مقدمة:

انطلق مسار التحول الديمقراطي في الجزائر على خلفية أحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988، التي أعقبها إصلاح دستوري جرى بموجبه التحول من الأحادية إلى التعددية الحزبية والإعلامية. فشهدت الجزائر تبعاً لذلك، حركية سياسية غير مسبوقة، تُرجِمت عملياً بفتح باب الاعتماد للأحزاب السياسية المسماة في النص الدستوري المؤسِس للانفتاح الديمقراطي، الجمعيات ذات الطابع السياسي، وبإجراء انتخابات تعددية محلية وتشريعية.

غير أن هذا المسار اصطدم بجملة من الأحداث والمتغيرات التي أربكت سيره، وأدخلت الجزائر في دوامة سياسية سرعان ما تحولت إلى أزمة أمنية على خلفية ما سارت عليه الأوضاع عقب استقالة رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد، وما ترتب عنها من إلغاء نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية المجراة بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، ووقف المسار الانتخابي بعدم إجراء دوره الثاني، وإعلان حالة الطوارئ، والدخول في مراحل انتقالية ميزها قيام مؤسسات سياسية غير دستورية… وهو الوضع الذي ظل الحديث عن أسبابه موصولاً بتداعيات تدخل الجيش في الحياة السياسية للبلاد عامة، وتأثيره في منحى مسار التحول الديمقراطي بخاصة.

وعليه سيركز هذا المقال على إبراز موقع الجيش من العملية السياسية في الجزائر، انطلاقاً من الدور الذي مارسه خلال مسار التحول الديمقراطي. وهو الموضوع الذي يكتسي أهميته مما شهدته الساحة السياسية الجزائرية التي باتت أقرب إلى الأنموذج منها إلى التجربة، إذ كثيراً ما تستحضر حين الحديث عن أوجه تدخل الجيش في الممارسة السياسية، ومسارات التحول الديمقراطي في البلدان العربية. وهو ما لا يمكن عزل دراسته عن سياق خصوصية الجيش الجزائري، الذي يستمد مرجعية قيامه بالأدوار السياسية من الإرث السياسي الذي رافق مسار بلورة النشاط العسكري وميلاد الجيش الجزائري.

انطلاقاً مما سبق، سيجري التركيز على بحث موقع الجيش الجزائري من مسار التحول الديمقراطي في الجزائر انطلاقاً من الإشكالية التالية: ما أوجه التأثير السياسي للجيش في الجزائر، وما حقيقة تأثيره في مسار التحول الديمقراطي؟ وهي الإشكالية التي جرت صياغتها انطلاقاً من فرضية أن للجيش الجزائري تأثيراً كبيراً في الممارسة السياسية، تجلت بصورة أساسية في موقعه من تغيير منحى مسار التحول الديمقراطي.

أولاً: الخلفية التاريخية والمرجعية السياسية للجيش الجزائري

يُجمِع المهتمون ببحث ودراسة الجيش الجزائري، على أن له من الخصوصية ما يجعله متميزاً من نظرائه من الجيوش العربية. وهو وجه التميز الذي يستقي خصوصيته من الخلفية التاريخية والمرجعية السياسية للجيش الجزائري التي عبّر عنها المؤرخ «محمد حربي» بقوله: «إن هذا الجيش على عكس كل جيوش العالم لم تصنعه دولة بل هو الذي صنع دولته… وقبل ذلك صنع ثورة ممّا أكسبه شرعية تاريخية مميزة»‏[1]، وعبرت عنها المؤرخة الفرنسية «ميراي ديتاي» بقولها: «أراد الجيش في الجزائر أن يكون مالكاً للدولة التي صنعها، فهو الشرعية وهو السلطة»‏[2].

أمّا «ماثيو غيدار» الذي رأى – في مؤلَّفه صدمة الثورات العربية – أن الجيوشَ العربية مفتاح فهم المشهد السياسي العربي، فقد اعتبر الجيش الجزائري: «حالة خاصة، للحديث عن خصوصياته لا بد من تتبع مسار تطوره التاريخي وتحوله الراهن»‏[3]. وهو ما يزيد من توضيحه الباحث إلياس بوكراع في قوله: «من وجهة النظر التاريخية فالجيش الوطني الشعبي هو وليد جيش التحرير الوطني وجبهة التحرير الوطني، وليس جيشاً تقليدياً لا على مستوى البنية والهيكلة ولا على مستوى الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية»‏[4]، وهو لم يبتعد عمّا سبق وكتبه السياسي والمفكر عبد الحميد مهري: «الظاهرة العسكرية في الجزائر قد تمثل حالة فريدة تجمعت فيها عدة عوامل وصفات منها ما تشترك فيه مع غيرها ومنها ما تنفرد به، فهي لم تأتِ نتيجة انقلاب…، بل إنها نشأت وتطورت على مراحل، وتغذت من أوضاع سياسية مختلفة، مدة تزيد على نصف قرن. فهي ظاهرة تراكمية، متصلة بتاريخ حركة التحرير الوطني في الجزائر وبالتطورات السياسية في المنطقة العربية والعالم»‏[5].

وعليه أمكن القول إن أي حديث عن الجيش الجزائري وبيان موقعه من الممارسة السياسية، لن يكتمل من دون العودة إلى بحث جذوره ومسار تطوره التاريخي. وهو ما لا يمكن لتتبعه أن يتجاوز الوقوف عند أربع محطات رئيسية، تمثل المسارات الجوهرية لمسار تطور الجيش الجزائري وبلورة أدواره السياسية. وإن مِنَ المؤرخين من يعود لما سبق لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، الأمير عبد القادر الجزائري (1808 – 1883) أنْ قام به من تنظيم الجيش «كما أننا نراه قد نظم الجيش الوطني على أحدث نمط أمكنه في ذلك الوقت، بل ربما نرى جيشه قد فاق غيره ممن كانت لهم وقتئذ عراقة في الدولة ورساخة قدم في الجيش»‏[6].

1 – تأسيس المنظمة الخاصة

تأسست شهر شباط/فبراير 1947 خلال المؤتمر الأول لـ «حركة انتصار الحريات الديمقراطية»، لتصير الجناح العسكري للحزب الذي أناط بها مهام التحضير والإعداد لثورة مسلحة. أسندت مسؤولية الإشراف عليها وبعثها ميدانياً إلى «محمد بلوزداد»‏[7]، ومن أشهر قياداتها الحسين آيت أحمد، وأحمد بن بلة، ومحمد بوضياف… الذين كان لهم أدوار سياسية كبيرة في الجزائر بعد الاستقلال.

تعتبر المنظمة الخاصة أول تنظيم ذي طابع عسكري على درجة من الضبط والتنظيم في مسار الحركة الوطنية. وقد راعت في التجنيد الذي استطاعت أن تبلغ فيه نحو 1500 عضو، شروطاً صارمة عكست طبيعتها النخبوية بتركيزها على الانتقائية ومراعاة الانضباط والصرامة والسرية والإيمان بالقضية الوطنية، فمزجت في تأهيل المنضمِّين إليها بين التكوينين:

– العسكري: القائم على التدريب على الأسلحة، وتلقين الفنون القتالية، وتقنيات حروب العصابات…

– السياسي: تلقين فنون التعبئة الجماهيرية، وتعزيز الروح الوطنية، وترسيخ أفكار النضال الثوري كخيار لتحقيق الاستقلال‏[8].

بذرت «المنظمة الخاصة» أولى البوادر العملية للعمل الثوري القائم على التنظيم العسكري، ما تجلت آثاره بميلاد «جيش التحرير الوطني» الذي تشكلت نواة مؤسسيه من إطارات المنظمة وكفاءاتها.

2 – ميلاد جيش التحرير الوطني

ولد «جيش التحرير الوطني» في جو سياسي مشحون ميّزه انقسام أحزاب الحركة الوطنية وتياراتها، بين مناصر للعمل الثوري، ومؤيد لمواصلة النضال السياسي، ومتذبذب بين الخيارين‏[9].

تأسس «جيش التحرير الوطني» بناء على ما توصلت إليه «مجموعة الستة»(*) من ترتيبات عملية للإعلان عن إطلاق الثورة التحريرية «في اجتماع عقدوه بينهم قرروا تأليف جيش باسم «جيش التحرير الوطني» غايته خوض المعركة في سبيل الاستقلال»‏[10]؛ فكان أن قرروا إنشاء «جبهة التحرير الوطني» و«جيش التحرير الوطني» كجناح عسكري لها، وحرروا للهيئتين بيانين: «بيان أول نوفمبر 1954»، و«بيان جيش التحرير الوطني» بُثّا بالتزامن مع انطلاق العمليات العسكرية ليلة الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954.

يبقى «مؤتمر الصومام 1956» الحدث الأبرز في مسار التطور التنظيمي لجيش التحرير الوطني، ذلك أنه عرف معه البنى الهيكلية التي قام بناؤه التنظيمي وتسلسله الهرمي عليها. فبات لأفراده رتبٌ عسكرية، وانتظمت تشكيلاته على شكل وحدات عسكرية منظمة[11]، وأضحى له مهام مضبوطة تراوحت بين القيام بالأدوار العسكرية وأداء الوظائف السياسية، وصار لأفراده تنشئة سياسية سرعان ما انعكست على إحساسهم بتحملهم لمسؤولية سياسية، تماماً كما يتولون القيام بمهام عسكرية.

تعبِّر الأدبيات التاريخية والسياسية المهتمة بتاريخ الجزائر المعاصر عن الامتزاج الذي بلغ حد التداخل والتطابق بين العسكري والسياسي إبّان الثورة التحريرية، وعن الصراع بين السياسي والعسكري الناشئ عن قرارات مؤتمر الصومام الذي كان من أهم بنوده إقرار أولوية السياسي على العسكري. وهو التداخل الذي قد يجد مبرره ويعود تفسيره إلى أن الخيار الثوري الذي تأسس عليه ولأجله جيش التحرير الوطني، إنما كان خياراً سياسياً في الأصل لا عسكرياً.

هذا يعني أن الهدف كان سياسياً (تحقيق الاستقلال الوطني) والوسيلة عسكرية (الثورة التحريرية)، فما كان للوسيلة بذلك أن تخرج عن طبيعة الهدف. فاعتماد العمل المسلح كان تعبيراً عسكرياً عن خيار سياسي (الثورة)، وهو ما نتج منه أن أضحت الوظيفة السياسية وظيفة أصيلة ومهمة مدمجة بين ثنايا العقيدة العسكرية لجيش التحرير الوطني.

3 – التحول إلى الجيش الوطني الشعبي

أورثت الثورة الجزائر جيشاً سمي «الجيش الوطني الشعبي»: «وأصبح جيش التحرير الوطني يحمل اسم «الجيش الوطني الشعبي» الذي أطلقه عليه العقيد بومدين خلال اجتماع القادة العسكريين لهيئة الأركان والولايات التاريخية… نهاية أغسطس 1962»‏[12]، وهي التسمية التي عبرت عن امتداده الوطني، وعمق ارتباطه بالشعب الذي منه يستمد ذخره البشري تماماً كما استمد منه سلفه «جيش التحرير الوطني» مدده.

ارتباط «الجيش الخلف» بـ «الجيش السلف» لم يكن مجرد إشارة إلى دلالة رمزية سعت دساتير الجمهورية، ومختلف نصوصها الرسمية إلى إبرازها لغرض تخليد أمجاد جيش التحرير الوطني وإبقائه حياً في ذاكرة أجيال الاستقلال؛ بل كان واقعاً مبنياً على طبيعة متطلبات مرحلة بناء الدولة بعد أن تم تحقيق الاستقلال كما يمكن قراءته من الموقع الرسمي لـ «وزارة الدفاع الوطني»: «ومع إنجاز جيش التحرير لمهمته التي توجت بالاستقلال الوطني وحتمية تكوين جيش نظامي قادر على حماية هذا المكسب، أعلن عن تحوير جيش التحرير إلى الجيش الوطني الشعبي في الأيام الأولى للاستقلال وذلك بهدف وضع تشكيلاته تحت سلطة مركزية واحدة»‏[13].

4 – الأدوار السياسية للجيش في تأسيس السلطة السياسية لجزائر الاستقلال

تشكل الوقفات السابق بيانها المحطات الرئيسية التي امتزج فيها الفعل السياسي (النضال السياسي) بالفعل الثوري (العمل العسكري)، والذي تشكل رواسبه المرجعية التي رسمت مسار الممارسة السياسية للجزائر المستقلة. فقد شكلت تراكمات وتجاذبات العلاقات الناشئة والناشبة بين العسكري والسياسي إرثاً سياسياً للعسكريين، أورثه جيش التحرير الوطني لسليله الجيش الوطني الشعبي، أنتج إحساساً لديهم بأن لهم أدواراً سياسية تبلغ حد اعتبار أن لهم الأحقية في ممارسة الوصاية، بل وسلطة الرقابة وضبط حدود مسؤوليات نظرائهم من السياسيين.

لا يعدّ القول بممارسة الجيش الجزائري أدواراً سياسية غداة استقلال الجزائر وخلال مرحلة تأسيس السلطة السياسية لجزائر الاستقلال، من باب الأحكام المسبقة، بل هو توصيف ناتج من تشخيص وقراءة مسار تطور الأحداث السياسية الكبرى في الجزائر، التي دائماً ما رجّح فيها العسكريون كفة الفصل والقرار لمصلحة مرادهم واختيارهم. ومن تلك الأحداث السياسية التي عاشت فيها الجزائر مخاض المواجهة بين العسكري والسياسي في ممارسات تعد من صلب اختصاص الممارسة السياسية المدنية ما يلي:

أ – أزمة صيف 1962‏[14]

اشتد فيها الصراع بين قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. احتدم فيها الخلاف الناشئ بسبب السعي لتسلُّم السلطة عقب تحقيق الاستقلال، وقد بلغ الصدام حد المواجهة المسلحة بين جيوش الولايات(*)، قبل أن ينتهي فصل الصراع لمصلحة قيادة الأركان التي عقدت اتفاقاً سياسياً (استراتيجياً) مع أحمد بن بلة بوصفه أحد الزعامات التاريخية، بمساندته ومساعدته على الوصول إلى تسنُّم السلطة ورئاسة البلاد.

ب – أحداث 19 حزيران/يونيو 1965‏[15]

هي الأحداث التي اختلفت الأدبيات السياسية في تسميتها، لتراوح ذلك بين اعتماد التسمية الرسمية التي تراها «تصحيحاً ثورياً»، وتسميتها «الانقلاب» بناءً على ما سارت عليه، وما آلت إليه الأحداث. تمثلت الأحداث في إقدام العقيد هواري بومدين وزير الدفاع الوطني على تنحية الرئيس أحمد بن بلة – السابق مساندته ومساعدته على الوصول إلى رئاسة الجمهورية – من منصبه، واعتقاله والحلول محله بترؤس الهيئة المستحدثة لتولي الإنابة عن رئيس الجمهورية المخلوع، المسماة «مجلس الثورة» الذي استمر كواجهة مؤسسية لممارسة السلطة في الجزائر إلى غاية سنة 1976، حيث جرى انتخاب رئيسه رئيساً للجمهورية.

ج – حسم خلافة الرئيس المتوفى هواري بومدين‏[16]

قام الجيش بدور فيصل في حسم اسم المرشح لخلافة الرئيس المتوفى هواري بومدين نهاية سنة 1978، بتقديم اسم العقيد الشاذلي بن جديد كمترشح لرئاسة الجمهورية. تبعاً لاعتماد نظام الحزب الواحد، فإن اختيار المرشح لرئاسة الجمهورية ما كان ليخرج عن إطار حزب جبهة التحرير الوطني بصفته الحزب الواحد والوحيد على الساحة السياسية. ما يعني أن مسألة الترشح كانت تحسم على مستوى مؤتمر الحزب أولاً، قبل أن يطرح اسم مرشح واحد لانتخابات شعبية أقرب إلى وصفها استفتاءً أو تزكية من وصفها انتخاباً. في هذا السياق قام الجيش بفرض اسم العقيد بن جديد كمرشح لرئاسة الجمهورية بكونه أقدم ضابط في أعلى رتبة عسكرية، بعد أن كان التنافس محموماً بالأساس بين شخصيتين سياسيتين هما: عبد العزيز بوتفليقة، ومحمد الصالح يحياوي.

يشار في هذا السياق إلى الاندماج العضوي الحاصل خلال فترة الأحادية الحزبية في الجزائر، بين حزب جبهة التحرير الوطني والجيش الوطني الشعبي الذي كان ممثـلاً بأعضاء عنه في مختلف هياكل الحزب ومؤسساته. كما احتسبت سنوات الخدمة في الجيش لغير المجندين في إطار الخدمة الوطنية، كسنوات خبرة نضالية في صفوف الحزب. ومما يتصل ذكره بهذا الشأن إسناد مناصب المسؤولية السياسية (الوزراء، السفراء، الولاة…) للكثير من العسكريين السابقين.

هذا تبيان موجز لأهم لأحداث السياسية التي عرفتها الجزائر قبل إقرار خيار التحول الديمقراطي، الذي سيلي بيان بعض محطاته وموقع الجيش من مساراته.

ثانياً: محطات مسار التحوُّل الديمقراطي في الجزائر

استثمرت الجزائر عقب استقلالها في مؤسسات ثورتها. فكما جرى تحويل جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، فقد أُقر إعلان جبهة التحرير الوطني الحزب السياسي الأوحد على الساحة السياسية؛ فكان بذلك الأداة السياسية لممارسة الحكم، والإطار المحتكر لكل أوجه الممارسة والمشاركة السياسة. فقد أجمعت دساتير الجزائر (1963، 1976) ومواثيقها الوطنية (1976، 1986) على كون «حزب جبهة التحرير الوطني» الإطار الوحيد لكل أوجه الممارسة السياسية في البلاد.

بذلك أمكن القول إن الجزائر انتهجت نظام الحزب الواحد منذ استقلالها إلى غاية سنة 1989، حيث جرى استصدار دستور جديد عُدَّ بمثابة المؤسس للجمهورية الثانية بسبب ما أنبأ به من السعي لتكريس أوجه جديدة من الممارسة السياسية، جرى التوافق على وصفها بخيار التحول الديمقراطي. فما هي ظروف إقرار هذا الخيار؟ وما أهم أوجه تكريسه وممارساته؟ وأهم مساراته؟

1 – الظروف الداخلية والخارجية لإقرار التحوّل الديمقراطي

يربط الكثير من المتابعين الأسباب المباشرة التي عجّلت بانتهاج خيار التحول الديمقراطي، بأحداث تشرين الأول/أكتوبر 1988 التي شهدت فيها الجزائر مواجهات دامية قادتها جموع المتظاهرين في الكثير من الأحياء والمدن التي ركزت استهدافها على كل ما يرمز إلى الدولة والحزب، من مؤسسات عمومية، ومبانٍ حكومية، ومقار حزبية… وهي الأحداث التي وصفتها مذكرات اللواء المتقاعد خالد نزار الذي كان يشغل وقتها منصب قائد القوات البرية، بأنها سارت بوتيرة متسارعة وشبه منظمة توحي بوجود هيئة أركان تقوم بتحريك جموع الشباب الثائر وتوجيهه لزعزعة الاستقرار، باستهدافه المُرَّكز لكل ما يرمز للدولة ومؤسساتها‏[17]. امتدت الأحداث لنحو أسبوع من الزمن، وخلفت حصيلة بشرية تضاربت الإحصاءات بشأن تحديد عدد ضحاياها، بين الرقم الرسمي المقدم والمقدر بـ 159 ضحية، والرقم المتداول إعلامياً وفي تصريحات المعارضة المقدر بأكثر من 400 ضحيـة‏[18] . إن ربط انطلاق مسار التحول الديمقراطي في الجزائر بأحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر يقتضي البحث في بعض أسبابها وظروف حدوثها، وهو ما يمكن إيجاز الإشارة إليه في ما يأتي:

