مقدمة:

في صراع المجتمع الفلسطيني مع التسلّط الاستعماري السياسي والاقتصادي أخذت تتبدَّى الهيمنة الثقافية المكنونة بعنف الرأسمالية وتملُّق الليبرالية على «أطراف المركز»، ثم بدأت تطفو العلاقات الطبقية والاستعراضية تدريجاً داخل المجتمع الفلسطيني المستعمَر. ومنذ أكثر من قرن؛ أخذت تحوُّلات الهيكل الاقتصادي الفلسطيني تتمظهر شيئاً فشيئاً وعلى فترات زمنية متعاقبة. وفي صدد هذه التحولات، بدأت بواكير الارتباط الناشئ بين السوق الأوروبية والاقتصاد الفلسطيني تتحقق؛ أولاً على مستوى تصدير الإنتاج الزراعي إلى أوروبا واستيراد السلع المصنعة منها، وثانياً على مستوى تجارة الأراضي قبل دخول اللنبي القدس. وفي إثر محاصصة سايكس – بيكو عام 1916 بين الدول الكولونيالية لاستعمار الدول المنوي الهيمنة عليها، قررت بريطانيا ممارسة الانتداب على فلسطين، ونشطت حركتا الاستيراد والتصدير من فلسطين وإليها. وهي لم تكن نموذجاً منفرداً آنذاك، فقد كان هنالك الكثير من المستعمرات التي استهدفها الإنتاج الرأسمالي. كما رافق هذه الحركة عملية تلاعب ثقافية باستدخال التصورات العرقية المشحونة بنعرات «الرقي والتقدم والنهضة» الليبرالية الأوروبية، لتؤدي مهمتها في تَبيِئَة المجتمعات المستعمَرة بما يُواتي ظروف وعلاقات الإنتاج الرأسمالي. فوظفت أدوات العولمة وأبرزها وسائل الاتصال والإعلانات تحديداً لتلك المهمة، بما أن خطاب/سلطة الصورة الإعلانية برمزية دلالاته يجتاز الحدود الجغرافية كافة وفضاءات إنتاجها واستهلاكها المحلية.

لا يعني هذا أنه لم يكن هناك استهلاك في السوق الفلسطينية، لكن البنية الاقتصادية تحولت جذرياً من اقتصاد قائم على الاستهلاك المحلي للإنتاج المحلي – الزراعي، إلى استهلاك للإنتاج الصناعي المستورَد. ولم يكن الاستهلاك الفلسطيني من قبـل قائماً على استثارة الشهوات أو خلق حاجات زائفة بقدر ما كان تلبية للحاجة. ويمكن للإحصاءات عن الصادرات والواردات، من السوق الفلسطينية خلال حكم الانتداب، أن تُفسر هذا التحول. لكن إعلانات منتجات الدول الصناعية في الصحف الفلسطينية وقتذاك، أكبر دليل على تغلغل الإنتاج الرأسمالي في السوق الفلسطينية وربطها في المنظومة الاقتصادية الأوروبية – الأمريكية، ووضع دعائم الاستهلاكية الزائفة فيها.

أسفرت نزعة الاستعمار «الحضارية» عن هيمنة بريطانيا على القطاع الاقتصادي بالكامل بعد استعمار فلسطين، فحجّمت الصناعات المحلية وقضت على الإنتاج المحلي، فضـلاً عن أنها أطلقت حرية دخول بضائعها السوق الفلسطينية، وهو ما قلّص من عدد المؤسسات الصناعية الفلسطينية إلى حدّ كبير‏[1]. وفي شأن حرية مرور البضائع ودخولها إلى السوق الفلسطيني ورد في صك الانتداب (المادة 18): «يجب على الدولة المنتدبة أن تضمن عدم التمييز في فلسطين بين رعايا أية دولة من الدول الداخلة في عصبة الأمم (ومن جملة ذلك الشركات المؤلفة بحسب قوانين تلك الدول) ورعايا الدول المنتدبة، أو رعايا أية دولة أجنبية أخرى، في الأمور المتعلقة بالضرائب أو التجارة أو الملاحة أو تعاطي البضائع أو المهن أو في معاملة السفن التجارية أو الطيارات المدنية، وكذلك يجب ألّا يكون هناك تمييز في فلسطين ضد البضائع أو المهن، أو في معاملة السفن التجارية أو الطيارات المدنية، وكذلك يجب ألّا يكون هناك تمييز في فلسطين ضد البضائع التي يكون أصلها من بلدان الدول المذكورة، أو تكون مرسلة إليها، وتطلق حرية مرور البضائع بطريق (الترانزيت) عبر البلاد المشمولة بالانتداب بشروط عادلة»‏[2].

تُعبِّر هذه السطور عن شَرعنَة غزو المجتمع الفلسطيني وهيمنة رأس المال والتقانة الصناعية الأوروبية على أنماط الإنتاج التقليدية. وتؤكد آلية دمج فلسطين بالاقتصاد الرأسمالي وكيفية استتباعه له. وقبل أن أُدخِلت فلسطين في كوكبة رأسمالية الإنتاج والترويج والاستهلاك بالقوانين الاستعمارية «العالمية»، سمسرت بريطانيا والرأسمالية الغربية لربطها في منظومتها «الحداثية» المعولمة بواسطة الشركات عابرة القوميات، وبوصف فريدريك جيمسون الأكثر دقة «الرأسمالية متعددة الجنسيات»‏[3]. إنها تجمع ما بين شركات ودول توحدها العلاقات الإنتاجية الممكننة لتمتد لاحقاً إلى وجود استعماري مباشر من وراء احتدام وطأة التنافس التجاري والصناعي بين الشركات العابرة للقوميات، التي لا تنفصل بتاتاً عن دولها الأم. كذلك رافق هذا الربط الذي توارى خلف عساكر الانتداب وقوانينه وسياساته «أيديولوجيا الاستهلاك»‏[4]، وهي عملية تزييف لوعي المستعمَرين بما يكفل استمرارية تبعيتهم. هنا يتم تفكيك آليات التَبيِئَة الثقافية الأوروبية في المجتمع الفلسطيني، وكشف أساليب محاكاة مدركات المستعمَرين الحسية للهيمنة على سلوكهم، وذلك بتفحص أدوات العولمة «الحداثية»، التي مارستها القوى الاستعمارية على الفلسطينيين في عهد الانتداب‏[5]. ولا شك في أن تلك التغيرات المتسارعة والمتعددة الجوانب التي شهدتها فلسطين في القرن الأخير ظلت تُجدد ذاتها حتى اليوم.

