تعتبر النماذج النظرية للديمقراطية، كحال آليات ومؤسسات وتفاعل، من بين أهم مضامين الدراسات في العلوم السياسية وأكثرها توسعاً، لارتباطها بالدولة التي تشكّل في الأصل جوهر كل تنظير في العلوم السياسية، ولعلاقاتها بفلسفة تشكّل الدولة في حدّ ذاتها (تشكّل السلطة السياسية وانقسام المجتمع بين حاكم ومحكوم). لكن بالرغم من النمطية العالمية في الشكليات الديمقراطية، كالانتخابات بمختلف مستوياتها، والمؤسسات السياسية بتفرّعاتها التنفيذية والتمثيلية، والمواثيق الدولية، والدساتير والقوانين الداخلية، يبقى الاختلاف شاسعاً في التفعيل الحقوقي للحقوق السياسية وما يتبعها من حقوق اقتصادية وثقافية واجتماعية، وحتى ترسيخ السياسي منها، ويوحي هذا الاختلاف بخلل لا يتعلق بالشكليات بالضرورة، بقدر تعلقه بمستوى تحليل مهم في العلوم السياسية، وهو الفرد/المواطن.

وبالرغم من توسع الدراسات السياسية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الأقطار العربية، وتركيزها على مستوى التحليل التقليدي، وتوسعها إلى مستوى غير تقليدي، وتقديم أطروحات مستندة إلى أحكام قبلية عن طبيعة الثقافة السائدة، ونظريات مسلّم بقوتها التفسيرية غير المجالية، فإن مشكلة العجز الديمقراطي تبقى قائمة وفق التقارير الدولية والملاحظة البسيطة. من هذه المنطلقات، تهدف الدراسة إلى إبراز بعض الأدبيات التي ركّزت في تفسيرها للعجز الديمقراطي على المحدّد الجغرافي، سواء من ناحية الحيّز المكاني أو السلوك الاجتماعي السائد فيه.

أولاً: مفهوم الثقافة السياسية

تشير تعاريف الثقافة، بصفة عامة، إلى خاصية الاشتراك والتراكم المسبّبة للإحساس بالانتماء إلى المجموعة من خلال اللغة، والأخلاق، والأفكار الدينية، والقيم المعنوية، وهو ما ورد مثلاً في تعاريف إدوارد تايلور (Edward Taylor) وتالكوت بارسونز (Talcott Parsons). يخلق هذا الارتباط والاشتراك والحس بالانتماء ما سمّاه إميل دوركهايم (Emile Durkheim) بالوعي الجماعي بفضل «التمثلات الجماعية والمثل والقيم والمشاعر المشتركة بين أفراد المجتمع كافة»[1]، ويصطلح عليه كذلك بلفظ «الاستشراك» من خلال دمج الفرد في المجتمع عبر تزويده بأنماط التفكير والشعور والتصرّف.

بهذه الدلالات يمكن اعتبار الثقافة السياسية مجموع المواقف والتوجهات والأفكار والقيم التي تحدّد شكل النشاط السياسي، أو لها أثر في الحياة السياسية، وترتبط دراستها، في كثير من الحالات، بمتوسط التوجهات السياسية على المستوى الوطني وتأثيرها في إمكانات التحول أو استمرارية الأنظمة السياسية واستقرارها.

إن التصوّرات النظرية لمفهوم الثقافة السياسية؛ السيكولوجي (Gabriel A. Almond (و‍Sidney Verba وMargret Mead وRuth Benedict وMax Weber بتركيزها على إطار المعتقدات، كالرموز والقيم والتصور الاجتماعي الذي يربط الثقافة السياسية بالأصل العام (الثقافة)، لا يمكن دراستها بمعزل عن المكوّنات والعناصر الأخرى المكوّنة للكل الاجتماعي، والتصور السياسي (Michel Crozier, S. Huntington, J. Watanuki) باعتبارها حقلاً في العلوم السياسية يمتد من مصدر وتطبيق السلطة في المجتمع، والتصور الثقافي (Inglehart and Welzel) الهادف إلى معرفة تأثير العوامل الثقافية في نوعية السلوك، وكلها تصورات حاولت تقديم الثقافة السياسية كنتيجة أو كسبب لطبيعـة سير الأنظمة السياسية. لكن كتعريف محدد، فإن هذا المصطلح كغيره من مصطلحات العلوم الاجتماعية يلقى اختلافات حول عناصره وطرق قياس مستوياته وتموقعه في السلسلـة السببية.

إن مفهوم الثقافة السياسية، بالرغم من عدم وضوحه المنهجي باعتبار اختلاف تصوراته، إلا أنه، كمصطلح مجرد، قادر على إثارة فهم بديهي سريع لمدلوله من خلال جوانبه المعرفية والحسّية، ويطرح ثلاثة مستويات تحليل أساسية: مستوى النظام (المعتقدات)، ومستوى العملية السياسية (المواقف)، ومستوى السياسات (القيم).

سأحاول من خلال ما سيأتي التطرق إلى أهم النظريات المستندة إلى «المحدد الجغرافي» وما يترتب عليه لتفسير أنماط الثقافة السياسية، ويكون التركيز على ثقافة الخضوع والعزلة التي طالما ارتبطت بالذهنية السياسية العربية في هذه الأدبيات، وذلك بالنظر إلى تسميات النظريات، سواء بمحددات جغرافية أو محددات مرتبطة بمميزات اجتماعية عربية، مثل نظرية الاستبداد الشرقي، ونظرية ثقافة المجتمع الأبوي.

ثانياً: نظرية الاستبداد الشرقي

في بحث للمفكر الألماني كارل فتفوغل (Karl Wittfogel) لبلدان الشرق وأنظمتها السياسية والاقتصادية، صدر في شكل كتاب عام 1957 بعنوان: الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة المطلقة (Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power)، درس حضارات مصر، والشام، والعراق، وفارس، وكذا الهند والصين. لاحظ فتفوغل سمات مشتركة في ما يخصّ العلاقة بين الحكام والمحكومين، وإن كان يرى أن النموذج المثالي لهذه النظرية هو مصر[2].

ترتكز النظرية على فكرة أساسية مفادها أن الحضارات الشرقية قامت كضرورة لتشييد مشاريع مائية منظّمة لجلب مياه الريّ عبر آليات صناعية، وتتطلب هذه المشاريع تحكّماً صارماً على جموع غفيرة من العمال والحرفيين وأصحاب المهن في مختلف التخصّصات، هذا أثناء التشييد، كما تتطلب حكومات قوية في تسيير مواردها وتقاسم نواتجها. ويعتمد النظام الزراعي في ذلك على نشاطات تنظيمية وتنسيقية، لا يمكن أن يوفّرها إلا جهاز إداري بيروقراطي مركزي واحد لا يتنازعه ولاء آخر؛ يقوم بتنظيم الري وتعبئة العمل وتوجيهه، ويخطط مسبقاً لهذه النشاطات. وبطريقة ما، تربط النظرية بين احتكار تسيير الموارد المالية وملكية الدولة للأراضي الزراعية، ما يقلل بشكل كبير من الملكية الخاصة وتبعية الأفراد لهذا الجهاز الإداري، ليتحول أسلوب الإجبار في تنفيذ هذه المشاريع والاستفادة منها إلى وسيلة للحفاظ على الحكم والبقاء فيه.

يتفق فتفوغل مع جمال حمدان في مستوى المحورية الذي يمثله العامل الجغرافي في التأثير في الثقافة السياسية والسلوك السياسي، إذ يستند فتفوغل، إضافة إلى تحليله السابق، إلى مقارنة بين الشرق «المستبدّ» وأوروبا، المشهورة بـ «مناخها المعتدل المطير الذي يسمح بقيام زراعة تعتمد على الأمطار التي لا يستطيع أحد أن يتحكّم فيها، وهذا حالَ دون الاستبداد بالسلطة التي كانت سلطة متوازنة… أما في بلاد الرافدين والنيل، مثلاً، حيث كان التحكّم في مصادر الماء أمراً حيوياً، فإن من له السلطة على الموارد المائية يتسلط تبعاً لذلك على كل شيء من التجارة، إلى الصناعة، وإلى حقوق الملكية»[3]، إذ يرى جمال حمدان في تطبيق النظرية على مصر أن «ضبط النهر» و«ضبط الناس» ضرورتان أساسيتان لإدارة المجتمع النهري، ويستند في ذلك إلى أن عدم وجود سلطة يؤدي إلى صراعات دموية على الموارد المائية. وفي ما يشبه نظريات العقد الاجتماعي، يرى جمال حمدان أن «التنظيم الاجتماعي يصبح شرطاً أساسياً، ويكون عن طريق تنازل الجميع والخضوع لسلطة أعلى تقوم بتنظيم الاستفادة من الموارد المائية[4].

ويرى د. إكرام بدر الدين أن التركيز الكبير للمواطنين المصريين ـ حالياً ـ على ضفاف النيل، وعدم قدرتهم على التعامل الذاتي مع موارده، أدى إلى تعزيز قوة الحكومة المركزية، واعتبر ذلك امتداداً لتجربة تاريخية قديمة تخوّل للحكومة «الأب» تنظيم وضبط الموارد نيابة عن الشعب «الأبناء»، ما أدى إلى انخفاض المبادرة والعمل الطوعي، في مؤشر عن السلبية المقرونة بالاعتماد الكبير على الدولة والطاعة[5].

وقد تعرضت النظرية لانتقادات متعلقة بوجود حكومات مستبدّة قبل وجود مشاريع مائية ضخمة، لكن ما لا يمكن إنكاره هو الجهاز الإداري البيروقراطي الضخم في كل المجتمعات «الاستبدادية» والمركزية في اتخاذ القرارات، بالرغم من وجود إدارات محلية مفوّضة، إذ نلاحظ، مثلاً، في الثقافة الشعبية المصرية أن القاهرة هي «مصر»، وهو اختصار لمصر في العاصمة.

طرح سعد الصويان في نهاية مقالته سؤالاً: «ترى لو عمًر فتفوغل طويلاً ليدرك عصر النفط، والذي شاءت الأقدار أن يظهر في نفس المنطقة التي كان يتحدث عنها، هل تراه سيجد أوجهاً للمقارنة بين الماء والنفط، ويخرج بنظرية بترولوكية توازي نظريته الهيدروليكية؟». انطلاقاً من هذا السؤال، سنحاول دراسة العلاقة الممكنة بين النفط والديمقراطية، وتأثيرها في طبيعة الثقافة التي تحكم العلاقة بين المواطن والدولة/النظام عربياً.