  • محدودية قدرة حزب جبهة التحرير الوطني على تقريب الهوة بين مختلف الأيديولوجيات والتيارات السياسية القائمة والموجودة فعلياً بين ثنايا المنتسبين إليه: «يجب أن نعترف أن جبهة التحرير الوطني كانت مخترقة من طرف كل التيارات، وكان فيها الإسلاميون، والبعثيون، والإصلاحيون، والبربريون، والديمقراطيون، والباكسيون [الشيوعيون]»‏[19]، فضـلاً عن المجاهدين الذين يرون بالحزب الفضاء السياسي الطبيعي لمواصلة مسيرة البناء، بعد تحقيق معركة التحرير.
  • محدودية قدرات الرئيس بن جديد في التوفيق بين النخب والفاعلين السياسيين والعسكريين في النظام، لافتقاره إلى مقومات الكاريزما والقوة التي مكّنت سلفه الرئيس بومدين من ضبط دواليب الحكم وإدارتها‏[20].
  • التوجه نحو ممارسات اقتصادية أخلّت بالسياسات الاجتماعية القائمة على تطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية بمفهومها الاشتراكي المطبق منذ فجر الاستقلال. وهو ما يتوافق مع ما وصف به السيد أحمد طالب الإبراهيمي، وزير الشؤون الخارجية وقتذاك، الأحداثَ بأنها: «كانت نتيجة طبيعية للتخلي التدريجي عن أحد المبادئ الأساسية لثورة نوفمبر وهو مبدأ العدالة الاجتماعية الذي ميّز فترة الرئيس الراحل هواري بومدين ثم تراجع تطبيقه تدريجياً في عهد الرئيس الشاذلي الذي فضل إعطاء هامش أكبر للحريات الفردية والجماعية، ولكن على حساب العدالة الاجتماعية»‏[21].
  • رواج إشاعات عن تورط المحيط العائلي للرئيس بن جديد في بعض عمليات الاختلاس وسوء استعمال السلطة والنفوذ واستغلالها‏[22].

امتزجت جملة الأسباب المشار إليها – وغيرها مما لا يتسع المقام لتعدادها -، مع مجموع الظروف الخارجية (الدولية) التي من أهمها:

  • ظهور بوادر أفول المعسكر الشرقي أمام تمدد المد الليبرالي، ودخول الدول الاشتراكية في جملة من السياسات الإصلاحية في المجالين السياسي والاقتصادي. ما ألزم دول العالم الثالث التكيف مع مستجدات الأحداث الدولية، وهو أمر يمكن أن تندرج في ضوئه مساعي الجزائر في التوجه نحو الانتقال الديمقراطي.
  • تراجع أسعار النفط في السوق العالمية ابتداءً من سنة 1986، وهو ما انعكس على طبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر ذات الاقتصاد الريعي، القائم بالأساس على مداخيل بيع وجباية النفط، فحدثت ندرة في المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع كالسميد والزيت والقهوة والسكر… مقابل ترويج السلطة خطاباً ديماغوجياً يتجاهل معاناة الشعب غير المألوفة التي أحدثت خلطاً على نمط عيشه‏[23].

2 – مظاهر التحول الديمقراطي وأوجه ممارساته

لا يتسع المقام للإطناب في تعداد مظاهر وظواهر التحول الديمقراطي المنتهج في الجزائر، ما يقتضي أن تقتصر الإشارة إلى أهم المظاهر على النحو الآتي:

أ – سن دستور 28 شباط/فبراير 1989

جاء بتوجه سياسي جديد بإقراره التعددية الحزبية التي سميت في نص المادة 40 منه «الجمعيات ذات الطابع السياسي»، وبمبدأ الفصل بين السلطات، ومسؤولية الحكومة أمام البرلمان، وإنشاء مجلس دستوري، فضلاً عن حماية الحقوق والحريات وترقيتها‏[24].

ب – إصلاح المنظومة القانونية

أُتبع الإصلاح الدستوري بإصلاح المنظومة القانونية، بما يراعي التوجه الجديد للممارسة السياسية في البلاد. فكان من أهم القطاعات المشمولة بنطاق إصلاح المنظومة القانونية: الأحزاب السياسية، والانتخابات، والإعلام.

انعكس إصلاح المنظومة القانونية في المجالات المشمولة بالإصلاحات الدستورية على الواقع الممارساتي، فقد أنتج الإقرار بحرية الإعلام ظهور تعددية إعلامية، وإن اقتصرت على مجال الصحافة المكتوبة. وأبان فتح المجال السياسي عن ظهور عشرات الأحزاب السياسية التي نشطت تحت مسمى الجمعيات ذات الطابع السياسي.

ج – ظهور المؤسسات الحقوقية

أذن التحول الديمقراطي بميلاد مؤسسات ومنظمات تهتم بمسائل حقوق الإنسان. كان من أهمها: الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان؛ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان؛ الوزارة المنتدبة المكلفة بحقوق الإنسان؛ المرصد الوطني لحقوق الإنسان؛ اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق الإنسان…‏[25].

د – ظهور فعاليات المجتمع المدني

عجّت الساحة السياسية والمجتمعية بالجمعيات الوطنية والمحلية متعددة أوجه النشاط، ومجالات الاهتمام (دينية، مسجدية، خيرية، ثقافية، تربوية، فنية، جوارية…)، كما سجل تزايد عدد النقابات العمالية وخروجها عن إطار الممارسة الحصرية التي كانت محتكرة من طرف «الاتحاد العام للعمال الجزائريين».

هـ – إجراء الانتخابات التعددية

تعَدّ الانتخابات المحلية(*) المجراة بتاريخ 12 حزيران/يونيو 1990، أول انتخابات تعددية عرفتها الجزائر منذ استقلالها. وقد حقق فيها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ(**) الفوز بـ 853 مجلساً شعبياً بلدياً من أصل 1541 مجلساً، ما يمثل 55.35 بالمئة من المجالس الشعبية. و32 مجلساً شعبياً ولائياً من أصل 48 مجلساً، بنسبة 66.66 بالمئة‏[26].

أما الانتخابات التشريعية التعددية، فقد تأجل موعد إجرائها من تاريخ 27 حزيران/يونيو 1991 إلى تاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1991 بسبب الإضراب الذي دعت إليه جبهة الإنقاذ احتجاجاً على قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الذي قدمته الحكومة. وهو الإضراب الذي تحول إلى عصيان مدني استلزم فرض حالة الحصار، وإقالة الحكومة، وتأجيل موعد إجراء الانتخابات‏[27].

 

ثالثاً: استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد: استقالة، أم إقالة، أم انقلاب؟!

