التأريخ لحالة استعمارية هو سعي إلى معالجة واقع استعماري وما يتعلق به من احتمالات وتطلعات، أي محاولة القبض على لحظة مع ما تحمله من تداعيات ونتائج لمراحل قادمة ومن ما ينتظره الفاعلون من مسار تاريخي غير مسبوق في تاريخ الإنسانية. فالاستعمار الحديث والمعاصر هو حالة تنطوي على عنف تتستر عليه السلطة الحاكمة ولا تريده أن يظهر لمواطنيها ولا للأهالي الذين تتصرف في حياتهم ومصيرهم. الحالة الاستعمارية هي صراع وجدل بين المستعمِر والمستعمَر على الصُّعد كافة الاجتماعية والمدنية والسياسية.. والاستعمار بالتعريف هو هذا التوجه نحو الثورة والحرب والانفجار الكبير بقدر حجم القوة الحاكمة وإرادة المحكومين على النحو الذي حصل في الجزائر لأكثر من مئة وثلاثين سنة، وبخاصة منها السنوات السبع الأخيرة التي عُرفت لدى الجزائريين بالثورة التحريرية الكبرى وعرفت لدى الفرنسيين بحرب الجزائر.

هذا البحث هو محاولة نسعى من خلاله إلى التحرر من الثقل الكولونيالي والخروج عنه ولو كان نوعًا من الخروج لأنه من الصعوبة بمكان أن نفعل ذلك بصورة مطلقة، على أساس أن الوضع الاستعماري ليس حالة تنتهي فور الحصول على الاستقلال، سواء من جهة المستعمَر أو المستعمِر، ولأن رواسبه تبقى تدفع إلى السطح تلح على ضرورة التكفل ببقايا ورواسب من تاريخ الاستعمار الذي يعد في حالتنا في الجزائر من جملة حقائق الحداثة ولو بنقده ومحاولة تصفيته. غير أنه، على صعيد البحث والدراسة التاريخية يجب علينا أن نلتزم بالحقبة الكولونيالية التي صارت تعرف في الدراسات الغربية بالزمن الكولونيالي التي تحيل إلى الوقوف على ما كانت عليه اللحظة التاريخية في وقتها وفي كل زخمها وسياقاتها المختلفة. الزمن مع سياقه والرجال مع مساراتهم وفق آخر المقاربات والمناهج العلمية المكرسة في الأوساط الأكاديمية والمراكز والمعاهد العالمة.

هناك صلة بين الزمن الاستعماري وما بعده جسدته مدرسة الدراسات التاريخية بمفهوم «ما بعد الاستعماري»[1] ليس كلحظة تأتي بعد لحظة أخرى بل تواصل زمني يعتمد أول ما يعتمد على القدرة الذهنية على تمثل الحقبتين معًا والذكاء على شرح وتوضيح ما يمكن شرحه لقضايا ومسائل شهدتها الجزائر زمن الاحتلال الفرنسي، وبخاصة منه بداية ثلاثينيات القرن العشرين، حيث تأكد مفهوم الشرعية الدولية وتبين مفعوله وإجرائيته. والواقع أن الحقبة الاستعمارية في الجزائر لا يمكن أن تدرس في جانب واحد ولا من طرف واحد بل تتطلب تضافر جهود الجميع إن من الداخل الجزائري والفرنسي أو من الخارج. وفي الحالة التي نعرضها في هذا البحث أن الموضوع يرتبط بوضع فرنسي – جزائري وليس فرنسيًا على حدة وجزائريًا على حدة، ولعلّ مثال مالك بن نبي وفرانز فانون أفضل من يمثل هذا الانصهار والترابط والمعبر حقيقة عن الحالة الاستعمارية.

في هذا البحث نقترح قراءة أخرى مع التفكير في مسارات نحو التحرر والاستقلال غير ذلك المسار الذي كرّسه الخطاب الأيديولوجي والشعبوي على مدى مرحلة استقلال الجزائر[2]، وقد وصل في العقود الأخيرة إلى مرحلة الارتداد على النظام ومؤسساته وعلى الأمة وتاريخها ومقوماتها[3]. نقدم في هذا البحث معالجة للثقافة السياسية عند كل من مالك بن نبي وفرانز فانون، لأن كل واحد منهما أنتج ثقافة سياسية تنوعت على ما توحي به التجربة الاستعمارية في الجزائر، وسياق الحرب العالمية الثانية وما بعدها، والثورة التحريرية وظروفها. والواقع، أن الحالة الاستعمارية هي مقاربة ولحظة زمنية حبلى بكل الاحتمالات، يجب الكشف عنها من خلال الدراسة والبحث التاريخي لأنها تتستر على حقائق وعلى حالات وعلى مظاهر وظواهر، مثل حالة المناصرين للأهالي[4] من الفرنسيين، وضحايا الاستعمار من الفرنسيين، علاوة على المعمرين الفرنسيين والإصلاحيين من مسلمي الجزائر في الحركة الوطنية الثورية منها والمحافظة.

الثقافة السياسية هي بالتعريف ثقافة حديثة ومعاصرة لها مسارها التاريخي ولها ما يبررها في الجزائر التي كانت مستعمرة فرنسية، فالانتقال والتأثير والاحتكاك موجود وينتظر دائمًا مزيدًا من الإفصاح والظهور حتى انفجار الثورة التحريرية الكبرى التي عاصرها الكاتبان والمفكران مالك بن نبي وفرانز فانون. فالثقافة السياسية من هذا المنظور هي مقاربة وموضوع في الوقت نفسه، وأفضل ما تبين لنا درجة الوعي الذي كانت عليه أطراف فاعلة ومقاومة في الجزائر لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسياق الثورة التحريرية وحرب الجزائر 1954 – 1962.

الوقوف على الحالة الاستعمارية، هو في حقيقة الأمر، وقوف على التناقضات والمفارقات وما يصعب فهمه أو قبوله بناء على المقاربة التي تفسر الحاضر بالماضي وتفسر أيضًا الحاضر باللاحق. فالثورة ليست طفرة مجانية، بل لها خلفياتها ولها تداعياتها واحتمالاتها، وأن الغالب في الدراسات التاريخية هو دراسة لما تطورت إليه الأوضاع على عكس ما كانت تدعي السلطة الحاكمة والنظام المتَحَكِّم في مسار وسيرورة تاريخ الجزائر وحياة الجزائريين والفرنسيين في المتروبول وفي الجزائر. وعليه أو هكذا نقول، نعالج موضوع الثقافة السياسية في لحظة استعمارية عند مالك بن نبي وفرانز فانون على ما بينهما من اختلاف وتقاطع لأن الاستعمار، كما أشرنا من قبل، هو توجه دائم نحو كشف الخلافات والاختلافات والتناقضات التي حبل بها تاريخه في الجزائر. فقد وُلِد مالك بن نبي في الجزائر وعاش ونهل من معين الثقافة العربية والفرنسية إلى حد التفكير والكتابة بها. بينما جاء فرانز فانون من بلد المارتنيك التي كانت مستعمرة فرنسية يحمل معه ثقافة فرنسية لمقاومة الاستعمار نفسه.

الثقافة السياسية، كما نعالجه ونعالج بها موضوعنا حول فكر مالك بن نبي وفرانز فانون، هي مقولة تحتفظ بقِوَامها ومقدرتها على الخوض في سياسة بناء الدولة الحديثة ومقاومة الظلم والجور ومظاهر الفساد الاجتماعي والاقتصادي والأمني. ثقافة تلتمس السياسة في وحدة منصهرة معها إلى حد أن تكون مفهومًا واحدًا يطلق عليه الثقافة السياسية، تأخذ من الثقافة قوتها المفهومية والإجرائية وتأخذ من السياسة قوتها العملية والأداتية. فالنضال السياسي والمقاومة السلبية (السلمية) والثورية يجب أن تستند إلى خلفية معرفية وحضارية لائقة بها لكي تعبِّر عن شرعية فعل النضال والمقاومة بمنآى عن الشعبويات والعشوائيات والخطاب المنفلت من العقل وما عهده البشر. ونشدد في هذا البحث على وجوب الوقوف عند الثقافة السياسية كمبرر شرعي للثورة الجزائرية ليس للوطن فحسب، بل لبقية الدول في العالم التي كانت ترزح تحت النير الاستعماري وتجربة رائدة في حقل العلاقات الإنسانية والقانون الدولي العام.

إلى أي حد أظهرت الثقافة السياسية عند كل منهما نجاعة وفاعلية وفهم مقبول يوضح إشكالية التحرر والاستقلال من براثن الاحتلال الفرنسي في الجزائر؟

أولًا: الثقافة السياسية وإجرائيتها عند مالك بن نبي

الخاصية الجوهرية التي لازمت مالك بن نبي (1905 – 1973)[5] هي التفكير في قضايا عصره، فلم يكن متخلفًا عنها ولا متقدمًا عليها، بل ملازمًا لها كما يقتضي ذلك التاريخ الحديث والمعاصر. فقد عاش في مجتمع متَخَلِّف و«مجتمع» مُتَقَدّم، ونقصد الجزائر البلد المحْتَل والمستعمَر من جانب فرنسا. فالحالة التي أوجدها الاستعمار هي تَخَلّف وتَقَدّم الجزائر في آن واحد، لأنها كانت تستوعب السُّكَاَنين المسلِمِين والفِرَنسيين، والمشكلة هي كيف يتم العيش أو التعايش بينهما؟ وتلك هي الحقيقة التي يجب البحث عنها، وكانت محاولة مالك بن نبي واحدة منها، الذي كان يفكر في قضايا مجتمعه باللغة الفرنسية بلد المستعمِر وحضارته في الوقت نفسه. فقد كان يَطْرَق موضوعات النهضة الإسلامية والعربية والمسألة الاستعمارية والقابلية للاستعمار من هذه الخلفية التي تبحث عن مكامن الإسلام كخطاب إلهي وحضارة سابقة وتراث يجب تجديده في صلته بالمدنية الراهنة وسياقات ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها وما بعد استقلال الجزائر. من هنا، هذا التلازم المفْجِع والمؤلِم بين الثقافة والسياسة في مجتمع جزائري يعاني سلبيات الوضع الاستعماري ولم يكن يملك العدّة الجاهزة من أجل النهوض والإقلاع والتَّقَدم.

بعد شرح معنى الثقافة ومعنى السياسة في الحالة الاستعمارية، يخلص بن نبي إلى أنه «يجب أن لا تَسْتَقِل السياسة عن الثقافة حتى لا تفْقِد ليس وظيفتها الوطنية فحسب بل بُعْدها العالمي أيضًا»[6]. وعليه، كما يواصل المفكر الجزائري، «أن تخوضَ في السياسة معناه أن تسعى إلى تغيير الإطار الثقافي في اتجاه يُساعد على التنمية المنسجمة لعبقرية أمة وشعب. فالخوض في السياسة معناه، في نهاية التحليل، أن تخوض في الثقافة»[7]. فالثقافة والسياسة وجهان لمفهوم واحد تقريبًا لأن الحالة الاستعمارية، كما هي عليه الحالة في الجزائر، كفيلة بتقريب المعاني وإضفاء المترادفات عليها مع الوعي الشديد بالاختلاف على صعيد التحليل والشرح، خاصة في تقديم المطالب وصوغ الخطابات المعادية الاستعمار.

ويستمر بن نبي بربط السياسة والثقافة ربطًا عضويًا ومصيريًا إلى أن تتحقق الدولة كمؤسسة ناجِزَة لمصلحة الأمة والفرد على السواء ويشرح ذلك على النحو الآتي: «وبعد ما يتماهى نشاط الدولة مع الفرد، يجب أن يتماهى إذًا مع نشاط الإنسانية»[8]. واضح من هذه العبارة وما قبلها أن مالك بن نبي يربط الفرد بالدولة وهذه الأخيرة بالإنسانية، على ما عليه الوضع في العالم المعاصر ولحظة ما بعد استقلال الجزائر. فالشرط قائم ليس على الفرد ولا على الدولة فقط بل على الإنسانية، أي المجتمع الدولي الآيل إلى التكوّن كحقيقة قائمة ومعبرة عن الوحدات السياسية الجديدة التي حازت الاعتراف الدولي. والتلازم بين الفرد والدولة والعالم، تلازم يفرضه الوعي بحقيقة العالم الجديد والتاريخ المعاصر. وعليه، فإن «أي سياسة مبتورة الصلة عن الروح العالمية سوف تفقد حتمًا أي فاعلية ولا يمكنها إلا أن تكون خطرًا إضافيًا على العالم»[9].

الحقيقة، أن التقدم والتخلف هما طرفا الإشكالية التي تَصَدَّى لها مالك بن نبي عندما شرع في محاولة العثور على إمكان الخروج من حالة استعمارية كانت تربط الجزائر بفرنسا ليس نوعًا من الارتباط، بل ارتباط عضوي ومصيري يهم المجْتَمَعَيْن والبَلَدَين والدَّولَتَين لاحقًا، أي بعد الاستقلال أيضًا. فالتفكير في قضايا عصره والبحث عن سبل نهضة الأمة وكيفية بناء الدولة هي المنطلقات والمحَدِّدَات والأطر المرجعية التي استند إليها مالك بن نبي واستحق عليها أو بسببها لقب المفكر، فهو مفكر حاز شرعيته بالنظر إلى أن كل الموضوعات التي عالجها لها نصيبها من الثقافة أو بالأحرى اندرجت في المسألة الثقافية، وبخاصة منها القضايا السياسية، لأن قوة وضراوة الوضع الاستعماري كفيل بأن يحَوِّل كل شيء إلى سياسة وليس كل شيء يعالج بالسياسة[10] كما بيَّن مالك بن نبي في تحليلاته ومعالجاته.

كانت الحضارة هي الوجه الثقافي في تفكير مالك بن نبي، وأفضل مفهوم لضبط ومسك الموضوع في جوانبه كافة، يُمَكِّن من الرؤية الكاملة والشاملة، ومن ثم يمكِّن من تحديد منهج لدراستها ومعالجتها. فالمسألة الثقافية، عندما تطرح في سياق استعماري تأخذ الحيز السياسي الكامل ولا تَدَع مجالًا لأسباب خارجية أو هامشية، وتلِحُّ دائمًا على ما هو فاعل وفعلي وناجع في هذه الثقافة. وقد كانت الثقافة الفرنسية عند مالك بن نبي هي أقوى ما يملك في خوض مسار نهضة الإسلام والمسلمين ومصارعة التخلف والاستعمار في سياق التاريخ المعاصر.

الثقافة في تجربة بن نبي حالة حيوية من الإبداع والتفكير وفق آخر ما بلغته الحضارة الحديثة والمعاصرة، حتى ولو كان التفكير يحدث في بلد متخلف مثل الجزائر، لأن العبرة كل العبرة بالقدرة على فحص وتمحيص وتصحيح وكشف الأدواء والمثالب في جسد المجتمع. وكان بن نبي مبدعًا في هذا المجال، وقَدَّم الشاهد على ذلك في هذه الفقرة: «عندما نطرح في الجزائر السؤال التالي: ما الثقافة؟ يجب ألّا نتطلع في بداية الأمر إلى ما يمكن أن توفره لنا أنشطة التَّسلية والترفيه مثل الفنون الفلكلورية والمسرح والشعر..، بل قبل ذلك، يجب أن نلتفت إلى الوقائع القائمة لحالة التخلف، مثل البطالة والأمية وسوء التغذية..»[11]. وواضح من هذه الفقرة وغيرها أن المفكر الجزائري يرتب برنامجًا أو خطة من الأولويات، يجب أن توضع عند لحظة الشروع في اجتراح التقدم في جميع أسبابه وشروطه، على ما ورد ذلك صراحة في كتابه شروط النهضة[12].

إن الأجناس الأدبية وأساليب الإبداع هي إمكانيات حضارية يجب أن يمتلكها الإنسان في زمانه ومكانه، من أجل أن يعيش حضارته، لأن الحضارة هي مادة الثقافة الأولى التي يجب أن تُبَرِّر أصلًا الإقدام على تدشين عصر التقدم الجديد، على منوال ما يطمح العرب والمسلمون، وربما من جايلهم أيضًا من الصينيين واليابانيين والأتراك والفرس وغيرهم الذين شملتهم رياح التغيير والتَّحوّل. فما هي الثقافة في سلّم الأولويات عند بن نبي في مجتمع متخلف مثل الجزائر المحتلة والمتأهبة إلى ارتياد المجتمع المتطور؟ يحددها بن نبي على النحو الآتي؟ «لا تطرح مشكلة الثقافة عندنا إطلاقًا في عالم مجرد مثل المسرح، السينما أو في مكتب أحد الأدباء أو في أسلوب أو طريقة رقص فلكلوري، لكن المشكلة تطرح في ما هو مجسد وعياني، قائم في الواقع له صلة بنشاطنا اليومي وفي ورشة قيد الإنجاز، وفي حقل نزرعه ونجني ثماره، وفي مدرسة نرسل إليها أطفالنا، وفي الطرقات التي نمر ونمشي فيها وفي القطارات التي نسافر على متنها، وفي الأخير، حيث يوجد شكل من أشكال حياتنا ومن أنشطتنا اليدوية والفكرية. ويتعلق الأمر بأن نربط أنفسنا ليس بعالم التسلية والترفيه فقط، بل خاصة بأنشطتنا الأساسية. وصفوة القول، إن موضوعنا لا يتعلق بجانب معين بل بكل الإطار الاجتماعي حيث نتعاطى حياتنا ونشاطاتنا وحيث تتشكل المسائل كافة التي تسترعي فكرنا تحت اسم كبير «التخلف» (le sous-développement)»[13].

وباعتمادنا المقاربة التي تربط بين المفكر وقضيته، نجد أن هذه الفقرة تُحِيل مباشرة إلى المسألة التي أثارها بن نبي والمتعلقة بالثقافة، لكن في بلد مُتَخِّلف الذي تعنيه أول ما تعنيه تَفاصِيل حياتِه اليومية وكل الإطار الاجتماعي فضلًا عن حياته السياسية التي يجب أن يحررها من أجل ارتياد المكانة والحالة المناسبة التي توفر إمكان الانطلاق وارتياد أفاق التمدن والتقدم والنهضة. بكلام موجز، وبناءً على مفردات المفكر الجزائري، إن المشكلة الثقافية في الجزائر، وفي العالم الإسلامي بوجه عام، هي مصارعة الذات أو النفس[14] في الوقت الذي يمتلكها الوعي بضرورة مصارعة الاستعمار، أي الخروج من القابلية للاستعمار ومن الاستعمار في الوقت نفسه وهذا ما يوفره الزمن المعاصر الذي يدرج اللحظة الكاملة على الجميع… وطوبى لمن عرف كيف يستفيد منها!!

ويبقى في المطاف الأخير وعند التحليل النهائي أن السياسة في تجربة بن نبي لها صلة عضوية وقوية جدًا بالثقافة، لا بل الثقافة هي الوجه الآخر للحضارة، أساس التجربة كلها في نظر المجتمعات العربية ومنها الجزائر المستعمَرة والمستَقلة لاحقًا. فقد آل وضع الأمة الإسلامية والعربية إلى ضرورة صوغ برنامج جماعي أو اجتماعي شامل ينطوي على قناعة الكل البشري ويحظى بمشورة الجميع ليعبِّر عن أيديولوجيا[15] تهم كل الأفراد الذين يؤدون فعل التحرر مثل حرب التحرير الجزائرية التي قادت الجزائر إلى الاستقلال، وبقي على النظام العربي أن يصوغ برنامجًا أو ميثاقًا يتمتع بإجماع ومشورة الجميع لكي يستبطن رأي الكل البشري وقناعته وعقيدته ويعطي في التعبير النهائي الحافز الناجع على بناء دولة المؤسسات الراسخة، وهذه هي الثقافة السياسية التي عبَّر عنها بن نبي بالأيديولوجيا لما بعد الاستعمار.

فالحركة الجماعية هي المقدمة البيِّنة والواضحة التي يجب أن يقتنع بها الكل كضامن آمن لبناء دولة عربية لا تزول بزوال الرجال والحكومات والأحزاب والعروش والنظم الطرقية والعائلات القبلية…، كما جرى في ما عرف بالثورات العربية بداية من العقد الثاني من هذا القرن. فقد بَادت وانهَارت أنظمة قائمة على أحزاب عنصرية واصَلَت الحكم بالقوة حتى بعد الاستقلالات في الوطن العربي وبقية العالم. فما يقدمه الوضع الثقافي، وبخاصة المتعلق منها بالحافز لبناء مؤسسات تُيَسِّر إمكان الإبداع والخلق والتشييد الحضاري، هو الواقع واحتمالاته أو السلاح بأكثر من حد، وقد أوضح بن نبي السياسة بمعناها الأيديولوجي، أي خطاب يهم الكل: «إن الحافز هو الذي يحدد في النهاية، الخاصية الاجتماعية أو المعادية للمجتمع في حركته التي يروم الاضطلاع بها. فالحِرَفِي مع الأداة التي يَسْتَخدمها مثل المقص مثلًا يمكن أن يكون عملًا فنيًا كما يمكن أن يكون عملَ هدم. كما أن الجندي وبندقيته قد يستخدمان في الدفاع عن الوطن كما يمكن أن يستخدما في النيل من أمنه. فمشكلة الحافز مُدْغَمَة تمامًا في النشاط الفردي أو الجماعي»[16] . وعندما نصل إلى تعريف المسعى الجماعي في الحصيلة النهائية والصياغة الشاملة لنشاط الأفراد، نكون بذلك، بحسب بن نبي، قد وصلنا إلى تحقيق ثقافتنا السياسية الناهضة.

ثانيًا: فرانز فانون.. ثقافة الثورة

فرانز فانون (1925 – 1961)[17]، مناضل ومثقف ثائر لا على الاستعمار فحسب بل على المؤسسة أيضًا لأنها جهاز مكبِّل لحريات الإنسان وقُدُراته في الزمن المعاصر الذي كَثُرت فيه الحروب والثورات والاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات، وكل شيء لا بد أن يتحقق عبر العنف[18] سواءٌ أكان شرعيًا أم غير شرعي. وُلِدَ فَرانز فانون في زمن الاستعمار ومات فيه أيضًا، وقد خاض تجربة ثقافية رائعة جدًّا من أجل دَحْره عبر ثقافة سياسية امتلكها من مساره التعليمي في مؤسسة عَالمَة (savante) جامعة فرنسية وفي مؤسسة استشفائية في الجزائر المُحتلة التي وصلها عام 1953، وبدأ يزاول نشاطه الطّبي كمحلل نفساني ومعالج للأمراض العقلية في مستشفى جوان فيل بمدينة البُلَدية التي مكث فيها إلى سنة 1956.

اكتسب فانون ثقافته، لا بل أسس لها[19]، عندما انصبّ اهتمامه على السعي إلى تجاوز الحالة الاستعمارية عبر التعريف بها وتحديدها ومحاصرتها كحالة إجرام مطلقة، لأن الاستعمار ظاهرة تاريخية ارتَقت إلى أن صارت نظامًا يستغل الشعوب ويسحقها عبر قواعد سياسية وأنماط من الحكم والتسيير والتدبير، يَأُتِيه على نحو سلس وعفوي وكأنه مسألة طبيعية جدًّا. من هنا اهتمامه الشديد بالثقافة كإمكان ذهني وعقلي ونفسي من أجل مناهضة الاستعمار ومطاردته، لأنه يوميًا يأخذ معاني ويتمظهر في حالات وأوضاع تتطلب اليقظة الدائمة والمتابعة المتواصلة، وتلك هي الثقافة كما عهدها فرانز فانون.

إن المرحلة التي عاش فيها فانون وعايش الاستعمار هي السياق الذي خبره وتواصل معه من أجل تصفيته، وصار يطلق عليه عصر تصفية الاستعمار. وشرحها فانون على النحو الآتي: «عملية تصفية الاستعمار هي في واقع الأمر خلق لإنسان جديد.. غير أن هذا الخلق والإبداع لا يعزو إلى أية قوة خارقة وخارج الطبيعة. فـ «الشيء» المستعمَر يصير هذا الإنسان في سيرورته نحو مزيد من التحرر»[20]. تعريف تصفية على هذا المنوال فيه تحديد أيضًا للنظام أو الفوضى الاستعمارية التي يجب أن تزول، لأن العنف الذي يجب أن يبرر ويسوغ ويستحق الشرعية يجب أن يكون واحدًا ولَدَى طرف واحد فقط. وفي حالة أو مرحلة تصفية الاستعمار تكون الشرعية دائمًا في جهة المستعمَر، أو المعذَّب والمستضْعَف، أي الذي لم تتح له فرصة الإدلاء بالكلمة[21].

ويواصل فانون تحديد وشرح معنى «تصفية الاستعمار» لأن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تؤشر وتُلِح عليها، وبخاصة لجهة المجتمعات التي عرفت وشهدت ثقافة وحضارة وتاريخ مُعْتَبر، يرى فانون ويستنتج: «إن هناك إذًا في تصفية الاستعمار مقتضى وواجب إعادة طرح مسألة الحالة الاستعمارية برمتها موضع السؤال. والحقيقة أنه إذا ما أردنا أن نُعَرِّف بدقة واضحة الاستعمار، نأخذ بالعبارة المتداولة بين الجميع وهي «أن يصير المتأخرون في المقَدِّمة». ومن ثم تصبح تصفية الاستعمار عبارة عن عملية التأكد من تلك العبارة . ومن هنا، وعند التحليل الأخير وعلى صعيد الوصف والتعريف، فإن كل تصفية استعمار هو نجاح وانتصار»[22].

الثقافة عند فانون، ومن خلال تراثه الذي نقرأه ونعيد قراءته، هي ثقافة سياسية بالضرورة، حتى ولو تعلقت بالمعرفة العلمية والقضايا الاجتماعية والأمور الاقتصادية، لأن الاستعمار كما خبره فانون سواء في البلد الذي ولد فيها المارتينيك، أو في البلد الذي تعلم فيه فرنسا، أو البلد الذي عاين فيه الثورة الجزائرية، ظاهرة عامة ومطلقة، تُمَكِّن من ربط جميع الجوانب والمجالات في لحمة واحدة اسمها الاستعمار، سواء أفصح عنها بعنوان محدد مثل العنصرية أو الاستغلال أو الاحتلال، أم لم يفعل ذلك. من هنا، فالعنصرية، كما ناضل ضدها فانون، هي موضوع وشكل في اللحظة الاستعمارية وما أعقبها من نظام إمبريالي عالمي. وبما أن العنصرية حالة ثقافية يعيشها في اللحظة الواحدة المستعمَر والمستعمِر مُوَلِّدة حالة استعمارية، تجد تعبيرها الجوهري في النظرة الدونية والذَّات المركزية والمعاملة غير الإنسانية.

يوضح فرانز فانون علاقة الثقافة بالعنصرية وكيف يتم التخلص منها في زمن يساعد كثيرًا على ذلك، بعد الحالة الثقافية التي اجتاحت العالم كله بما قَدَّمت له من إمكانات التعبير الفوري والتلقائي ولَمّ المجالات وإرساء الوشائج وتكثيف شبكة العلاقات: «تبدأ نهاية العنصرية فجأة عبر سوء فهم. فثقافة المُحتل التي تتسم بالتشنج والجمود، تتَحَرّر أخيرًا بانفتاحها على ثقافة الشعب المستضعَف بعد ما صارت تجمعهما أخوة. ويمكن للثقافتين أن تتصارعا ويغني الواحد منها الآخر. وفي المطاف الأخير، فإن العالمية تكمن في هذا القرار الذي يوفر التبادل النسبي للثقافات المختلفة بعدما يتوارى حتمًا النظام الاستعماري»[23].

ما كتبه فانون هنا يؤكد وعيه بأن الموضوع يجري في الزمن المعاصر الذي لا يفلت فيه أي شيء وأن كل شيء صار واضحًا وبينًا وعيانيًا يمكن التأكد منه وتقديم الشواهد عنه، ولا يمكن لمرتكب جرائم ضد الإنسانية أو العنصرية أو المناهضة للكرامة الإنسانية من أن يفلت من العقاب، إن ليس حالًا فلاحقًا، بعد ما تَتَكَثّف أكثر العلاقات البينية بين الأمم. فالثقافة السياسية كفيلة، بواسطة أشكال وصور ووسائل تعميم الوعي بها، بأن تضع نهاية للنظام العنصري، أبغض حالة ثقافية يستطيع ضحيته تَمَثّلها في اللحظة والحين.

الحالة الاستعمارية، كما كتب ونَظَّر لها المفكر الفرنسي جورج بالاندييه (Georges Balandier)‏[24]، تركيبة متلازمة من فعل المُحتل ومن رد فعل المُسْتعمَر، والجَدَلية والعلاقة قائمتان إلى حدّ الثورة أو لحظة الاعتراف المتبادل بتهدئة الوضع بالكامل، الذي يعيد المسيرة بينهما إلى التاريخ الصالح لهما معًا بعدما صار وحدة بشرية من المواطنين ووحدة إقليمية من التراب وسلطة سياسية. فالحالة الاستعمارية، وفق ما عانى فانون وضحايا الاستعمار من أمثاله الذين ينتمون إلى المقهورين والمعذبين والمستضعفين، حالة معَقَّدَة ومركَّبة لأنها تُدْغِم الحضاري في الاستعماري، أي الإيجابي النافع بالسلبي المَرْذُول، ليقع على عاتق النخبة المثَقَّفة تفكيك الظَّاهرة برمّتها وتحليلها إلى وحداتها الأولى وتوضيح الأصول والمرْتَكَزات التي تقوم عليها وتحييد شروط بقائها.

أوضح فانون، من خلال الفقرة السابقة أنه يقترح التَّلاقح الثقافي وتفاعل الأرواح والعقول في صراع إيجابي، لأن عالم الثقافة له من الذخيرة والتصورات والتَّمَثُّلات بما يجعله يسَخِّر كل شيء في منظومة جديدة ومعاصرة من أجل تجاوز ما يكرِّسه النظام الاستعماري وما يحاول فرضه النظام الوطني لاحقًا. ولعلّ شخصية فانون المناضل والمثقف والمستعمَر الذي يسعى إلى الانتماء إلى مؤسسة تساعد على التحرر والانعتاق أفضل مثال يساق في هذا المعنى الذي يحيل إلى الثقافة بما في ذلك ثقافة المُحْتل، يمكنها أن تدخل في العُدَّة المَفَاهِمِية والثقافية من أجل تجاوزه وتخطيه إلى ما ينسجم مع عالمية الثقافة في القرن العشرين.

استمد فانون ثقافته كسلاح مقاومة من صُلب الكفاح الذي خاضه ضد الاستعمار بوصفه قوة غاشِمة يمتد أثَرها إلى نفسية وعقلية المستغَلّين والمستَضْعَفين والمُبْعَدين الذين أُقصوا إلى الهامش، وكذلك ضد الحرب والسيطرة مهما كانت، على ما فعل فانون عندما انخرط إلى جانب قِوَى التحرير الفرنسية عام 1943 ضد النظام الفاشي والنازي والدكتاتوري على صعيد العالم في سياق الحرب العالمية الثانية. فالقضية التي نافح عنها هي قضية عالمية لأنها صارت تعني الجميع، وبخاصة عند من يحسن النظر، مثل فانون المثقف والمحلل النفساني والسياسي وطبيب الأمراض العقلية. فقد دخل العالم مرحلته الإمبريالية بحيث تداخلت الأوضاع والمناطق في علاقات دولية جديدة لا تترك الواحد/الأنا إلا وأثارت موضوع الآخر… لحظة ينظر فيها الإنسان إلى نفسه في لحظة يَنْظُر إليه الآخر.

تتطلب مواجهة الاستعمار، كظاهرة لازمت التطور الرأسمالي إلى آخر مراحله الإمبريالية، ثقافة عالمة (culture savante)، على قاعدة أن الاستعمار حالة عالمية وتاريخية أيضًا، ومن ثم يجب الاعتراف بضرورة التخلص منه عن قناعة إنسانية يُجْمع عليها الكل إلا المُسْتعمِرون أنفسهم الذين يَصْعب عليهم الاستسلام من دون مقدمات تُمَهِّد لهم الخروج من مستعمراتهم. يُوَضِّح فانون صلة الثقافة بالحرب على النحو الآتي: «في الواقع، إن الأمم التي تدخل في حرب استعمارية، قلما تَحفَل أو تَهْتَم بمواجهة الثقافات. فالحرب، مهما كانت، هي قضية تجارية عظمى، وكل تفكير وتصَوّر توقعاتها في الآفاق يجب أن يعيدها إلى هذا المعطى، أي أنها مسألة تجارية بالأساس»[25]. وواضح تمامًا أن الحرب هي وسيلة اقتصادية حتى ولو بمدلولها المبْتَذَل والمُسْتَهْجَن على ما بلغته الأنظمة الرأسمالية المتَنَفِّذَة في العالم، التي يحاول النظام الشيوعي والاشتراكي الحد من غلوائها وفسادها. وفي خلاف ذلك، «فإن الثقافة تتسم بخاصية الانفتاح، تقطعها خطوط قوية تتسم بالتلقائية والسخاء والخصوبة»[26].

تجربة وتراث فرانز فانون تجربة تاريخية، بمعنى أنه حايث الزمن الذي جرت فيه التجربة الثقافية، فقد جايل كل اللحظة المعاصرة من أجل خوض الثورة في عمقها وأبعادها وآفاقها، كما لاحظنا في الفقرات السابقة. ففانون إنسان ومناضل ورجل سياسي وعالم، وكلها جوانب تحيل إلى المثقف الملتزم بالمعنى السارتري للكلمة وإلى المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي للكلمة. فقد عاصر نصوصًا وآراء ومواقف لكل من جان بول سارتر وكذلك المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، صاحب دفاتر السجن التي بلور فيها مفهومه للمثقف العضوي، أي المناضل الواعي بالقضية التي يدافع عنها ويجب أن ينتمي إليها كأفضل سبيل وشرط لازم لتحقيقها، ولعلّ التوجه الإنساني الذي يجب أن يحظى بها هذا المثقف هي أهم شروط المساهمة في انفراج وحل الأزمة.

وعليه، فإن الثقافة السياسية التي ساهم فانون في بلورتها وهو يناضل في الجزائر ويخوض ثورتها الكبرى هي مخبر حقيقي لخروج مجتمع من الأسر الاستعماري ومن التخلف والدخول إلى المجتمع السليم مع وحدات حضارية ومدنية في عالم يَرْنُو إلى أن تَحْكُمه قواعد القانون الدولي ومبادئ العدالة الإنسانية التي يستقر عليها وعي الجميع. فقد كانت الثقافة عند فانون عالمًا قائمًا من السِّمَات والرموز والمصطلحات في وعي الإنسان الذي يُلِح على التطور والتنمية واستحقاق المدَنِية. الثقافة هي إمكان هائل لمن يحسن التعامل معها، وبخاصة من جانب المناضلين الإنسانيين والأُمَميِّين، حيث الثورة هي رائدهم ومستقبلهم لتحرير الشعوب والمجتمعات ولِدَحر الاستعمار والاحتلال على السواء. وفي عصر فانون ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، تبلور مفهوم النزعة الثقافية ومفهوم «الثقافوي» (Culturaliste)، أي نزعة تلتمس في الثقافة قدرة إجرائية وقابلية على تغيير الأشياء عبر الكلمات بوعيها كمعانٍ جديدة من أجل إنشاء مجتمع جديد.

إن النصف الأول من القرن العشرين، على ما عاشه وعايشه فانون حافل بالتَّقدم العلمي والمعرفي إلى حد وجود عالم من الثقافة يُمَكّن الإنسان المعاصر من الخروج من عالم الطبيعة ويُنَصِّب نفسه مستغِلًا لها وليس واحدًا منها. فالثقافة الجديدة لم تكن جديدة في النشأة، التي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، بل جديدة في التوظيف والاستخدام الإجرائي، على ما فعل غرامشي، وسارتر، وفانون، وبن نبي وغيرهم كثير. فحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى الثورة الجزائرية، حقبة خصبة جداّ لمن يعرف كيف يستفيد من الوقائع الجديدة المعرفية منها والاجتماعية.. كل شيء قابل للتوظيف وإمكان إدراجه في المسعى الكلي والشامل للنهضة أو الإحياء أو التقدم، على حَسْب الموقع والمرحلة. وفي هذا المجال يرى فانون «إن الغوص في وهْدَة الماضي العريق هو شرط ومصدر للحرية. فالنهاية المنطقية لهذه الإرادة هي النضال من أجل التَّحرر التام والكامل للإقليم الوطني. ولإنجاز هذا التحرر، يقع على عاتق المُسْتَضعف والمهَمَّش الذي يشعر بالدونية أن يسخِّر المصادر كافة والمكتسبات القديمة كلها، منها والجديدة، المتعلقة بالذات وكذلك المتعلقة بالمحتل»[27].

تشير الثقافة بهذا المعنى إلى الكل وإلى الشامل والبحث عن المنظومة برُمّتها حتى يتسنى فعل التغيير والتبديل والتحويل، فالثقافة تصبح في هذه الحالة سياسية عندما تحيل إلى القدرة على اختيار بدائل وانتقاء مواقف وآراء وصوغ أيديولوجيات من وحي الواقع والتجربة.

كتب ذات صلة:

أفريقيا والعرب والاستعمار: دراسات في فكر علي مزروعي

الفساد النسقي والدولة السلطوية.. حالة الجزائر منذ الاستقلال

الفرص الضائعة مع عبد العزيز بوتفليقة

المصادر:

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 549 في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

نور الدين ثنيو: كاتب وباحث أكاديمي – الجزائر.

[1] يمكن العودة في موضوع الكولونيالية وما بعدها إلى الكاتب والمفكر إيف لاكوست، صاحب المجلة الرصينة جدّا هيرودوت التي تصدر باللغة الفرنسية وتعد أهم الدوريات في حقل الدراسات الجيوستراتيجية، Yves Lacoste, La Question postcoloniale: Une analyse géostratégique (Paris: Ed. Fayard, 2010).

كما يمكن الرجوع إلى مراجعتنا لهذا الكتاب في: ثنيو نور الدين، «مسألة ما بعد الكولونيالية: مراجعة نقدية،» المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 32 (خريف 2011).

[2] يُقرأ تاريخ الجزائر زمن الاحتلال وما بعده من خلال خط النزعة الوطنية (الشعبوية) التي جاءت من نجم شمال أفريقيا (1926) إلى حزب الشعب الجزائري (1937) إلى الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية (1946) إلى جبهة التحرير، التنظيم الذي فجّر الثورة التحريرية عام 1954. وهذا ما يزال مكرسًا حتى اليوم في الدراسات التاريخية سواء في حقل الصحافة أو في البحوث الجامعية. ومع ذلك أو بالرغم من ذلك تظهر من حين إلى آخر وبخاصة في فرنسا دراسات وكتب تحاول أن ترسم خطوطًا ومسارات أخرى غير القراءة الشعبوية والثورية، ومنها هذا البحث.

[3] الإفراط بالاحتفاء بالثورة التحريرية والوقف الأبدي عندها، أفقدها الوهج والمصداقية وانعكس على التاريخ نفسه الذي يجب أن يلازمه التجديد والإبداع وإعادة القراءة والكتابة حوله. وقد أفضى في العقود الأخيرة إلى هشاشة وضعف الدولة ذاتها عندما صارت أجهزتها وأسلاكها تهتز لأي نقد خفيف لتاريخ الجزائر الحديث والمعاصر. والمفارقة هي كيف لبلد أنجز ثورة عظيمة يضعف وينهار مع الوقت، مع أن كل الدلائل تلح وتؤكد أن أعظم الدول هي تلك التي شهدت في تاريخها الحديث والمعاصر ثورات كبرى غيرت أوضاعها الوطنية والدولية.

[4] تيار أنصار الأهالي عبّرت عنه مجموعة من الفرنسيين الذي كانوا يناصرون ويدافعون عن الأهالي المسلمين. فقد وجد هذا التيار خاصة بعد الحرب العالمية الأولى بعد ما ترسخ لديه أن الوضع في الجزائر آل إلى غير ما قصدته فرنسا في بداية الاحتلال وأن الفجوة بين الفرنسيين تزداد تباعًا ومع التطور العمراني والاقتصادي للبلد. وقد عرفوا بأنصار الأهالي (Indigènophiles)، لأن مصير فرنسا في الجزائر معلق بمستقبل الأهالي وضرورة تحسين وضعهم. ومن هؤلاء السيد فكتور سبيلمان الذي عمل في قطاع الفلاحة وأسس دار الصحافة همزة وصل كانت الإمكانية المهنية والثقافية التي ساعدت النخبة الإصلاحية والوطنية في الإعراب عن مطالبهم وكشف المظالم والحيف الاستعماري في الجزائر. وهو الوحيد الذي كرس كتاب حول الزعيم والمناضل الأمير خالد ونوه به وبأعماله المناهضة للاستعمار والعائلات الأهلية المساندة له. ويمكن العودة إلى بعض مؤلفاته، انظر: Victor Spielmann: Emir Khaled: Son action politique et sociale en Algérie, de 1920-1923 (Alger: Editions du trait d’union, 1938), et En Algérie, le centenaire vu par un indigène (Alger: Editions du trait d’union,1930).

[5] حول حياة وأعمال مالك بن نبي وأعماله نحيل إلى تلميذه المثقف والوزير السابق نور الدين بوكروح الذي كتب سلسلة من المقالات تحت عنوان: «حياة ابن نبي» انظر: Noureddine Boukrouh, «La Vie de Malek Bennabi,» El Oumma.com. (1er art. 8 aout 2020 – art. 34, 13 octobre 2020), <https://oumma.com/la-vie-de-malek-bennabi-1-2/>.

وقد امتدت المقالات على 34 حلقة. والواقع أن اختيارنا مفكرًا جزائريًا من هذا الطراز لكونه عاش وعايش التجربة الثقافية والسياسية في لحظة واحدة ليس من الناحية النظرية فحسب، بل من الناحية العملية أيضًا. ومن هنا إجرائية هذا الفكر كما نشرحه في هذا المبحث. ولعلّ الذي ساعد أكثر أن المفكر الجزائري كان يكتب في قضايا تعني أمته والأمة الإسلامية ولا ينسى نفسه، بمعنى أنه كان دائمًا يؤكد بأنه صاحب الكلمة ويلتزم بما يقول ويفعل. فإلى جانب كتبه ومقالاته، سجل لحظات الكتابة ودوّن سياقاتها وترجم لسيرته، الأمر الذي جعلنا اليوم ندرسه ونبحث فكره وفق مقاربة التاريخ الآن L’Ego-Histoire، أي تاريخ المرحلة في احتمالية وتصور وتجربة الرجل.

[6]   Malek Bennabi, Articles de presses, 1964-1968 (Alger: El Borhane, 2014), p. 40.

وهو المقال الذي كتبه مالك بن نبي في دورية الثورة الإفريقية (Révolution Africaine) التي كانت تصدر في الجزائر باللغة الفرنسية: السياسة والثقافة، بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر 1965.

[7]   Ibid., p. 40.

[8]   Ibid., p. 40.

[9]   Ibid., p. 40.

[10] السياسة في النظام الاستعماري مجال محتكر ومصادر ولا يمكن للشعب والمواطنين أن يمارسوها على شاكلة الفرنسيين في فرنسا وفي مستعمرة الجزائر. لكن بن نبي برهن عن قوة فكره عندما نوّه بقيمة الثقافة وإجرائيتها كقوة سياسية في حالة استعمارية ترمي بالجوهر والأساس إلى تفكيك المنظومة الاستعمارية وتعرية ما تُبْطِنه وتَتَسَتر عليه وتُحَاول أن تصرف الأهالي عنه.

[11]  Malek Bennabi, Les Grands thèmes (Alger: El Borhane, 2014) (1er édition 1964), p. 35.

[12] Malek Bennabi, Les Conditions de la renaissance, le problème d’une civilisation (Alger: Editions ANEP, 2005) (1er éd. 1947).

[13]  Bennabi, Les Grands thèmes, p. 34.

[14] كان مالك بن نبي دائمًا يستشهد بالآية الكريمة ﴿لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ويسخرها في كل مناسبة يريد فيها أن يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بالموضوع أو ما هو خارج الذات فحسب بل يتعلق بنفس الإنسان ذاته لأنه قائم على عالم أو عوالم يجب أن يكتشفها من تلقاء نفسه وإلا ضاع مشروع النهضة أو التقدم. فالآية الكريمة تحيل بشكل رائع إلى ما كان يريده بن نبي من ربط وصياغة شاملة وتوليفة وإجماع العناصر الكاملة من أجل إعداد البرنامج أو الخطة الممكنة الإنجاز والتحقق. وأي تخلف للوعي الذاتي ينعكس بالخيبة والإخفاق على مساعي التقدم والتطور وبخاصة منه السياسي. لأن السياسة هي المجال الحديث الذي يساهم بقدر واسع جدّا ويعبِّر عن الحداثة في أجلى معانيها ودلالاتها.

[15]  Bennabi, Articles de presses, 1964-1968, pp. 33-37.

المقال ظهر لأول مرة في دورية الثورة الإفريقية (Révolution Africaine)، بتاريخ 9 تشرين الأول/أكتوبر 1965.

[16]  Bennabi, Les Grands thèmes, p. 59.

[17] حول حياة وفكر فانز فانون، يمكن العودة إلى الكاتبة والطبيبة النفسانية أليس شيركي التي كرست كتابًا كاملًا حوله، فضلًا عن أنها كانت زميلة في المصحة الاستشفائية جوافيل (Joinville) في مدينة البُلَيدة سنوات 1953 – 1956. انظر:       Alice Cherki, Frantz Fanon (Alger: Apic, 2013), (1er éd. 2000).

ونُلِح على ضرورة قراءة الخلاصة (ما بعد المتن) التي كرستها الكاتبة لفكر فانون في الوقت الرَّاهن والأسئلة التي لا يزال يثيرها في مجتمعات ما بعد الاستعمار، سواء تعلق الأمر بالمجتمعات المتطورة أو المتَخَلِّفة وبخاصة الأشكال الجديدة لمظاهر العنف والإرهاب والظلم والاستغلال .. أي الحضور المحايد لتداعيات الاستعمار ومضاعفاته النَّفْسية والعقلية ومسألة تحديد الهوية بالنظر إلى الآخر ومختلف صنوف التهميش والإقصاء والإبعاد والتَّسْريح والاحتقار والرؤية الدونية والنزعة المركزية… ويمكن العودة أيضًا إلى الكِتاب المهِم حول فانون للباحث الإنكليزي: David Macey, Frantz Fanon, Une vie, traduit de anglais par Christophe Jaquet et Marc Saint-Upéry (Paris: La Découverte, 2011), (1er éd. 2000).

[18] في كتاب فرانز فانون المعذبون في الأرض، ورد في تقديم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ما يبرر العنف والثورة على الاستعمار بحد السلاح لأن الاستعمار صار نظامًا، فلا بد له من قوة تعادله بالقدر الذي لا يحتكر وحده العنف. وهذا خلاف ما يرى المفكر الألماني ماكس فيبر، صاحب نظرية العنف الشرعي الذي يستند إلى وجود دولة تقوم أصلًا على عقد اجتماعي يُؤَمِّن حياة الشعب ويُحاَفظ على المجتمع والأمة والدولة معًا. من هنا يمكن قراءة مقولة العنف عند فرانز فانون وحق الشعوب المستضعفة فيه. فما يبرره هو غياب الغاية الجوهرية لقيام الدولة في الحالة الجزائرية مثلًا، حيث فرنسا لا تريد أن تعترف بأن السكان المسلمين في الجزائر مواطنون، لهم نصيبهم من الحقوق والحريات العامة. فهم معذبون في الأرض ويجب أن يواجهوا المستعمر بحَدِّ السلاح، أي استخدام عنف يجد تبريره في غياب المعاملة المواطنية وانعدام منظومة القانون والحق والمجال العام. والذي يعترف بهذا الطراز من المقاومة ليس الإنسان الزنجي والمتَخَلِّف في البلاد المستعمرة فحسب، بل المتَمَدِّن والمتَحَضّر في بلاد المتروبول على شاكلة سارتر وحركة تصفية الاستعمار والنزعة الأممية في العالم كله. يمكن العودة إلى فلسفة سارتر في تبرير العنف إلى: Frantz Fanon, Les Damnés de la terre, préface de Jean-Paul Sartre; présentation de Gérard Chaliand (Paris: Gallimard; Maspero, 1991),

[19] يمثل اليوم فرانز فانون في البحث التاريخي والاجتماعي والنفسي مع مجموعة من الكتّاب والمفكرين المدرسة التاريخية لما بعد الاستعمار والتي تلح على الهوية المحلية ودحر النظرة الدونية والاستعلائية للاستعمار، أي النزعة العلمية والتاريخية التي تحاول إعادة طرح موضوع الذات والآخر في سياقات جديدة خاصة على خلفية ما لم يكن معروفًا وما لم يكن ممكناً طرحه في حينه وما يسمح بطرحه في الوقت الراهن، وبخاصة في المجتمعات التي تتوافر لديها هوامش واسعة من التعبير ومجالات رحبة من الديمقراطية. نذكر على سبيل المثال لا الحصر: أمي سيزر (Aimé Césaire) (1913 – 2008)، الشاعر ورئيس السِّنغالي السابق ليوبولد سيدار سنغور (Léopold Sédar Senghor) (1906-2001).

[20]  Fanon, Les Damnés de la terre, p. 67.

[21] يجب التنويه بمن كانوا قادرين على الكلام وتقديم خطاب المطالب إلى السلطة الاستعمارية ومقاومتها من الداخل، أي بالتماس المشاركة في التدبير والتسيير، وإن بأقل فاعلية وفائدة، لكن تكلموا وخاضوا في مكافحة العنصرية والفقر والظلم والدونية. وقد قامت مدرسة دراسات ما بعد الكولونيالية بإعادة التفكير والتأمل في من تكلموا وتحدثوا من الأهالي وتحليل خطاباتهم. من جهتنا قمنا بإعادة قراءة خطاب الحركة الإصلاحية الجزائرية بشقيها السياسي (فرحات عباس وحزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري) وبشقها الديني واللغوي (عبد الحميد بن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين). انظر: نور الدين ثنيو: «حركة الإصلاح السياسي: حركة تاريخية،» القدس العربي: 5/11/2021؛ «الإصلاح السياسي: تاريخ آخر للحركة الاستقلالية الجزائرية،» القدس العربي، 12/8/2021؛ «الإصلاح في مواجهة الاستعمار،» القدس العربي، 29/5/2018، و»الفكر التنويري الإصلاحي .. الوجه الآخر،» القدس العربي، 24/4/2018.

[22]  Fanon, Les Damnés de la terre, p. 67.

[23] Franz Fanon, Pour l’Algérie, chronique de révolte, 1952-1959 (Alger: Belles-Lettres, 2012), p. 45.

[24] Georges Balandier, «Situation coloniale, approche théorique,» Cahiers internationaux de sociologie, vol. 11 (1951), pp. 44-79.

[25]  Fanon, Pour l’Algérie, chronique de révolte, 1952-1959, p. 29.

[26]  Ibid., p. 31.

[27]  Fanon, Pour l’Algérie, chronique de révolte, 1952-1959, p. 44.


نور الدين ثنيو

أستاذ باحث، جامعة الأمير عبد القادر،- الجزائر.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز