ملخص

هدف البحث: يهدف هذا البحث إلى التعرف إلى العوامل المحددة والمُشّكِلة لتمثيلات الثقة بالحكومة؛ والكشف عن الإجراءات المُتصورة لكسب ثقة المواطنين، وأبرز معايير تقييم أداء الحكومة من وجهة نظر المبحوثين.

المنهجية: توسل البحث بمنهجية أنثروبولوجية كيفية ترتكز على الملاحظة بالمشاركة، والمقابلات شبه الموجهة.

النتائج: تتفق نتائج البحث مع نتائج عدة بحوث خلصت إلى انحسار وتآكل الثقة بالحكومة ومؤسساتها. وتُجلي تمثيلات الثقة بالحكومة مسببات هذا الانحسار والتآكل، وإجراءات متصورة لكسب الثقة، ومعايير يقيّم على أساسها المواطنون أداء الحكومة، من أبرزها العدالة والإنصاف والإدماج الاجتماعي.

الكلمات المفتاحية: الثقة السياسية؛ العدالة الاجتماعية؛ الإدماج الاجتماعي.

مقدمة

تهدف الأنثروبولوجيا المعاصرة إلى حشد النظريات وأساليب البحث الأنثروبولوجي بقصد تفسير الكيفية التي بمقتضاها توجه التمثيلات والافتراضات المسلَّم بها نقاشات السياسة في اتجاهات معينة، وتلهم وتوجه الطرائق التي يُحدَّد خلالها المشكلات السياسية، وتضفي الشرعية على حلول سياسية بعينها وتهمّش حلولًا أخرى. ويعزز ذلك فهمًا أوسع وأعمق للحكومة بوصفها مُتكونة ثقافيًا ومتصورة اجتماعيًا[2].

لا ريب في أن الأنثروبولوجيا السياسية تُعمّق فهمنا للحكم من طريق تطوير تحليلات موجهة إثنوغرافيًا لأفكار وممارسات الحُكَّام والمحكومين. كما تستجلي الكيفية التي يتم بمقتضاها إنتاج الحكومة وإعادة إنتاجها، والتنازع معها ومناوأتها، في البيروقراطيات المحلية وعلى مستوى الدولة؛ والبرلمانات المحلية والإقليمية والقومية؛ وفي سياقات الحكم الأخرى متعددة المواقع والمستويات. يؤشر ذلك إلى أن العمل الذي تقوم به الحكومة يتم تفاوضه داخل السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتنوعة وعبرها، وكذا عبر خطابات اجتماعية وسياسية واقتصادية[3].

تشير فكرة الحكم (Governance) إلى طريقة تنفيذ القرارات السياسية بصورة عقلانية رشيدة بقصد تشكيل السلوك الاجتماعي والثقافي للفاعلين، وتصحيحه، وضبطه، وتغييره. ومع ذلك، لا تعدّ هذه العقلانية ذات اتجاه واحد. فثمة، بالطبع، تأثيرات غائرة للقرارات السياسية في حيوات الأفراد، لكن لا يعني ذلك بالضرورة أن تلقى هذه القرارات قبولًا عبر المجتمع بصورة غير ناقدة، لكن يصوغ المواطنون تمثيلات لها تؤثر في تقييماتهم لأداء الحكومة[4].  وتتصادم تمثيلات وتصورات ثقافة الحكم (Governing Cultures) مع تمثيلات وتصورات «ثقافة المحكومين»، ويفرز هذا التصادم امتثالًا أو مقاومة، ثقة أو ارتيابًا، من جانب المواطنين.

ومن المقطوع به أنه ليس ثمة حكومة تتمتع بثقة مواطنيها المطلقة. وتزخر المجتمعات كافةً – متقدمة أو نامية، ديمقراطيات ناضجة أو ديمقراطيات معيبة زائفة – باختلالات وظيفية تفرز ارتيابًا سياسيًا[5]. والأغلب اعتبار علاقة الثقة/الارتياب السياسي علاقة بين المواطن والحكومة.

للثقة الشعبية بالحكومة أهمية بالغة لتأثيرها في سياسة الدولة، وتقييم مجلس النواب ورئيس الدولة، وخيارات التصويت[6]. وتؤثر الثقة السياسية في دعم السياسات العامة[7]. وتمثل مشاعر الثقة بالحكومة ميل الأفراد إلى دفع الضرائب[8]. ويتيح وجود حد أدنى من الثقة الشعبية للحكومة أن تعمل بفعالية. والثقة مهمة، في رأي غامسون (Gamson)، لأنها تعمل «كخالق للقوة الجمعية»؛ إذ تُمكّن الحكومة من اتخاذ القرارات، وتخصيص الموارد واستغلالها، من دون اللجوء إلى القهر والإكراه أو الحصول على موافقة المواطنين على كل قرار. وحين تنخفض الثقة، يصعب على الحكومات أن تحكم بفعالية وكفاءة[9].

ولمقاربة الثقة بالحكومة وتأثيراتها أهمية قصوى من منطلق أن ثمة آصرة وثيقة تربط بين الثقة، والامتثال والإذعان الطوعي. ويتبدى ثمة دليل على وجود ارتباط بين إدراكات وتصورات استحقاق الحكومة وجدارتها بالثقة من ناحية، وامتثال المواطنين من ناحية أخرى[10].  لذلك تؤمن الحكومات الديمقراطية، على وجه الخصوص، بأهمية الثقة نظرًا إلى تعذر التجائها إلى الإكراه والقهر[11]. وتعتمد شرعية النظم السياسية وقوتها على المدى الذي يثق فيه الناخبون بأن الحكومة تقوم بما هو صائب وعادل وفعّال[12]. تتضح من كل ما سبق أهمية مقاربة تمثيلات الثقة بالحكومة وتأثيراتها.

  • تساؤلات البحث، وأهدافه: تتمحور مشكلة هذا البحث حول تساؤل رئيس مؤداه: كيف تؤثر التمثيلات الثقافية للحكومة، وما يرتبط بها من تصورات ومعاني وتأويلات وافتراضات، في ثقة المواطنين السياسية؟ وعليه تحدّدت أهداف هذا البحث على النحو التالي:

(1) التعرف إلى العوامل المحددة والمُشكِلة لتمثيلات الثقة بالحكومة. وتتفرع عن هذا الهدف أربعة أهداف فرعية، وهي:

(أ) الكشف عن مدى رضاء المبحوثين عن أداء الحكومة وممارساتها؛

(ب) استجلاء تمثيلات الثقة في أداء الحكومة في مجال تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية؛

(ج) استيضاح تمثيلات الثقة في قدرة الحكومة على اتخاذ القرارات المناسبة؛

(د) الكشف عن تصورات المبحوثين للاستجابة الحكومية.

(2) الكشف عن تمثيلات العدالة والإدماج الاجتماعي بوصفهما من أبرز الإجراءات المُتصوًّرة لكسب ثقة المواطنين، ومعايير تقييم أداء الحكومة.

  • الإطار النظري

(1) المنظور المؤسسي، ومنظور الاختيار العام: على النقيض من المنظور الثقافي الذي يشير إلى أن الثقة السياسية خارجية، تنبع من المعايير الثقافية، والتنشئة الاجتماعية الحياتية[13]، يركز المنظور المؤسسي للثقة السياسية على تقييمات المواطنين لأداء الحكومة. وتعتمد الثقة في المؤسسات السياسية، من هذا المنظور، وتتوقف على كفاءة السياسة الحكومية وفعاليتها. ويجمل بنا، في هذا الصدد، التمييز بين الأداء الفعلي والموضوعي للمؤسسات والسلطات السياسية كما يؤشر إليه معدل النمو الاقتصادي أو البطالة، على سبيل المثال؛ والأداء المُدرك للمؤسسات والسلطات كما تؤشر إليه تقييمات المواطنين الذاتية[14].