أولاً: تسويق ما قبل الانتداب

في إطار الهيمنة على السوق الفلسطينية، وقبل الغزو البريطاني المباشر على فلسطين، روَّجت الشركات الأوروبية والأمريكية المتعددة الجنسيات لمنتوجاتها الصناعية في داخلها عبر الصحف الفلسطينية؛ التي تعد الوسيط الإعلاني/ الترويجي المرتبط بالنظام المعولم وبُنيته الرأسمالية. وتُعد إعلانات الصحف الفلسطينية ما قبل الانتداب نماذج مهمة لفهم بُنية السوق آنذاك ومَن يُهيمن عليها. والصحف كوسيط تسويقي؛ أداة عولمة بالدرجة الأولى، ولها أثر بالغ من جراء توظيفها في تطبيع المستهلك وتنميطه لتسهيل الهيمنة الاستعمارية المباشرة، وتكريس التبعية بكل أشكالها. ففي صحيفة فلسطين وفي إصداراتها الأولى عام 1911، بدأت الشركات العابرة للقوميات تُسوِّق لبضائعها في السوق الفلسطينية كالخمور؛ أبرزها إعلان بيرة تيبورغ لشركة Tuborg Beer عام 1911‏[6]، وإعلانات شركة نستله (Nestlé) للحليب وغيره، بالرغم من توافر الإنتاج المحلي منها في تلك الفترة، إضافة إلى منتجات أوروبية أخرى أُعلن عنها في ذلك الوقت (انظر الرسم الرقم (1)).

الرسم الرقم (1)

إعلان لشركة نستله (Nestle) عام 1913

المصدر: جريدة فلسطين،٢/٢٣ /١٩١٣.

 

ومن الإعلانات الأكثر إيحاءً وتأويــلاً لتجاوزها المعطى المباشر هي إعلانات شركة نستله السويسرية في جريدة فلسطين عام 1913. فإعلاناتها كانت تحمل خطاباً تمثيلياً – ثقافياً، ليس لمجرد تصوير طفلين بداخله، بل لحضورهما الجسدي في الصورة المرئية هذه، التي تُوحي بدلالة رمزية لها أبعادها وأهدافها، أما الصياغة الكلامية فلها وظيفتها وإيماءاتها الرمزية كذلك.

إن شكلانية «طرزان» نستله، تظهر المبالغة في الطاقة التي يمنحها هذا المنتج الصناعي للجسم، لما تقدمه من معطى متناقض في هذه الصورة البصرية الثابتة المستغلَة في الإرساليات الإعلانية، أي أنها مشهد بلاغي كامن في «التناقض أو التعارض»‏[7]. كما أن «طرزان» نستله يُضمر التمثيل العرقي للسكان الأصليين بالدرجة الأولى، فقد تم تصوير طفل أبيض البشرة/اللون بلباس «طرزان» – الشخصية الأوروبية ذات البشرة الشقراء. وهذا تمثيل بصري يدفع المستهلك أو المتلقي نحو الافتتان بقوة المنتِج من جراء تخييله الطاقة المهولة والقوة التي ستمنحه نستله إيّاها. إن هذه الإحالة على التمييز العرقي بمنزلة إسقاط ضمني لشخصية الرجل الأبيض على صورة الطفل. فقد أصبح «الجسد هو الممر الضروري نحو استجلاء حالات العرض والتداول. فعبر المرئي والظاهر، أي عبر الجسد العارض، يأتي المعروض إلى المتلقي ممزوجاً بحالات يسكنها المتخيَّل والثقافي والاجتماعي وكل ما يخبر عن وضع حضاري ما»‏[8]. وهو أحد أنماط استدخال الإنتاج «الغربي» والنمط الثقافي إلى جانب الصناعي لمجتمع فلسطين في «الشرق» تبعاً للتصنيف الأوروبي للعالم. وهو مسوِّغ من مسوِّغات الخطاب التمثيلي و«الاستشراق الكامن الذي شجّع على نمو تصور ذكوري شاذ للعالم»‏[9].

ثمة إيحاء دلالي في صورة الفتاة التي تحمل شوكلاتة نستله، حيث يُعيد إنتاج نمط من أنماط السلوك والتصور ضمن تصنيفات النوع الاجتماعي في سياقها الثقافي. وتشتغل بعض الإشهارات البصرية على المضامين الثقافية ونسق العلاقات القائمة، فهي لا تكتفي بالترويج للسلع، بل تُسرب «المنتوج ضمن وضع إنساني مألوف يتماهى فيه كل مستهلك»‏[10]، لأن «الصورة الإشهارية ليست مجرد وصف لمنتوج، إنها تحديد لعلاقات وأنماط للسلوك»‏[11]. إضافة إلى ذلك هناك استعارات رمزية داخل الوصف اللفظي إلى جانب البصري. ففي الوقت الذي كانت فلسطين لا تزال تحت الحكم العثماني، كُتِب في إعلان نستله أعلاه، أن «شوكلاتة حليب نستله التي تُفضل على كل شوكلاتة في تركيا». إنه خطاب يتعدى حدود المتاجرة إلى الحدود السياسية ليُضمر التفاوت الحضاري، ولم يكتفِ بذكر محاسن السلعة ووظائفها، فمن إيماءاته أن يُفاضل ويُقارن المنتِج بين ثقافة و«حضارة» وأخرى لا أن يمايز بين سلعته وسلعة شركة أخرى، كي يُقنع المستهلك بتفوقه الثقافي و«الحضاري» على غيره، مع اشتداد حركة الاستعمار الرأسمالي الأوروبي لدول العالم، وجذب وإحضار المستهلك إلى عوالم الاستيهام والرغبة بحاجته إلى هذا المنتِج والمنتَج. علاوة على ذلك، تنطوي كيفية استخدام أطفال في الإعلان تحت استغلالهم كمستهلكين، ليتم ربطهم بهم كزبائن، آخذين في نصيحة علماء النفس بأن أي اهتمام يبدونه للأطفال يربط الأم بمخزن البيع‏[12].

وقد استدعت بُنية النظام الرأسمالي الاحتكارية والعلاقات الكولونيالية في المناطق المتنازع عليها، وضع هيكلية موائمة لتشغيل حركتي استيراد وتصدير السلع، وتهيئة المجتمعات لاستهلاك إنتاجه بتسخير عولمة الإعلام والاقتصاد. فلم يكن بناء السكك الحديد والموانئ وتعبيد الطرق سوى تسهيل لحركة رأس المال السلعي والنقدي معاً باتجاه المستعمَرة. ولم يكن استخدام وسائل الاتصال الجماهيري إلا لخدمة ونشر أسلوب حياة وثقافة القوى البشرية المهيمِنة/الاستعمارية التي تعتبر نفسها «حضارية».