تعَدّ استقالة الرئيس بن جديد التي قدمها بتاريخ 11 كانون الثاني/يناير 1992 منعرجاً حاسماً في مسار التحول الديمقراطي في الجزائر، بسبب ما خلفته من آثار سياسية انعكست على السير المؤسسي للبلاد، وهو ما أربك مسار التحول الديمقراطي وجعله يصطدم مع أولى عثراته. فما طبيعة الظروف الموضوعية والزمنية التي جاءت في سياقها الاستقالة؟ وكيف أثرت في حسن مسار التحول الديمقراطي في الجزائر؟

1 – الظروف الزمنية والموضوعية لاستقالة الرئيس بن جديد

قدم الرئيس بن جديد رسالة استقالته في فترة زمنية جاءت بين موعدين انتخابيين مهمين، لتزامنها ما بين إعلان نتائج الدور الأول من أول انتخابات تشريعية عرفتها الجزائر نهاية سنة 1991، وبين التحضير وانتظار تنظيم الدور الثاني منها لاستكمال المسار الانتخابي الذي كان سيتوِّج الجزائر بأول برلمان تعددي في تاريخها.

يتصل بحث مسألة انعكاس استقالة الرئيس بن جديد على مسار التحول الديمقراطي بالظروف العامة التي رافقتها، والمتمثلة أساساً بمفرزات الانتخابات التشريعية التي شارك في دورها الأول المجرى بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1991: 49 حزباً سياسياً من أصل 58 حزباً معتمداً، فضـلاً عن الكثير من القوائم الانتخابية الحرة التي دخلت الانتخابات للتنافس على الفوز بـ 430 مقعداً برلمانياً.

أفرز الدور الأول من الانتخابات الفصلَ في 232 مقعداً نيابياً، ليتأجل التنافس على 198 مقعداً المتبقية إلى الدور الثاني الذي كان يفترض أن يجري في ما لا يتجاوز الثلاثة أسابيع من تاريخ إجراء الدور الأول. وهو ما لم يتم بسبب وقف المسار الانتخابي بعدم إجراء دوره الثاني، وإلغاء نتائج دوره الأول التي جاءت على النحو التالي‏[28]:

نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية المجراة بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1991

التشكيلات السياسيةالجبهة الإسلامية للإنقاذجبهة القوى الاشتراكيةجبهة التحرير الوطنيالأحرارالمجموع
عدد المقاعد18825163232
النسبة المئوية43.725.813.720.6953.95

 

أفرزت نتائج الدور الأول من الانتخابات جواً سياسياً مشحوناً، ميّزه بالأساس انقسام الطبقة السياسية بين أنصار جبهة الإنقاذ المنتشين بما حققوه من نتائج جعلتهم على بعد خطوة من الحصول على الأغلبية البرلمانية التي كانت ستؤهل حزبهم لتشكيل الحكومة. وما قابل ذلك من تخوف غرمائهم السياسيين من مآلات المسار الديمقراطي في حال تمكن هذا الحزب من مفاصل الدولة، في ظل بروز بوادر ورواج أخبار عن عزم قادة جبهة الإنقاذ على المطالبة بتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة بعد التمكن من حصد الأغلبية البرلمانية. وهي المخاوف التي زاد منها خطاب بعض قيادات جبهة الإنقاذ التي لم تُخفِ فيها كفرها بالديمقراطية ورفضها التعددية والانتخابات، على الرغم من استعمالها لها كمطية للوصول إلى الحكم. في ظل هذا التراشق السياسي الذي زاد من حدته ما بات يشهده الشارع الجزائري من مسيرات وتجمعات جاءت استقالة الرئيس بن جديد التي خلطت كل أوراق الساحة السياسية.

2 – قراءة دستورية في استقالة الرئيس بن جديد: الاستقالة وإشكالية الفراغ الدستوري!

نظمت المادة 84 من دستور 1989 مسألة إنابة رئيس الجمهورية في حالات وفاته أو استقالته أو حدوث مانع يحول دون تمكنه من مواصلة أداء مهامه.

«… في حـالة استقالة رئيس الـجمهورية أو وفاته، يـجتـمع الـمجلس الدستوري، وجوباً، ويثبت الشغور النهائي لرئاسة الـجمهورية… يتولى رئيس الـمجلس الشعبي الوطني مهام رئيس الدولة مدة أقصاها خمسة وأربعون يوماً، تنظم خلالها انتـخابات رئاسية… وإذا اقترنت وفاة رئيس الـجمهورية بشغور الـمجلس الشعبي الوطني بسبب حله، يـجتـمع الـمجلس الدستوري وجوباً لإثبات الشغور النهائي لرئاسة الـجمهورية. يضطلع رئيس الـمجلس الدستوري بـمهمة رئيس الدولة في الظروف الـمبينة في الفقرات السابقة من هذه الـمادة وفي الـمادة 85 من الدستور»‏[29].

فقد أوكل الدستور مهمة الإنابة الرئاسية إلى رئيس البرلمان، إلا في حال اقتران وفاة رئيس الجمهورية بشغور البرلمان، حيث تؤول مهمة الإنابة إلى رئيس المجلس الدستوري. فلماذا اتصل الحديث عن استقالة الرئيس بن جديد بإشكالية الفراغ الدستوري، وقد قام الدستور الذي كان ساري المفعول آنذاك بتنظيم ذلك؟!

قام الجدل الدستوري الذي أثارته استقالة الرئيس بن جديد على ما كان قد سبق وأقدم عليه بتاريخ 4 كانون الثاني/يناير 1991، بحل البرلمان من دون إعلام الرأي العام بذلك، ولا حتى رئيس البرلمان الذي صرّح في وقت لاحق أن رئيس الجمهورية لم يستشره ولم يعلمه بما قام به‏[30]. فوجدت البلاد بذلك نفسها أمام اقتران شغور منصب رئيس الجمهورية بسبب الاستقالة، بشغور البرلمان بسبب الحل، وهي الحالة غير المنصوص عليها في الدستور الذي ربط حالة شغور المنصبين بالوفاة والحل، لا بالاستقالة والحل، وهو ما رفض معه رئيس المجلس الدستوري تولي مهام الإنابة الرئاسية بدعوى أن الدستور لم يكلفه بهذه المهمة في هذه الحالة، فدخلت البلاد بذلك في أزمة مزدوجة: سياسية بشغور منصب رئيس الجمهورية، ودستورية بظهور إشكالية الفراغ الدستوري.

3 – قراءة سياسية في استقالة الرئيس بن جديد: هل كانت استقالة بمسحة انقلابية؟!

لم يمنع نقل نشرة الأخبار الرئيسية ليوم 11 كانون الثاني/يناير 1992 الوقائع المباشرة لقيام الرئيس بن جديد بتقديم رسالة استقالته إلى رئيس وأعضاء المجلس الدستوري، من تأويل ما قام به على أنه كان قراراً اضطُر إلى اتخاذه تحت الضغط والإكراه. بل ذهب بعض القراءات إلى وصف استقالته بانقلاب عسكري دبرته زمرة نافذة في سرايا الجيش لعرقلة وصول جبهة الإنقاذ للحكم.