أما منظور الاختيار العام ((Public-Choice فيؤكد، من منظور يرتكز على المصلحة (Interest-Based)، أن المواطنين يكترثون، أولًا وقبل كل شيء، بالفوائد التي يتحصّلون عليها، بما يعني أن توقعاتهم موجهة بالناتج (Outcome-Oriented)، وأنهم يسعون إلى تعظيم مكاسبهم الشخصية من المؤسسات والسلطات السياسية. وكلما نجحت المؤسسات والسلطات في تحقيق مصالح المواطنين، كلما كانت اتجاهات المواطنين أكثر ايجابية حيال هذه المؤسسات والسلطات[15].

(2) النظرية ما بعد البنائية: ميشيل فوكو: تمثل الحكومة، من منظور ما بعد البنائية، ذاتًا فاعلة متموضعة ثقافيًا وتاريخيًا، تسهم التمثيلات الثقافية والاجتماعية في تكوين وتوجيه أدائها وممارساتها وسياساتها[16]. ويتيح مفهوم الحكومة، التي عرّفها فوكو بأنها «إدارة وتوجيه السلوك» (The Conduct of Conduct)، توسيع مجال بحث علاقات القوة وأشكال السيطرة لتشمل التحكم في السلوك في علاقته بمدى واسع من الأشياء والموجودات، من المجتمع أو السكان إلى الفرد (إدارة الذات). وتحقق الدعوة إلى مفهومَي الحكومة والحوكمة – التي تفهم بأنها العقلانيات (Rationalities) الموجهة لممارسات الحكم – فحص ممارسات الضبط والتحكم التي تحدث باسم الدولة وتنسب إليها من خلال ذوات متموضعة بطرق مختلفة، وبخاصة من هم على هوامش القوة[17].

والبيّن أن مفهومي «الحكومة» و«الحوكمة»  (Governmentality)عند فوكو يستندان إلى تفسيره للقوة. ذلك أن القوة، كما حددها فوكو، تتعلق بإدارة السلوك، طريقة للتأثير في واحدة أو أكثر من الذوات الايجابية النشطة. وتعدّ القوة بهذا المعنى قابعة في أساس الحكومة بأشكالها المتعددة. ويقرر فوكو أنه في الأزمنة المعاصرة لا بد من أن تشير كل أشكال القوة إلى الدولة. ويتفق ذلك مع فكرة حوكمة (Governmentalization) الدولة – استثمار تقنيات الحكومة في مؤسسات الدولة[18]. ومع ذلك، تبدو أشكال القوة منتشرة اجتماعيًا، مشتتة ولا مركز لها.

ومما له أهمية في هذا البحث استلهام فوكو، في كتابه Discipline and Punish، فكرة البانوبتيكون (Panopticon) عند جيرمي بنتام، وتشير إلى تصميم مجموعة من الخطط وضعها بنتام عام 1791 لبناء سجن عقلاني جديد يرتكز على مبدأ إمكان الرؤية. ويسمح هذا التصميم بمراقبة جميع السجناء من دون أن يكون المسجونون قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وصارت هذه الفكرة، فيما بعد، رمزًا للقوة غير المرئية. وتكشف فكرة بنتام البسيطة، في قراءة فوكو، ميكانزمًا رئيسًا للتشكيلات الانضباطية للقوة والمعرفة[19]. وتعمل القوة الانضباطية من طريق جعل أهدافها مرئيين طوال الوقت. والهدف المنشود هو تحويل الأفراد إلى عناصر ممتثلة، في عملية مثمرة اقتصاديًا، ما يطلق عليه فوكو «الأجساد الطيعة المنصاعة» (Docile Bodies) [20].

(3) المفهومات الرئيسة:

(أ) الثقة السياسية: تُعرّف الثقة السياسية بأنها توجه تقييمي أساسي حيال الحكومة مؤسس على تصورات للكيفية التي من خلالها تعمل الحكومة بما يتفق مع التوقعات المعيارية للشعب[21]. ويعني شيوع الثقة أن الأفراد يشعرون بأن مصالحهم تُراعى وموضع اهتمام[22]. ويمكن، بناءً على ذلك، تعريف الثقة السياسية – إجرائيًا – في هذا البحث بأنها توجه يعكس تقييمات المواطنين لأداء الحكومة ومؤسساتها. وتنضوي على تصور أن الحكومة تؤدي مهامها بما يتفق مع توقعات الموطنين المعيارية على نحو يكسبها دعمهم.

(ب) الإدماج الاجتماعي: يُعرّف الإدماج الاجتماعي (Social Inclusion) في الاتحاد الأوروبي بأنه امتلاك فرص وموارد المشاركة الكاملة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتمتع بمستوى من الرفاه أو الصحة؛ أو هو عملية تضمن المشاركة التامة لكل المواطنين في مختلف مجالات الحياة[23].  ويُعرّف الإدماج الاجتماعي بأنه عملية تضمن حصول من يتهددهم خطر الفقر والاستبعاد الاجتماعي على الفرص والموارد الضرورية للمشاركة بصورة تامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحصول على الحقوق الأساسية[24].

ويمكن، بناءً على ذلك، تعريف الإدماج الاجتماعي – إجرائيًا – في هذا البحث بأنه إتاحة فرص وموارد المشاركة الكاملة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومستوى مرتفع من المعيشة والرفاه، لجميع المواطنين.

(ج) العدالة الاجتماعية: تؤكد مقاربات هابرماس للعدالة أهمية المؤسسات أو النظم الاجتماعية والممارسات الخطابية. وتنشأ العدالة من الفرضيات أو الأساس الاتصالي للتفاوضات غير القسرية والمداولات والتي يكون فيها الجميع مطلوبين ويتم تمكينهم لتبني منظور الجميع بلا استثناء[25].

ويصوغ إبراهيم العيسوي تعريفًا للعدالة مؤدّاه أن «العدالة الاجتماعية هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كليهما، والتي يغيب فيها الفقر والإقصاء الاجتماعي وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعيًا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، ويتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة، ويعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية»[26].

ويمكن، بناءً على ذلك، تعريف العدالة الاجتماعية – إجرائيًا – في هذا البحث بأنها عملية مقصودة ومستمرة للإدماج الاجتماعي، على حد تعبير هابرماس، تحقق المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص.

(4) الإجراءات المنهجية: تركَّز هذا البحث على عدد من المواقع والسياقات في محافظتي بني سويف والجيزة بجمهورية مصر العربية. ويستند إلى منهجية أنثروبولوجية كيفية بالأساس. وتحقق الأساليب الكيفية بعامة استجلاء التمثيلات والمعاني الثقافية والرؤى في موقف معين من طريق التوسل بالملاحظة بالمشاركة والمقابلات المفتوحة. ويركز البحث الكيفي على تأويلات الأفراد وتصوراتهم لموجودات وحوادث وظواهر معينة.

(أ) أدوات جمع البيانات:

الملاحظة بالمشاركة: أُجريت ملاحظات بالمشاركة في سياقات متعددة كالمؤسسات الحكومية، والأحياء، والقرى، والمدن، والشوارع، والمقاهي، والأسواق. وراوحت المدة التي استغرقتها الملاحظة بالمشاركة لسياق معين ما بين ساعة إلى ثلاث ساعات. وقد حقّقت هذه الأداة تراكم كثرة هائلة من البيانات التفصيلية من طريق تجاذب أطراف الحديث، ودفع المبحوثين إلى مناقشة قضايا معينة من أبرزها: الرضا عن أداء الحكومة في المجالات المختلفة، وبخاصة ما يتعلق بتوفير الخدمات التعليمية والصحية، والاستجابة الحكومية لحاجات المواطنين ومشاكلهم، وتصور المبحوثين للعدالة، وإجراءات كسب الثقة… إلخ.

المقابلات شبه الموجهة: توسل هذا البحث بأداة المقابلات شبه الموجهة (Semistructured) التي تتسم بأنها مفتوحة النهاية، لكنها تتبع دليلًا أو قائمة بعدة بنود وقضايا. وتتيح المقابلات مفتوحة النهاية التفاعل المرن بين الباحث والمبحوثين، والكشف عن التمثيلات والمعاني والتأويلات، ونظرة المبحوثين الداخلية (Emics).

وقد اختيرت حالات البحث بأسلوب المعاينة المعروف بكرة الثلج، إذ عوَّل فيها الباحث على إخباريين رئيسيين اتّخذوا سبيلًا لمقابلة مبحوثين آخرين. وقد أجريت المقابلات مع (80: 50 ذكور، 30 إناث) حالة تقع في الفئة العمرية (20 – 65)، ويقيم المبحوثون بحي الهرم ومنطقة الطالبية بالجيزة؛ ومدينة بني سويف وقرى غياضة الغربية، وقمن العروس، وطحا بوش، والسلطاني، وإهناسيا المدينة، وبني هارون، وسدس بمحافظة بني سويف. وقد شملت حالات البحث فلاحين، وعمالة غير منتظمة، ومعلمين، وطلابًا، وربات بيوت، وموظفين حكوميين، وأشخاصًا بالمعاش. وفي ما يتعلق بالمستوى التعليمي، شملت حالات الدراسة حالات غير متعلمة أو أمية (5)، وحالات تقرأ وتكتب ولكن من دون تعليم رسمي (10)، ومستوى تعليمي حتى المرحلة الابتدائية/الإعدادية (11)، ومستوى تعليمي حتى المرحلة الثانوية (20)، وتعليم جامعي (30)، ودراسات عليا (4).

وقد أُجريت المقابلات في سياقات مختلفة كالمنازل، والمقاهي، والجامعة. وتراوحت مدة المقابلة الواحدة من ساعة إلى ساعتين. ورُوعي أن تكون الأسئلة مفتوحة النهاية، مع الانتقال من العام إلى الخاص. وشُجع المبحوثون على مقاطعة الباحث، وتُركت لهم حرية توجيه المقابلات لبعض الوقت، وتقديم بيانات ارتأوها مهمة.

وعلاوة على ذلك، توسّل الباحث في إجراء المقابلات بأداة «الموقف الافتراضي» (Hypothetical Situation) الإثنوغرافية، وتتألف من تصميم أو صوغ مواقف معينة في حياة جماعة معينة في ضوء أشخاص افتراضيين وعلاقات وأحداث افتراضية تتوافق مع الأنماط السائدة في الثقافة قيد البحث. وتُستخدم هذه المواقف لتوجيه المناقشات التي تدور مع المبحوثين وتشكيلها[27]. وتحقق هذه الأداة الحصول على بيانات عن موضوعات تثير مخاوف المبحوثين وارتيابهم، ومنها الحكومة، إذ يعدّونها من التابوهات التي لا تخضع للنقاش.

(ب) مدة الدراسة الحقلية: استغرقت مدة الدراسة الحقلية عامًا، إذ بدأت في كانون الثاني/يناير عام 2021، وانتهت في تموز/يوليو عام 2022.

(5) نتائج البحث: يمكن تصنيف نتائج البحث في ضوء أهدافه إلى مبحثين رئيسين. يتناول الأول، مستوى الثقة بالحكومة، وتمثيلات عدم ثقة المواطنين بالحكومة وتصوراتهم لها (ثقافة المحكومين)؛ ويقارب المبحث الثاني تمثيلات العدالة والإدماج الاجتماعي.

أولًا: تمثيلات الثقة بالحكومة: العوامل والمسببات

الحكومة، من منظور ما بعد البنائية، هي ذات فاعلة متموضعة ثقافيًا وتاريخيًا، تسهم التمثيلات الثقافية والاجتماعية في تشكيل وتوجيه أدائها وسياساتها. وتتألف التمثيلات من التعاريف الجمعية للواقع، أو المعرفة الاجتماعية الواقعية الناتجة من الاتصال اليومي بالمؤسسات الحكومية. وتتعلق التمثيلات بعمليات صناعة المعنى الجمعية التي تفضي إلى تصورات مشتركة.

والثقة تشكلها الخبرات والتمثيلات الماضية والمتراكمة لأداء الحكومات المتعاقبة؛ بما يعني أن الاتجاهات السياسية المعاصرة مثبتة ومرتكزة في الخبرات الماضية، والمعتقدات القائمة مسبقًا التي تخلقها جماعات اجتماعية معينة[28]: «شيء متوارث من سنين السنين وأصبحنا كشعب غير راضين عن الحكومات المختلفة وأُصيب الناس بالإحباط». وتعَدّ مستويات الثقة المنخفضة مؤشرًا على أن الحكومة ترتكب أخطاءً أو أن الخدمات العامة لا تصل. ومن ناحية أخرى، تعدّ مستويات الثقة العامة المرتفعة دليلًا على أن الحكومة تؤدي بفعالية وكفاءة وديمقراطية[29].

تشير نتائج البحث إلى أن الحكومة تتمتع بنسبة ثقة مطلقة بلغت 37,8 بالمئة، ونسبة عدم ثقة مطلقة وارتياب بلغت 29 بالمئة، ونسبة ثقة محدودة («مش واثق فيها أوي») بلغت 33,2 بالمئة. ويؤشر ذلك إلى انخفاض مستويات الثقة بالحكومة. وتلك نتيجة خلصت إليها عدة بحوث، منها البحث الذي أجراه أحمد زايد، وأشار إلى أن 50,4 بالمئة يثقون بالحكومة، وأن أسباب عدم الثقة بالحكومة ترجع إلى عدم وفائها بوعودها لدى 68 بالمئة من عينة الدراسة، وعدم اهتمامها بالفقراء لدى 46 بالمئة، وانحيازها إلى رجال الأعمال عند 22 بالمئة من عينة الدراسة، وعدم تصديها للفساد بالنسبة نفسها تقريبًا[30]. كذلك تتفق هذه النتيجة مع نتائج بحث الباروميتر العربي 2014 حيث بلغت الثقة بالحكومة (54,7 بالمئة). إذ ساد اعتقاد في أن الحكومة غابت عنها الكفاءة والفعالية في مواجهة الفساد، وتوفير فرص العمل، وتقديم الخدمات[31]. وأخيرًا، يؤشر بحث خالد أبو دوح إلى أن نسبة (88,2 بالمئة) من عينة البحث لا تثق في المؤسسات الحكومية[32].

وهكذا، تكشف المؤشرات الكمية عن مستويات منخفضة من الثقة بالحكومة ومؤسساتها. وتتجلى تمثيلات عدم ثقة المواطنين بالحكومة في رؤية المبحوثين لمسببات عدم الثقة بالحكومة ومؤسساتها؛ ومدى الرضا عن أداء الحكومة وممارساتها، والطريقة التي تؤدي بها أعمالها؛ ومدى الثقة في أداء المؤسسات الحكومية في مجال تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية وحماية المواطنين من البطالة والتضخم وضمان حد أدنى للأجور؛ والثقة في قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات صائبة، وتقديم حلول ناجعة للمشكلات؛ وفي مدى الاستجابة الحكومية لحاجات المواطنين ومشكلاتهم، أي مدى اتفاق قرارات الحكومة مع حاجات المواطنين وتوقعاتهم.

1- مسببات انحسار الثقة بالحكومة

تكشف تصورات المبحوثين لمسببات عدم الثقة والتشكيك في جهود الحكومة ومؤسساتها، عن أن 32,6 بالمئة من المبحوثين يرجعون عدم الثقة إلى ما تثيره وسائل الإعلام من أخبار عن فساد مسؤولين وسياسيين وإداريين. إذ تؤدي بعض المواد الإعلامية، وبخاصة المتداولة في المجال العام الرقمي، إلى فقدان الثقة بالحكومة وأدائها. ويرجع 22,3 بالمئة من المبحوثين أسباب عدم الثقة بالحكومة إلى ندرة المعلومات وغياب الشفافية. ويُرجع 18,4 بالمئة من المبحوثين مسببات عدم الثقة إلى التشكيك في العملية الانتخابية ونتائج العملية السياسية: «المحسوبية في الانتخابات والمال السياسي». ويُرجع 18 بالمئة من المبحوثين عدم الثقة بالحكومة إلى السخرية من أدائها في المجال العام والمجال العام الرقمي. وأخيرًا، يرجع 8,7 بالمئة من المبحوثين عدم الثقة بالحكومة إلى تهميش واستبعاد جماعات معينة من التمثيل السياسي.

يظهر أن هذه العوامل مجتمعة تمثل، من وجهة نظر بعض المبحوثين، مسببات رئيسة لانحسار الثقة بالحكومة: «كل ذلك لا يجعل المواطن يثق في الحكومات ومؤسسات الدولة ويزيد من شكوك المواطن». ويُضاف إليها مساوئ الأداء الحكومي وإخفاقاته، والأخطاء التي تعتري عملية اتخاذ القرار، وتجاهل آراء المواطنين وحاجاتهم وتوقعاتهم.

رغم ذلك، يبدو أن المجال العام والمجال العام الرقمي هو أكثر العوامل تأثيرًا في انخفاض مستويات الثقة بالحكومة نتيجة السخرية من أدائها. ويستجلي هابرماس في عمله الموسوم «التحول البنائي للمجال العام» (The Structural Transformation of the Public Sphere) السمات الاتصالية والتداولية للمجال العام في المجتمع المدني. وفي رأيه، أن المجال العام المثالي يعني فضاءً يكون فيه المواطنون العقلانيون قادرين على تنظيم أنفسهم خارج مجالاتهم الخاصة، ومستقلين عن الدولة في الوقت نفسه، ثم ينخرطون في عملية سياسية وشعبية عن طريق التأمل أو النقاش النقدي – العقلاني. ويتمثل العنصر الرئيس هنا بقدرة المواطنين على التعبير عن اتجاهاتهم ورغباتهم وحاجاتهم، وقدرتهم على تحدي توكيدات الآخرين بلا خوف[33]. ويعمل المجال العام في عصر الميديا الحديثة «كأداة إشارة»  (Signalling Device) تبرز المسائل والقضايا ذات الأهمية الشعبية[34].

وتكشف نتائج البحث عن قوة وتأثير المجال العام والمجال العام الرقمي (Cyber Public Sphere)، ذلك أن الميديا تعدّ أداة رئيسة تحقق نشر القضايا والنقاشات التي يحتضنها المجال العام. ويخلق المجال العام الرقمي، على وجه الخصوص، ارتيابًا لميله إلى النقد وتدعيم فكرة المواطنة الناقدة، وترويجه لفساد الساسة والقادة والإداريين[35]. وتكون المعلومات السلبية، في هذا الصدد، بالغة التأثير خصوصًا في الفئات الأكثر حاجةً ومعاناة[36].  ويمثل المجال العام الرقمي والميديا عنصر ضغط على السلطات والمؤسسات التنظيمية الانضباطية والمؤسسات التمثيلية يدفعها إلى الاستجابة أو التراجع. على سبيل المثال التراجع غير مرة عن رفع سعر الخبز المدعوم، وتأجيل تنفيذ تعديلات قانون الشهر العقاري المقترحة عام 2021. كما يدفعها إلى بذل مزيد من الجهد في ملف مكافحة الفساد الإداري.

ويؤكد ذلك أن الدولة غير مُحلّقة تمارس القوة من أعلى، ذلك أن ثمة مسارات أخرى للقوة يمثل البانوبتيكون المعكوس  (Reverse Panopticon)أحدها. فاليوم يمتلك المواطن الناقد أدوات جديدة لرفض أفعال الحكومة ومراقبتها ومحاسبتها. ويؤشر مفهوم البانوبتيكون المعكوس إلى أننا نعيش اليوم في عالم تتيح فيه التكنولوجيا لأي شخص أن يراقب ويرصد ويوثق أفعال الآخرين الذين يمارسون عليه المراقبة؛ أي مراقبة الحكومة، و«مراقبة المراقبِين»[37]. وبذلك يعد الإنترنت بانوبتيكونًا معكوسًا. كما تساعد منظمات غير حكومية مناهضة للفساد، مثل منظمة الشفافية الدولية، الأفراد على مراقبة ما تفعله حكوماتهم، بل ومحاسبتها. ويمثل ذلك أيضًا انعكاسًا للبانوبتيكون[38].

2- الرضا عن أداء الحكومة وممارساتها

من المقطوع به أن استقرار الحكومات يعتمد، في جانب منه، على فعاليتها (Effectiveness). وتشير الفعالية إلى الأداء الفعلي للحكومة في حل المشكلات، ورضا المواطنين عن هذا الأداء، ومدى إيمانهم بإمكان التعويل على الحكومة في تحقيق مصالحهم[39].

وتثير الحكومات فقيرة الأداء سيئة الإدارة، الاستياء وتغذي عدم الثقة. وتؤثر الثقة في الأداء المؤسسي تمامًا كما يمثل الأداء المؤسسي ثقة المواطنين في مؤسساتهم، وبعضهم في بعض. وتكشف نتائج البحث عن درجة من عدم الثقة، وعدم الرضا والاستياء من أداء الحكومة وممارساتها وإدارتها لكثير من الملفات، وتعاملها مع المشكلات الملحة. ومن مسببات عدم الثقة والاستياء الأكثر بروزًا، تعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية، وفرض مزيد من الضرائب، وخفض الدعم أو إلغاؤه وبخاصة دعم الطاقة، وارتفاع الأسعار، والقصور في مساعي تحسين مستوى معيشة المواطنين، وتوفير الحاجات الأساسية والعمل والمسكن. ومن مسببات عدم الثقة تدني مستوى الخدمات العامة، وبخاصة التعليم والصحة، والقصور البادي في رعاية الفقراء ومحدودي الدخل، والتفاوت الواضح في الدخول.

يتبدى انحسار الثقة في تصورات المبحوثين لوجود مظاهر فسادٍ مستشرٍ داخل المؤسسات. ومن أبرز تلك المظاهر المحسوبية، والمحاباة، و«الواسطة»: «اللي يدفع تتم مصلحته واللي مش معاه اصبر لحد ما تفرج». ويعد التمييز ضد الفقراء والمفتقرين إلى القوة مسببًا آخر من مسببات انحسار الثقة والاستياء من أداء الحكومة ومؤسساتها.

وينتج الاستياء وانحسار الثقة بالحكومة من غياب الصدقية والشفافية: «الحكومة معندهاش مصداقية». وتتفق رؤى المبحوثين مع تصورات رائجة في الأدبيات مؤداها أن المزيد من الديمقراطية، والمزيد من حرية تداول المعلومات، والمزيد من الكفاءة، هي النتائج المتوقعة من تعميم وسيادة الشفافية. وتعمل الشفافية على خلق الثقة[40].

3- الثقة بأداء الحكومة في مجال تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية

تبرز تمثيلات عدم الثقة بالحكومة في مدى ثقة المواطنين في أداء المؤسسات الحكومية في مجال تحقيق النمو الاقتصادي والرفاهية، وحماية المواطنين من التضخم ونتائجه، والبطالة، وضمان مستويات للحد الأدنى للأجور. وتكشف نتائج البحث عن غياب الثقة لدى أغلبية المبحوثين في هذا المجال.

ويتبدى تآكل الثقة في قدرة الحكومة على تحقيق النمو الاقتصادي في انشغال 73,4 بالمئة من حالات البحث بتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وهي قضية لها في رأيهم أهمية قصوى مقارنة بقضايا أخرى ملحة. كذلك يمثل وجود اقتصاد مستقر أهمية وشاغل لدى 32,5 بالمئة. ويعكس ذلك قلقًا حيال أوضاع الاقتصاد الحالية.

ويعَدّ الأداء الحكومي أحد العوامل بالغة التأثير في الثقة السياسية. وتمثل المخرجات الماكرو-اقتصادية قضية تستحوذ على اهتمام المواطنين[41]. وتشكك أغلبية المبحوثين في قدرة الحكومة على تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة. وأن معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي تدّعي الحكومة تحقيقها لم تنعكس على المستوى المعيشي للفقراء، ومحدودي الدخل، والشرائح الدنيا في الطبقة الوسطى: «المستريح ماليًا فقط هو الأكثر ثقة».

وهكذا، تُجابه معدلات النمو الاقتصادي التي ينشرها الخطاب الرسمي بعدم ثقة المواطنين. بتعبير آخر، ثمة تنافر بين البيانات الإثنوغرافية الواقعية (التمثيلات غير الرسمية)، والمؤشرات الكمية الرسمية الإيجابية (التمثيلات الرسمية)، وهو تنافر يكشف عن تآكل الثقة السياسية.

ويشير تقرير التنمية البشرية في مصر إلى ارتفاع معدل التضخم نتيجة تحرير سعر الصرف، ليصل إلى 23 بالمئة في 2016/2017 [42]. وقد أدى ارتفاع معدل التضخم وخفض الدعم، خصوصًا دعم الطاقة، إلى ارتفاع هائل في أسعار السلع والخدمات يشعر المبحوثون بوطأته. ويؤشر إلى ذلك اكتراث 60 بالمئة من حالات البحث بقضية ارتفاع الأسعار، مقارنة بقضايا أخرى مثل الحفاظ على النظام (21,3 بالمئة)، ومناقشة قرارات الحكومة وانتقادها (11,4 بالمئة)، وحماية حرية التعبير (7,3 بالمئة). ويتصور المبحوثون أن قرارات الحكومة وسياساتها هي المسؤولة عن ارتفاع الأسعار، وأنها غير مكترثة بحماية المواطنين من التضخم وارتفاع الأسعار: «الدولة هي التي تصنع الغلاء المعيشي». ويفرز ذلك عدم ثقة واستياءً من أداء المؤسسات الحكومية. ويبدو أن زيادة الإنفاق الحكومي على برامج الحماية الاجتماعية لم يوقف انحسار الثقة وتفاقم الاستياء، ربما لأنه غير كافٍ أو لقصور في إعلام المواطنين بتفصيلات هذا الإنفاق.

وتعزز البطالة عدم الثقة في أداء الحكومة، وقدرتها على تحقيق النمو الاقتصادي وحماية المواطنين: «لا يثق المواطن لأن المؤسسات لم تحقق الحياة الكريمة للمواطن ولم تقضِ على البطالة». كذلك ينتج تراجع الثقة في أداء الحكومة في مجال تحقيق النمو الاقتصادية والرفاهية عن انخفاض الحد الأدنى للأجور، والتفاوت الصارخ بين الأسعار والأجور. وبرغم رفع الحد الأدنى للأجور عدة مرات حتى بلغ 3000 جنيه عام 2022، فإن هذه الزيادة تبعتها، في الأغلب الأعم، إجراءات اقتصادية أكثر قسوة مثل خفض الدعم، وارتفاع أسعار السلع والخدمات: «بعد زيادة الحد الأدنى للأجور بيكون فيه زيادة في الأسعار والضرائب».

وبذلك تدعم نتائج البحث منظور الاختيار العام الذي يشير إلى أن ثقة المواطنين واتجاهاتهم الإيجابية حيال الحكومة ومؤسساتها تحددها الفوائد والمكاسب الشخصية التي يتحصّلون عليها. ويؤدي انخفاض الفوائد المتحققة إلى انخفاض ثقة المواطنين بالحكومة ودعمهم لها.

4- الثقة في قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات مناسبة

تتجلى تمثيلات عدم الثقة في مدى ثقة المواطنين في اتخاذ الحكومة قرارات صائبة، وطرح حلول ناجعة للمشكلات، من عدمه. ويؤكد أغلبية المبحوثين عدم ثقتهم في أن الحكومة تتخذ القرارات الصائبة الملائمة. ويسوقون تأويلات متنوعة لذلك، منها أن معظم القرارات تتفق مع مصالح الحكومة ومؤسساتها ومسؤوليها، لا مع مصالح المواطنين؛ أو أن القرارات تصدر لمصلحة أشخاص بعينهم أو مؤسسات بعينها وليس للمصلحة العامة؛ وأن القرارات تفيد منها فئات اجتماعية معينة. كما أن قرارات الحكومة تصدر في الأغلب الأعم بما يتعارض مع مصالح الفقراء ومحدودي الدخل وتوقعاتهم، وعلى نحو يفاقم معاناتهم: «قراراتها كلها بتيجي على دماغ الغلبان». وتبدو القرارات فوقية على الدوام، ومفارقة لتوقعات المواطنين وتطلعاتهم.

5- الاستجابة الحكومية لحاجات المواطنين ومشكلاتهم

تُبرز تصورات المواطنين حول مدى استجابة الحكومة لحاجاتهم ومشكلاتهم، ومدى اتفاق قرارات الحكومة مع حاجات المواطنين وتوقعاتهم، تمثيلات عدم الثقة بالحكومة. وثمة شعور عميق واسع النطاق يسري في أغلبية المجتمعات عالميًا بأن الحكومات تخفق في الاستجابة للحاجات والتوقعات الشعبية. وتكشف نتائج البحوث عن أن التأثير السلبي لنقص الاستجابة الحكومية في الثقة المؤسسية قد يكون أسوأ في مواقف الأزمة الاقتصادية[43].

ويحتل معيار «الاستجابة لحاجات المجتمع أو المواطنين» المرتبة الثانية ضمن المعايير التي تشتمل عليها توقعات المواطنين للكيفية التي من خلالها ينبغي أن تعمل بها الحكومة، وذلك بنسبة 20,3 بالمئة: «من أهم الحقوق لتحقيق رضا المواطن»، وذلك في مرتبة تالية لمعيار «العدالة والمساواة» 32,6 بالمئة، وسابقًا أو متقدمًا على معيار «الكفاءة (15,7 بالمئة)، ومعيار «الصدق والنزاهة» (13 بالمئة)، ومعيار التضامن والتكافل (11,1 بالمئة)، ومعيار قول الحقيقة والمصارحة (7,1 بالمئة). ويؤشر ذلك إلى أهمية الاستجابة لحاجات المواطنين كمعيار رئيس من معايير تقييم الحكومة.

وثمة، من وجهة نظر المبحوثين، قصور واضح في الاستجابة الحكومية لحاجات المواطنين. وتراوح الاستجابة الحكومية بين الضعيفة والمنعدمة: «لا يكون هناك استجابة .. وإذا وجدت الاستجابة تكون ضعيفة، وسرعان ما تنتهي». ويخلق غياب الاستجابة شعورًا لدى المواطنين بعدم اكتراث الحكومة بالمواطن، وانفصالها عن المجتمع.

يتبين مما سبق أن نتائج البحث تدعم منظور الأداء المؤسسي الذي يفترض أن الثقة السياسية بالحكومة تنتج من الأداء المؤسسي وكفاءة الحكومة وفعاليتها، وتقييمات المواطنين وتمثيلاتهم الإيجابية لهذا الأداء. وذلك بالنظر إلى أن أداء الحكومة الفعال والرشيد يحقق توقعات المواطنين ومطالبهم.

ثانيًا: تمثيلات العدالة والإدماج الاجتماعي

تتجلى تمثيلات عدم ثقة المواطنين بالحكومة في تصور المبحوثين للإجراءات التي يتعين أن تتخذها لكسب ثقة المواطنين، وتصوراتهم لمعايير تقييم أداء الحكومة[44]. ومن أبرز الإجراءات المتصورة لكسب الثقة، ومعايير تقييم أداء الحكومة التي كشفت عنها نتائج البحث: العدالة والإنصاف والإدماج الاجتماعي.

طرح يورجين هابرماس تعريفًا للعدالة (Justice) يعدّها عملية مقصودة مستمرة للإدماج الاجتماعي (Social Inclusion)ا[45]. وتفرز ممارسات الحكومة للإدماج والاستبعاد الاجتماعي الثقة أو تفضي إلى تآكلها وانحسارها. وتكشف نتائج البحث عن وجود ثمة مظاهر لغياب العدالة والمساواة، وقصور الإدماج، تتبدى بجلاء في مشكلات من أبرزها: الفقر، والبطالة، وانخفاض الدخول، والصحة، والتعليم، والعشوائيات، والتفاوت الجندري.

إن الفقر يفرزه إدماج الفقراء المتفاوت في العمليات السياسية والاقتصادية. ويستعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مصطلح الفقر ليشير إلى «الحرمان من القدرة البشرية على التمتع بالخيارات والفرص الأساسية اللازمة لسعادة الفرد أو الأسرة أو المجتمع»[46].

وقد أدى إدماج الفقراء في واقع الاقتصادات الرأسمالية المعاصرة إلى زيادة معدلات الفقر. وينتج من ذلك الإدماج المتفاوت الضار نظم عمل شديدة الاستغلالية كما حدث في أجزاء من مصر منذ صدور القانون 96 لعام 1992، والذي أزال بشكل صادم الحماية الممنوحة لمستأجري الأراضي منذ الحقبة الناصرية التي شهدت علاقات إدماجية بين الدولة والعمال والفلاحين. وقد أعقب تطبيق القانون 96، والتسليع المتسارع للأرض الزراعية زيادة كبيرة في القيم الإيجارية وتكاليف الإنتاج الأخرى[47]. وأسهم ذلك، إلى جانب اتباع سياسات وتوجهات ليبرالية جديدة منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى زيادة معدلات الفقر.

تؤكد الإحصاءات والتقارير الرسمية وغير الرسمية تلك الزيادة، وتُبرز غياب العدالة وبخاصة في بعدها الإقليمي (الفروق بين الريف والحضر، وبين المحافظات)، وقصور الإدماج. وتلقي النشرة الربع سنوية لبحث القوى العاملة الضوء على نسبة الفقراء وفقًا لمقياس الفقر القومي خلال السنوات (1999/2000 – 2019/2020)، إذ يمثل الفقراء 29.7 بالمئة من السكان في عام 2019/2020 مقابل 32.5 بالمئة عام 2017/2018، وبلغت النسبة 16.7 بالمئة عام 1999/2000. وفي ما يتعلق بنسبة الفقراء وفقًا لمقياس الفقر المدقع خلال السنوات (1999/2000 – 2017/2018)، فقد شهد العامان 1999/2000 حتى 2008/2009 زيادة في نسبة الفقر المدقع، وانخفضت هذه النسبة في عام 2010/2011، واستمرت في الانخفاض في عام 2012/2013، ولكن عاودت الارتفاع لتصل إلى 4,5 بالمئة من السكان في عام 2019/2020 [48].

يتجلى غياب العدالة في بعدها الإقليمي، وعدم المساواة، وقصور الإدماج الاقتصادي في أن معدل الفقر في المناطق الريفية كان عام 2015 أعلى مقارنة بالمناطق الحضرية. وعلى وجه الخصوص، بلغ معدل الفقر في المناطق الريفية في الوجه القبلي نحو 57 بالمئة. ويشير تحليل الوضع السكاني 2016 إلى حقيقة تركز الفقر في الوجه القبلي، ذلك أن ما يقرب من 80 بالمئة من القرى الأكثر فقرًا، ونسبتها 20 بالمئة، يقع في المناطق الريفية من الوجه القبلي[49]. وتشير النشرة الربع سنوية لبحث القوى العاملة إلى أن أكثر الفقراء يعيشون في ريف الوجه القبلي، ويمثلون 43 بالمئة من الفقراء على مستوى الجمهورية[50].

وتكشف البيانات الكمية والإثنوغرافية الكيفية عن مركزية قضية الفقر في بناء الشعور الشعبي، والتمثيلات الثقافية والاجتماعية للفقر بوصفه أحد أبرز مؤشرات ومظاهر غياب العدالة، وعدم المساواة، وقصور الإدماج الاقتصادي. ففي تقييم المبحوثين لأكثر المشكلات المعاصرة خطورة، تأتي مشكلة الفقر («الناس اللي عايشة في احتياج وفقر») في المرتبة الأولى بنسبة 29,4 بالمئة، بينما تحتل مشكلة الإرهاب المرتبة الثانية بنسبة 21,06 بالمئة، وتأتي مشكلة تردّي وانخفاض جودة التعليم (تعليم غير ملائم/غير كافٍ) في المرتبة الثالثة بنسبة 17,3 بالمئة، وتحتل مشكلة النظافة والبيئة غير الصحية (مستوى نظافة وصحي سيئ وأمراض معدية) المرتبة الرابعة بنسبة 16,3 بالمئة، وتحتل مشكلة الحفاظ على الأمن المرتبة الخامسة بنسبة 8,3 بالمئة، وتأتي مشكلة التلوث البيئي في المرتبة السادسة بنسبة 4,7 بالمئة، وأخيرًا، تحتل مشكلة التمييز الجندري والمساواة والعدالة الجندرية («التفرقة ضد النساء والفتيات») المرتبة السابعة بنسبة 2,6 بالمئة.

وتظهر وطأة مشكلة الفقر وإلحاحها في تمثيلات المبحوثين وتصوراتهم للإجراءات التي يتعين أن تتخذها الحكومة لكسب ثقة المواطنين، والتي من أبرزها العدالة والمساواة وإنصاف الفقراء والفئات الأكثر احتياجًا وتوفير الرعاية والحماية لها ووقف أشكال التمييز ضدها كتعذر شغل وظائف معينة. وتقترب تمثيلات المبحوثين للفقر والفقراء من مفهوم «الحيوات العارية» الذي طرحه الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين (Giorgio Agamben)، ويصف به الشخص الذي يفتقر إلى أية حقوق. ويعلن «أن الحياة العارية هي الموقف الذي يتحول فيه الإنسان إلى حامل لوظائفه البيولوجية العادية فحسب، وليس الحقوق[51]. ويشير أغامبين إلى رمز أو شخصية مرتبطة بالحياة العارية، وهو الشخص المعرض للقتل، ولكن لا تتم التضحية به؛ وبخاصة الأشخاص الذين ليس لموتهم أو حياتهم أية أهمية على الإطلاق[52].

ويشير المبحوثون إلى معاناة الفقراء الذين يتحملون وحدهم نتائج السياسيات الاقتصادية وبرامج الإصلاح الاقتصادي. ويتوقع المبحوثون توفير مزيدٍ من الحماية للفقراء، والدعم لبرنامج تكافل وكرامة ومبادرة حياة كريمة، ومنظومة الدعم الغذائي وزيادة الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية. ويوفر برنامج تكافل وكرامة تحويلات نقدية ودخلًا لمساندة الأسر الفقيرة التي لديها أطفال أقل من 18 سنة. وقد بلغ عدد المستفيدين من الدعم النقدي بأشكاله كافة 3,8 مليون أسرة عام 2020، وفقًا لبيان وزيرة التضامن[53].

وفي ما يتعلق بالدعم الغذائي، تغطي بطاقات التموين 84 بالمئة من الأُسر المصرية في منظومة الدعم (ما يقرب من 69 مليون نسمة)[54]، وترتفع هذه النسبة في الريف لتصل إلى 91,1 بالمئة بينما تقل في الحضر لتصل إلى 74,9 بالمئة[55]. وقد تبدى الاهتمام خلال السنوات القليلة الماضية بتحسين منظومة التموين باستحداث منظومة نقاط الخبز، وزيادة الدعم النقدي الشهري للفرد على بطاقات التموين مرات متتالية حتى بلغ خمسين جنيهًا[56].

وبرغم زيادة مخصصات الدعم والحماية الاجتماعية بالموازنة العامة للدولة من 198,5 مليار جنيه بموازنة 2014/2015 إلى نحو 327,7 مليار جنيه بموازنة 2019/2020 [57]، فإن هذه الزيادة، الجهود المبذولة لمكافحة الفقر، لا تتناسب مع حجم المشكلة ووطأتها، وفداحة ما يرتبط بها من مشكلات. ويؤثر ذلك بالسلب في مستويات الثقة بالحكومة ومؤسساتها، وكذا في تقييم أداء تلك المؤسسات.

تعدّ البطالة من أبرز مظاهر غياب العدالة والمساواة في بعدهما الاقتصادي، وقصور الإدماج الاقتصادي. وتشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى ارتفاع معدل البطالة من 9 بالمئة سنة 2010 إلى 13 بالمئة سنة 2014 [58]. كما تشير النشرة الإحصائية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2017 إلى أن قوة العمل 29,5 مليون، ويبلغ عدد المشتغلين 26 مليونًا، ومن ثم فعدد المتعطلين 3,5 مليون[59].

وتكشف نتائج البحث عن مظاهر قصور في ما يتعلق بالإدماج في بعده الاقتصادي والجندري، وغياب العدالة في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. يتضح ذلك في زيادة الفجوة الجندرية في ما يتعلق بالمشاركة في سوق العمل. إذ بيّنت إحصاءات المسح التتبعي لسوق العمل في مصر (2012) أن ثمة انخفاضًا متواصلًا في مشاركة النساء في سوق العمل في مختلف القطاعات الاقتصادية. كما أظهر المسح السكاني والصحي في مصر لعام 2014 أن نسبة 16 بالمئة فقط من النساء يعملن. وبلغت نسبة البطالة بين الإناث 84 بالمئة. وتبلغ نسبة مشاركة الرجال في سوق العمل ثلاثة أضعاف النساء[60]. وتقدر قوة عمل المرأة وفقًا لإحصاءات البنك الدولي عام 2020 بنحو 23,7 بالمئة[61].

تكشف نتائج المقابلات شبه الموجهة عن تمثيلات وتقييمات سلبية لمشكلة البطالة، ووطأتها، واستراتيجيات وممارسات مواجهتها، وهى تمثيلات وتقييمات تكشف عن انحسار الثقة بالحكومة ومؤسساتها. وتتجسد التمثيلات والتقييمات السلبية لتعامل الحكومة مع مشكلة البطالة في شعور 56,9 بالمئة من حالات البحث بقلق بالغ حيال تعذر الحصول على عمل أو فقدان العمل، وشعور 19,4 بالمئة من حالات البحث بدرجة كبيرة من القلق، وشعور 12,3 بالمئة من حالات البحث بدرجة محدودة من القلق، في حين يغيب الشعور بالقلق حيال مشكلة البطالة عن 9,2 بالمئة من حالات البحث.

وتكشف البيانات الإثنوغرافية عن أن مشكلة البطالة غائرة التأثير في مدى ثقة المواطنين بأداء الحكومة ومؤسساتها. وأن معدلات البطالة معيار موضوعي رئيس من معايير تقييم وضع الاقتصاد. كما أن تأثير البطالة في الوضع المالي للأسرة، أو الوضع المالي الشخصي، يؤثر في تقييم وضع الاقتصاد بصورة سلبية: «المواطن لمّا يلاقي شغل ويكون وضعه كويّس يبقى الاقتصاد كويّس». وتؤدي البطالة إلى تراجع مستويات الدخول الشخصية وهو ما يُفقد المواطن الثقة في المؤسسات والسلطات السياسية بعامة لأنها أخفقت في مواجهة المشكلة، وبالتالي تتحمل المسؤولة عن تراجع مستويات الدخول.

وتعدّ الأجور والدخول المنخفضة من مؤشرات ومظاهر قصور الإدماج الاقتصادي، وغياب العدالة في بعدها الاقتصادي. ويتبدى استياء من تدني الأجور، وعدم تناسبها مع ارتفاع الأسعار الذي نتج من تحرير سعر الصرف وخفض الدعم أو إلغائه وارتفاع معدل التضخم، إذ لا تكفي الحد الأدنى من الحاجات الأساسية واليومية.

وثمة تفاوت جندري واضح في الأجور تكشف عنه البيانات المتاحة عن الفجوة الجندرية في الأجور. إذ يبلغ إجمالي الدخل لكل النساء ثلث كل الرجال في مصر، وتكسب النساء 30 بالمئة مما يكسبه الرجال، مما وضع مصر في الترتيب 133 بين دول العالم[62]. ويشير تقرير التنمية الإنسانية العربية (2016) إلى أن الإناث تتلقى أجورًا أدنى من الذكور حيث وصلت الفجوة في الأجور بين الذكور والإناث في القطاع العام إلى 35 بالمئة في مصر[63].

وتبرز مظاهر غياب العدالة والمساواة، وقصور الإدماج بجلاء في تردّي الخدمات الصحة، والتفاوت في جودة الخدمات المقدمة في الريف والحضر. وقد ارتفع الإنفاق الحكومي على الصحة وفقًا لموازنة العام المالي 2019/2020 ليبلغ نحو 73 مليار جنيه. وبرغم ذلك تقل معدلات الإنفاق الحكومي (الوظيفي) على الصحة في مصر عن المتوسط العالمي[64]. وثمة زيادة مطردة في إجمالي عدد المنشآت العلاجية منذ عام 2011 [65]. ومع ذلك، لا يتناسب هذا التوسع في البنية التحتية وعدد المستشفيات، وتلك الزيادة في عدد الأطباء وأعضاء هيئة التمريض، مع معدل الزيادة في إجمالي المترددين على الأقسام الداخلية والخارجية بتلك المستشفيات. ويهدد كل ذلك قدرة منظومة الصحة الحكومية على إتاحة خدمات صحية ذات جودة عالية للمواطنين[66].

برغم بعض المؤشرات الإيجابية على جودة الرعاية الصحية، والعدالة التي حققتها مبادرات مثل 100 مليون صحة، تشير نتائج البحث إلى أن هذا الأداء لا يرقى إلى توقعات المواطنين ويثير الاستياء في أحايين كثيرة، ولا يتوخى العدالة والمساواة في تقديم الخدمة، ويثير الارتياب في أداء الحكومة بالإجمال.

ومن المؤشرات على تردّي هذه الخدمات، التمييز وغياب العدالة. إذ إن ثمة تفاوتًا صارخًا بين جودة الرعاية الطبية المقدمة في المستشفيات الحكومية والخاصة: «فقراء يعالجون في مزابل وأغنياء في مستشفيات خمس نجوم.. نتوقع تساوي كل المستشفيات في جودة الرعاية الصحية المقدمة». كما أن ثمة تمييزًا في جودة الرعاية الطبية التي توفرها الدولة لمصلحة فئات اجتماعية معينة أو شرائح طبقية بعينها.

وتغيب العدالة في بعدها الإقليمي عن تقديم الخدمات الصحية الحكومية. إذ يزداد تردّي وقصور تقديم الرعاية في الريف نظرًا إلى النقص الحاد في عدد الوحدات الصحية. كما يتعذر الحصول على الخدمة نتيجة تغيّب الأطباء (بخاصة في المساء) أو ضعف كفاءتهم، ونقص الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية وغرف الطوارئ والإهمال. خلاصة القول، أن المنظومة الصحية الحكومية تغيب عنها العدالة والمساواة والإدماج بدرجة كبيرة تفضي إلى انخفاض مستوى الثقة، برغم جهود الإصلاح الملموسة والمأمولة.

وتبدي المنظومة التعليمية بعض مظاهر غياب العدالة والمساواة، وقصور الإدماج. ويشير تقرير حالة السكان في مصر (2019) إلى أن نسبة الأمية في مصر قد بلغت 25,8 بالمئة عام 2017، بما يعادل 18,4 مليون شخص، وهي نسبة ما زالت مرتفعة مقارنة بالوضع في دول أخرى. وترتفع نسبة الأمية في أغلب محافظات الوجه القبلي عن المتوسط العام للجمهورية[67]. وترتفع نسبة الأمية في مصر بصورة ملحوظة في الريف (32,2 بالمئة للريف مقابل 17,7 بالمئة للحضر). وهي أكثر ارتفاعًا بين الإناث (30,8 للإناث مقابل 21,2 بالمئة للذكور)[68].

ويبرز ثمة قصور في الإدماج ببعده الجندري، وفجوة جندرية في الحصول على التعليم. إذ بلغت نسبة الأمية بين الإناث 34 بالمئة عام 2013 مقابل 19 بالمئة بين الذكور. وتشير بيانات مؤشر الفجوة بين الجنسين لعام 2015 إلى أن مؤشر الفجوة الجندرية في التعليم قد سجل 0,903 وهو ما وضع مصر في المرتبة 90 عالميًا. وتبين دراسة للبنك الدولي في الوجه القبلي أن 82 بالمئة ممن لم يلتحقن بالمدارس هم من الإناث. ويعيش 80 بالمئة منهن في المناطق الريفية وبخاصة ريف الوجه القبلي[69].

