مقدمة:

يعد الانتقال من الأحادية إلى التعددية الحزبية أهم إجراء قامت به السلطة الحاكمة في الجزائر من أجل إصلاح النظام السياسي بعد أحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر عام 1988. فقد جاء هذا الانتقال في إطار عملية إصلاحية شاملة بدأت بإقرار دستور عام 1989، وإعادة بعث منظمات المجتمع المدني، وفتح المجال للصحافة المستقلة، والتخلي عن النهج الاشتراكي، إضافة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية متعددة. وجاء الانتقال للتعددية الحزبية استجابة لمجموعة من الظروف الداخلية والخارجية؛ فعلى المستوى الداخلي، تفاقمت أزمات النظام السياسي كأزمة الشرعية، وأزمة المشاركة السياسية، وأزمة الهوية، ولم يعد نظام الأحادية الحزبية بقيادة جبهة التحرير الوطني قادراً على تجاوز هذه الأزمات. أما على المستوى الخارجي، فإن التحولات الدولية المتمثلة بسقوط النظم الاشتراكية، وانتشار الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى ضغوط المؤسسات المالية الدولية، كلها عوامل فرضت على النظام الحاكم في الجزائر التكيف مع التغيرات الحاصلة في البيئتين الداخلية والخارجية.

لقد أفرزت عملية التحول نحو التعددية الحزبية مجموعة من المخرجات والانعكاسات على العملية السياسية وتفاعلاتها، كما كان لها إفرازاتها على مسار العملية الإصلاحية، ولهذا وجب تحليل هذه المخرجات ومدى تأثيرها في طبيعة النظام السياسي في الجزائر.

أولاً: أهمية التعددية الحزبية في الأنظمة الديمقراطية

يقوم نظام التعددية الحزبية على وجود عدد من الأحزاب تتنافس في ما بينها منفردة، أو بتحالفات للوصول إلى السلطة، ولا يوجد تفاوت كبير بينها من حيث التأييد والتأثير في الحياة السياسية. وهناك عوامل متعددة تؤدي إلى إقامة نظام التعدد الحزبي، يمكن حصرها في العوامل الاجتماعية، حيث إن كل حزب يمثل فئة أو طبقة معينة باعتبار أن الأحزاب هي التعبير السياسي للطبقات الاجتماعية، وفق المنظور الماركسي. وهناك طبيعة النظم الانتخابية؛ فنظام الأغلبية يساعد على قيام نظام الحزبين، كون الحزب الذي يفوز بالأغلبية هو الذي يمارس الحكم. أما نظام التمثيل النسبي، فهو ملائم لتعدد الأحزاب باعتبار أن كل حزب يفوز بمقاعد نيابية، بحسب عدد الأصوات التي يحصل عليها في الانتخابات. كما تساهم العوامل الدينية والأيديولوجية في نشوء التعددية الحزبية، كالأحزاب المسيحية في أوروبا، والأحزاب الشيوعية، والأحزاب الإسلامية في البلدان العربية‏[1].

تتبنى أغلب النظم الديمقراطية في الدول الغربية نظام تعدد الأحزاب بدرجات مختلفة، حيث يرى المختصون في النظم السياسية أن النظام الحزبي التعدّدي يقوم بدور أساسي في تلك الدول، باعتباره يساهم في تخفيف واحتواء الصراع الطبقي‏[2]. ويؤدي كذلك إلى تمثيل جميع الآراء والتوجهات السياسية، وتدعيم حرية الفكر والرأي، ويوفر الظروف الملائمة لاحترام الحقوق والحريات الفردية، كما تضمن التعددية الحزبية حرية نشاط المعارضة السياسية وسعيها المشروع إلى الوصول إلى السلطة. لذلك، فإن نظام تعدد الأحزاب مرتبط بالأنظمة الديمقراطية، فمن غير الممكن تصور قيام نظام ديمقراطي من دون وجود تعددية حزبية تنافسية‏[3].

تساهم التعددية الحزبية كذلك في تنظيم المعارضة، فهذه الأخيرة تعتبر دعامة أساسية لبناء النظم الديمقراطية، من حيث وجود الرأي والرأي المخالف؛ فأحزاب المعارضة تقوم بتوجيه النقد للحكومة مع تقديم برنامج متكامل يكون بديـلاً من برنامج الأغلبية الحاكمة، ويمكن ترجمته إلى سياسات فعلية في حال وصول أحزاب المعارضة إلى الحكم. لهذا، فأحزاب المعارضة في النظم الديمقراطية هي جزء لا يتجزأ من النظام السياسي‏[4].

ثانياً: مسار التعددية الحزبية في الجزائر 1989 – 2015

تم إقرار التعددية الحزبية في الجزائر بموجب دستور عام 1989، الذي تكلم على جمعيات سياسية وليس على أحزاب، وذلك لتفادي رد فعل القوى الرافضة للتعددية الحزبية التي لم تكن تلقى الاعتراف والقبول من طرف جميع الفواعل. كما أن أحداث تشرين الأول/أكتوبر عام 1988 لم ترفع مطلب التعددية الحزبية كمطلب سياسي رئيس وواضح، بل رفعت مطالب اقتصادية واجتماعية عامة‏[5]. وبناء عليه، صدر قانون الجمعيات ذات الطابع السياسي، الذي سمح بظهور نحو 60 حزباً سياسياً. ثم تقلص عددها إلى 28 حزباً عام 1997‏[6]، ليرتفع هذا العدد مرة أخرى إلى أكثر من 60 حزباً عام 2015.

يلاحظ على تجربة التعددية الحزبية في الجزائر، أنها مرّت بعدة مراحل تراوحت بين التشجيع والتراجع؛ ففي المرحلة الأولى الممتدة ما بين عامي 1989و1992 التي ظهر فيها عدد كبير من الأحزاب من دون قيود، بحكم أن بعضها نشأ لأول مرة، مثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحركة المجتمع الإسلامي، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وحزب العمال، وأحزاب أخرى، كانت تنشط في السرية، ثم ظهرت إلى العلن، أبرزها جبهة القوى الاشتراكية. كما حافظ حزب جبهة التحرير الوطني على وجوده في الساحة السياسية.

بعد ذلك، جاءت مرحلة الفراغ بين عامي 1992 و1997 التي تميّزت بتوقيف المسار الانتخابي عام 1992، وصدور قانون الأحزاب لعام 1997 الذي اعتمد تسمية الأحزاب السياسية بدلاً من الجمعيات ذات الطابع السياسي، كما أنه حظر توظيف مكونات الهوية الوطنية في التسمية الحزبية‏[7]. لهذا، تغيّرت تسمية الكثير من الأحزاب. على سبيل المثال، تحولت حركة المجتمع الإسلامي إلى حركة مجتمع السلم، وحركة النهضة الإسلامية إلى حركة النهضة، إضافة إلى ظهور حزب ثانٍ للسلطة الحاكمة هو التجمع الوطني الديمقراطي.

وجاءت المرحلة الثالثة ين عامي 1999و2011، حيث شهدت عدم الترخيص لتأسيس أحزاب جديدة، وتقلّص عدد الأحزاب من 30 حزباً عام 1997 إلى 24 حزباً عام 2007. ومن بين الأحزاب التي لم تعتمد، حركة الوفاء والعدل برئاسة أحمد طالب الإبراهيمي، والجبهة الديمقراطية لرئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي‏[8].

وأخيراً، المرحلة الرابعة بين عامي 2012و2015 التي تميزت بمحاولة السلطة التكيّف مع الثورات العربية، فقامت بإصدار قانون جديد للأحزاب عام 2012، تم بموجبه الترخيص لعدد كبير من الأحزاب في مدة وجيزة، منها: الحركة الشعبية الجزائرية، وحزب تجمع أمل، وجبهة المستقبل، وغيرها. تجدر الإشارة إلى أن هذه الأحزاب الجديدة، تأسس بعضها نتيجة انشقاقات حزبية، وتأسس بعضها الآخر من رحم جمعيات أو لجان مساندة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. في عام 2014، قام المرشح السابق للانتخابات الرئاسية السيد علي بن فليس بتأسيس حزب طلائع الحريات الذي ضم في صفوفه مجموعة من المناضلين المنشقين عن جبهة التحرير الوطني، ومجموعة من الإطارات السابقة في الدولة، وكذلك مؤيديه في الانتخابات الرئاسية.

ثالثاً: انعكاسات التعددية الحزبية على العملية السياسية في الجزائر

كان يفترض أن تكون الأحزاب السياسية في الجزائر هي الفواعل الرئيسة في العملية السياسية، فكان من المفترض أن تضفي طابعاً تنافسياً على العمليات الانتخابية، كما كان يفترض منها ترسيخ التداول على السلطة وتبادل الأدوار في ما بينها من مرحلة إلى أخرى بين ممارسة الحكم لجزء منها، والقيام بدور المعارضة من طرف الجزء الآخر. وعلى هذا الأساس، فإنه بعد مرور أكثر من ربع قرن على التحول نحو التعددية الحزبية في الجزائر، يلاحظ أنها أفرزت معارضة ضعيفة الأداء والفعالية، كما أنها لم تنجح في إرساء مبدأ التداول على السلطة، وما زال دور الأحزاب محدوداً في رسم السياسات، إضافة إلى غياب التنافسية، وتناقص المشاركة الشعبية في الانتخابات.

1 – ضعف المعارضة السياسية

يلاحظ أن أحزاب المعارضة في الجزائر يغلب عليها الضعف نتيجة الانقسام في ما بينها، وافتقادها مشروعاً متكاملاً وإستراتيجية واضحة للعمل، إذ تكتفي في أغلب الأحيان بردود الفعل إزاء المشاريع التي تبادر بها السلطة الحاكمة، وعدم قدرتها على إسقاط قرارات وسياسات السلطة مثل التعديل الدستوري لعام 2008، وقانون المالية لعام 2016، واستمرار الرئيس بوتفليقة في الحكم لعهدة ثالثة ورابعة، وتكتفي فقط بالحضور في المواعيد الانتخابية لتختفي في ما عداها من أوقات. بهذا، نجحت السلطة الحاكمة إلى حد بعيد في تدجين وترويض الكثير من النخب الحزبية؛ تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، حيث يظهر تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وتورطها في قضايا الفساد المالي والسياسي، الأمر الذي أفقد الأحزاب السياسية ثقة الجماهير‏[9].

وفي كثير من الأحيان، يلاحظ تحوّل المعارضة السياسية في الجزائر من معارضة ضد السلطة إلى معارضة حزبية داخلية، أو معارضة للأحزاب التي تعارض السلطة الحاكمة. فقد لوحظ في الكثير من المناسبات الانتخابية بروز حركات تصحيحية داخل التنظيمات الحزبية المعارضة ضد قيادتها يقودها أطراف يبحثون عن المناصب والامتيازات بتزكية من السلطة الحاكمة، حيث تلجأ هذه الأخيرة إلى إحداث الانشقاقات والحركات التصحيحية داخل الأحزاب التي لا تجاري صنّاع القرار في سياساتهم وتوجهاتهم‏[10].

في هذا السياق، شهدت نهاية عام 2015 ظهور بوادر حركات تصحيحية داخل أحزاب المعارضة، أبرزها حزب جيل جديد ينتمي إلى التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي المعارضة للسلطة الحاكمة، وكذلك ما يشهده حزب العمال المعارض لسياسة الحكومة من انشقاقات في صفوفه، حيث تشير التقارير الإعلامية إلى انشقاق 11 نائباً عن حزب العمال في المجلس الشعبي الوطني بدعم من كتلة جبهة التحرير الوطني‏[11].

إن نجاح السلطة الحاكمة في إضعاف الأحزاب السياسية، ولا سيّما المعارضة منها، يعود في الأساس إلى نجاحها في استعمال أموال الريع البترولي لإفراغ التعددية الحزبية من محتواها، وجعل الأحزاب تتنافس على جزء من السلطة على مستوى المجالس المحلية في البلديات والولايات، وعلى مستوى الهيئة البرلمانية بغرفتيها المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة. وقد استغلت السلطة سنوات الوفرة المالية لتقييد العمل الحزبي بعدم منح التراخيص الإدارية لبعض الأحزاب القادرة على التجنيد الجماهيري على الرغم من استيفائها الشروط القانونية مثل «حركة الوفاء والعدل» لـ «أحمد طالب الإبراهيمي»، و«الجبهة الديمقراطية» لرئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي. وبهذا تم الرجوع إلى تكريس الأحادية في شكل التحالف الرئاسي. في المقابل، تم تدجين الأحزاب وتحويلها إلى لجان مساندة للسلطة أو وسائل لإضفاء الشرعية على قراراتها‏[12].

2 – تعددية حزبية غير تنافسية وأزمة تداول على السلطة

تعد أزمة التداول على السلطة من أهم الأزمات التي يعيشها النظام السياسي في الجزائر، نتيجة انغلاقه على نفسه، وعدم مشاركة الأحزاب السياسية فعلياً في الحكم رغم وجودها في المؤسسات السياسية، إضافة إلى عزوف المواطنين عن ممارسة السلوك الانتخابي، وتالياً تناقصت شرعية النظام مع مرور السنوات. لهذا، على الرغم من مرور سنوات طويلة على التحول نحو التعددية الحزبية، إلّا أن النظام السياسي ما زال يعاني الجمود إلى درجة وصفه من طرف بعضهم، بأنه ينتمي إلى نوع الانتقال الديمقراطي المتعثر، باعتبار أن مسألة التداول على السلطة مرفوضة من طرف النخبة الحاكمة. وعوضاً من أن تكون الأحزاب هي الممارس الفعلي للحكم، بناءً على عملية انتخابية نزيهة وشفافة، اتسمت الحياة السياسية بدور متزايد للمؤسسة العسكرية والأمنية، بما يشجع على احتكار جماعة ضيقة السلطة‏[13].

تبرز أزمة التداول على السلطة في مختلف المستويات المؤسسية والسلطوية؛ فعلى مستوى مؤسسة الرئاسة، باستثناء التداول غير المستقر وغير المنتظم الذي حدث أثناء التسعينيات بين أربعة رؤساء (الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، على كافي، اليمين زروال)، إلّا أنه منذ قدوم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم عام 1999 تم غلق مجال التداول وبقي في الحكم إلى وقتنا هذا لأربعة عهود متتالية، حيث تم التراجع عن آلية التداول التي كرسها دستور عام 1996، وتم فتح العهود الرئاسية في التعديل الدستوري لعام 2008، غير أن السلطة تراجعت مرة أخرى وقامت بغلق العهود الرئاسية في التعديل الدستوري الذي أعلن عنه في الأسبوع الأول من سنة 2016‏[14].

امتدت أزمة التداول إلى المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة والمجالس المحلية، بحيث ما زالت أحزاب السلطة الحاكمة تهيمن على تشكيلة تلك المجالس منذ سنة 1997 بالنسبة إلى التجمع الوطني الديمقراطي، ثم عودة حزب جبهة التحرير الوطني للهيمنة على الأغلبية خلال الفترة ما بين عامي 2002و2016. وحتى الآن، لم يتمكن أي حزب معارض من تشكيل الحكومة أو تحقيق الأغلبية في المجالس التمثيلية، باستثناء تجربتي عام 1990 بالنسبة إلى المجالس المحلية وعام 1991 المتعلقة بالمجلس الشعبي الوطني، التي تم إجهاضها بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

من أبرز مظاهر فشل التعددية الحزبية في إرساء آليات التداول على السلطة وجود تقليد متبع في الجزائر يقضي بأن يكون رئيس الجمهورية مترشحاً حراً، ومرشح الإجماع بالنسبة إلى أقطاب النظام الحاكم تنظم له انتخابات تعددية شكـلاً، وتعبئة مختلف الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني كلجان مساندة سعياً إلى إضفاء الشرعية على هذا المرشح الحر. والأكثر من ذلك، فإن الأحزاب السياسية لم تعد لها القدرة على تكوين نخب وقيادات سياسية تتناغم مع الأجيال الجديدة في المجتمع إلى درجة الحديث عن عدم وجود بديل من الرئيس بوتفليقة لحكم الجزائر.

3 – مشاركة حزبية ضعيفة في صناعة القرار ورسم السياسات

تعاني الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان فقدان سلطة اتخاذ القرار، حيث يكاد ينعدم دورها في المبادرة باقتراح القوانين مقابل تزايد دور الحكومة في المبادرة بمشاريع القوانين ودور رئيس الجمهورية في التشريع بالأوامر. وقد أدى هذا مع مرور الوقت إلى فقدان الأحزاب السياسية مصداقيتها أمام الرأي العام في الجزائر؛ فنواب البرلمان بمختلف انتماءاتهم الحزبية لم يحدث أن عارضوا برنامج الحكومة، وتعدى الأمر ذلك إلى عجزهم عن المطالبة بعرض سياستها العامة أمام البرلمان. ولم يحدث أن نجحت الأحزاب الجزائرية في تجنيد نوابها البرلمانيين من أجل إسقاط الحكومة بوساطة ملتمس الرقابة المنصوص عليه دستورياً‏[15].

على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبداها نواب الأحزاب تجاه قانون المالية لعام 2016 المقترح من طرف وزير المالية، إلّا أن الحكومة استطاعت تمرير القانون، وتم توقيعه من طرف رئيس الجمهورية في أواخر كانون الأول/ديسمبر عام 2015. وهذا يدل على أن الأحزاب السياسية الممثلة في السلطة التشريعية، ليست لها القدرة على صنع القرار ورسم السياسة العامة للبلاد.

إن تتبع مسار صناعة القرار في النظام السياسي الجزائري، يبيّــن أن العملية القرارية تخضع للسرية وهيمنة المؤسسة العسكرية وجهازها الاستخباري، وتبعية السلطة المدنية في علاقاتها بالسلطة العسكرية، والازدواجية بين الواجهة المدنية للسلطة التي تستعمل كفضاء مؤسسي لإخراج القرارات السياسية، والسلطة الخفية ذات البعد العسكري والأمني التي تسيطر على عملية صنع القرار. ولعل من أبرز المؤشرات على ذلك نجد ضعف مشاركة المؤسسات التمثيلية المنتخبة في العملية القرارية. فعلى الرغم من مرور حوالى ثلاثة عقود على تبني التعددية الحزبية، إلّا أن البرلمان ما زال على هامش النواة الفعلية للسلطة، ولم يتحول بعد إلى أحد مراكز صناعة القرار ورسم السياسات. فالكثير من القرارات ذات البعد الاستراتيجي، كقانون المحروقات والمصالحة الوطنية وقانون الجنسية، مررها الرئيس بوتفليقة بأوامر رئاسية أو من طريق استفتاء شعبي من دون تمكين النواب بمختلف انتماءاتهم الحزبية من المشاركة في النقاش حولها‏[16].

تجدر الإشارة إلى أنه منذ وصول الرئيس بوتفليقة إلى سدة الحكم، ترسخت شخصنة القرار السياسي؛ فقد أصبح التوجه المألوف هو إسناد وزارات السيادة (الخارجية، الداخلية، الطاقة، المالية) إلى شخصيات تكنوقراطية غير حزبية مرتبطة مباشرة برئيس الدولة وتتمتع باستقلالية عن الوزير الأول، في حين توزع باقي الوزارات القطاعية على ممثلي الأحزاب المكوّنة لما يعرف في الجزائر بالتحالف الرئاسي (جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، وحركة مجتمع السلم)‏[17] وأحزاب أخرى‏[18].

هكذا، فالأحزاب السياسية التي كان يفترض بها أن تساهم في عملية صنع القرار فشلت في ذلك، بحكم طبيعة النخبة المهيمنة داخل النظام السياسي؛ فالتعددية الحزبية لم تساعد السلطة التشريعية على اكتساب استقلالية في مواجهة السلطة التنفيذية، كما أنها لم تمكّن الحكومة من التحول إلى مركز فعلي للسلطة التنفيذية. وهذا الأمر يدفعنا إلى القول إن العلاقة القائمة حالياً بين الأحزاب والسلطة الحاكمة، تشبه تلك العلاقة التي كانت سائدة في ظل الأحادية الحزبية بين جبهة التحرير الوطني والنخبة الحاكمة‏[19]. في ظل التعددية الحزبية، أكدت الأحزاب عجزها عن المشاركة بفاعلية في صناعة القرار، وعدم قدرتها على التأثير في رسم السياسات العامة، إلى درجة أنها تخلت عن برامجها بحجة دعم برنامج رئيس الجمهورية.

رابعاً: التعددية الحزبية وبناء الديمقراطية في الجزائر

كان يفترض من الأحزاب السياسية أن تكون هي المحرك الأساسي لبناء نظام ديمقراطي في الجزائر، لكن عند تقييم مدى تأثير التعددية الحزبية في طبيعة النظام السياسي، ينبغي القول إنه باستثناء المشاركة في مختلف العمليات الانتخابية – المحلية والتشريعية والرئاسية – وإضفاء الطابع التعددي عليها، والمشاركة في تكوين المجالس المحلية والتشريعية خلال الفترة ما بين عامي 1997و2016، ومنح الشرعية للسياسات المنتهجة من طرف صناع القرار، فإن التعددية الحزبية لم تؤدِ إلى تغيير طبيعة النظام السياسي في الجزائر، وفشلت في دمقرطة هذا النظام.

1 – فشل الأحزاب السياسية في إدارة عملية الانتقال الديمقراطي

نتيجة ضعف الأحزاب السياسية، تعمقت لدى الجزائريين النظرة السلبية إلى التعددية الحزبية والنخب المرتبطة بها، ولا سيّما بعد المأزق الذي عرفته أول انتخابات تشريعية تعددية أجريت في كانون الأول/ديسمبر عام 1991 وما أفرزته من تفاعلات نتج منها توقيف المسار الانتخابي في كانون الثاني/يناير عام 1992، والدخول في دوامة من العنف بين النظام الحاكم والحزب الفائز في تلك الانتخابات (الجبهة الإسلامية للإنقاذ). إضافة إلى ظهور قيادات حزبية من دون برامج ولا مشاريع ولا مواصفات شخصية لممارسة العمل الحزبي. وبفعل تلك السلبيات، اتهمت الأحزاب السياسية بعدم الفاعلية في تسيير مرحلة الانتقال نحو الديمقراطية، وعدم المنافسة الفعلية للنخب الحاكمة، وعدم الجدية في مواقفها المعارضة‏[20].

من جهة أخرى، يلاحظ ترسخ ثقافة الإقصاء في السلوك الحزبي منذ إقرار التعددية، وظهر ذلك جلياً بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية لعام 1991؛ حيث طالبت بعض الأحزاب العلمانية – وعلى رأسها حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية – بإلغاء نتائج الدور الأول من تلك الانتخابات وعدم إجراء الدور الثاني. وهذا يشير إلى غياب ثقافة التعايش والقبول بالآخر لدى النخب الحزبية؛ فالعلمانيون يريدون جزائر من دون إسلاميين، ويريد الإسلاميون جزائر من دون علمانيين. هكذا، تكرس الإقصاء المتبادل بين النخب الحزبية، ما ساهم في إضعاف أحزاب المعارضة وسمح للسلطة الحاكمة أن تؤدي دور الحَكم بين مختلف التيارات الحزبية‏[21]. وما زالت ثقافة الإقصاء المتبادل مستمرة إلى يومنا هذا، وقد نتج منها أزمة ثقة بين الأحزاب الموالية للسلطة وأحزاب المعارضة، حيث يرفض كل منهما التعايش مع الآخر، ولا سيّما أحزاب السلطة التي تنظر إلى اللعبة السياسية كلعبة صفرية.

على الرغم من التزايد الكبير في عدد الأحزاب السياسية في الجزائر، حيث وصل عددها إلى أكثر من 60 حزباً، إلّا أن هذه الأحزاب أكدت ضعف قدرتها التأثيرية في الشارع. فلم تشهد نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية تغييراً كبيراً في الخارطة الحزبية الجزائرية، ما عدا التراجع الواضح للأحزاب الإسلامية التي فقدت فرصة تأدية أدوار أساسية، في حين حافظ حزبا السلطة (جبهة التحرير، والتجمع الوطني الديمقراطي) على موقعهما الريادي وفوزهما بالأغلبية في مختلف الانتخابات التشريعية والمحلية‏[22].

إن فشل الأحزاب السياسية في إدارة مرحلة الانتقال الديمقراطي ليس وليد الصدفة، وإنما هو وليد الظروف غير المستقرة التي انطلقت فيها التعددية الحزبية في الجزائر، ثم تأزم الوضع الأمني وما نتج منه من فرض لحال الطوارئ بداية من سنة 1992 حيث تأزم العمل الحزبي أكثر ولم يعد باستطاعة الأحزاب السياسية ممارسة نشاطها العادي كالاحتجاج، وتنظيم المسيرات، وغيرها.

لهذا، وجب القول إن التعددية الحزبية لم تغيّـر من خصوصيات النظام السياسي الجزائري، واقتصر التغيير على مستوى الشكل فقط من دون حدوث أي تغيير نوعي في العلاقات بين مختلف أجهزة الدولة؛ فالملاحظ هو استمرار سيطرة المؤسسة العسكرية على المؤسسات السياسية، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، وعدم تغيّـر مكانة حزب جبهة التحرير وأدواره داخل مؤسسات الدولة، وكذلك عدم تغيّـر علاقته بالمجتمع‏[23].

إن الرغبة في احتكار السلطة والخوف من ظهور نخب حزبية منافسة دفعت النخبة الحاكمة في الكثير من المراحل إلى إضعاف الأحزاب السياسية وفق منهجين بعيدين من أي رغبة حقيقية في تعزيز الحياة الديمقراطية والتعددية الحزبية؛ الأول، يتمثل بتفتيت قوى المعارضة ودعم القوى الموالية للسلطة الحاكمة. أما الثاني، فيتمثل بإيجاد شبكات ناشطة في الاقتصاد غير الرسمي ومرتبطة بالفساد، وهي تعمل على تعزيز تواجدها في المجال السياسي والانخراط في مؤسسات الدولة بهدف الدفاع عن مصالحها‏[24].

2 – غياب التوافق الحزبي وانعدام القدرة التأثيرية حول مشروع الإصلاح السياسي 2011 – 2016

يعد الإصلاح السياسي عملية تفاعلية بين السلطة الحاكمة والتيارات السياسية، سواء كانت معارضة أو مشاركة في السلطة؛ فالإصلاحات السياسية عادة ما تتأثر بطبيعة العلاقات التفاعلية التي تحدث بين السلطة والقوى السياسية من جهة، وكذلك تفاعلات هذه القوى في ما بينها، ومدى توافقها أو اختلافها حول المشروع الإصلاحي.

إن الأحزاب السياسية الجزائرية في تفاعلها مع الموجة الثانية من الإصلاحات السياسية المعلن عنها في الخطاب الرئاسي يوم 15 نيسان/أبريل عام 2011، التي وصلت مؤخراً إلى الإعلان عن مشروع تعديل الدستور مع بداية عام 2016، اكتفت برد الفعل على ما تطرحه السلطة من مشاريع، سواء بالمشاركة أو بالمعارضة. وبناء على هذا التفاعل مع الإصلاحات، برز تصنيف ثنائي للأحزاب الجزائرية:

أ – الأحزاب الموالية للسلطة: وهي تتمثل بجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي اللذين يشكلان آلة انتخابية تستخدمها السلطة الحاكمة لتمرير مشاريعها وسياساتها، بما فيها قوانين الإصلاح السياسي والتعديل الدستوري. إضافة إلى أحزاب أخرى صغيرة من حيث الحجم ومحدودة التمثيل، أبرزها حزب تجمع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية. إن ما يلاحظ على أحزاب الموالاة، أنها تفتقد مشروعاً إصلاحياً وغير منسجمة فكرياً أو أيديولوجياً لكنها مشتركة في مساندتها السلطة الحاكمة في كل سياساتها مهما كانت الظروف. وهي تتخذ موقفاً معادياً للثورات العربية، وتخوين الأحزاب المعارضة للسلطة واتهامها بالعمالة للخارج، ولهذا تبذل كل ما في وسعها للترويج للإصلاحات السياسية المعلن عنها، باعتبارها تضمن استمرار النظام السياسي وبقاءه.

ب – أحزاب المعارضة: وهي تشمل تيارات مختلفة أيديولوجياً، فهناك أحزاب إسلامية (حركة مجتمع السلم، وحركة النهضة، وحركة الإصلاح الوطني، وجبهة العدالة والتنمية)، وأحزاب علمانية (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وجبهة القوى الاشتراكية، وحزب العمال)، وأحزاب وسطية (حزب جيل جديد، وحزب طلائع الحريات)، وغيرها من الأحزاب الجديدة التي تأسست حديثاً. إن ما يلاحظ على أحزاب المعارضة أنها غير منسجمة في ما بينها حول آلية التعامل مع السلطة؛ فهناك أحزاب رفضت المشاركة في المشاورات حول الإصلاحات السياسية والدستورية، مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وهناك أحزاب شاركت في المشاورات الأولى عام 2011، وقاطعت المشاورات الثانية عام 2014، مثل حركة مجتمع السلم، وهناك أحزاب أخرى شاركت في كل المشاورات السابقة الذكر، مثل حزب العمال. في المقابل، قامت جبهة القوى الاشتراكية عام 2014 بطرح «مبادرة الإجماع الوطني» على السلطة وأحزاب المعارضة معاً، لكنها لم تحدد مضمونها، ما جعلها تموت في مهدها حيث رفضتها جميع الأطراف.

وفقاً لهذا التصنيف، يتضح أن الأحزاب السياسية في الجزائر تفتقد التوافق في ما بينها من جهة، ومن جهة أخرى، تفتقد قوة المبادرة. وهي ضعيفة التأثير باعتبارها لا تملك القدرة على تعبئة الجماهير للضغط على النخب الحاكمة من أجل تطبيق مشروع إصلاح سياسي نابع من القاعدة الشعبية، أو على الأقل تفرض على السلطة تقديم تنازلات والتفاوض مع مختلف التيارات السياسية حول مشروع إصلاحي يشارك فيه الجميع.

لهذا، حاولت قوى المعارضة تدارك نقائصها بتشكيل قطب موحد لمواجهة السلطة الحاكمة، حيث كانت البداية في نيسان/أبريل عام 2014 بالإعلان عن تكتلين للمعارضة: سمي الأول «التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي» ويضم حركة مجتمع السلم، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وحزب جيل جديد، وجبهة العدالة والتنمية، وأحمد بن بيتور (رئيس حكومة سابق)، والناشط الحقوقي علي يحيى عبد النور. في المقابل، حمل التكتل الثاني اسم «قطب القوى من أجل التغيير» الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، ويضم 13 حزباً مسانداً له في الانتخابات الرئاسية لعام 2014.

توّجت أحزاب المعارضة نشاطها بعقد الندوة الأولى للحريات والانتقال الديمقراطي يوم 1 حزيران/يونيو عام 2014 بهدف بناء نظام سياسي شرعي وديمقراطي، يقوم على التعددية والانتخابات الحرة والمواطنة والشفافية وسيادة القانون. وحددت آليات تحقيق الانتقال الديمقراطي في التفاوض بين جميع الأطراف، وحكومة انتقالية توافقية، وإعداد دستور توافقي‏[25].

إن توجه أحزاب المعارضة نحو العمل المشترك يشير إلى اقتناعها باستحالة تحقيق إصلاح حقيقي من دون ممارسة الضغط على السلطة، واقتناعها كذلك بعدم قدرة طرف واحد على تحقيق ذلك. كما يلاحظ حدوث نقلة نوعية لدى هذه القوى، فهي لم تعد تطالب بالإصلاح السياسي فقط، وإنما تجاوزته إلى المطالبة بالتغيير والانتقال الديمقراطي، مع تأكيدها آلية العمل السلمي والتفاوض لتحقيق ذلك. لكن بعد مرور نحو سنتين من العمل المشترك، اكتفت أحزاب المعارضة بالبيانات الصحفية والاجتماعات في ما بينها، وعدم النزول إلى الشارع، وتالياً لم تشكل أي تهديد للسلطة، وفي بعض المراحل تختفي عن المشهد. هذا الجمود دفعها إلى التحضير لعقد ندوة مشتركة ثانية ستكون في أواخر آذار/مارس عام 2016 بهدف تفعيل أداء المعارضة، وإيجاد آلية للضغط على السلطة الحاكمة.

بعامة، ينبغي القول إن ظهور هذا الفضاء الجامع لقوى المعارضة في الجزائر، يمكن أن يشكل قوة دفع نحو الإصلاح الحقيقي بشرط تفاعلها مع الجماهير، والانتقال من المعارضة الخطابية في الصالونات إلى المعارضة الفعلية في الشارع، والحذر من تكرار الانقسامات والتنازع في ما بينها، والتركيز على النقاط المشتركة مع الابتعاد عن اختلافاتها الأيديولوجية وتجنب فرضها على الآخر. كما يجب على أعضائها التخلي عن عقدة الزعامة، وعدم التشدد في مواقفها، والابتعاد عن التعامل مع الوسطاء المفوضين للسلطة، بل يجب التفاوض مباشرة مع السلطة الفعلية وصناع القرار.

خاتمة

يبيّـن واقع التعددية الحزبية في الجزائر أنه لا يكفي السماح بتأسيس عدد كبير من الأحزاب السياسية لتغيير طبيعة النظام السياسي من الطابع التسلطي إلى الطابع الديمقراطي؛ إذ إن الممارسة السياسية في الجزائر تكشف بوضوح أن التغيير الذي حدث اقتصر على الجانب الشكلي والعددي فقط، لكن الممارسات الأحادية والتسلطية ما زالت سائدة على بنية السلطة الحاكمة، وعلى مستوى عملية صناعة القرار السياسي. وتالياً، فإن التعددية الحزبية السائدة حالياً هي تعددية مضمونة دستورياً وقانونياً، لكنها مقيدة فعلياً في الواقع.

إن نظام التعددية الحزبية المتبع في الجزائر هو نظام مشوَّه، باعتباره يركز على تضخيم عدد الأحزاب السياسية، لكنه في المقابل، لا يكرس التنافسية على مستوى العملية السياسية؛ فالعملية الانتخابية أصبحت روتينية تفرز النتائج نفسها، والأداء المؤسسي أصابه الجمود والضعف، سواء كان في البرلمان أو في الحكومة، إضافة إلى الغياب التام لمبدأ التداول على السلطة التي بقيت محتكرة في إطار نخبة ضيقة، ما جعل النظام الحاكم يعيش أزمة شرعية دائمة. لهذا، فإن التحولات الراهنة تفرض إعادة هندسة النظام الحزبي التعددي، وفق مبدأ التنافسية في السوق السياسية، الذي سيعيد إلى العملية الانتخابية المصداقية لدى المواطنين، كما أنه سينعكس إيجاباً على أداء النواب وأعضاء الجهاز الحكومي، وتالياً ستصبح شرعية الإنجاز هي أساس ممارسة السلطة مركزياً ومحلياً، وهذا بدوره سيعزز الاستقرار السياسي في البلاد.

 

قد يهمكم أيضاً  المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الجزائر: إشكالية الدور

للمزيد من الدراسات حول السلطة في الجزائر..إقرؤوا الفساد النسقي والدولة الاستبدادية: حالة الجزائر 1962 – 2016

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجزائر #الديمقراطية #التعددية_الحزبية #الأحزاب #الأحزاب_الجزائرية #التعددية_الجزبية_في_الجزائر #دراسات