من الصعوبة بمكان القول الفصل في تصنيف ما قام به الرئيس بن جديد، وبخاصة أنه عاد إلى ما قام به في آخر أيام حياته واصفاً قرار استقالته بأنه اتخذه بكل حرية ومسؤولية، كنتيجة لقناعته بضرورة انسحابه – لا التخلف عن أداء مهامه والقيام بمسؤولياته – من المشهد السياسي المتأزم. إلا أن العودة إلى الظروف التي صاحبت تقديم الاستقالة تعطي مشروعية للتساؤل حول حقيقة تصنيف ما أقدم عليه الرئيس.

كما سبق بيانه، تزامنت الاستقالة مع تحقيق جبهة الإنقاذ فوزاً انتخابياً كاد يحصل به على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان في الدور الأول من الانتخابات، وهو ما رجح خيار النافذين في الجيش بضرورة وقف المسار الانتخابي، وهو أمر يستلزم تنحي الرئيس لإيجاد ظروف ومبررات للحؤول دون وصول جبهة الإنقاذ إلى البرلمان، ودخولها بذلك إلى دائرة يصعب معها التحكم فيها ومراقبتها‏[31]. وهو الرأي الذي يجد ما يسنده من تبريرات بالعودة إلى التشنج القائم بين جبهة الإنقاذ والجيش على اعتبار ما أنيط به من مهام فرض النظام العام، وما اقتضاه أداء المهمة من ضرورة مواجهة أنصار الحزب في فض اعتصاماتهم ووقف مسيراتهم، وهو ما أعطى الانطباع لدى الرأي العام برفض الجيش للنتائج الانتخابية المحققة من طرف الحزب. وهو التشنج الذي قابله ما بدا وكأنه تعايش وتطبيع للعلاقة القائمة بين رئيس الجمهورية وجبهة الإنقاذ، بتحوله إلى مهادن لها بعد أن كان المغذي الأول لخطاباتها المعادية للسلطة ورموزها، وهو ما استدعى ضرورة تنحي الرئيس عن السلطة لتنفيذ خيار وقف المسار الانتخابي لعدم مسايرته لهذا الطرح‏[32].

قد لا تجد هذه القراءة تفسيرها باعتماد المقاربة الدستورية المؤسسية في التحليل، فرئيس الجمهورية هو بنص الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة، فضـلاً عن كونه ابن الجيش صاحب الفضل في إيصاله إلى رئاسة الجمهورية كما سبق بيانه. غير أن تجاوز المقاربة الدستورية المؤسسية في التحليل إلى مقاربة تحليل الفاعلين الرئيسيين في النظام، والماسكين بزمام المبادرة وسلطة القرار في منظومة النظام السياسي الجزائري، يصلح أن يكون مقاربة بديلة لتفسير وتحليل بعض أحداث تطورات العملية السياسية في هذه الفترة العصيبة التي مرت بها الجزائر.

فضـلاً عن ذلك، تجد القراءات المشككة في اعتبار ما أقدم عليه الرئيس بن جديد استقالة طوعية، بعض ما يسندها من الحجج والتبريرات في ما أثارته الاستقالة من فراغ دستوري أنتج اتخاذ قرارات سياسية جريئة، واستحداث مؤسسات سياسية تفتقد الشرعية الدستورية أديرت بها المرحلة الانتقالية التي دخلتها الجزائر على خلفية إشكالية الفراغ الدستوري. وهي القرارات التي يمكن تعداد أهمها في:

  • قيام المجلس الأعلى للأمن بمهمة التفكير في إيجاد مخرج لإشكالية الفراغ الدستوري، ما أثار جدلاً سياسياً وقانونياً حول أهليته في الخوض في هذه المسائل وبتها من جهة، وحول شرعية اجتماعه تحت رئاسة رئيس الحكومة في غياب رئيسه رئيس الجمهورية من جهة أخرى.
  • توقيف المسار الانتخابي بإلغاء نتائج الدور الأول من الانتخابات التشريعية المجراة بتاريخ 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، وإقرار عدم إجراء دورها الثاني‏[33].
  • إنشاء «المجلس الأعلى للدولة» بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 1992، كجهاز للإنابة الرئاسية يتولى سد الشغور الحاصل برئاسة الجمهورية، وتمتد عهدته إلى نهاية الفترة الرئاسية الناتجة من انتخابات كانون الأول/ديسمبر 1988‏[34].

في ضوء ما تقدم يُفهم سر ربط الكثير من الأدبيات الأكاديمية والإعلامية والسياسية، الحديث عن استقالة الرئيس بن جديد بمصطلح «الينايريين» (Janviéristes)، كوصف يعبِّر عن مجموعة من قادة الجيش الذين أسهموا في وقف المسار الانتخابي شهر كانون الثاني/يناير 1992. وهذا يعزز فرضية الضغط على الرئيس لدفعه إلى تقديم استقالته كأحد الخيارات المتاحة لوقف المسار الانتخابي وإلغاء نتائجه.

الثابت من تعدد قراءات استقالة الرئيس بن جديد بكونها استقالة أم إقالة بمسحة انقلابية، أنها ارتبطت بالدور الخفي والفاعل للجيش في توجيه مسار التحول الديمقراطي في الجزائر. فالتشعب في بحث استقالة رئيس الجمهورية، إنما يرجع إلى أهميتها كحدث بارز في سياق الموضوع قيد الدراسة، فقد أبانت عن عجز المجلس الدستوري في التصدي للأزمة بشكل بدى وكأنه سيناريو محكم الحبك، وبخاصة في ظل وجود قراءات دستورية ترى بعدم دستورية استقالة الرئيس بن جديد وأنه ما كان على المجلس الدستوري أن يقبلها(*). وهو السيناريو الذي تولى من خلاله الجيش زمام المبادرة السياسية بنقل صلاحية التفكير في المستقبل السياسي للبلاد إلى المجلس الأعلى للأمن الذي أنتجت اجتماعاته مؤسسات وممارسات كان للجيش فيها من النفوذ والتأثير ما استطاعت به أن توجه مسار التحول الديمقراطي، وفي هذا يسجل قول اللواء خالد نزار: «فرضت استقالة الشاذلي على الجيش أن يتحمل مسؤوليته»‏[35].

رابعاً: أوجه وآثار انعكاس تدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي

تناول البحث في ما سبق بعض محطات وأوجه تدخل الجيش وتأثيره في توجيه مسار التحول الديمقراطي في الجزائر، ما يُغني عن العودة إلى بحث بعض تفاصيل الأحداث وما رافقها من قراءات متنوعة ومتباينة. وعليه سيستخلص هذا المحور من الدراسة بعض الآليات المستعملة من طرف الجيش للتأثير في سير الأحداث السياسية، والوقوف عند بعض آثار ذلك على الجيش والحياة السياسية.

1 – أوجه تدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي

من أهم ما يمكن استخلاصه من أوجه تدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي في الجزائر، ما يأتي:

  • استعمال واستغلال بعض فعاليات المجتمع السياسي والمدني. من ذلك تناغم مواقف الجيش مع ما دعت إليه «لجنة إنقاذ الجمهورية» التي تشكلت من شخصيات سياسية وحزبية ومجتمعية، من ضرورة التحرك الفعال للحؤول دون تمكن جبهة الإنقاذ من الوصول إلى الحكم، ومطالبتها بوقف المسار الانتخابي نتيجة ما رافق العملية الانتخابية من شبهات التزوير، والترهيب، وسوء استغلال الحزب للرموز والثوابت الدينية المشتركة للمجتمع الجزائري المسلم بطبيعته وفطرته‏[36]، ومن ذلك ادعاء الحزب أنه الممثل الحصري للإسلام، وأن انتخابه هو تمكين لشريعة الله وحكمه، ومعارضته من أوجه الكفر وضروب الزندقة… فظهر تدخل الجيش وكأنه استجابة لمطالب سياسية ومجتمعية.
  • إشكالية الفراغ الدستوري التي تعددت القراءات بشأنها، لسبب ما لحق بها من شبهة اعتبارها مجرد سيناريو يشرعن عملية الدخول في مرحلة انتقالية تبرر توقيف المسار الانتخابي وإلغاء نتائجه، وهو ما أظهر استنتاجاً مفاده وقوف الجيش وراء حبك الاستقالة على النحو الذي أخرجت عليه.
  • استعمال المجلس الأعلى للأمن كجهاز مكّن الجيش من الممارسة المؤسسية للأدوار السياسية، من خلال دوره في هندسة المؤسسات الناشئة في سياق ما عرف بالمرحلة الانتقالية. وهو ما يعني سعي الجيش إلى شرعنة أدوراه السياسية بتفادي التدخل المباشر على شاكلة الانقلابات العسكرية التقليدية.
  • تحقيق المجلس الأعلى للدولة للتوجهات السياسية للجيش، التي من أهمها وقف المسار الانتخابي، والدخول في مرحلة انتقالية رتب من خلالها الجيش أدواره السياسية بما يتوافق وضرورات الظروف، تمهيداً لتسلُّم السلطة بطرق ووسائل مباشرة. وهو ما تم من خلال مؤسسة رئاسة الدولة التي تولى من خلالها وزير الدفاع الوطني اللواء اليمين زروال رئاسة الدولة، قبل أن يتقدم للترشح إلى رئاسة الجمهورية بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 في أول انتخابات رئاسية تعددية بعد وقف المسار الانتخابي.

2 – الآثار والانعكاسات السلبية لتدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي

أنتج تدخل الجيش وتوجيهه لمسار التحول الديمقراطي، مجموعة من الآثار والانعكاسات السلبية الممكن الإشارة إلى أهمها في ما يأتي:

أ – الظهور بمظهر المعرقل لمسار التحول الديمقراطي

لم يُخفِ قادة الجيش حقيقة تدخلهم في مسار التحول الديمقراطي، ووقوفهم وراء خيار وقف المسار الانتخابي بسبب ما يرونه من شرعية ومشروعية تدخلهم لإنقاذ الطابع الجمهوري للدولة والممارسة الديمقراطية الناشئة بها، وبخاصة أن بعضاً من قادة جبهة الإنقاذ لم يخفوا تذمرهم من الممارسة الديمقراطية التي من المفارقة أنهم استعملوها للوصول إلى الحكم، وجهروا بسعيهم لإزاحتها واستبدالها بالخلافة وإقامة الدولة الإسلامية التي كانت شعاراً حزبياً لم يرافقه أي شرح لآليات تطبيقها، ولا مؤسسات تحقيقها. ومن تلك التصريحات ما صرّح به علي بلحاج القيادي في الحزب: «كل ما هو ليس شريعة إلهية، فإننا ندوسه… الطاعة للدستور وللقوانين النافذة هي عدم طاعة لله وللرسول…»‏[37].

فمهما كانت مبررات التدخل في مسار التحول الديمقراطي وما لحقه من وقف المسار الانتخابي، وحل جبهة الإنقاذ، ودخول البلاد مراحل انتقالية وأوجه من الممارسات السياسية الفاقدة للشرعية الدستورية فإنه يبقى حجر عثرة في مسار تجربة ديمقراطية ناشئة وواعدة، كان يمكن أن تكون أنموذجاً عربياً وإقليمياً رائداً.

ب – الظهور بمظهر الرافض للثوابت الدينية للمجتمع الجزائري

أدت جبهة الإنقاذ على الوتر الحساس لوجدان المجتمع الجزائري، لاستغلالها المرجعية الدينية، واستعمالها الخطاب المسجدي والدعوي، وربط نشاطها السياسي بقيامها بأداء واجب ديني وفرض شرعي… ما أنتج أن وظفت لمصلحتها تدخل الجيش في وقف المسار الانتخابي، لتظهره بمظهر الواقف في وجه أصالة الهوية المرجعية للمجتمع الجزائري، والواقف في وجه خيار الشعب بالتشبث بعمق هويته الدينية الإسلامية، وبخاصة بالتركيز على استحضار مرجعية الكثير من القادة الفاعلين في الجيش الموصوفين بالفارين من الجيش الفرنسي(*)، فجرى تصوير المؤسسة العسكرية وكأنها الرافض والمانع لقيام دولة الإسلام في الجزائر، فتجاوز الصراع بذلك بعده السياسي ليأخذ بعداً دينياً وشرعياً.

فلو لم تكن الجبهة الإسلامية للإنقاذ هي الطرف الذي وقف الجيش في وجهه، لكان الأمر مختلفاً بالنسبة إلى ما لحق بالجيش الذي ظهر وكأنه يقود الجزائر إلى ممارسة سياسية شبيهة ومستنسخة من التجربة التركية ‏[38].

ج – السقوط في شبهة القيام بالاغتيالات السياسية

يبقى اغتيال رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف، أحد أسوأ الآثار السلبية لتدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي، وبخاصة أن اغتياله جرى على يد أحد حراسه الشخصيين. وفي هذا يستحضر ما قاله اللواء خالد نزار في مذكراته: «… وشخصياً فإنه لم يكن بإمكاني تولي زمام البلاد بعد موت بوضياف… وهذا ببساطة لكون الرئيس بوضياف اغتيل من طرف عسكري عندما كنت وزيراً للدفاع… كان موت سي الطيب الوطني برصاص أحد ضباطنا مأساة حقيقية لنا…»‏[39].

د – الاتهام بالضلوع في انتهاكات حقوق الإنسان

يرتبط ذكر مسألة حقوق الإنسان في هذا السياق من الدراسة، بمخلفات ورواسب السياسة الأمنية التي تولى فيها الجيش دور الموجِّه، والفاعل الرئيسي في مواجهة الأخطار الأمنية الناشئة عن انتشار واتساع رقعة نشاط الجماعات الإرهابية في الجزائر، فقد ارتبط ذكر سنوات المأساة الوطنية بالكثير من الانتهاكات الحقوقية التي وُصل الحديث عن الكثير من أوجهها بآثار تدخل الجيش في مسار التحول الديمقراطي. من أهم تلك المسائل يشار إلى مسألتين رئيسيتين:

(1) الاعتقالات خارج أطر القانون ورقابة السلطة القضائية، ولا سيّما ما اتصل منها باستحداث مراكز الاعتقال في الجنوب الجزائري لاستقبال المعتقلين المنتسبين والمتعاطفين في مجملهم مع جبهة الإنقاذ من دون محاكمة. وهو ما أشارت إليه تقارير الكثير من المنظمات الدولية غير الحكومية التي وجدت في الجزائر الحقل الخصب لتوجيه الاتهام للسلطة بممارسة شتى أنواع الخروقات المتعلقة بالمساس بحقوق الإنسان، حيث أشارت تقاريرها إلى عمليات الاعتقال التي تمت خارج الأطر القانونية المعلومة، وما صاحبها من سوء المعاملة أثناء عمليات الاستجواب والتحقيق‏[40].

ما يلاحظ حول هذه المسألة هو غياب دور العدالة التي لم تستطع أن تضمن حسن تطبيق وتنفيذ الإجراءات المنظِّمة لشروط الاعتقال، والوضع قيد النظر، والاستجواب، وسير التحقيق، وتوجيه الاتهام… فقد تقلص دور القضاء الذي توسع فيه نطاق اختصاص المحاكم العسكرية ليشمل النظر في الجرائم والجنح الجسيمة المرتكبة ضد أمن الدولة. ووفقاً لذلك تمت محاكمة قادة جبهة الإنقاذ أمام المحاكم العسكرية، وهو ما كان وراء وصف تقرير لجنة حقوق الإنسان للاتحاد الأوروبي للعدالة بأنها: «أصبحت جهازاً في يد السلطة العسكرية تحركها كيفما شـاءت»‏[41].

(2) مسألة المفقودين: هم مجموع الأشخاص الذين فقدوا خلال سنوات المأساة الوطنية، من دون التعرف إلى من كان سبباً في فقدانهم، ولا معرفة مصيرهم.

أخذت مسألة المفقودين أبعاداً سياسية وحقوقية، وبخاصة في ظل تضارب الإحصاءات حول العدد الرسمي للمفقودين: بين ما قدرته المصادر الرسمية بنحو 7000 مفقود، وبين ما تناولته جمعيات عائلات المفقودين ومن يساندها من شخصيات معارضة، وجمعيات حقوقية في مطلبها القاضي بمعرفة مصير أكثر من 20.000 مفقود‏[42]. والتضارب في تحميل المسؤولية للجهات الواقفة من وراء هذه المسألة: بين من يدين قوات الأمن بالضلوع في المسألة بسبب إقدام أعوانها في كثير من الأحيان بمباشرة مهامهم من دون إظهار هوياتهم، وبين من يدين الجماعات الإرهابية ويحمّلها مسؤولية القيام بعمليات الخطف وما لحقها من فقدان.

تتجاوز الدعوى بضلوع الجيش في ما سبق اختصار بيانه من مسائل ذات صلة بحقوق الإنسان، ما اتصل سببه بما نتج من مقتضيات مواجهة الأزمة الأمنية التي زادت حدتها مع ظهور الجماعات الإرهابية ودخول البلاد في ظل ممارسات حالة الطوارئ بتاريخ 9 شباط/فبراير 1992. فهي تتصل باعتبارات سياسية تقوم على وصف الممارسات السياسية القائمة في البلاد بعد وقف المسار الانتخابي، إنما كانت تدار بواجهة مدنية تخفي من ورائها سلطة عسكرية خفية تمسك بزمام المبادرة والقرار.

خاتمة

عرّجت هذه المقالة على تتبع المسار التاريخي لمحطات تطور الجيش الجزائري، سعياً للإلمام بالظروف التي رافقت مسار بلورته ولحظة ميلاده، والتي تحددت في ضوئها معالم مرجعية تنشئته السياسية التي جعلت من الوظيفة السياسية مهمة أصيلة تقع في صلب مهامه الوطنية، بفعل رواسب الممارسات السياسية التي رافقت مسار تطوره منذ أيام الحركة الوطنية وإلى غاية مسار التحول الديمقراطي.

كما توقفت المقالة عند أهم محطات مسار التحول الديمقراطي في الجزائر، ببيان أهم مسبباته الداخلية والخارجية، واستعراض أهم محطاته ومطباته التي استُحضِر معها بيان دور الجيش وموقعه من هذا المسار، الذي من المفارقة أنه كان مناسبة لتكريس الممارسة السياسية للجيش الجزائري في وقت كان يفترض أن يتراجع فيه ذلك.

خلصت الدراسة إلى أن الجيش استعمل المؤسسات السياسية للدولة، لبسط نفوذه وفرض رقابته على مسار التحول الديمقراطي، بطريقة مكنته من العودة إلى ممارسة الحكم بشرعية أكسبته إياها الانتخابات الرئاسية المجراة سنة 1995. وهو ما كان من خلال اعتماده منهجية مرحلية في تهيئة الساحة السياسية تمهيداً لإعادة تسلُّم الحكم، من خلال ما قام به من ترتيب وإعادة ترتيب القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة على الساحة السياسية. فابتدأ مهمته باسترجاع الأمن، ومنه انتقل إلى إرجاع النظام إلى مختلف الهيئات الاجتماعية، ثم استحداث مؤسسات تساعده على الحفاظ على البقاء واسترجاع الأنفاس، قبل أن يظهر من جديد بشخص وزير الدفاع الوطني الذي فاز بأول انتخابات رئاسية تعددية في الجزائر.

في ضوء هذه التجربة تحددت توجهات الجيش الجزائري بعد العودة إلى المسار الانتخابي والبناء المؤسسي الشرعي للمؤسسات السياسية في البلاد، الذي حرص على التوجه نحو تحقيق الاحترافية، والتخلي عن أداء الأدوار السياسية إلا في حدود الاختصاصات المخولة له دستورياً. وهو التوجه الذي اتضحت الكثير من معالمه في ظل عهدات حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

 

قد يهمكم أيضاً  واقع ومستقبل قطاع الغاز الجزائري في ظل التحولات الكبرى في أسواق الغاز العالمية

#الجزائر #الجيش_الجزائري #الديمقراطية_في_الجزائر #الديمقراطية_في_العالم_العربي #السياسة_الجزائرية #الدولة_الجزائرية