وفي إثر هيمنة الانتداب على فلسطين انعطف مسار اقتصادها انعطافاً حاداً وجذرياً مقارنة بالعهد العثماني، فأسّس الاستعمار البريطاني بُنية تحتية لتسهيل حركة النقل والتجارة، واحتلت بريطانيا مكان الصدارة بين الدول المصدرة إلى فلسطين‏[13]. فقد بلغت نسبة الواردات من بريطانيا إلى فلسطين نحو 25 – 40 بالمئة منذ عام 1920 وحتى عام 1929، حيث بلغت قيمتها عام 1920 نحو 2.186.865 جنيه استرليني وارتفعت في العام التالي، إلا أنها انخفضت نسبياً في الأعوام اللاحقة‏[14].

ثانياً: الترويج الحميمي – الثقافي

أخضعت الدول الكولونيالية المجتمعات المستعمَرة لقوانين حركة الإنتاج والترويج والاستهلاك؛ وهي قوانين وضعتها السلطة المركزية المهيمنة على السوق العالمية بقيمها وخطابها وشروطها السياسية والثقافية والاقتصادية على حدٍ سواء، بما في ذلك أنماطها الاجتماعية. ورأت رأسمالية الاستعمار أن فلسطين مكان مناسب لها. فهنالك الكثير من المنتجات الإنكليزية/الأوروبية والأمريكية التي اجتاحت السوق الفلسطينية المنتدبة، ورُوِّج لها من خلال الإعلانات في الصحف الفلسطينية الصادرة وقتها. وبعض المنتجات أعلنت عنها الشركات العابرة للقوميات، والأخرى أعلن عنها التجار، وفي كلتا الحالتين تظهر بالصورة التي يُريد الرأسمالي تصويرها.

هذا على صعيد الإنتاج والترويج، بينما على صعيد الاستهلاك الذي يبدو نشاطاً طبيعياً، وتلبيةً لحاجات البشر الطبيعية ورغباتهم الإنسانية، بعيداً من منظومة الاستهلاك الرأسمالي للسلع المنتجَة، فالسلع الاستهلاكية/الرأسمالية تعمل على استثارة رغبة الناس في التملك، بعد التفنن في تصويرها والإعلان عنها وتسويقها أمام المستهلكين حتى «تتملكهم شهوة السوق»‏[15].

يقول ماركس: «إذا استهلكت البضاعة من جهة الأفراد، فقيمتها تزول بالاستهلاك؛ وإذا استهلكت للإنتاج بشكل تكون هي نفسها فيه مرحلة من مراحل إنتاج البضاعة التي تكوّن الشيء المنقول، فقيمتها تنتقل إلى البضاعة نفسها كقيمة إضافية لها»‏[16]. هناك أمران مهمان تتم الإضاءة عليهما هنا من خلال التركيز على ميكانيزم الإنتاج الرأسمالي، وعلى كيفية بلورة الخطاب الاقتصادي السياسي الثقافي الأوروبي – الأمريكي في فلسطين الانتدابية. الأمر الأول، هو تزييف الوعي، وخلق مجتمع استهلاكي – تابع للإبقاء على الهيمنة الاستعمارية. والثاني، يكمن في تَبيئة المجتمع الفلسطيني وفقاً لبُنية «الحضارة الأوروبية»، وترسيخٍ أيديولوجيا السوق الرأسمالية، بالترويج لهما عبر نشر صور إعلانية ذات دلالات ومعانٍ لها أبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية. والإعلانات لا تُستغل فقط للتسويق لمنتجات الدول الصناعية وتدويل الأسواق، وإنما لترسيخ وتأكيد أنماط ثقافية وقيم صنعتها الدول الكولونيالية.

من المنتجات المعلن عنها بكثافة منتجات شركة «كولغيت بالموليف» (انظر الرسم الرقم (2)). وتظهر امرأة إنكليزية بيضاء في الصورة، ونُشر فيه «سيدات الإنكليز قد علَّمن العالم سِر احتفاظهن بجمال الطبيعة وفتنة هذا الجمال فائقة»‏[17]. ومع ربط الجمال بسيدات الإنكليز، يصف الإعلان المرأة الإنكليزية ذات الشعر الأشقر بأنها المرأة الجميلة‏[18]، المتألقة، ذات البشرة البيضاء والنقية. إن توظيف مثل هذه الصيَغ والصور له أبعاده السياسية والثقافية، التي تحيل إلى تحيزات واستيهامات استشراقية، وقد يتبادر إلى ذهن المتلقي بأنها أيقونة الجمال ونموذجه. أما النقاء الإنكليزي، فهو يومئ إلى نقاء العرق. ولم تنفرد تلك المرأة البيضاء في عرض المنتج الصناعي، فيرافقها الرجل الأبيض في إعلانات أخرى للشركة، وهي في كلتا الحالتين دليل على التمييز البيولوجي للرجل الأوروبي – الأمريكي «المتحضر». فالصورة والجمل المذيّلة لها تُمرر خطاب التصنيف الجنساني – الإثني – الهوياتي للبشر، وتُعيد إنتاج خطاب التمايز البشري الذي روَّجت له أوروبا وأمريكا في استباحة استعمار المشرق العربي، وفلسطين.

الرسم الرقم (٢)
إعلان شركة بالموليف (Palmolive) عام ١٩٣٣

المصدر: جريدة فلسطين، ١٩٣٣/٧/١٣.

إن تمرير مثل هذه الصور في الإعلانات غير عبثي، وإنما مُنتقى ومقصود، لأن صورة امرأة ورجل في تصميم «كولجيت»‏[19] الإعلاني يوحي بالحميمية الجنسية. وإرساليات كولجيت – بالموليف هي مشاهد حميمية تُحاكي الغرائز وتستحضر الفعل الجنسي بتصوير وضعيات تُوحي بالإثارة. حيث يمثل فيها العارضان أدواراً حميمية يُحاول ترغيب المتلقي وتحبيبه بالمنتج ليس لأنه يحتوي على بودرة ناعمة أو لقدرته على التنظيف، وإنما لاستثارة وتهييج رغباته باللذة الجنسية (الرسم الرقم (3)).

إحدى آليات «الإقناع السرّي»‏[20] في الإشهارات، التركيز على الحميمية بين الرجل والمرأة أو الزوج وزوجته. والاستيهامات الجنسية كما يوضحها بنكراد في تحليلاته لآليات التواصل الإشهاري تُوظَّف باستمرار في الإعلان عن السلع. ففي الإعلان آنفاً، تبرز كيفية توظيف واستخدام الإيهامات والإثارات الجنسية في تسويق منتج «بالموليف». إن أول ما يستحضره المتلقي في ذهنه مدلول السلعة الاستيهامي والتخيّيلي الذي يستثير بواعث المتعة الجنسية. ولا يشتري المستهلك السلعة لوظيفتها الأساسية، كشراء معجون كولجيت لتنظيف الأسنان، لكنه يقتنيه للفعل الجنسي المتخيَّل وتمثيله‏[21]. ويُطلق على عملية تحفيز المستهلكين هذه «التكييف/التعديل السلوكي»‏[22]. وتكمن خطورة إعلانات السلع الاستهلاكية في حبك تصوّر جاهز عن طريقة استهلاك المنتَج في الوعي الباطني للمستهلك، وتغيير سلوكيات المستهلكين بالتلاعب في استجاباتهم العاطفية.

الرسم الرقم (3)

إعلانات شركة كولجيت (Colgate ­– Palmolive) عام 1933

المصدر: جريدة فلسطين، 19/5/1933. انظر كذلك إلى إعلان بالموليف في: جريدة فلسطين، 6/5/1934؛ 28/5/1935؛ 2/9/1933، و4/8/1935.

غالباً، تُستغَل المرأة في الإعلانات كعارضة للسلعة، ويتم تصويرها بوضعيات مُثيرة جنسياً، كصورة العارضتين في إعلان كريم بوندز (Pond’s). لقد أطلق براين كي على إعلانات كهذه «المحفزات/التقنية اللاشعورية»‏[23]، كونها تعمل على خلق اشتهاء السلعة والحاجة لها بتضمينها الإثارة الجنسية‏[24] (الرسم الرقم (4))، إذ يتم تصوير المرأة في إعلانات السلع، وتُوظّف فيها تقنية أسماها براين كي «التضمين الخفي»؛ المحمَّل بـ «المحفِّزات الخفية»‏[25] والمضمرة بالانطباعات الجنسية. ويحدث الإحساس بالحاجة إلى الشيء عند رؤيته، والإنتاج الرأسمالي لا يخلق الشيء للشخص فحسب، ولكنه يخلق أيضاً شخصاً للشيء. فالإنتاج يولد الاستهلاك، بتزويده بالمواد؛ وبتحديد طريقة الاستهلاك؛ وبتأجيج الحاجة لدى المستهلك إلى استهلاك منتجات سبق أن صورها الإنتاج كأشياء‏[26]. تُعرف هذه الميول بالنزعة الاستهلاكية، بعد أن يُكيِّفها الإنتاج الرأسمالي وخطابه في لاوعي المستهلكين لاستمالتهم وإيهامهم بضرورة اقتناء هذا المنتَج أو ذاك المنتَج، وخلال تلك العملية الميكانيكية يخرج المستهلك من حالته التخيليّة إلى ممارستها كفعل بعد الشراء، فتُنشئ تلك العملية ما يُسمى «الاستهلاك الزائف».

الرسم الرقم (٤)
إعلان شركة بوندز (s’Pond) عام ١٩٣٣

المصدر: جريدة فلسطين، 25/8/1935.

ثالثاً: أيديولوجيا «العولمة»

إن التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي قائم على تناقض متصاعد بين مراكزه وأطرافه، أي ظل يتسم بطابع استعماري تجلى في استقطاب متواصل ومتزايد، كما أن عالمية الرأسمالية رتبت ثقافة جديدة خارج الحدود القومية، ذات طابع رأسمالي أطلق عليها سمير أمين «ثقافة العولمة»‏[27]، لكن فريدريك جيمسون سماها «ثقافة الأثرياء»‏[28]. وبدلاً من الحدود الثقافية، الوطنية والقومية، تطرح أيديولوجيا العولمة حدوداً أخرى، غير مرئية، ترسمها الشبكات العالمية بقصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك‏[29]. تلك الشبكات وبحسب إريك وولف، تمخضت عن التوسع الأوروبي ونمو نظامه الرأسمالي الذي أفضى إلى خلق سوق ذات أبعاد عالمية عن طريق إحداث تغييرات نوعية ليس في نمط الإنتاج السائد فقط، وإنما في الشبكات التجارية المرتبطة به أيضاً، التي باتت الآن في خدمة عملية التراكم الرأسمالي‏[30].

وتعد شركة «غوديير» (Goodyear) أحد أبرز الشركات ذات الأبعاد العالمية التي تواصلت إعلاناتها في الصحف الفلسطينية. وفي التمثيل الصوري لهذه الشركة الأمريكية العابرة الحدود، يظهر شخصان من بين ثلاثة بيض – بالتركيز على ملامح الوجه ولون البشرة – يرتديان لباس أثرياء. فتعكس الإعلانات نزعة امتلاك «العلم» و«التحضر»، وأن ذاك هو عقل أوروبا «الحداثي» المتقدم القادر على الإبداع والتطور (الرسم الرقم (5)).

الرسم الرقم (5)

إعلان شركة (Goodyear Tire) عام 1936

المصدر: جريدة فلسطين، 21/2/1936.

 

وبتسويق هذا الإنتاج الصناعي المتطور استطاعت الدول الاستعمارية اجتياح دول العالم. فالعولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضاً وبالدرجة الأولى، أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم. وهي عبارة عن نظام، أو نسق ذي أبعاد تتخطى دائرة الاقتصاد، وهي الآن نظام عالمي، أو يُراد لها أن تكون كذلك، ويشمل مجالها المال والتسويق والمبادلات والاتصال كما يشمل السياسة والفكر والأيديولوجيا‏[31] الرأسمالية والليبرالية. وبذلك فهي مرحلة متقدمة أتاحت للدول الأوروبية التهام الأسواق المحلية والتوغل في كل الكيانات السياسية، بداية من بريطانيا، وإلى جانبها دول أوروبا الصناعية الكبرى، ولاحقاً امتدت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فقد أصبح تصدير رأس المال الحالة النموذجية في الرأسمالية الحديثة التي تسودها الاحتكارات‏[32]. لذا لا يمكن فصل مبدأ السوق الاحتكارية عن الرأسمالية التي وُضعت في سياق عالمي مُعولَم ومُؤدلَج، تُحركه شبكة من الشركات عابرة القوميات وتتحكم في وسائل الاتصال والتواصل.

لم تكن «العولمة» ظاهرة حديثة في تاريخ الرأسمالية، بيد أنها دخلت في مرحلة جديدة من تطورها وتعمقها‏[33]. لذلك يجب لفت النظر إلى أن هناك تسمية أخرى للعولمة هي «الأمركة»، كونها استعماراً جديداً من جانب الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالم اقتصادياً وثقافياً – إعلامياً، إضافة إلى الهيمنة العسكرية والسياسية. ولا يمكن تجاهل تلك الهيمنة أو استبعادها، لكن الاستعمار الأمريكي قالب جديد صنعه المستعمِرون – الأوروبيون أنفسهم من مستعمَراتهم في أمريكا، بعد أن أبادوا سكانها الأصليين واستولوا على المكان. وقد أدرك أنطونيو غرامشي، المفكر الإيطالي، أننا: «لسنا في حالة طريقة الحياة الأمريكية… وإنما بصدد الانتشار العضوي للحضارة الأوروبية التي تزداد قوة. كل ما هنالك أنها ارتدت ثوباً جديداً يناسب المناخ الأمريكي»‏[34].

لقد هيمنت قوى الرأسمالية على الاقتصادات المحلية المرتكزة على مبادلات تجارية معلومة وبسيطة ودمَّرتها، وكان من ضمنها الفلسطيني. فإحلال عولمة «حداثية» في الأسواق الخارجية، ولَبْرَلَتها، أتى لتقويض أي تحرر قومي أو وطني، لإبقاء شعوب العالم أو «الأطراف» تابعة «للمركزية الأوروبية – الأمريكية» واقتصادها الرأسمالي. كما تم تسخير عولمة إعلامية جنباً إلى جنب الاقتصادية من جانب الشركات الأوروبية والأمريكية العملاقة. وساهمت تلك الشركات في تعزيز الاحتكار الرأسمالي العابر للحدود والثقافات، والساعي إلى إخضاع ودمج العالم في كوكبته بتحديث كل آليات العولمة والإعلام. ومثلت وسائل الاتصال إحدى أهم أدوات العولمة الرأسمالية؛ فقد عمَّمت الثقافة الاستهلاكية التي تحيل على إضفاء الطابع الغريزي على أساليب الحياة. في حين ظهر دور الإعلام على نحوٍ أخَّاذ في تصوير السلع الاستهلاكية للشركات العابرة للحدود. وتم استخدام الإعلان بصورة لافتة لفاعليته في التواصل مع الجماهير وقدرته على تزييف الوعي.

إن الإعلان فاعل تواصلي هام يتكون من صورة أو مجموعة من الصور في الترويج لسلع المؤسسات التجارية والصناعية، وتوظف الصور بكل أنواعها وتقنياتها لإتمام التفاعل. ويُعرَّف جاك أمون الصورة بأنها «غرضٌ مُصطنع واصطناع مُتعمّد»‏[35]. وبالتالي فالصورة الإعلانية صناعة تحمل رموزاً ثقافية تشتغلها المؤسسات العابرة للقوميات، بحيث تُعيد عبرها توجيه المدركات الحسية والسلوك الإنساني نحو الاستهلاك، وإعادة ترتيب العلاقات داخل المجتمع. لذا قيل إن الإعلان هو السلطة الهادئة التي تمارسها هذه المؤسسات التجارية، لضمان استمرار وجودها وتنافسيتها وحريتها التي باتت محمية من السلطة نفسها‏[36].

ومن نماذج إعلانات الشركات متعددة الجنسيات، إعلان كويكر أوتس، المروَّس بـ: «الجمال الذي لا يُريد تصنّعاً»، أسفل وجه السيدة البيضاء، وتعني «أنا أبيض يعني أني أملك الجمال والفضيلة»‏[37] (الرسم الرقم (6)). فالإعلان يُشهر ويروِّج للثقافة/الحضارة البيضاء بوصف فانون. وهذا مدلول من المدلولات المضمرة في إعلانات السلع الأوروبية والأمريكية. وتبعاً لتأويل بيرنارد كاتولا فإن الإعلان يقدم رواقاً من البورتريهات وأساليب الحياة التي تُبنيِن المجتمع وتقدم «صوراً عن الأنا» يتماهى معها الجميع، ويتعلق الأمر بنماذج سوسيو – ثقافية مرجعية: أن تشتري منتجاً معناه أنك تشتري هوية‏[38].

الرسم الرقم (٦)
إعلان شركة كويكر أوتس (Oats Quaker) الأمريكية عام ١٩٣٣

المصدر: جريدة فلسطين، 5/1/1933.

للإعلان سلطة مزدوجة كذلك، ليس فقط لأنه يقوم بـ «تطبيع أساليب حياة المستهلكين»‏[39] وفقاً لكاتولا، وإنما لخصوصيته أيضاً – بِقول فيصل دراج – في: «التحريض والحجب: تحرّض على شراء المألوف الذي يبدو في الإعلان غير مــألوف، وتحجب الحاجات الأساسية بحاجات نافلة لا ضرورة لها، ذلك أن الحاجة الأساسية يحددها الإعلان لا غيره. لهذا تكون جمالية السلعة، أو التصنيع الجمالي للسلعة، الذي يلغي ولادتها الطبيعية بولادة مصنوعة، شرطاً لازماً لتوليد أيديولوجيا الاستهلاك، طالما أن مضمون الحاجة من شكل الوجوه الناعمة الرائقة التي تعلن عنها، وذلك في جدل غريب يُشخصن السلعة ويسلّع الإنسان المعلن عنها في آن. وواقع الأمر أن في الإعلان ما يسلّع «البضاعة» والمعلن عنها، بعد أن تحول الى بضاعة يومية أخرى. فهذا المعلن، دائماً، وسيم رشيق القامة حداثي اللباس مكتمل الأناقة، مثلما أن المعلنة، دائماً، جميلة باهرة الجمال»‏[40].

«ابدي على أجمل حال» في إعلان يانتسن (Jantzen) لملابس السباحة، يقول الإعلان عن لباس السباحة إنه «يُكمِّل قوامك ويُجمّله». في أغلب الإعلانات تتم «صناعة الجمال والموضة» أثناء ربط الجمال بالسلعة، وربط السلعة بالمرأة؛ السيقان الممشوقة والرشيقة، وربط المرأة بالمنتِج. إنها العولمة الرأسمالية التي بدأت بـ «صناعة الفرجة»‏[41] الساعية لتجسيد فكرة الجمال المقترن بالعرقية و«التقدم الحضاري» (الرسم الرقم (7)).

الرسم الرقم (٧)
إعلان شركة يانتسن (Jantzen) عام ١٩٣٥

المصدر: جريدة فلسطين، 28/7/1935.

رابعاً: شيفروليه وفورد والاستعراض الثقافي

داخل المنظومة الرأسمالية، حدث تنافس مثيل للتنافس الاستعماري بين الشركات العابرة للقوميات. فقد كان التنافس الأكبر بين شركات صناعة السيارات الأوروبية – الأمريكية، وإعلاناتها في الصحف الثلاث (الكرمل، فلسطين، الدفاع) تعد الأكثر إثارة للاهتمام، فتكشف عن حدة التنافس الرأسمالي الاستعماري على السوق الفلسطينية، ومدى الاستعراض الثقافي للدفع على الاستهلاك الاستعراضي بمفهوم جي ديبور.

أول سيارة فورد أُعلن عنها في جريدة فلسطين عام 1921‏[42]. وشهدت سوق الإشهار الفلسطينية تنافساً كبيراً بين إعلانات شركتي فورد وجنرال موتورز (General Motors) وبخاصة شفروليه (Chevrolet)‏[43]. وقد قدمت الشركتان إعلانات السيارات في عدة صور، ومع أن فورد قدمت منتجاً ثقافياً في كثير من الأحيان، لكن شركة جنرال موتورز اعتنت أكثر من فورد خلال عرض إرسالياتها بالترويج الثقافي. تُوحي إعلانات السيارات إلى امتلاك المستهلك القوة عندما يشتري تلك السلعة، التي تدفع المستهلك إلى «الشعور بالهيمنة والتفوق وهو ما يبرر اقتناء السيارة لا مجرد الرغبة في التنقل من مكان إلى آخر»‏[44] (انظر الرسمين الرقمين (8) و(9)).

الرسم الرقم (٨)
إعلان لسيارة فورد عام ١٩٣١

المصدر: جريدة فلسطين، 7/2/1931.

وفي كنف التنافس الإعلاني المهول بين شركات السيارات، تُروِّج كل منها على أنها الأكثر فخامة ونفعاً بأقل تكلفة، وكأنها وُجدت لتلبية حاجات المستهلكين. وهذه النماذج تُجيب عن تساؤل ماركوز عن ماهية الحاجات التي يُلبّيها المجتمع الصناعي وما إذا كانت حقيقة أم كاذبة، وتؤكد إجابته. فرأى أنها ليست حاجات إنسانية وتلقائية وإنما حاجات مصطنعة اصطناعاً ومفروضة فرضاً، حيث قال «إنها حاجات وهمية من صنع الدعاية والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري»‏[45]. تتسلل تلك الرغبة والشهوة لاقتناء السلع الاستهلاكية للجمهور من خلال أساليب تسويقية وترويجية متعددة بهدف إغوائهم وإقناعهم وأهمها الإعلان التجاري، وضمن هذا التسلل تُمرر تلك الشركات العابرة للحدود خطابها الثقافي المتمثل بعملية التنميط الأوروبي – الأمريكي، المرجو منه الحفاظ على محرك الإنتاج الرأسمالي وتراكم رأس المال الذي يُؤمِّن لفئة البرجوازيين بقاء برجوازيتهم.

الرسم الرقم (9)

إعلان لسيارة شفروليه عام 1933

المصدر: جريدة فلسطين: 27/5/1933، و12/12/1933.

وتُصوِّر الشركات صناعة السيارات الرأسمالية على أنها بُنية الدول الصناعية الحديثة، ومجتمعاتها «المتحضرة». ففي إعلانات سيارة شفروليه تتكرر مشاهد نمط ولربما «رُقيّ» المعيش الأوروبي – الأمريكي، لأنها تحمل قيماً ضمنيةً فيها إيماء إلى الحياة ذات الطابع البرجوزاي. وتستند الإرساليات البصرية تلك إلى ازداوجية في التدليل تجعل المنتوج يتأرجح بين مظهر مادي هو موضوع الاقتناء وهدف الإشهار، وبين الكون القيمي الذي يختزنه هذا المنتوج ويُعد رمزاً له‏[46]. تعمل الإرسالية الإعلانية هذه على إعادة بناء الواقع بناءً على ما تحدده الوظيفة الرمزية للغة البصرية المستَثمرة والمستَغلة في الحثّ على تبَنّي وتمثيل نسق القيم الليبرالية الأوروبية – الأمريكية وفي الوقت نفسه تشكيل وتمثيل قيمهم وثقافة استهلاك منتجاتهم.

وأنْ يُصوّرَ أسلوب وشكل حياة الوافدين من أوروبا وأمريكا، يعني إعداد وتهيئة المقيمين والمتلقين المستهلكين لقبولها وتبنِّيها. لذلك فإن ركوب السيارة الجديدة من شفروليه «يُقدم لكم مظاهر وعمل سيارة كبيرة بأثمان مخفضة للغاية»‏[47] (الرسم الرقم (10)).

الرسم الرقم (١٠)
إعلان سيارة شفروليه عام ١٩٢٨

المصدر: جريدة الكرمل، 10/6/1928.

يتضح من صور العارضين المظهر الراقي، والشخصية الأوروبية البرجوازية الإنكليزية التي ترتدي لباساً راقياً. تُدعى هذه الحالة «التشخصن»‏[48] ما بعد الشراء، الذي يضطلع بدور العارض الثقافي الطبقي مثلما يصفها جان بودريار. حيث تتكرر هذه الترسيمة الإنكليزية – الأمريكية في معظم الإعلانات حيث رُسمت من عدة اتجاهات، بالعناصر والمكونات نفسها التي تحيل على دلالات الأبيض، البرجوازي ذي القبعة، المتمدن في سلوكياته، والمتميز في جماله. إن المشاهد الإعلانية هذه تسعى لتَبني تخييلات لدى المتلقي – الفلسطيني، بما تختزنه من إيحاءات هدفها أيقَنَة صورة الأوروبي – المستعمِر. وقد أومأت جميع هذه الصور إلى «النهضة العقل» الصناعية والتقدم الأوروبي – الأمريكي، فالجانب «النهضوي» للمستعمِر تمثَّل في تفرد العارضين ذوي العرق «الأبيض المتحضر» فقط. وقد بدت واضحة عملية أسطرة نمط المعيش الثقافي والاجتماعي الأوروبي – الأمريكي؛ نمط الاستهلاك والملكية والسلوك الليبرالي.

صنعت الشركات العابرة للقوميات ما يلائم جغرافيات المستهلكين، وطبوغرافيتها. فمن الإعلان أعلاه تبين أن جنرال موتورز تسعى لتوسيع دائرة الاستهلاك، ولكنها تقنع المستهلك بأنها تهتم براحته من خلال تطوير ما يخدم بلده طبوغرافياً. وعندما رُوِّج في الإعلان بأن السيارة الجديدة «تجتاز الأراضي المغمورة بالمياه والصحاري وتتسلق الجبال»‏[49]، مع التركيز على قارتَي أوروبا وأفريقيا ومنطقة الخليج العربي، فالمراد منه تَبيئة السلعة ومستهلكها (الرسم الرقم (11)).

الرسم الرقم (11)

إعلان لسيارة شفروليه عام 1928

المصدر: جريدة الكرمل، 3/9/1928.

وتُركز الخريطة أعلاه على التقسيم الاستعماري لجغرافية العالم، كأن تسير السيارات من القارة المتقدمة صناعياً باتجاه القارات الأخرى كقارة أفريقيا والخليج العربي بصورة أساسية. وما يُثير الانتباه هو الربط بين عبور الشركة للحدود، وتصوير العبور في خريطة تعكس الهدف ذاته؛ أي سيطرة قوى رأس المال على الطبيعة وقاطنيها. وفي الإعلان أدناه (الرسم الرقم (12)) سيارة فوكسهول على رسم جغرافي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط يُبين أن السيارة قادمة من بريطانيا باتجاه فلسطين. كما الإعلان أدناه الذي يظهر فيه سيارة شفروليه لرحلات الاستكشاف يركبها بيض؛ إنها «صناعة فرجة» بدافع الاستعمار.

الرسم الرقم (12)

إعلان لسيارة فوكسهول عام 1932

المصدر: جريدة فلسطين، 18/5/1932.

خامساً: «البرجوازية» العابرة للحدود

إن كثافة الإعلانات لسلع ومنتوجات متنوعة لها دلالة على غزو المنتجات الأوروبية – الأمريكية، والبريطانية بالذات. وفي معظم الإعلانات كان هناك تكريس لدور الطبقة العليا الرأسمالية ولنمط الحياة الرأسمالي وشروطه الاقتصادية الذي يجرّ وراءه الطبقات. وتُجسد الإعلانات الطبقية بالرغم من أنها لا ترى فوارقها، ثم تضعها في مشهد افتراضي يدفع بالمستهلك إلى الاقتداء بمن يملك سيارة فورد أو شفروليه، وإن لم يستطع ذلك يرى أن مَنْ يملك هذه السيارة أو تلك يحظى بمكانة أعلى، مما يعزز القيمة المادية للملكية.

ويظهر في مجموعة المشاهد في صورة إعلان سيارة شفروليه أفكاراً ليبرالية بالنسبة إلى المجتمع الفلسطيني الذي يُشكِّل الفلاحون أكثر من ثلثَي سكانه. إن صور النساء والرجال وسلوكياتهم في جميع مظاهرهم البارزة في الصور تعكس مثال المرأة المدينية الأوروبية – الأمريكية وكذلك الرجال؛ البرجوازيين، بلباسهم وأسلوب معيشتهم.

وتحمل إعلانات السيارات تناقضاً هاماً، يتمثل بما هو معلن عنه بالكتابة وما هو مُوحى به في الصور. تروِّج شفروليه باستمرار على أنها رخيصة الثمن وقليلة التكلفة، مقابل ذلك يركبها أثرياء. صحيح أن الإنتاج الرأسمالي «فتح» أسواقاً تنافسية وإرسالياته الإعلانية موجهة للفقير والغني، لكنه في نفس اللحظة يطرح ثقافة الطبقة البرجوازية.

يتمظهر المظهر البرجوازي لركاب أو سائقي السيارات بوضوح في مدلولات الإعلان، وهي إشارة إلى أن البنية الطبقية للمجتمع الرأسمالي خرجت في ركاب تصدير السلع من المركز نحو المستعمرات. وهذه الصور الإعلانية هي إشارة إلى أن هناك تصديراً للحياة البرجوازية، بالترويج والتسويق للأفكار الليبرالية المرافقة للسياسات الاقتصادية الرأسمالية جنباً إلى جنب. إن المجتمع الفلسطيني لا يخلو من الطبقية، لكنها طبقية أرستقراطية، وليست برجوازية، ولن يكون هناك استهلاك وتراكم لرأس المال من دون نقل نمط حياة البرجوازية الرأسمالية (الرسم الرقم (13)).

الرسم الرقم (13)

إعلان لسيارات شفروليه عام 1936

المصدر: جريدة الدفاع، 28/2/1936، وجريدة فلسطين، 25/2/1936.

لقد زاوَج الإعلان بين الخطاب اللفظي وغير اللفظي. وهنا يتلقى المستهلك خطابَين، خطاب اقتصادي وآخر ثقافي، تتشابك آليات اشتغالهما دائماً. إن الدال اللفظي مثل شعار «كل هذه المميزات بأثمان شفروليه المنخفضة» يستدعي التفكير بمقارنة السيارة مع غيرها في سوق تنافسية: مبدأ عمل السوق الرأسمالية. والمدلول الرمزي الأيقوني‏[50] يتمثل بصور برجوازيين يشعرون بالسعادة لاقتناء هذه السلعة المتطورة؛ وفي كلتا الحالتين تروّجان لِـ «الخطاب الذي يجب أن ننصاع له باعتباره يمتلك السيادة»‏[51]، كما أن هذا التمييز لا ينفي الغاية الرأسمالية الكولونيالية من الترويج والتسليع وهمينة أيديولوجيا الاستهلاك.

بصيغة أخرى، إن وظيفة الإعلان المصرَّح بها؛ هي ارتباطه بنظام اقتصادي رأسمالي يتميز بالوفرة ويحتاج إلى تسويق بضائعه، ويقوم باستغلال المستهلك، بينما الوظيفة غير المبثوثة في مظهره المادي تكمن في الطريقة التي يُقدَّم بها، عدا كونه النمط الحياتي الذي يقود إلى المزيد من الاستهلاك، ويجعل من المنتج مستودعاً للقيم‏[52]، وللمستهلك قدرة على الخروج من المباشر دون الاستعانة بطاقة رمزية تمكنه من إسقاط المعادلات المجردة للحدود المحسوسة على شكل عوالم يتماهى معها إلى ما يشكِّل حالات الاستيهام الإغرائي أو حالات إعادة إنتاج النماذج الحياتية المباشر‏[53]. وعلى هذا الأساس النظري، وحال اشتغال معاني الصور الإعلانية ومدلولاتها الرمزية داخل وجدان المستهلك فهي تعمل على استنطاق حاجات وهمية إلى جانب الحقيقية؛ لإنتاج واقع جديد «زائف» وتُوجهه على نحو يُغذِّي مكنة الإنتاج والاستهلاك وسيرورة عملها؛ إنه الخطاب البرجوازي المعولم.

وعلى هذا، يُحدَّد الإعلان الرأسمالي بأنه خطاب إيحائي إقناعي هدفه تطبيع الناس وتعويدهم وتثقيفهم على ضرورة اقتناء منتوجات وظفتها الشركات الرأسمالية العابرة للحدود؛ بعد أن شهد الإعلام ووسائطه عملية تدويل باعتباره إحدى أهم الوسائل الترويجية والإقناعية التي فندتها القوى الرأسمالية العابرة للقوميات في إثارة وإشباع حاجات وهمية، اختلقتها السوق الاستهلاكية وعملت على تنميطها ونمذجتها، للدفع على الشراء بعد أن تجاوز العرض الطلب.

يُقدم هذا الإعلان (Decca Gramophone) مشهداً لا يمكن تأويله خارج النطاق الأيديولوجي للرأسمالية الاستعمارية. هذا الجهاز أحد الأجهزة التكنولوجية التي تُنقل لأي مكان في العالم كما هو مبين في الإعلان. وهو مشهد خارج الحدود الأوروبية – الأمريكية؛ لأنه يُوحي بنمط من رحلات «السفاري» التي يقوم بها الأوروبيون لاكتشاف العالم (الرسم الرقم (14)). كما أن الأشخاص الذين يرتدون البِدل والقبعات في المشهد هم بيض أوروبيون، ما عدا الرجل الذي يقدم المشروب. ويمكن من خلال هذا المشهد التمييز بين اللباس البرجوازي، ومحاولة إظهار الرقي في الجلوس للنساء والرجال في كل الإعلانات، المتمثلة بوضع ساق فوق الأخرى، وهي مشاهد لا تخلو أيضاً من مظهر استعلائي رأسمالي في استخدام لغة الجسد على نحو مبسَّط، وبين لباس الهندي «الخادم» الذي يرتدي عمامة ويقدم إليهم المشروب فيدلل على عنصرية عرقية وطبقية واضحة، تكمن في أن البيض/المزدهرين هم «السادة»، والهندي/ المستعمَرين هم «العبيد». فمثـلاً، ارتداء القبعة وربطة العنق، والبدلة يعني حياة البرجوازية و«النهضة الحضارية». وهذا يتطابق مع فكرة فوكو حول «الجسد البرجوازي السليم والمتين» الذي يريد الهيمنة، وبالأحرى الجسد الأوروبي السليم تبعاً للتصنيف العرقي الذي تجاهله فوكو وأكّده وكشفه جوزيف مسعد وآن لورا ستولر‏[54]. إضافة إلى الإشارة إلى أن لغة الإعلان هي اللغة الإنكليزية؛ لغة الهيمنة الكولونيالية التي استخدمت في الترويج عن الراديو.

الرسم الرقم (14)

إعلان (Decca Gramophone) عام 1926

المصدر: جريدة الكرمل، 24/10/1926.

ولم يكن التصدير مقتصراً على السلع، فإضافة إلى السلع المادية تم تصدير الثقافة الأوروبية وأسلوب حياتها الليبرالية، حيث يظهر اللباس الأوروبي كالبرنيطة والبدلة وربطة العنق والقفازات التي ترتديها النساء في الإعلانات الأخرى، وكذلك الجلسة ذات الطابع المديني، مع تمثيل الطبقية البرجوازية، تلك «البرجوازية التي تُنتج الأسطورة»‏[55] بمفهوم رولان بارت. وحتى نمط الأكل والشرب كـ «بيرة أمستل مشروب البرلمان بلندن»‏[56]، فهو تمثيل لنظام نخبوي/طبقي؛ نظام «الحضارة». إن إعلانات المنتجات الأوروبية – الأمريكية تزخر بالكثير من العلامات والمدلولات القائمة على تكييف المستعمَرين وفق منظومتها الرأسمالية وبُنيتها الثقافية. تلك العلامة التي «تضع المستهلك في نمط معيشي للمادة وتجعله شريكاً في الخلاص وليس فقط مستفيداً من النتيجة»‏[57]. وقد أرسى بسط النفوذ والهيمنة الإنكليزية على الاقتصاد السياسي لفلسطين عائقاً كبيراً من بين العوائق التي وضعتها أمام مشروع فلسطين التحرري، ومن غير الممكن في هذه الحالة تجاوز النخب المعولمة أو ما يسميها خليل نخلة «الشركاء الصغار»، التي تتخذ القرارات الاقتصادية وتؤدي دوراً محلياً في إدارة رأس المال المعولم وهم بمنزلة وكلاء كل في منطقته لمصالح طبقة رأس المال المهيمنة‏[58]. وقد برزت نماذج كثيرة ووكلاء لرأس المال المعولم في فلسطين، وأبرزهم بوتاجي وطنوس؛ وألونصو؛ بكاري وخوري؛ حنوش ومليكان وغيرهم.

خاتمة

برزت ازدواجية الهيمنة الاستعمارية على السوق الفلسطينية سياسياً/ اقتصادياً بعد إخضاعها لقوانين الاستعمار والإنتاج الصناعي الأوروبي الرأسمالي، ومن ثم ثقافياً/ اجتماعياً عبر استحضار تخييلات رسمها مجتمع «التقدم» في لاوَعي المجتمع المستعمَر. حيث استهدفت دولة الانتداب الليبرالية تغيير بنية المجتمع الفلسطيني وسلوك سكانه الأصليين للحفاظ على تبعيته لقوى الاستعمار. كما طغت صورة المستعمِر «الأبيض – المتحضر» على المشاهد الإعلانية للشركات العابرة للقوميات، أثناء الترويج للسلع الصناعية بإضفاء المحفزات الغريزية على كيفية استخدام السلع المضمنة بالسلع الثقافية الرأسمالية/ الليبرالية.

 

قد يهمكم أيضاً  الإعلام والتنمية: الواقع والتحديات في عصر العولمة

اضغطواعلى الرابط لقراءة  مصيدة التخطيط الحضري في القدس

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإعلانات_الصحفية_القديمة #فلسطين_في_عهد_الإنتداب #فلسطين_الانتدابية #الثقافة_في_فلسطين_المنتدبة #الإعلانات_في_فلسطين_المنتدبة #أيديولزجيا_العولمة #البرجوازية_في_الإعلانات #التسويق_والانتداب #الترويج_والانتداب #التسويق_قديماً #ترويج_المنتوجات_قديماً #الهيمنة_الاستعمارية_على_السوق