا دونايفسكايا على إنتاجه الفكريّ «تحوّله من تاريخ النّظريّات إلى تاريخ الصّراع الطّبقيّ في نقاط الإنتاج»، وابتعاده «من مفهومٍ يَعُدُّ النّظريّة نقاشًا بين المنظّرين […] [وسيره باتجاه] مفهومٍ يقدّم النّظريّة بوصفها تاريخًا لعلاقات الإنتاج»[69]، أي، بعبارةٍ أخرى، بوصفها تاريخًا للفعل، أو أنّ الفعل هو التّاريخ.

كما يلتقي غرامشي مع المفكّرين المُمارسين لكُمْيُونَة باريس، الذين مارسوا المعرفة بوصفها اشتباكًا مع، وانبثاقًا من، العمل في الواقع. تقول كرِسْتِن روسّ: «أوضحت كُمْيُونَة باريس […] أنّ الصّراع السّياسيّ نفسه يخلق شروطًا جديدة، يعدّل العلاقات الاجتماعيّة، يغيّر المشاركين في الحدث والطّريقة التي يفكّرون ويتحدّثون بها، الصّراع نفسه يخلق أشكالًا سياسيّة جديدة، طرق وجودٍ جديدة، ومفاهيم نظريّةٍ جديدةٍ لهذه الطّرق والأشكال»[70]. في موقفهم من الفعل والفكرة، استلهم الكُمْيُونِيّون عبارة جوزيف جاكوتو: «كلّ شيءٍ موجودٌ في كلّ شيء»[71]. كلّ المعارف محتواةٌ في كل شيء، عبر ترابطات كلّ شيءٍ مع كلّ شيءٍ آخر، ومن ثم لا تهمّ نقطة الانطلاق، إذ «يمكنك أن تبدأ من أيّ مكان» بحسب جاكوتو[72]،  لأنّ أيّ نقطة انطلاقٍ ستقود إلى كلّ شيء، وهذا هو بالضّبط حال العالم المعاصر الذي تتشابك فيه كلّ القضايا، ولا يمكن التّعامل مع واحدةٍ منها من دون التّعامل معها جميعًا، ومع جذرها المولّد للأزمات وانعدام العدالة: الرّأسماليّة.

كان الردّ الواضح من «العامّة» الذين أثبتوا أنّهم يعرفون أكثر كثيرًا من المثقّفين، هو حين نزلوا إلى الشّوارع بالفعل، مطالبين بـ«إسقاط النّظام»، محاولين اشتقاق «نظام جديد»، خالقين – في خضمّ ذلك – «أزمة النّفوذ» التي عرّفها غرامشي هكذا: «القديم يحتضر، والجديد لا يمكنه أن يولد؛ في فترة الخلوّ هذه، تظهر أشكالٌ هائلةٌ من الأعراض المرضيّة الفظيعة»[73]، كاشفين عورة المثقّفين الذين طفقوا يتجادلون عن «كارثة» فشلهم في التّنبّؤ بالتّحرّكات الشّعبيّة العربيّة، قبل أن ينحاز أغلبهم بعدها إلى السّلطة في مواجهة «الفوضى» و«الغوغاء».

تلك هي النّتيجة المنطقيّة الوحيدة لصيروة المثقّف الذي ما زال – حتّى اليوم – يبحث عن «التّقدّم» في حداثةٍ تجاوزها أصحابها إلى ما بعدها، وعن الاعتراف عند قدمَي سلطةٍ زاد تسلّطها وقمعها ولا تكترث به إلا بمقدار ما توظّفه من أجل بقائها وسيطرتها.

حادي عشر: المفكّر الممارس كنقيض للمثّقف:
في مواجهة الاستعمار والحداثة وجذرهما الأعمق، الرّأسماليّ

إن كان ثمّة دورٌ للمثقّف في عصر «النهضة» بوصفه نبيًّا ناطقًا باسم الحداثة، يفكُّ للعامّة مغاليق النصّ المكتوب، ويوعّي الجماهير «الجاهلة» ويدفعها (بقصدٍ أو من دون قصد) للانخراط في التّبعيّة للنّظام الاقتصاديّ العالميّ من بوابة الحداثة، فإنّ انتشار الرّاديو، ومن ثمّ التّعليم، يليهما التّلفاز، وبعدهم الإنترنت والهاتف الذّكيّ ووسائل «التّواصل الاجتماعيّ»، قد قلّل كثيرًا من أهميّة هذا الدّور وذاك الامتياز، فسقطت عن المثقّف هالة «التّميّز».

تجعل هذه التّغيّرات للمفكّر الممارس اليوم دورًا لا علاقة له بالتّوعية (التي تُحيل مباشرةً إلى المنزلة والسّلطة والاغتراب الذّاتيّ عن عامّة النّاس)، بل بالمواجهة والنّقد والإبداع: مواجهة السّلطة وآليّات عملها؛ ومواجهة الجمهور، أي مواجهة كسل الجمهور وارتخائه واستسلامه لمخدّرات التّسلية والاستهلاك، أفيون الشّعوب المعاصرة؛ ونقد الحداثة التي صُوّرت لأكثر من قرنٍ من الزّمن على أنّها طريق الخلاص، لنكتشف متأخّرين أنّها طريق الانخراط في التّبعيّة للاقتصاد الرّأسماليّ العالميّ، والفخّ الذي دُمّرت فيه اقتصادات الاكتفاء الذّاتيّ لمصلحة أشكال «النّموّ» التي تعتمد تقسيم العمل العالميّ وإغراق المستعمرات السّابقة بالدَّيْن لمصلحة المُستعمِرين «السابقين»[74]؛ وإبداع أشكالٍ جديدةٍ للوجود البشريّ القائم على العدالة والمساواة واحترام الطّبيعة، من داخل الاشتباك اليوميّ مع الوضع القائم، ومع السّلطة. المفكّر المُمارس هو مغادرةٌ كاملةٌ ونهائيّةٌ وحاسمةٌ لمفهوم المثقّف المشتقّ من الانبهار بالاستعمار، وهو التحوّل من النبيّ المُبشِّر بخلاص الإنسانيّة عبر الحداثة وتطويع الطّبيعة، إلى مواجهة هذه «الحداثة» وجذرها الأعمق، الرّأسماليّ، وآثارهما الكارثيّة القائمة اليوم.

كتب ذات صلة:

من النهضة إلى الحداثة

التراث والحداثة: دراسات .. ومناقشات

نقد الثقافة الغربية: في الإستشراق والمركزية الأوروبية

جذور الثقافة في المنطقة العربية

بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية