مقدمة:

نادراً ما يتم استحضار مسألة التوجيه التربوي في سياقاتنا التربوية إلا في مناسبات ظرفية، ووفق منظور مختزل. وقلما يتم الحديث عنه باعتباره مدخـلاً أساسياً لمعالجة الاختلالات الأفقية التي تنخر الجسد التعليمي المغربي. هذا على العكس تماماً مما نجده في المنظومات التربوية للدول التي قطعت أشواطاً كبيرة في مسار تجويد أداء نظامها التعليمي، الذي أصبحت توليه أهمية كبيرة. فقد وقف القائمون على السياسات التعليمية للعديد من الدول على النقص البيِّن لدى المتعلمين في معرفة ذواتهم وحاجاتهم واهتماماتهم من جهة، ومعرفة كيفية وآليات اشتغال الحياة المهنية من جهة أخرى، ما يؤدي إلى غياب القدرات الكفيلة ببلورة مشروع مدرسي ومهني ملائم. هذا في ظل واقع مليء بالتغيرات والتحولات السريعة التي تشهدها مختلف مجالات الحياة. فاعتمدوا التوجيه أساساً لربط التعلُّم الذي يتلقاه التلاميذ في المدرسة بما يجدونه وما سوف يجدونه في الحياة، ومن ثم الرفع من حافزيتهم للتعلم.

هذا مع العلم أن التربية اليوم، كما لا يخفى على أحد، لم تعد تقتصر على إكساب النشء المهارات المعرفية فحسب، على أهميتها، بقدر ما أضحت ترمي إلى الاعتناء بشتى جوانب الشخصية الإنسانية، بما يضمن للمتعلم اندماجاً شامـلاً في الحياة المدرسية قبل الحديث عن اندماجه في الحياة المهنية فيما بعد. ذلك أن الحياة المدرسية ليست مجرد تحصيل معارف مجزأة، بل إنها «الحياة التي يعيشها المتعلمون في جميع الأوقات والأماكن المدرسية قصد تربيتهم من خلال جميع الأنشطة الدينية والتربوية والتكوينية المبرمجة التي تراعي الجوانب المعرفية والوجدانية والحسية الحركية من شخصياتهم…»‏[1]. وهي التي تؤهلهم للحياة الاجتماعية والمهنية فيما بعد. من هنا فإن التوجيه التربوي له من الأهمية ما يبوئه مكانة وازنة سواء في مضمار تجويد مستوى هذه الحياة المدرسية، ومن ثم التأهيل الأمثل للحياة الاجتماعية والسوسيواقتصادية، أو في مجال تصحيح اختلالات المنظومة التربوية على العموم، ومن بينها سوء التوافق الدراسي.

في هذا الإطار تأتي هذه الورقة التي نرمي، من خلالها، إلى النظر إلى التوجيه التربوي من منظور نسقي شمولي يقطع مع تلكم النظرة التجزيئية التبسيطية الملتصقة به على مر السنين، والتي تحصره في عمليات تقنوية لحظية. ونروم استقصاء العلاقة الطردية بينه وبين سوء التوافق الدراسي، مستعرضين أبعادها في جانبين اثنين هما الجانب الرسمي للتوجيه التربوي كما تفصح عنه الوثائق الرسمية، والجانب العملي المتعلق بالممارسة الفعلية للتوجيه في الواقع المغربي، لنذيِّل هذه الورقة ببعض التوصيات الكفيلة باعتماد التوجيه آلية أساسية في المواكبة التربوية.

على أن تناولنا هذا الموضوع لا يدَّعي الإحاطة الشاملة الوافية بكل جوانبه، بل إننا سنقتصر على دراسة وصفية حسبها أن تجليَ بعض جوانب المسألة المطروحة، كما تصلح لأن تكون أرضية ملائمة لدراسات أعمق وأعم تأتي في القادم من الأيام. ولذا فسنركز تحديداً، على ثلاثة محاور:

أولاً: واقع التوجيه التربوي بالمغرب

لم تكن المنظومة التربوية المغربية، في جانبها الرسمي على الأقل، في منأى عن الاهتمام المتزايد بأدوار خدمات التوجيه في الرقي بجودة التعليم على مستوى العديد من دول العالم المتقدم. فقد خصه «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» بإحدى دعاماته معتبراً إياه «جزءاً لا يتجزأ من سيرورة التربية والتكوين، بوصفها وظيفة للمواكبة وتيسير النضج والميول وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية»‏[2]. وفي ذلك تصريح بطابعه المسترسل، وبأهمية استهداف مختلف جوانب شخصية المتعلم، ورغبة في مد الجسور بين الواقع المدرسي والمستقبل المهني، إذ إن التوجيه التربوي «عملية واعية ومستمرة وبناءة ومخططة تهدف إلى مساعدة وتشجيع الفرد لكي يعرف نفسه ويفهم ذاته ويدرس شخصيته جسمياً وعقلياً واجتماعياً وانفعالياً ويفهم خبراته ويحدد مشكلاته وحاجاته، ويعرف الفرص المتاحة له، ويتخذ قراراته، ويحل مشكلاته في ضوء معرفته ورغبة نفسه، بالإضافة إلى التعليم والتدريب الخاص الذي يحصل عليه عن طريق المرشد والمربين والوالدين في مراكز التوجيه والإرشاد وفي المدارس وفي الأسرة»‏[3].

لقد غدا التوجيه التربوي بذلك بعيداً من النظرة التجزيئية الضيقة التي تختزله في عملية تفييء التلاميذ حسب الشعب والمسالك الدراسية المتاحة، وأصبح ذا أفق رحب منفتح على التأهيل الذاتي من أجل بلوغ تدامج فعال بين الفرد ومحيطه الآني والآتي. إنه يسعى إلى مساعدة المتعلمين على اكتشاف مكنونات ذواتهم من قدرات ومهارات ورغبات وطموحات… وتدريبهم على تسخيرها للتخطيط لمستقبلهم وفق استراتيجيات متكاملة وواضحة ومحددة. وبذلك يكون التوجيه التربوي صنواً ضرورياً وأساسياً للتعلم، ودعامة متينة لإعداد الموارد البشرية الكفيلة بتحقيق التنمية المجتمعية المنشودة.

غير أن هذا الوعي الملموس بمحورية أدوار التوجيه الذي تحفل به الوثائق الرسمية في بلادنا لا يوازيه، في ما يبدو، أي أثر ذي بال على مستوى الممارسة الميدانية على أرض الواقع. فقد كشف تقرير المجلس الأعلى للتعليم لسنة 2008 عن اختلالات بنيوية عابت السير العادي لإرساء منظومة متراصة للتوجيه، الأمر الذي حدا بالبرنامج الاستعجالي على تخصيص مشروع من مشاريعه لهذا المكوِّن رغبة منه في تحسين أداء البنيات والفاعلين في هذا المجال. إلا أن واقع الحال لا يزال يثير انتقادات الفاعلين والباحثين التربويين، ويكشف عن «وضعية موسومة بالكثير من مظاهر التأزم، وبالتالي ضعف الفاعلية والمردودية على مستوى توجيه وإرشاد التلاميذ، وأيضاً على مستوى الإسهام الإيجابي في تجديد وتطوير النظام التربوي»‏[4].

هذه الوضعية المأزومة يرجعها السوسيولوجي مصطفى محسن إلى عدة أسباب نوردها موجزة ومجملة في ما يلي:

  • عدم تأسيس تجارب التوجيه التربوي والمهني الجديدة على دراسات علمية معمقة لتشخيص الواقع السوسيوتربوي المحلي، بغرض التعرف إلى حاجاته وخصوصياته وعلى «طلبه الاجتماعي» في هذا المجال بالذات.
  • لم تكن الجهود المبذولة في نقل بعض النظريات والمفاهيم مدعومة بـ «مراجعة نقدية شاملة ومتعددة الأبعاد» للمنظومة النظرية والممارسية للتوجيه من أجل فهم الأبعاد والدلالات والأهداف التي تحكمت في إفرازها في سياقها المجتمعي الغربي المحدد. هذا فضـلاً عن ضرورة ربطها بأوضاع وخصوصيات وطبيعة المكونات التربوية والسوسيوثقافية التي نقلت إليه.
  • على مستوى المؤسسة التربوية والواقع الاجتماعي المؤسسي، لم يتم تهيئة «البنيات المستقبلة»: المدرسة والمحيط والفاعلين المستهدفين من أجل احتضان تبادلي إيجابي لهذه الممارسات الجديدة للتوجيه المدرسي والمهني.
  • عدم توافر المستشار في التوجيه على «العتاد اللوجيستي» الكافي والملائم الذي يمكنه من إنجاز وظائفه المنتظرة بقدر معقول من الجودة والفاعلية.
  • في ما يتعلق بالسياسة التربوية – التكوينية الناظمة والمؤطرة للتوجيه المهني بشكل خاص، فإنها لا تزال ممزقة بين قطاعين منفصلين: قطاع التكوين المهني وقطاع التربية الوطنية‏[5].
  • استمرار العلاقة الملتبسة أو غير المتكافئة واللامتوازنة بين التوجيه والتخطيط رغم محاولات التوفيق والمواءمة بينهما‏[6].

هذا التشخيص نفسه هو ما وقفت عليه دراسات عديدة وأبحاث مختلفة أجمعت كلها على أن «ضعف حلقة الإعلام والمساعدة على التوجيه في النظام التربوي المغربي ليس مرده فقط لأزمة وسائل أو هياكل وبنيات، أو أزمة نصوص وتنظيمات وإجراءات، بل هي إلى جانب كل ذلك أزمة منظومة بكاملها تتغذى من الغموض والضبابية التي تلف قطاع الإعلام والمساعدة على التوجيه، والتي تتفاعل مع أزمة نظام التربية والتكوين وأزمة النظام السوسيومهني‏[7]. ومن ثم فلا يمكن فصل ما تعانيه خدمات التوجيه التربوي من غياب للفعالية عما تعانيه مختلف جوانب المنظومة التربوية كلها من اختلالات.

ومهما يكن من أمر، فإن هذا الواقع لا يخفي تلك الجهود المبذولة من قبل مختلف الفاعلين في هذا المجال التي، وإن تفرقت في المكان والزمان، فإن لها من الأهمية ما لا ينكره إلا جاحد. غير أن المطمح المأمول هو إرساء منظومة متكاملة وحديثة في التوجيه، بعيدة من الاقتصار على الاجتهادات أو الإخفاقات الفردية التي يمكن تسجيلها هنا أو هناك. وإننا لنؤمن أن السبيل إلى ذلك لن يكون إلا في إطار إصلاح شمولي لمنظومة التربية والتكوين.

ثانياً: الممارسة الحالية للتوجيه وعلاقتها بسوء التوافق الدراسي

تدل كلمة التوافق في معناها اللغوي العام على التآلف والتقارب، وهي نقيض التنافر. وتحيل على حالة من التوازن والسواء الذي يطبع تفاعلات الفرد وعلاقته بمحيطه السوسيوثقافي العام.

أما التوافق الدراسي فيرجع في أصله إلى التوافق النفسي – الاجتماعي، بل إن التوافق الدراسي هو توافق نفسي – اجتماعي داخل البيئة المدرسية. إذ لا يمكننا بأي حال من الأحوال فصل توافق المتعلمين مع محيطهم الدراسي عن توافقهم مع الحياة الاجتماعية. إنه مؤشر مائز لاندماج المتعلم في الحياة المدرسية وأحد أهم مظاهر التوافق العام بالنظر إلى الفترة الممتدة التي يقضيها التلميذ في المدرسة. ومن هنا فإن الارتياح الذي يبديه المتعلم في أجواء المدرسة وشعوره بالرضا ودخوله في علاقات إيجابية سواء مع الأقران أو المدرسين أو هيئة الإدارة وجميع المتدخلين في الحياة المدرسية لمن شأنه أن ينعكس إيجاباً على نتائجه الدراسية وتحصيله العلمي ونمو شخصيته، بل على حياته الاجتماعية ككل. فالتوافق الدراسي يشمل «محاولة الطالب التفاعل والتواصل داخل المؤسسة التعليمية مع جوانب العملية التعليمية المختلفة من أساتذة، وجماعة الأقران، ومناهج دراسية، ونظام امتحانات، ومواقف أكاديمية وغيرها، بحيث يساهم ذلك في مواجهة متطلبات البيئة الدراسية، وبالتالي رضى الطالب عن هذه الجوانب وقناعته بها»‏[8]. وإذا كان الشيء بضده يعرف، فإن سوء التوافق الدراسي هو اختلال التوازن بين الفرد/المتعلم وبين جميع مظاهر الحياة المدرسية التي يتفاعل معها. إنه «مفهوم شاسع تندرج ضمنه كل الحالات التي لا يكون فيها المتعلم في تناغم مع معايير الوسط المدرسي، إما بسبب إعاقة ذهنية أو اضطرابات جسدية أو عقلية أو وجدانية»‏[9].

ثمة أسباب وعوامل كثيرة تؤدي بالمتعلم إلى أن ينسج علاقة غير سوية مع وسطه المدرسي تكون مظهراً مؤكداً لسوء التوافق الدراسي. من بين هذه الأسباب ما هو ذاتي مرتبط بالفرد المتعلم ومنها ما هو موضوعي متعلق بوسطه الاجتماعي أو بآليات اشتغال المؤسسة التعليمية أو غيرها؛ ففي ما يخص الجانب الذاتي للمتعلم يمكن الحديث عن بعض الاضطرابات النفسية أو الجسدية التي يمكن أن يكون المتعلم عرضة لها، والتي تتفاقم في ظل غياب تشخيص وتدخل آنيَّين. ضف إلى ذلك ما يمكن أن تؤدي إليه مرحلة المراهقة من تبعات سلبية جراء عدم إلمام المتعلم/المراهق بحيثياتها وعدم التعاطي السليم من المحيط مع السلوكات التي تشكل أصـلاً لها.

أما العوامل الموضوعية فهي متعددة ومتنوعة. يمكن تصنيفها إلى عوامل مدرسية مرتبطة بآليات اشتغال المدرسة؛ من قبيل قلة دربة وكفاءة الموارد البشرية سواء في التدبير أو التدريس والمواكبة، وغياب بنية تحتية ملائمة وكافية تستوعب مختلف فئات التلاميذ… وإلى عوامل أسرية لها تأثيرها المباشر وغير المباشر في التكيف المدرسي للمتعلم، من بينها الأمية والفقر اللذين يعانيهما الآباء واللذين تبدو آثارهما واضحة في غياب حضورهم الرمزي وضعف مواكبتهم لأبنائهم، بل وتؤدي إلى عوامل وسيطية مثل انشغال التلاميذ بأعباء البيت.

وإذا كان حصر مختلف أسباب وعوامل سوء التوافق الدراسي أمراً لا تسمح حدود المقام بجردها والتفصيل فيها، فإن السؤال هنا هو ما علاقة هذه الظاهرة السلبية بالتوجيه التربوي؟ وكيف تؤثر الممارسة الحالية للتوجيه في التوافق الدراسي؟ غير خافٍ على أحد ذلك التخبط الذي يعيشه التلاميذ عند كل عتبة من عتبات التوجيه. تخبط مردُّه إلى تلك الحيرة التي تتملكهم أمام تعدد الخيارات الدراسية والصعوبة التي يجدونها في اتخاذ القرار المناسب. وقد يرجع هذا الوضع إلى قلة الزاد المعرفي للمتعلم بخصوص الشعب والمسالك الدراسية أو الآفاق الدراسية والمهنية، أو إلى ضعف في المستوى التعليمي يجعل الاختيار مسألة ثانوية ما دام التوجه إلى هذه الشعبة أو تلك، أو هذا المسلك أو ذاك سيان. وقد يكون التلميذ متفوقاً لكنه لا يمتلك مهارات اتخاذ القرار في غياب ثقافة بناء المشروع الشخصي لدى التلاميذ، إلا ما ندر، بسبب عوامل متعددة منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي.

إن هذه الوضعية لمن شأنها أن تؤدي إلى التنافر بين المتعلم واختياره الدراسي ومن ثم تقل الدافعية والحافزية لديه، وهو ما يسفر عن سوء التوافق الدراسي. وفي هذا يستوي التلاميذ النجباء والتلاميذ المتعثرون. فكم تلميذاً عانى طوال مساره الدراسي بسبب سوء توافقه مع اختياره فقاوم رغباته الذاتية من أجل واقع أصبح التعاطي معه مفروضاً. فمنهم من بلغ نهاية الدرب وحصل على شهادة عليا في تخصص غير راغب فيه، ودون أي أفق مهني. ومنهم من بحث عن توافقه النفسي في مكان آخر خارج حجرات الدراسة من دون تأهيل في الغالب الأعم، مغذياً النسب المرتفعة أصـلاً للهدر المدرسي والجامعي.

لن يستقيم الحديث عن علاقة التوجيه التربوي بسوء التوافق الدراسي من دون الحديث عن التقييم التربوي، بالنظر إلى أن هذا الأخير يشكل أساً وعماداً تبنى عليه مصائر التلاميذ. فالتوجيه التربوي، في واقعنا المغربي وفي واقع العديد من الدول، يبني قراراته وتصنيفاته للتلاميذ على أساس تقييم مستوى التحصيل المعرفي لديهم من دون استحضار جوانب الشخصية الأخرى، ومن دون اعتماد أساليب تقييمية أخرى كالتقييم النفسي والتقييم الاجتماعي والاقتصادي التي تمكن الفاحص من الوقوف على شخصية التلميذ من جوانب مختلفة تشمل القدرات والمهارات والاستعدادات والميول والاتجاهات والرغبات… وهذا الوضع قد يكون سبباً من أسباب عدم التكيف بين المتعلم ومساره الدراسي ومن ثم وسطه المدرسي ككل.

أما ما يتصل بمختلف المشكلات التربوية الأخرى من قبيل قلة الاهتمام بالدراسة لدى التلاميذ وغياب حافزيتهم والهروب النفسي والغياب غير المبرر وضعف التحصيل… التي تعتبر مؤشرات بينة على سوء التكيف الدراسي التي غالباً ما تنتهي بالتسرب، فإنها، في الغالب، تكون ذات أسباب نفسية واجتماعية يمكن تجاوزها قبل استفحالها. ولعل الفاعل في التوجيه هو الإطار الأنسب لمعالجتها أخذاً بعين الاعتبار إمكان تدخل الأطراف الأخرى في المشكلة.

لعل ما سبق يكشف بجلاء تلكم العلاقة الطردية بين التوجيه التربوي وسوء التوافق الدراسي. وإننا لنجزم أن الاكتفاء بمعالجة مختلف الاختلالات التي تعانيها المنظومة التربوية وفق منظور تجزيئي كلاسيكي لن ينتج منه سوى مضاعفة الخلل وتعميق الأزمات وإطالة أمد الاعتلالات. إن النظر إلى الهدر أو الفشل أو العنف أو غيره من الظواهر السلبية التي تنخر كياننا التعليمي، والتي تنضوي كلها تحت لواء سوء التوافق الدراسي، من زاوية واحدة أو بعدٍ واحد يركز على العلاقة الصفية بين المدرِّس والتلميذ، على محوريتها، من دون الالتفات إلى مختلف المتدخلين في تفاعلات الحياة المدرسية داخلها أو خارجها، لن يجدي نفعاً. وفي هذا الاتجاه يقول فوغن: «… إن الكثير من المشكلات التربوية تحتاج إلى خدمات التوجيه التربوي لحلها، مثل: التسرب المدرسي والتأخر الدراسي ومشاكل الاختيار، ومشاكل التكيِّف والتوافق مع البيئة المدرسية والاجتماعية… إلخ»‏[10].

وعلى هذا الأساس فقد آن الأوان أن يتبوأ التوجيه التربوي، في منظومة التربية والتكوين بالمغرب خاصة، مكانة أساسية إن في برامج الوقاية أو العلاج. وأن يتم القطع مع تلك النظرة التي ترى فيه وفي خدماته ترفاً لا ضرورة. ولعل برامج المواكبة التربوية في صيغتها الشمولية قد تشكل ذلك الإطار الأنسب الذي يمكن لخدمات التوجيه أن تستثمره.

ثالثاً: التوجيه التربوي وبرامج المواكبة التربوية

يعرف محمد الدريج المواكبة التربوية بأنها «منظومة ونموذج بيداغوجي شامل، يستهدف الأخذ بيد جميع الأطفال/التلاميذ، لا المتعثرين منهم فقط، لمساعدتهم في بناء شخصيتهم وتخطي صعوباتهم وتحقيق مشروعهم المدرسي والمهني، وذلك من خلال مرافقتهم طيلة مسارهم الدراسي، مع الأخذ بعين الاعتبار قدراتهم وملكاتهم وميولهم وطموحاتهم المستقبلية، حتى تتم المساهمة في تحسين ومعالجة الفعل التربوي والرفع من مردوديته والمشاركة بالتالي في إنجاح العملية الإصلاحية، والعمل مع جميع المتدخلين التربويين في الميدان بصفة خاصة ومن جهة أخرى يتم التدخل في جميع المؤسسات ذات الطابع التربوي الاجتماعي – الاقتصادي والمحيط الخارجي بأبعاده المختلفة»‏[11].

لا يختلف تعريف المواكبة التربوية هذا عن التحديدات التي أصبحت تعطى للتوجيه التربوي، والتي قدمنا واحداً منها أعلاه. والذي أضحى عملية دينامية ومستمرة تجعل المتعلم في قلب الانشغال والاهتمام، منفتحة على مختلف الفاعلين داخل الحقل التربوي وخارجه. بل إنه قد يكون أعم وأشمل كونه «يقع في تلاقي ديناميتين: دينامية تطور الفرد ودينامية تطور العالم السوسيواقتصادي. إنه من جهة آلية لمواكبة النمو الحاصل لدى الفرد من حيث مؤهلاته واهتماماته وحاجاته وقيمه وميوله واختياراته الدراسية والمهنية، وإنه من جهة أخرى نافذة على العالم الخارجي وعلى المستقبل، حيث يمكن المدرسة من الإطلالة على التطورات الحاصلة في المحيط وإدراكها ومواكبتها»‏[12].

إن خدمات التوجيه ذات أبعاد متعددة منها ما هو إنمائي ومنها ما هو وقائي ومنها ما هو توجيهي. فالبعد الأول يمكن المتعلم من الآليات الضرورية الكفيلة بتفتح موهبته واستثمار قدراته واستعداداته وتنميتها، ومن ثم مواجهة مختلف المشكلات التي تعرقل نموه السوي مما يضمن له بناءه لذاته ولمجتمعه. أما البعد الثاني فهو ينفتح على التلاميذ العاديين ولا يقتصر على المتعثرين الذين يعانون من مشكلات، فيقدم لهم المساعدة في المجال الدراسي والعملي، من خلال مساعدتهم على توظيف إمكانياتهم الذاتية بشكل فعال. في حين يساعد البعد الثالث المتعلمَ على التكيف مع واقعه الدراسي أو المهني، تفادياً لسوء التوافق المتوقع الذي يؤدي حتماً إلى ضعف المردودية في العمل مستقبـلاً.

إن وظيفة المواكبة التي يتعين على خدمات التوجيه أن تضطلع بها تدخل في إطار الكفايات المستعرضة التي تقتضي العمل على تمهير المتعلمين وإكسابهم مهارات التكيف مع واقعهم الذاتي ومحيطهم المدرسي من دون إغفال تحولات المحيط السوسيواقتصادي. كفايات تساعد المتعلم على تحليل ومعالجة المعلومات وحل المشكلات والتعاون واعتماد التفكير الإبداعي والتواصل الفعال… إن الفاعل في التوجيه ملزم بفهم مختلف التحولات التي تحصل في شخصية المتعلم، بفعل نموه المضطرد، والعمل على أن يستوعبها المعني بالأمر، بل ومختلف الفاعلين الآخرين إذا اقتضى الأمر. ولن يتأتى ذلك إلا بإرساء «ثقافة المشروع الشخصي للتلميذ» بما «هو سيرورة نمائية دينامية تطورية، يبحث من خلالها المتعلم عن صيغة للعمل الذاتي لتحقيق أقصى ما يمكن من الملاءمة بين قدراته وتطلعاته والفرص المتاحة أمامه، سواء كانت فرصاً تعليمية أو تكوينية أو مهنية. وتفترض هذه السيرورة أسلوباً في التفكير والعمل، وتتأسس على خطة عمل تستند إلى منهجية تدبير الفرص والإكراهات ذات الطبيعة السيكوبيداغوجية والسوسيوتربوية، انطلاقاً من تحليل لمعطيات الذات والمحيط المدرسي والمهني والحياتي واقتراح الحلول الكفيلة بإحداث التكيف الدراسي والحياتي، وضبط وسائل العمل وبرمجة الأنشطة والعمليات لبلوغ الأهداف المنشودة في أفق تجاوز للذات وإكراهات الواقع بأكبر قدر من الفعالية والتنظيم والتقويم والتخطيط»‏[13].

خاتمة

يسعى التوجيه الفعّال وفق المنظور الحديث إلى تذليل مختلف الصعاب التي تواجه المتعلم داخل فضاء التعلم، وتقف في وجه تحقيق تكيُّفه الدراسي. كما يرمي في الوقت ذاته إلى تأهيله التأهيل الأمثل للتموقع بشكل جيد ومواجهة إكراهات المحيط الدراسي والمحيط السوسيومهني دائمي التطور والتغير.

إننا لنؤمن بأن الرقي بخدمات التوجيه التربوي والدفع بها لتكون مدخـلاً أساسياً لمعالجة مختلف أعطاب الشأن التعليمي ببلادنا إن على المستوى الميكروتربوي أو الماكروتربوي لن يتم إلا إذا تحقق شرطان أساسيان مترابطان ومتكاملان:

أحدهما هو تصحيح تلك الاختلالات التي تم الوقوف عليها في التشخيص وفق رؤية إصلاحية تجمع بين الجانب النظري المتعلق باختيار الإطار النظري الأنسب، والجانب العملي المرتبط بالممارسة العملية في الميدان مع ما يتطلبه ذلك من انفتاح على التجارب الرائدة في هذا المجال‏[14] مع ضرورة مراعاة الخصوصية المحلية؛

ثانيهما، وهو الأهم، ضرورة إيمان القائمين على الشأن التعليمي ببلادنا بأهمية وأدوار التوجيه التربوي في إعطاء معنى لتعلمات التلاميذ وربط المدرسة بمحيطها السوسيومهني ومن ثم تجويد مستوى الحياة المدرسية بله الحياة العامة في مختلف مجالاتها.

وتجدر الإشارة إلى أن أي مجهود إصلاحي يروم النجاعة والفعالية لا ينبغي أن يتم إلا في إطار إصلاح تربوي وفق مقاربة نسقية تعتمد رؤية عامة وشاملة لمختلف جوانب المنظومة التربوية بل وفي ظل إصلاح اجتماعي شمولي منسجم ومتناغم الجوانب والمكونات، ومندرج في إطار مشروع سوسيوتربوي وثقافي واضح المعالم والمقاصد.

 

قد يهمكم أيضاً  المنظومات التربوية المغاربية: ملاحظات ومداخل إصلاحية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التعليم #التربية #التوجيه_التربوي #التوافق_الدراسي #الدراسة #التربية_والتعليم_في_المغرب #المواكبة_التربوية #المغرب