عادة ما تشير النماذج النظرية إلى العلاقة بين النمو الاقتصادي والديمقراطية، وأن إرساء حقوق الإنسان تستلزم زيادة الدخل الوطني ومستويات التمكين في الصحة والتربية والتعليم ونصيب الفرد من الناتج الوطني الخام، لكن عند تحليل مضمون الجدول في الصفحتين التاليتين، المتضمّن مجموع مؤشرات اقتصادية وسياسية، نلاحظ أنه بالرغم من أن عدة أقطار، مثل قطر، والكويت، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والعربية السعودية، وعُمان، وليبيا (قبل عام 2011) كانت تحتل المراتب الخمسين الأولى من حيث نصيب الفرد من الناتج الوطني الخام، إلا أنها (الأقطار ذاتها) كانت تحتل المراتب فوق المئة، وأقربها الكويت (المرتبة 114 من مؤشر الديمقراطية عام 2011)، مع التذكير أنها أقطار تابعة لمنظمة التعاون الخليجي مع ليبيا، وهي من بين أكبر الأقطار المصدّرة للنفط.

بهذا المنطق، أصبح من الضروري التساؤل: لماذا لم تحقق مستويات نصيب الفرد من الناتج الوطني الخام النتائج السياسية نفسها، مقارنة بأقطار أخرى؟

الأثر الريعي في العلاقة بين الفرد والنظام السياسي

الدولةالضرائب
كنسبة مئوية
من الناتج
الوطني الخام
مؤشر
الفساد
صادرات النفط
(برميل يوميا)
مؤشر
الديمقراطية
2010
نصيب الفرد
من الناتج الوطني الخام
الترتيبالحاصلالسنةالعددبالدولارالترتيب
الجزائر7.71122.920071.891.00012537027
البحرين2.4465.12007238.300122221099
جزر القمر12.01432.420070012668246
جيبوتي20.01003.0200719154109028
مصر15.81122.9200989.300138175415
الأردن21.1564.52007001172741102
الكويت1.5544.620072.394.0001145034308
لبنان14.41342.520070086639864
ليبيا2.71682.020071.542.0001581084050
المغرب22.3803.4200717.4201162368105
موريتانيا15.41432.4200730.620115928134
عُمان2.0504.82008593.7001431541240
قطر2.2227.22008753.0001377075403
السعودية5.3574.420078.728.0001601541639
السودان6.31771.62007303.8001511257125
سورية10.71292.62008155.0001521928112
تونس14.9733.8200777.130144331394
الامارات العربية المتحدة1.4286.820072.700.0001484227516
اليمن7.11642.12007274.4001461020130
فنلندا43.629.42009130.500034491212
‏‏

المصدر: من إعداد الباحث بالاعتماد على: «Democracy Index 2010: Democracy in Retreat: A Report from the Economist Intelligence Unit,» The Economist Intelligence Unit Limited (2010), <http://graphics.eiu.com/PDF/Democracy_Index_2010_web.pdf>; Terry Miller and Kim R. Holmes, «2009 Index of Economic Freedom,» The Heritage Foundation, <http://akgul.bilkent.edu.tr/ipi/2009%20ranking%20the%20world%20by%20economic%20freedom.pdf>, (accessed on 2 May 2009); «The 2011 Corruption Perceptions Index,» Transparency International (2011), <http://www.transparency.org/cpi2011>, and «World Economic and Financial Surveys: World Economic Outlook Database,» International Monetary Fund (October 2007), <https://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2007/02/weodata/index.aspx>.

في دراسة ميشال روس (Michel Ross) أكد أن العلاقة بين العملية الديمقراطية تتناسب عكسياً مع صادرات النفط، أي أن التمكين الحقوقي السياسي يتناسب عكسياً مع المداخيل النفطية للدول «الريعية»، وهو ما توصل إليه كذلك هوفليرت وكوليه (Hoefflert & Colier)، إذ اعتبرا أن زيادة المنابع الطبيعية في صادرات الدول قد يؤدي إلى تراجع مؤشرات الديمقراطية. وكذلك وافقهما فريدمان (Friedman)، من خلال نظرية أزمة المشاركة السياسية والعجز الإداري[6].

وتؤكد دراسة لميشال روس هذه النتائج، إذ يعتقد أن التناسب طردي، فكلما كانت حصة الصادرات النفطية من الناتج الوطني الخام أقل، تكون احتمالات التحول الديمقراطي أكبر، أي بحسب الحصة النفطية. ويستدل في ذلك بحالات مثل أوكرانيا وفييتنام، وبحسبه فإن الدول التي تنتج أقل من 100 دولار للفرد الواحد سنوياً من البترول (أوكرانيا، وفييتنام) هي أكثر احتمالا وقابلية للدمقرطة بمعدل ثلاثة أضعاف مقارنة بالدول المنتجة أكثر[7].

ويظهر الأثر الريعي في طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة/النظام في ثلاثة مظاهر أساسية، هي: الضرائب، والإنفاق العمومي، واللاشفافية، إذ تفسر المداخيل النفطية عدم الاهتمام بالتحصيل الضريبي، أو فرض ضرائب إضافية على المواطنين، ما يجعل عبئها عليهم خفيفاً، وهو ما يقلل من جهة أخرى الجدّية من قبل المواطنين في مساءلة النظام وأجهزة الدولة. ومن خلال الجدول السابق نلاحظ أن الدول الريعية، خاصة أقطار الخليج، بما يمتاز به اقتصادها النفطي من ميزات توزيعية على الأفراد، شهدت علاقة عكسية بين نصيب الفرد من الناتج الوطني الخام من جهة، والديمقراطية ونسبة الضرائب في الناتج الوطني الخام من جهة ثانية. فقطر تحتل المرتبة الثالثة عالمياً في نصيب الفرد من الناتج الوطني الخام، والمرتبة 137 من مؤشر الديمقراطية، وتبلغ مساهمة الضرائب في الناتج الوطني الخام 2.2 بالمئة. وكذلك الحال بالنسبة إلى الكويت (8 ـ 114 ـ 1.5 بالمئة)، والإمارات العربية المتحدة (16 ـ 146 ـ 1.4 بالمئة)، في حين أن فنلندا في مراتبها الأولى في مقياس التنمية البشرية تحتل المرتبة الثالثة في مؤشر الديمقراطية، وتمثل نسبة الضرائب من الناتج الوطني الخام 43.6 بالمئة. ويعتبر المستوى الأدنى من الضرائب «منطقاً شرائياً» للنظام، إذ إن رفع مستوى الضرائب يدفع الأفراد إلى المساءلة.

أما عن الإنفاق العمومي، فيرى أحمد علوي أن الدولة الريعية «تولي الاهتمام بالدرجة الأولى للإنفاق على مشاريع قصيرة الأمد ومشاريع استعراضية جراء حصولهم على المداخيل النفطية سهلة المنال … [إضافة إلى] إيجاد فرص عمل كاذبة والتستّر على البطالة الواسعة. كما تعمد الدولة إلى توسيع الجهاز الإداري … يؤدي ذلك في الوقت نفسه إلى ضعف أداء جهاز الدولة»[8] والفساد الإداري. يظهر ذلك عملياً في الجزائر، إذ أعلن في عام 2011 عن برنامج اقتصادي بـ 156 مليار دولار، وأعقب احتجاجات عرفتها في أوائل عام 2011 خفض الرسوم على الزيت والسكر (مادتين واسعتي الاستهلاك)، ورفض الرقابة الصارمة على السير والبناءات الفوضوية. ودعمت السعودية القطاع العام والسكن والتشغيل بـ 136 مليار دولار. وصرفت الكويت 1000 دينار (3600 دولار) لكل مواطن، إضافة إلى وجبات مجانية لمدة أربعة عشر شهراً. وقد تزامن هذا كله مع الاحتجاجات التي عرفتها الأقطار العربية عام 2011‏[9]. ويخلق هذا الوضع علاقة أحادية الاتجاه بين الفرد والنظام، إذ تتمحور العلاقة حول ما سيحصل عليه الفرد من ريع، وهو ما يُهمش الخطابات المتضمنة التمكين السياسي. ويسمّي العراقي د. سليم الوردي هذا الوضع «الوثنية النفطية» أو «التميمية النفطية».

تؤدي ثقافة «الريع» إلى تشكّل مجموعات تسعى إلى الاستفادة بشكل كبير منه، وتتخذ هذه المجموعات أشكال تحالفات ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية، ومنظمات حكومية وغير حكومية، التي يفترض بها ممارسة الرقابة والمطالبة بالشفافية، إضافة إلى تكتلات اقتصادية تستفيد من العلاقة مع نخب في أنظمة الحكم. كما تتخذ هذه التكتلات الاستيراد كآلية لتبييض الأموال وزيادة رأس المال، وذلك للاستفادة من التسهيلات البنكية ونسبة الضرائب المنخفضة. ويتولد عن هذا الوضع غياب طبقة برجوازية حقيقية تربط الحقوق الاقتصادية بالحقوق المدنية والسياسية. ويمثل الشكل التالي توضيحاً للمظاهر الثلاثة السابقة الذكر.

 

إعادة توليد السلطة في الاقتصاد الريعي (النفطي)

المصدر: أحمد علوي، «الاقتصاد الريعي ومعضلة الديمقراطية،» تعريب عادل حبه، العراقية: المجلات الأكاديمية العلمية، <http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=50938>. [بتصرف: تمّ اقتباس الفكرة وإحداث تغييرات في المضمون].

ثالثاً: نظرية ثقافة المجتمع الأبوي

في دراسة بعنوان «الأسرة والتغيير السياسي: رؤية إسلامية»، ترى الدكتورة هبة رؤوف عزت أن الدراسات الغربية لم تتناول التأثير السياسي للأسرة/العائلة؛ فالسلوكية التي مرت بها العلوم السياسية ـ بحسبها ـ في الستينيات، ركّزت على السلوك السياسي للفرد وحدة سياسية للتحليل، وركّزت البنيوية على النخبة السياسية، والأحزاب، واهتمت الأنثروبولوجيا السياسية بالقبيلة والرموز السياسية للجماعة. أما الدراسات الغربية المستحدثة، فتضطلع بدراسة العلاقة بين الفرد والدولة، ويلاحظ التغييب الكامل للأسرة كوحدة اجتماعية لها تأثير سياسي في الدراسات الغربية[10].

تستند نظرية ثقافة المجتمع الأبوي إلى العائلة كبنية/وحدة أساسية للتحليل، وهي بنية اجتماعية ـ سياسية ذات سلّم قيم وخطابات وممارسات واضحة تعتمد على طبيعة العلاقة التي تربط بين أفرادها، و«الأساس في هذا النظام هو هيمنة الرجل على المرأة، وهيمنة الكبار على الصغار، ما يعني توزيعاً هرمياً للسلطة على محوري الجنس والسن، ويعتمد هذا النظام على أبناء القرى، كما يرتبط جذرياً بالعائلة الممتدة أبوياً»[11]. وتعتمد هذه العلاقة على مبدأ الطاعة المطلقة للسلطة الأعلى، وباعتبار أن العائلة صورة مصغّرة عن المجتمع؛ فالقيم التي تسودها هي السلطة والطاعة المطلقة من الأعلى إلى الأسفل، لذلك فمن الباحثين من يمدد المجتمع الأبوي إلى القيم التي تسود القبيلة والمجتمع (تصاعدياً)، على أن يبقى الفرد في أسفل السلسلة خاضعاً للجميع بشكل تراتبي.

في دراسة لهشام شرابي بعنوان: «مقدمات لدراسة المجتمع العربي»، يرى أن الأسرة العربية لا تتيح للطفل مجالاً لتحقيق الاستقلال الذاتي، إذ تستغرب وتستنكر عليه القيام بأنشطة فردية، ويجعله ذلك يعزف عن النشاط المستقل، منتظراً «الآخرين»، فيشعرهم ذلك بالعجز والاتكالية. ويتخذ الصراع في بعض الأسر بين الوالدين شكل استمالة الطفل، إذ يمعن كلا الطرفين في استظهار عطفه وسخائه المادي من جهة، وذكر مساوئ الطرف الآخر من جهة أخرى، كما يكسب ذلك أفكاراً عن «العداوة» بين الطرفين من جهة، بحيث يكون الولاء مرتبطاً بالسخاء المادي، وليس مرتبطا بوجهة النظر الصحيحة من جهة أخرى.

في السياق نفسه، وفي دراسة لسانيا حمادي، توصلت إلى أن «الهم الأساسي للعربي في أداء عمل أو تجنبه، هو ما إذا كان سيشعر بالعار إن علم الناس به. وأهم مقياس لخياراته هو «ماذا سيقول الناس؟». ويترسخ الشعور بالعار في الجيل الصغير من خلال تقنيات العار، كأن يقارن الطفل بغيره، مثلا، وهو من أساليب تنشئة الطفل الواسعة الانتشار في لبنان ومصر، وربما في غيرهما من الأقطار العربية أيضاً[12]. فالنتيجة من «ضغوط التطابق» دائماً هي محاولة الاختلاف وإخفاء ذلك عن الغير، فتغلب صفة العار على صفة الشعور بالذنب.

إذا تقبلنا هذه السلوكات على الأطفال، فيجب عدم الاستغراب عند الحديث على مستويات عليا من الفساد، ما دام لا يمكن إثبات الفساد بالوثائق، فالغلبة هنا للعار، وليس للذنب، والتقيد لا يكون بالقانون أو بالضمير، بل بنظرة الناس، إذ تخلق الثنائية الذنب ـ العار ازدواجية في المعايير، وتتجذّر هذه الازدواجية في باطن السلوك وظاهره، وكذا في مرجعية السلوك ذاته، فهل هو النفس، أم المجتمع، أم القيم، أم القانون … إلخ؟

تؤدي قيم الاتكالية، والخوف من المواجهة، والعار بدل الذنب، وازدواجية الأحكام للطفل في البلدان العربية، إلى تكوُن اندماج وتمازج وغلبة الآخر بالأنا، إذ يلجأ الطفل إلى تبرير أعماله أو فشله بالآخر، كما يستخدم الآخر لتبرير مظاهر لا تبرير لها. ونلحظ ذلك لدى الفرد العربي في استخدام عبارات مثل: «أنا غير مسؤول»، و«هم المسؤولون»، و«هو اللي عملها»، و«أنا مظلوم»، و«الناس اللي فوق» وتضخيم تأثير الحسد، والعين … وكل هذه العبارات تعبر عن وجود متحكّم في سلوكيات ومصائر الأفراد. إنها تعبر في الوقت نفسه عن أن الفرد لا يتحمل مسؤولية أفعاله، ولا يتحمل عبء مواجهة الأحداث، وبدل ذلك يحاول إيجاد تفسير يستبعده، وبالتالي ليس من الصدفة أن نجد الحكومات العربية، مثلاً، تروّج لما يسمّى بـ «نظرية المؤامرة» في مختلف الأحداث والمظاهر العنيفة وغير العنيفة.

بالنظر إلى مقدمة ثريا التركي وهدى زريق حول «محوري الجنس والسن»، فإن ثقافة المجتمع الأبوي تعتمد على «نمط تنظيم اقتصادي مميز، وقد تكون تلك البنية ذات علاقة بنمط الإنتاج الآسيوي، التي أشارت إلى تشكل اجتماعي آسيوي أو شرقي ذي شكل أبوي محدد»[13]، يقوم فيه الأب بدور رب العمل، ويضطلع أفراد الأسرة بمن فيهم الزوجة بدور العمال. وإن تطورت المجتمعات بعدها، فإن المحدد الاقتصادي (عمل رب الأسرة ـ الذكر) أبقى على الهرمية السلطوية. في هذا الصدد، يقول سعيد بن سعيد علوي إنها (الأسرة) «كانت حقاً مقاولة رب الأسرة، أو بالأحرى «رئيس الأسرة» هو رئيس المقاولة، وأعضاء الأسرة هم نفسهم العاملون فيها، يتقاضى البعض منهم أجراً بكيفية أو بأخرى، في حين أن البعض الآخر، والنساء في مقدمة ذلك البعض، لا يتقاضى عن عمله أجراً»[14].

إن استمرار السلوكات الأسرية هي بالضرورة استمرار لأنماط سلوكية قبلية ومجتمعية، وتثير المطابقة مبدئياً من الناحية السياسية استجابات من الفرد والسلطة. من ناحية الفرد، مثلاً، أشارت نتائج استطلاع للرأي العام إلى أن حوالى 95 بالمئة من الرجال والنساء يعتقدون أن المناخ المجتمعي لا يزال غير ملائم لدخول المرأة المعارك الانتخابية والقيام بأدوار سياسية، وتتفق هذه النظرة السائدة مع التفسيرات والتأويلات لأحكام الشريعة الإسلامية، التي من شأنها أن تضع قيوداً على تقبل المجتمع لمشاركة المرأة. وفي دراسة لمسوح القيم العالمية (World Values Survey) من بين 12905 مستجوبين، كان مجموع الموافقين والموافقين بشدة هو أن الذكر أحسن من ناحية القيادة السياسية للمرأة بنسبة 72.1 بالمئة، بينما اعترض على العبارة 6.2 بالمئة، واعترض بشدة 14.7 بالمئة، ما يعني أن أكثر من 80 بالمئة من المجتمع لا يرى مكانة واضحة للمرأة في العمل السياسي(*).

كما لا يخفى الطابع الخيري الرعائي، فالمتتبّع للبرامج التي تقدمها، مثلاً، منظمات المجتمع المدني للمرأة، يجدها مساعدة النساء الفقيرات، وتقديم العون المادي، وكذلك من خلال القضاء على الأمية لدى المرأة العربية، أو برامج متمحورة حول التمكين الاقتصادي من خلال تدريبها على بعض المهن، وإكسابها مهارات تمكّنها من توفير مصدر دخل خاص بها.

ومن بين القضايا الذي تطرحها مكانة المرأة في المجتمع، الجنسية، فبالرغم من ان المرأة في معظم البلدان العربية لا تفقد جنسيتها إذا تزوجت أجنبياً، فإنه يمكنها في المقابل منح جنسيتها لزوجها وأبنائها، في مصر، مثلاً، لا يمكن للمصرية المتزوجة بأجنبي نقل جنسيتها إلى زوجها أو أولادها إلا في حالة ما إذا ولدوا في مصر، والوضعية نفسها تفرضها القوانين في الأردن مع بعض الاختلافات. وفي لبنان، تستطيع اللبنانية أن تمنح الجنسية اللبنانية لأبنائها إذا كانوا غير شرعيين، ولكن لا يمكن للمتزوجة من أجنبي أن تنقل جنسيتها إلى أبنائها إلا إذا ولدوا في لبنان[15].

إن كون معظم الدساتير العربية تنصّ على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، وأنه «المصدر الأساسي للتشريع»، فهو بذلك الخلفية الدينية لقوانين المواطنة المطروحة سالفاً، إذ إن الدين الإسلامي في إطار تنظيمه للأسرة يحرم زواج المسلمة من غير المسلم، في حين يجيز زواج المسلم من الكتابية، إضافة إلى قوامة الرجل. وقد عزز ذلك منح الجنسية من جهة الأب.

وبالرغم مما حققته المرأة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلدان العربية، فإنه لا يمكن الحديث عن المساواة المطلّقة في الحقوق السياسية على الأقل من ناحية تقبل الفرد لها. وبالرغم من النسبة المرتفعة لهن في مراحل بناء القدرات ـ التعليم ـ وتفوقهن، إلا أن وجودهن في مراكز اتخاذ القرارات يبقى ضئيلاً جداً، إذ لم تتعدّ نسبة النساء في الحكومات، مثلاً ـ في أحسن أحوالها ـ 11 بالمئة، وفي البرلمانات الربع، وفي المديريات 11 بالمئة كذلك.

يعكس ذلك ذهنية مجتمعية خلقت لدى المرأة شعوراً بالقصور، وخلقت لدى الرجل شعوراً بالولاء، وبالتالي فإن الأمر لا يتعلق فقط بالقوانين، إذ إن القوانين توجّهت إلى المساواة التامة في التعليم والصحة والتوظيف إلى درجة غلبة العنصر النسوي في بعض النشاطات، خاصة الخدمية منها، والعمومية بالأخص، ويكفي أن تطرح قضايا مثل خروج المرأة إلى العمل، والاستغراب لوجود مديرة أو وزيرة أو نائبة في البرلمان، وذكر نسب التواجد في المناصب القيادية للتأكيد أن المرأة «في الذهنية العربية ليست بمكانة الرجل».

رابعاً: المكوّن القبلي

إن الحديث عن طبيعة العلاقة بين القبيلة والدولة في البلدان العربية يستوجب عدم استغفال أن القبائل بمفهومها المثالي (وحدة النسب) أصبحت قابلة للنقاش، نظراً إلى التزاوج قديماً والتغيرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها المجتمعات العربية حديثاً، والتي أفرزت حقيقة أن فقط 5 بالمئة من المواطنين في الشرق الأوسط هم بدويون، وأن عدداً قليلاً جداً من المواطنين يمكن اعتبارهم رجال قبائل بالمفهوم القديم، كما أن الحكم الذاتي الذي يفترضه الولاء التام للقبيلة يتصادم مع مبدأ استئثار المركز باستخدام السلطة بما تتضمنه من قهر مادي ومعنوي ممركز.

يرى الباحثون أن مفهوم الغنيمة، وإن تغير مقارنة بمضمونه القديم المرتبط بقبائل البدو، فإنه قد تمت إعادة صياغته وفق البنى والفاعلين في الدولة الحديثة. ويبرز ذلك بشكل كبير في أقطار الخليج العربي، ويمتد إلى كل أقطار المشرق العربي، ما يعني أن العصبية تحوّلت من رابطة سيكولوجية إلى قوة مشكلة للأقطار، فكان التحول من التضامن إلى التأسيس؛ فأقطار الخليج (أقطار منظمة التعاون الخليجي) تعتمد بشكل كبير على مكوّنات قبلية مختلفة، ودليل ذلك «العائلة الحاكمة» التي هي في أصلها قبائل، ودورها السياسي حاسم، فهي المنتجة لـ «الحاكم وولي العهد»، ويتولى أعضاؤها مناصب وزارية ودبلوماسية، وللحفاظ على الاستقرار واتقاء الانقسامات والانقلابات، تخصص بعض المناصب القيادية لعشائر أخرى، إضافة إلى تخصيص معونات مالية، والتقرّب عن طريق المصاهرة، وتصل هذه الممارسات إلى درجة اقتسام قطاعات معينة من النشاط الاقتصادي.

وإلى زمن قريب، اعتمد الرئيس الليبي السابق العقيد معمر القذافي سياسة تفضيلية لتعزيز نفوذه السلطوي، واستخدم الامتيازات الاقتصادية والمصاهرة والاتفاقات لاستمالة نفوذ حوالى مئة وأربعين قبيلة[16]. وقد ولّد ذلك نفوذاً وتقاسماً للقطاعات، ومثلت المؤسسات الرسمية تجسيداً لحجم القبائل ونفوذها. ولم يتغيّر الوضع كثيراً بانهيار النظام الليبي عام 2011، إذ تجسد النفوذ القبلي مرة أخرى في الانتخابات البسيطة والتشنّجات الأمنية العنيفة.

وقد ترجم الصراع السياسي في موريتانيا على شكل شعار بين الأسر الممثلة للقبائل في المجتمع الموريتاني، وظهر ذلك جلياً في مختلف الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية الماضية منذ أول تجربة ديمقراطية عام 1986. وأصبح دعم القبائل للأحزاب سلوكاً سياسياً متداولاً في الحياة السياسية الموريتانية. كما تكرّس الوجود القبلي في الحياة السياسية من خلال ترشيحات الأحزاب إلى البرلمان والمجالس البلدية. لكن الغريب في الحالة الموريتانية أن القبائل عادة ما تطرح نفسها ببعدها اللامواطني الصريح، من خلال المطالبة بمناصب سياسية تتوافق والحجم الاجتماعي لها في المجتمع، ويظهر ذلك في فترات التأزم الاجتماعي.

تعتبر «الصحوات» المنتشرة في العراق بعد انهيار النظام البعثي والاحتلال الأمريكي، تفعيلاً آخر للقبيلة على الساحة العراقية. لقد أعطى ضعف الدولة العراقية (المرتبة التاسعة مؤشر الدولة الفاشلة) دوراً أقوى ومكانة أحسن للقبائل والعشائر، فالوضع الأمني في العراق بعد الاحتلال الأمريكي فرض التوجه نحو هذا المكوّن القبلي التقليدي لاستتباب الأمن، وذلك طبعاً مقابل ثمن يدفعه المجتمع العراقي، سواء كان بالمال، أو المصالح، أو الامتيازات.

وبالرغم من التاريخ الطويل والمكانة الخاصة للعربية السعودية، إلا أنها تكافح لتكون محور الولاء الرئيسي، ففي دراسة لتركي الرشيد (عام 2009) أكد أن كثيراً ما تستخدم الدولة من قبل القبائل لتعزيز القوة الاقتصادية لها ولأفرادها، وهو ينظر إلى القبيلة على أنها انتماء أكثر موثوقية. ففي السعودية هناك توجه عام مفاده «أرجع [إلى القبيلة] لأني أحس بأمان أكثر، وأؤمن نفسي أكثر وأحسن من الدولة والمجتمع المدني»[17]؛ فالقبيلة من أهم المكونات، إذ تظهر البنى القبلية في بعض الأحيان على شكل شبكات مصلحية لتولي المناصب العليا (الوزارات، والسفارات، والمناصب الإدارية العليا)، فالزعماء التقليديون في العربية السعودية أو غيرها من أقطار الخليج العربي يناورون باستخدام سلوك ذي بعد سياسي، ويظهر ذلك من خلال مزيد من النفوذ المرتبط بمؤسسات الدولة الحديثة.

في الحالة اليمنية، تتجلى قوة الفعلية للقبائل في حضورها الرسمي وغير الرسمي، ويسود سلوكها قنوات التعبئة والمؤتمرات التشاورية. ومن بين هذه المؤتمرات مؤتمر التضامن للقبائل اليمنية (تشرين الأول/أكتوبر 1990)، ومؤتمر قبائل المهرة وحضرموت (تشرين الأول/أكتوبر 1991)، ومؤتمر التلاحم الوطني (كانون الأول/ديسمبر1991)، ومؤتمر اتحاد حاشد التضامني (عام 1992)، ومؤتمر سبأ للقبائل اليمنية (تشرين الثاني/نوفمبر 1992)، ومؤتمر مجلس بكيل الموحّد (كانون الثاني/يناير 1994). كما ذكر سمير العبدلي أن القبائل تلجأ كذلك إلى التصادم من خلال قطع الطرق (باسم القبيلة)، والمواجهات المسلحة، واختطاف الأجانب، ما يجبر الدولة على الرضوخ حماية لحياة المخطوفين.

ترسيخاً لهذا التوجه، وفي دراسة ميدانية قام بها، وقدم نتائجها عام 2008 دانيال كورستني (Daniel Corstange)، درس فيها توجهات اليمنيين تجاه القانون القبلي والقانون الوطني من خلال دراسة تأثيره في سيادة القانون أولاً، ثم في أوضاعهم، من حيث ما يوفره القانون القبلي مقارنة بالقانون الوطني، بما في ذلك الثقة في مؤسسات الدولة (المحاكم)، توصل الباحث إلى أن القانون القبلي هو بديل غير كامل، أي بديل ثان من القانون الوطني، وهو ما يطرح قوة القبيلة، وقوة الدولة. أما عن الثقة في المحاكم، فكانت النتائج أن 29 بالمئة لا يثقون تماماً بالمحاكم، و19 بالمئة يثقون قليلاً جداً، و24 بالمئة يثقون قليلاً، و22 بالمئة يثقون بالمحاكم، كما عبّر 7 بالمئة عن ثقتهم الكبيرة، وفي المقابل عبر 18 بالمئة من العيّنة عن أن سيادة القانون الوطني غير قوية تماماً، و38 بالمئة ليست قوية جداً، و36 بالمئة قوية نوعاً ما، و8 بالمئة قوية جداً[18].

من خلال ما سبق، إذا ما حاولنا استيضاح تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية في مكونات الثقافة السياسية ـ مستوى النظام (المعتقدات)، ومستوى العملية السياسية (المواقف)، ومستوى السياسات (القيم) ـ يتضح أن جهود توحيد المرجعية القيمية لم تمنع من وجود اختلافات في العلاقة بين الأنظمة السياسية والمواطنين عبر المجتمعات المحلية. فبالرغم من التطور المؤسسي والقانوني الذي تعرفه الأقطار العربية في الحياة السياسية، يبقى الأثر الفعلي للمشاركة السياسية في تسيير الشأن العام ضعيفاً؛ وإذا كانت دراسة الجانب الرسمي منه مرتبطة بالاطلاع على التجربة الانتخابية، وتفحص مختلف القوانين المتحكّمة في الحياة السياسية، فإن الجانب غير الرسمي منه مرتبط بالذهنيات التي يصعب دراسة توجهاتها، وبالتالي تأثيرها في سير الحياة السياسية، ما يعني ضرورة البحث عن المحدّدات المؤثرة في السلوك السياسي.

إن الإشكالية في المجتمعات في البلدان العربية متعلقة بالعدالة التوزيعية، وباعتبار التشكيلة الاجتماعية المتكوّنة من العشائر والقبائل والطوائف، يلجأ المواطنون إلى الانتماءات الفرعية للحصول على مخرجات النظام السياسي عن طريق هذه البنى غير الرسمية.

لقد كرّست طبيعة الاقتصاد الريعي، غياب تفعيل جدّي لآليات الرقابة، وتشكّل مجموعات زبائنية ذات خلفيات اجتماعية وطبقية مصلحية، وتعطل آليات الحسبة والمساءلة لفائدة نمط من الثقافة يتغذّى من القهر المادي المعنوي، ويلغي فلسفة الحقوق والواجبات، ويفتح المجال لفلسفة العطايا والغنيمة.

إضافة إلى قنوات التنشئة الرسمية والعنف الرمزي ـ بحسب بورديو ـ يمثل أسلوب تعامل الأسرة العربية مع أبنائها رافداً آخر للسلطة، إذ يستند اتجاه الحوار فيها إلى عامل السلطة الأبوية في التعامل الداخلي من دون الإضرار ببديهية التوافق الداخلي التام، ويؤثر كذلك في السلوك في طلب الحقوق وأسلوب وأطراف الحوار.

 

قد يهمكم أيضاً  الحوار الإسلامي – العلماني في الوطن العربي بين أزمة التواصل وانتعاش العنف

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ثقافة_الريع #السياسة_في_العالم_العربي #البلدان_العربية #الثقافة_السياسية #المجتمع_الأبوي #الأسرة_العربية #القبائل_في_البلدان_العربية #الاستبداد #دراسات