ويشير تقرير التنمية البشرية (2021) إلى ثمة تحسن في أداء قطاع التعليم قبل الجامعي وقطاع التعليم الجامعي في مصر خلال السنوات العشر الأخيرة وفقًا لمؤشر الإتاحة. إذ ارتفعت معدلات القيد الصافي والإجمالي لجميع المراحل التعليمية[70]. ومع ذلك، ثمة فوارق ومظاهر عدم مساواة في الحصول على التعليم بين الأفراد الفقراء وغير الفقراء بين فئة الـ 10 سنوات فأكثر. وتؤشر بيانات المسح السكاني الصحي في مصر عام 2014 على أن 57 بالمئة من السكان الفقراء لم يذهبوا إلى المدرسة أو لم يكملوا المرحلة الابتدائية، مقابل 45 بالمئة من غير الفقراء. وتبرز مظاهر عدم المساواة في التعليم بوضوح بين النساء الفقيرات وغير الفقيرات اللاتي سبق لهن الزواج (15 – 49 سنة)[71]. علاوة على ذلك، يبدو التفاوت صارخًا في جودة التعليم بين المدارس الحكومية والخاصة، كما تبيّن البيانات الإثنوغرافية.

وتشير البيانات الإثنوغرافية إلى استياء من المنظومة التعليمية بمختلف مراحلها على نحو يفقد الحكومة ثقة المواطنين. ويسوق المبحوثون عدة مسببات لإخفاق هذه المنظومة وتعثرها، منها غياب العدالة والمساواة في ما يتعلق بجودة التعليم بين الفقراء وغير الفقراء: «التعليم الجيد يحصل عليه من يمتلكون الأموال فقط». كما أن غياب العدالة عن الأجور بصفة عامة أفضى إلى تدني أجور المعلمين. وقد انعكس ذلك على تردي الخدمات التعليمية وجودتها، واستشراء ظاهرة الدروس الخصوصية. وتغيب العدالة في بعدها الإقليمي عن المنظومة التعليمية. يتبدى ذلك في ضعف البنية التحتية التعليمية في الريف وانخفاض جودة التعليم به.

ويرجع إخفاق هذه المنظومة أيضًا إلى ضعف البنية التحتية من مدارس وغير ذلك، برغم ارتفاع الإنفاق الحكومي على التعليم قبل الجامعي والعالي إلى نحو 132 مليار جنيه. ونتيجة لذلك، تشهد الفصول الدراسية تكدسًا[72]. وهكذا، يفضي تردّي الخدمات التعليمية، وغياب العدالة والمساواة عن تقديم الخدمة، إلى انحسار الثقة في أداء الحكومة.

أخيرًا، تتبدى مظاهر غياب العدالة والمساواة، وقصور الإدماج، بجلاء في مشكلة العشوائيات. وتعد العشوائيات من مظاهر الظلم الاجتماعي وتجسيداته. وتكشف البيانات الإثنوغرافية أن هذه المشكلة تؤرق أغلبية المبحوثين، وتمثل جزءًا من بناء الشعور والتمثيلات السلبية حيال أداء الحكومة.

وقد قدّر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء عدد العشوائيات بقرابة 1034 منطقة عشوائية. كما أكد المعهد القومي للتخطيط أن عددها يفوق 1109 منطقة عشوائية تغطي 20 محافظة. وبيَّن التقرير الذي أعده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن 14 مليون مصري يعيشون في المقابر والأكواخ والمساجد[73].

وتنال جهود الحكومة للقضاء على العشوائيات ثقة أغلبية حالات البحث. إذ بلغ عدد المناطق غير الآمنة التي طورتها الحكومة منذ عام 2014 حتى 2020 نحو 296 منطقة. وبلغ عدد المناطق التي طُوَّرت عام 2020 إلى 53 منطقة بمساحة 4616 فدانًا. كما انخفض عدد السكان في المناطق غير الآمنة بنسبة 35 بالمئة عام 2019. وقد عملت الحكومة على تطوير المناطق العشوائية غير المخططة التي بلغت مساحتها 152 ألف فدان عام 2014، ورفع كفاءة البنية الأساسية فيها. وتسهم هذه الجهود في تبديد بعض الارتياب في أداء الحكومة، والشعور بعدم المساواة وقصور الإدماج. تؤكد ذلك فرضيات المنظور المؤسسي التي مؤداها أن أداء الحكومة الفعّال والكفء يكسبها ثقة المواطنين، وأن الثقة بالحكومة تنتج من أدائها المدرك.

يتضح من كل ما سبق أن نتائج البحث تدعم منظور الاختيار العام الذي يُلمح إلى أن الثقة السياسية تحددها عدالة نتائج الأداء الحكومي ومخرجاته، وكذا عدالة إجراءات الوصول إلى نتائج معينة. وتنتج تقييمات المواطنين الايجابية للحكومة ومؤسساتها، وبالتالي ثقتهم فيها، عن بلوغهم قناعة بأن المخرجات الناتجة من هذه المؤسسات يتم توزيعها بصورة عادلة. ويعطي غياب العدالة والمساواة وقصور الإدماج تمثيلات سلبية للعدالة تفضي إلى تآكل الثقة بالحكومة ومؤسساتها.

مناقشة النتائج

تتفق نتائج البحث مع نتائج بحوث أخرى خلصت إلى انحسار وتآكل الثقة بالحكومة ومؤسساتها[74].  وتجلي تمثيلات الحكومة مسببات أخرى لانحسار الثقة السياسية من أبرزها: الاستياء من أداء الحكومة وتعاملها مع مشكلات ملحة من أبرزها: الأزمة الاقتصادية، وتدني جودة الخدمات الحكومية كالصحة والتعليم، والقصور المتصور في رعاية الفقراء ومحدودي الدخل، والتفاوت الواضح في الدخول. وتحوي تمثيلات الحكومة تقييمات سلبية لأداء المؤسسات الحكومية في عدة مجالات. وتفرز هذه التقييمات السلبية عدم ثقة في أداء المؤسسات الحكومية وقدرتها على حماية المواطنين. وتشير تمثيلات الحكومة إلى قصور واضح في الاستجابة الحكومية لحاجات المواطنين يفرز ارتيابًا، ويخلق شعورًا بعدم اكتراث الحكومة بالمواطن.

وتُبرز تمثيلات الحكومة بعض مظاهر غياب العدالة والمساواة وقصور الإدماج، والتي تتجلى في مشكلات الفقر، والبطالة، وانخفاض الدخول، والصحة، والتعليم، والعشوائيات، والتفاوت الجندري. ويظهر غياب العدالة والمساواة تمثيلات سلبية تفضي إلى تآكل الثقة بالحكومة ومؤسساتها.

البادي، إذًا، أن تمثيلات الثقة بالحكومة تجسد توقعات عن مخرجات يتطلع المواطنون إلى أن تحققها الحكومة ومؤسساتها. ووفقًا لمنظور الاختيار العام، يفرز التقييم السلبي للحكومة ومؤسساتها، والتنافر بين التوقعات وواقع الأداء، عدم ثقة واستياء من الأداء المؤسسي الذي يصدر عنها. ولانحسار الثقة بالحكومة تأثيرات غائرة على سياسة الدولة، ودعم السياسات العامة، والامتثال والإذعان الطوعي، والالتزام بالقواعد المشتركة، والمشاركة السياسية، وخيارات التصويت، والثقة الاجتماعية – بين المواطنين. ويفرض كل ذلك وضع استراتجيات تستهدف تغيير التمثيلات السلبية للحكومة من طريق تحسين جودة الخدمات الحكومية؛ والتعامل مع مشكلات المواطنين الملحة وبخاصة مشكلات الفقر، والعدالة، وقصور الإدماج؛ وغير ذلك. ويتعين أن تنبني هذه الاستراتيجيات على فهم عميق لتمثيلات الحكومة، ومعايير تقييم أدائها من منظور المواطنين.

كتب ذات صلة:

سؤال العدالة في الفلسفة السياسية الراهنة

في جينالوجيا الآخر: المسلم وتمثلاته في الاستشراق والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا