مقدمة:

يجب الإشارة في البداية، بكل أسف، إلى الفجوة القائمة بين المكانة الاجتماعية المتزايدة التي أصبحت تحظى بها وسائط الاتصال في حياتنا اليومية، والمساحة الضيقة التي تحتلها في ممارسة البحث العلمي في المنطقة العربية. ويزداد الأسف أكثر عندما ندرك مدى الإجماع في الرأي حول فكرة قصور البحث العلمي في مجال علوم الإعلام والاتصال عن تقديم قيمة علمية مضافة لفهم هذه الوسائط والكشف عن أشكال إدغامها في الحياة اليومية، ومساهمتها النشيطة في بناء واقعنا، وإدراك ما تثيره من رهانات على الصعيد الثقافي والاجتماعي والاتصالي.

لقد أمعن الكثير من الباحثين في استحضار مجموعة من العوامل التي يعتقدون أنها أدت إلى هذا القصور. وما لفت نظرنا أكثر هو تأكيد بعضهم عاملين أساسيين: أولهما، اعتماد البحث العلمي في مجال علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية على النظريات التي أطّرت البحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتالياً عجزه عن وضع حد لهذه التبعية، وذلك بابتكار نظرية خالصة، وبخاصة بعلوم الإعلام والاتصال، وابتكار مناهج وأدوات بحث مخصوصة لهذه العلوم، ولا تشترك فيها مع غيرها من العلوم الاجتماعية. وثانيهما، تبعية البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال للنظريات الغربية التي ظهرت في بيئة غريبة عن البيئة العربية والإسلامية، والتي لا تستطع أن تدرك خصوصيتنا الثقافية والحضارية. ومنها انطلقت الدعوات المتواترة إلى ابتداع نظرية أو نظريات عربية أو إسلامية في مجال علوم الإعلام والاتصال تتسم بطابع الشمولية، خلافاً للنظريات الغربية التي تعد جزئية!

سنحاول في ما يلي أن نناقش هذين العاملين في ضوء تطور التفكير في علوم الإعلام والاتصال، انطلاقاً من المستويات التالية: ماهية النظرية، البراديغمات المتجاوزة، التبعية والتراجع، الاستعمال بدل الاستخدام.

يتفق معظم دارسي علوم الإعلام والاتصال على أن البحوث الإعلامية محدودة في البلدان العربية على الصعيدين الكمي والنوعي. وإن كانت قلة هذه البحوث مفهومة من دون تبريرها، وحققت شبه إجماع حولها فإن نوعيتها تثير جدلاً كبيراً؛ فالقسم الأكبر من هذه البحوث توصلت إلى نتائج تضع مواضيعها، وإشكاليتها، ونظرياتها ومناهجها وأدواتها البحثية موضع المساءلة. وقد خاض بعضهم فيها بربط قصور هذه البحوث بالنظريات التي اعتمدت عليها. فما هي النظريات التي أطّرت جلّ بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية؟ ولماذا تم التركيز على بعض النظريات دون غيرها؟ وأين مكمن النقص في توظيفها؟ هل يمكن حصره في سوء فهم ماهية النظرية ومكانتها العلمية في البحث؟ أم أن القصور يكمن في النظريات في حد ذاتها، سواء لكونها غير متناغمة مع الحقل المعرفي لعلوم الإعلام والاتصال، أو أنها عاجزة عن استيعاب الخصوصية، أو «الخصوصيات» الاجتماعية والثقافية والحضارية التي «تتميز» بها المنطقة العربية؟

أولاً: في فهم النظرية

لعل المهتمين بعلوم الإعلام والاتصال يدركون اليوم أن دراستها كانت – وما زالت – تشكل نقطة تشابك بين الكثير من التخصصات في حقل العلوم الاجتماعية، وأن إيبيستمولوجية علوم الإعلام والاتصال، تقرّ بأن دراستها استطاعت أن تعاين إشكاليات خاصة بها، وتكيف بهذا القدر أو ذاك، مناهج البحث وأدواته مع خصوصيات إشكالياتها. لكن يبدو الحديث عن ضرورة انفصال علوم الإعلام والاتصال على صعيد الممارسة البحثية، وليس التدريسية، حديثاً متجاوزاً في ظل تشغيل مجموعة من المفاهيم التي وجدت صداها الإيبيستمولوجي في الدرس الأكاديمي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل التناصّ الاجتماعي (Social Intertextuality) الذي يعبِّر عن وعي بتشابك الظاهرة الاجتماعية وتداخل التخصصات العلمية لاكتشاف ارتباطاتها وتداعياتها‏[1].

إن الممارسة الإعلامية والاتصالية هي ظاهرة اجتماعية تزداد تعقداً بتعدد وتنوع العدة التكنولوجية التي تتوسلها والتي لا تكف عن التطور لتعيد النظر في الفهم السائد لجملة من المصطلحات والمفاهيم التي أطرت التفكير فيها. والمفاهيم المرتبطة بالمقاربات المنهجية، مثل «البينمناهجية» (Interdisciplinarity)، و«عبر المنهجيات» (Transdisciplinarity)‏[2] والتي نراها تنطبق على التداخل بين الاتصال والإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا، واللسانيات والاتصال والإعلام، وغيرها من أشكال التداخل المعرفي، تكشف عن الترابط في التعددية المنهجية، وتجاوز المنهج الواحد والوحيد.

نميل إلى الاعتقاد أن الإجابة عن السؤال حول علمية العلوم الاجتماعية والإنسانية لم يحسم بعد، ولم يحقق الإجماع المنشود؛ فبعضهم يتساءل عن خصوصية هذه العلوم التي تقتسم مع العلوم الطبيعية بعض الطرائق المنهجية، بينما يؤكد بعضهم الآخر خصوصية العلوم الاجتماعية من دون ربطها بالجغرافيا. وذلك بالكشف عن اختلافها من العلوم الطبيعية على الصعيد الإيبيستمولوجي من جهة، ولكونها علوماً تاريخية من جهة أخرى. فتعددية المقاربات النظرية والمنهجية المقبولة في الأوساط العلمية والأكاديمية، والتنافس في ما بينها هو الشكل العادي لاكتساب المعارف في العلوم الاجتماعية‏[3]. ونعت العلوم الاجتماعية بالتاريخية لا يعني بتاتاً الإقرار بانتمائها إلى أحد حقول المعرفة وهو التاريخ، بل يدل على طابعها السياقي الذي يفرض التغيير في مواضيعها وإشكالياتها وفرضياتها، وتنوع بنائها النظري لمواضيعها، وتعددية مقارباتها المنهجية.

إن الإقرار بصحة فرضية عبد العزيز بدراسة الإعلام والاتصال في المنطقة العربية لارتباطها بالنظريات الاجتماعية يعني نفي التراكم المعرفي الذي حققته بحوث الإعلام والاتصال منذ العشرينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة أولاً، ثم بقية الدول الأوروبية، وبخاصة في مجال أساليب الدعاية والإعلان، واستراتيجيات الاتصال، وتحديد الخصائص السوسيوثقافية لقراء الصحف والإذاعة والتلفزيون، وإبراز خصائص خطاب وسائل الإعلام المختلفة التي أسهمت في تحسين أداء المؤسسات الإعلامية وتفعيله.

قامت الباحثة عزة عبد العزيز‏[4] بدراسة عيِّنة من البحوث المنجزة في حقل الإعلام والاتصال في المنطقة العربية قوامها 99 بحثاً‏[5]. وعلى الرغم من أن هذه العيِّنة اقتصرت على ما يسمى «الإعلام الإلكتروني»‏[6]، إلا أنها استنتجت أن قصور البحوث المدروسة يعود إلى اعتمادها على نظريات نشأت في بيئة غربية لا تستجيب لخصوصيات المجتمعات العربية: فكيف تمكنت من الوصول إلى هذه النتيجة على الرغم من أنها تعترف بأن 51.2 بالمئة من العيِّنة التي اشتغلت عليها لم تكن قادرة على توظيف أي نظرية أو ضبط للإطار النظري لموضوع البحث؟ واكتفى باحثوها بعرض المفاهيم واختبار الفرضيات دون أي سند نظري‏[7]. وتؤكد أن 4.6 بالمئة منها اكتفت بذكر النظرية التي تعتمد عليها في مقدماتها فقط، ولم تعد إليها ولم توظفها في البحث‏[8]. إن هذا الاستنتاج يملك من التبرير أكثر من التحليل لأنه يؤدي إلى القول الضمني إن البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال في البلدان العربية سيظل قاصراً، ما لم يتمكن من إنتاج نظرية خاصة به، ولم يحقق استقلاليته عن النظريات الغربية. وسيتطور هذا البحث إذا وظف الباحثون العرب نظريات الإعلام والاتصال عندما يتمكنون من تحقيق استقلالية‏[9] علم الإعلام والاتصال، ويقطعوا دابر التبعية للنظريات الغربية.

إن الكثير من دارسي العلوم الاجتماعية ومدرسيها في المنطقة العربية تبنوا، مع الأسف، فكرة التبعية للنظريات الغربية في مجال البحث في العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية من دون فحص وتحليل‏[10]، وحولوها إلى مسلّمة جاهزة في بيئة أكاديمية غيبت النقاش الذي عمّر طويـلاً في الجامعات الأوروبية والأمريكية، حول «كيف نفكر في علمية العلوم الاجتماعية والإنسانية اليوم؟». وبهذا يمكن القول إن هذه الفكرة تعاني إسقاطاً أيديولوجياً أكثر من الرغبة في التعبير عن شغف معرفي. وهذا يجرنا إلى القول إن هناك سوء فهم لماهية النظرية، ونقصاً في إدراك أهميتها في بناء مواضيع البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال، لأنه يُحيي النقاش الذي فتحه الفيلسوف النمساوي كارل بوبر حول علمية النظرية والمعايير التي ترتقي بالنظرية إلى مصاف العلم.

يمكن القول، بإيجاز، إن النظرية ليست مجرد فكرة بسيطة، بل حزمة من الاقتراحات المترابطة التي تفترض وجود علاقات بين المفاهيم، وتكشف عن العلاقة المتوقعة بين هذه الاقتراحات والآليات التي تشرحها‏[11]؛ «فالنظرية تشرح حدثاً أو سلوكاً، وتنير وضعاً غامضاً أو ملتبساً… تحوصل المعطيات والبيانات وتلفت انتباهنا إلى ما هو عصي عن الفهم»‏[12]. إنها، في آخر المطاف، تنظم جملة من المفاهيم، إن لم تكن هي التي تنحتها. وتشرح وتبرز المبادئ المؤطرة لبعض الجوانب في فهم التجربة الإنسانية.

لكن هذا الإجماع الظاهر في تحديد ماهية النظرية يخفي اختلافاً كبيراً حولها وذلك لارتباطها بالسلطة من جهة، والمعرفة من جهة أخرى. فالفيلسوف النمساوي كارل بوبر يعتقد أن ما يمكن اعتباره نظرية علمية لا يكون كذلك، إلا إذا نجح في امتحان التكذيب الذي يرفع من احتمالية صدقه. وهذا لا يعني أنها صادقة، بل إنها أقرب إلى الصدق من منافستها لأنها ستفنَّد في المستقبل‏[13]. فإذا تمسكنا بهذا الرأي، على الرغم من نفيه من قبل الكثير من الفلاسفة والمفكرين‏[14]؛ فهذا يعني أن التطور العلمي لا يتشكل من تراكم الملاحظات، بل على العكس، من «الإقصاء المتكرر للنظريات العلمية وتعويضها بنظريات أفضل أو أكثر قبولاً»‏[15] يمكن أن نستنتج أن لكل نظرية مدة صلاحية معيِّنة تنتهي بتكذيبها بنظرية «جديدة». لذا نجانب الصواب إذا حاسبنا النظرية على أساس سموها فوق دينامية التغيير والتحول الاجتماعي والثقافي.

أما ميشال فوكو، فيرى أن النظرية تستند إلى الملاحظة. والسؤال الذي تطرحه النظرية لا يتعلق بمدى دقة الملاحظة التي تستند إليها، وواقعيتها، بل يرتبط بالسؤال التالي: لماذا نلاحظ؟ والإجابة عن هذا السؤال تفضي إلى الربط بين النظرية والمصالح الاجتماعية‏[16]. فالإجابة لا تهتم بالمنطقة الجغرافية التي ظهرت فيها هذه النظرية أو تلك، بل بالسياقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ظهرت فيها النظريات والرهانات التي تطرحها المصالح المتدافعة؛ فالمصالح التي عبّرت عنها نظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين، على سبيل المثال، صاغها بول لازرسفيلد، لا تخفى على المهتمين بتاريخ نظريات الاتصال.

لذا، هل من الأجدى أن نسأل عن المصالح التي تعبِّر عنها النظريات الوظيفية في بحوث الإعلام في المنطقة العربية؟ أو وضع نظريات الاتصال والإعلام موضع تساؤل من منظور كارل بوبر بصرف النظر عن منبت النظريات التي اعتمدت عليها الكثير من بحوث الإعلام والاتصال في الوطن العربي؟

إن الكثير من البحوث التي شملتها الدراسة المذكورة أعلاه ووظفت بعض النظريات تعاني تفككاً في مفاهيمها أو لبسها أو عدم استيعاب بعضها. فلا تميز مفهوم الإعلام من الاتصال. وهما مفهومان مركزيان في أي مقاربة علمية لأي وسيلة اتصال. وعلى الرغم من تأكيد الكثير من هذه البحوث خصائص الإنترنت والواب 2، ولا سيَّما تلك المرتبطة بطابعها التفاعلي إلا أنها تصر على استخدم مفهوم التعرض‏[17]. فالتعرض مفهوم ساد في دراسة وسائل الاتصال الجماهيري الكلاسيكية، وبخاصة الإذاعة والتلفزيون، قبل أن تتعدد القنوات التلفزيونية وتستخدم أداة التحكم عن بعد (Remote Control) التي تفترض من المشاهد السعي لاختيار قناته وليس الارتخاء والسكون وانتظار ما تعرضه عليه القناة التلفزيونية؛ ناهيك باستخدام الإنترنت الذي لا ينجز من دون مشاركة المستخدم وتفاعله. فالتعرض لوسائل الإعلام في عصر «الجمهور النشيط» لا محل له من الإعراب بتاتاً.

كما أن سوء استيعاب المفهوم وما ينجم عنه من سوء ترجمته، مثل ترجمة الفضاء أو المجال العام أو العمومي، بالشأن العام‏[18] يضبب الرؤية النظرية للظواهر الإعلامية والاتصالية التي تتناولها البحوث.

إن الاستغناء عن النظريات في البحث أو ذكرها دون تشغيلها يطرح التساؤل حول طبيعة الإشكاليات التي تطرحها هذه البحوث. فالإشكالية ذات صلة وثيقة بالبناء النظري لموضوع البحث. ومن الصعب بناء هذا الأخير من دون الاستعانة بنظرية ما. ولعل عدم فهم ما هي النظرية أسهم في تغييب طرح الإشكالية في 32.5 بالمئة من مجمل عيِّنة البحوث المدروسة‏[19].

إن السؤال الأساسي الذي يسبق الحكم على قصور بحوث علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية بالنظر إلى بعض التفاصيل التقنية في المنهج يمكن تلخيصه في ما يلي: بماذا أفادت النظريات الاجتماعية البحث العلمي في مجال علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية؟

إن التمعن في عيِّنة من بحوث الإعلام والاتصال المدروسة يدفعنا إلى التساؤل حول القيمة المعرفية التي قدمتها بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية؛ أي ما هي أبرز النتائج التي توصلت إليها، ويمكن اعتمادها في الحديث عن موقع وسائل الإعلام في المجتمع ومكانة المجتمع في وسائل الإعلام؟

نعتقد أن ما توصلت إليه من نتائج لا يشكل قطيعة مع الفهم السائد لدى عامة الناس لوسائل الإعلام إن لم يشكل مجالاً لإسقاطات الأيديولوجيا‏[20]؛ والأسباب التي يمكن الاستعانة بها لتفسير هذا الأمر لا يمكن اختصارها في تعثر المقاربات المنهجية، وذلك لأن هناك علاقة جدلية بين المنهج والنظرية. كما يتجلى ذلك بكل وضوح في البحوث الكمية والنوعية في علوم الإعلام والاتصال، كما سنوضح ذلك لاحقاً.

ثانياً: البراديغمات المتجاوزة

على الرغم من تعقد الظاهرة الاتصالية والإعلامية في المنطقة العربية والعالم والتي تتطلب دراستها وفهمها عدة نظريات ومنهجيات متعددة، إلا أن جل عيِّنة البحوث المدروسة انحصرت في إطار الدراسات الوصفية؛ إذ بلغت نسبة 72.1 بالمئة، فالوصف الذي يعتبر عتبة البحث العلمي يقلل طموحات الباحث ولا يقدم من الظاهرة سوى جزء من واجهتها: فهل فهم ظاهرة الصحافة التي وجدت في المنطقة العربية منذ أزيَد من قرن وتعيش مخاضاً كبيراً، اختلف الباحثون في تشخيصه، يمكن أن يتحقق على يد البحوث الوصفية فقط؟ وهل الدراسات الوصفية كفيلة بالكشف عن الدينامية الثقافية والاجتماعية التي أحدثها البث الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية؟

إذاً، إن النقائص التي تعانيها بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية، لا تكمن في تبعيتها للنظريات الغربية أو استعانتها بالنظريات الاجتماعية، بل تدل على عدم استفادتها من النظريات بعامة، والحديثة منها على وجه الخصوص، والتي تهتم بالاتصال باعتباره فعـلاً اجتماعياً، ونتيجة سياق ثقافي. كيف ذلك؟

إن التطور السريع الذي عايشه قطاع الإعلام والاتصال في العقدين الأخيرين، أدى ببعض الباحثين، مثل ستيفن شيفي ومريام متزجر إلى تأكيد أن «الميديا» الجديدة ستضع حداً للاتصال الجماهيري، بمعنى أنها ستغير جذرياً في طريقة تنظيم وهيكلة وسائل الإعلام التقليدية، وطرائق استخدامها، وأشكال تمثُلها من قبل مستخدميها‏[21]. وهذا ما حدا ببعضهم الآخر إلى التنبؤ بنهاية نظريات الإعلام كنتيجة منطقية لنهاية وسائل الإعلام‏[22].

إننا لا نجاري من يرى نهاية الاتصال الجماهيري نتيجة ظهور الميديا الجديدة وتطورها، لأننا لا ننظر إلى وسائط الاتصال ضمن أفق إقصائي: الجديد يقصي القديم، ولا في إطار تكاملي: الجديد يكمل القديم. ولا ضمن تصور تنافسي: الجديد ينافس القديم. وذلك لأنه يبدو أن الحدود بين الجديد والقديم في عالم الاتصال اليوم تسير نحو الامّحاء، وسيكون المستقبل لوسائط الاتصال الهجينة التي تجمع أنماط الاتصال المختلفة: المكتوبة، والسمعية، والسمعية – البصرية، مستفيدة من القديم المدغم في الجديد. فالتلفزيون أصبح يبث عبر شبكة الإنترنت، وقراء النسخ الرقمية للصحف في تزايد مستمر. فالنشأة المستأنفة لوسائط الاتصال تتجلى في هذا الشكل الهجين.

ومعنى هذا أن الانتقال من وسائل الاتصال الجماهيري (Mass Media) إلى وسائل الاتصال الفردية (Self Mass Media) لم يدفع البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال إلى مراجعة نظرياته وإعادة التفكير في مدى ملاءمتها مع التطورات التي أعادت تفكيك نموذج لاسويل إن لم تقضِ عليه: فالمرسل لم يعد مرسـلاً فقط، والمستقبِل لم يعد مستقبِلاً بل مستخدماً، والوسيلة أصبحت وسائط ومنصات بث وتبادل، والرسالة أصبحت رسائل متحررة من إكراهات الزمان والمكان، والمحمول – المحتوى – تحرّر من الحامل، وأصبح قابـلاً للحمل والتعديل عبر الكثير من الوسائط أو الحوامل، يرتحل من سياق اجتماعي وثقافي واتصالي إلى سياق آخر – انظر على سبيل المثال المقال الصحفي الذي يكتب لصحيفة ما ذات هوية محددة وقراء معروفين، كيف ينتقل إلى فضاءات أخرى عبر مواقع في شبكة الإنترنت، والمدونات، وينتشر عبر البريد الإلكتروني، فتثريه الجماعات الافتراضية عبر مواقع الشبكات الاجتماعية فيثقل بمعانٍ إضافية. كذلك أمر اللقطات المقتبسة من برنامج تلفزيوني التي يعاد بثها في مواقع الشبكات الاجتماعية وتركب من جديد وتشبع بتعليقات تتناغم مع السياقات التي رحلت إليها.

يمكن أن نرصد حضور المدرسة السلوكية، والوظيفية، في الكثير من بحوث الإعلام والاتصال. فعلى الرغم من أن موضوع بعض هذه البحوث يتحدث عن «الإعلام الجديد» والجمهور وليس المستخدمين، إلا أن النظر إلى علاقتهم ظل مرهوناً بما تتيحه كوة التأثير الموحد والقوي. فالمدرسة السلوكية التي شهد عام 1913 مولدها، وبدأ نجمها بالخبو في السبعينيات من القرن الماضي، استعادت قوتها في الدراسات الإعلامية العربية، وبخاصة بعد انتشار البث الفضائي المباشر، وتزايد الاستخدام الاجتماعي للإنترنت، ومواقع الشبكات الاجتماعية. وبهذا ارتهن جزء غير قليل من البحوث الإعلامية في المنطقة العربية إلى التفسير السببي البسيط (تأثير الوسيلة القوي والمنفرد واستجابة الجمهور الضعيف والساكن والمنصاع لتأثيرها)‏[23].

إن الكثير من البحوث انزاحت عن منطق المدرسة السلوكية لكنها سقطت، من قصد أو من دونه، في منطق المدرسة الوظيفية‏[24] التي امتلكت شرعيتها في الدراسات الإعلامية في العالم منذ الأربعينيات من القرن الماضي. وإن كانت هذه المدرسة تفند التأثير القوي والموحد والمباشر لوسائل الإعلام في الجمهور كما تزعم المدرسة السلوكية، باعتبار أن هذا الأخير ليس كتلة واحدة تفكر بطريقة واحدة، بيد أنها لم تستبعد أبداً فكرة التأثير الاجتماعي الذي لا تراه في قيام وسائل الإعلام بتضليل الجمهور، بل في إغرائه، لأن الجمهور في نظرها يتمتع بالاستقلال الذاتي والعقلانية. لكن الإغراء من أجل ماذا؟ فالتأثير لا يمكن أن يكون عنصراً مستثنىً من الإجابة عن هذا السؤال. بالفعل فإن مركز انشغال هذه المدرسة في علاقة الوسيلة بالجمهور تكمن في «الوظيفية»؛ فلوسائل الإعلام جملة من الوظائف يجب أن تجسدها، كما أوضحها منظروها: هارولد لاسويل، بول لازرسفيلد، وولبر شرام… وإذا حادت عنها يتعرض النظام الاجتماعي لخلل وعدم توازن. ولتصحيحهما يجب التدخل لتعديل مضمون ما تقدمه وسائل الاتصال الجماهيري‏[25] بما يتلاءم والوظائف المنوطة بها.

إذاً، فإن قصور البحث العلمي في حقل علوم الإعلام والاتصال يعود إلى اهتمامه المفرط بمضمون الرسالة التي ينطلق منها في تحديد التأثير والأدوار، وبالتالي إلى إغفال الجمهور أو المتلقي أو المستخدم. ربما يعتقد بعضهم أن هذا الرأي يجانب الحقيقة لأن جل بحوث علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية استندت إلى نظرية الاستخدامات والإشباعات، ولا يمكن أن ننكر أن هذه النظرية ركزت اهتمامها على الاستخدام. أعتقد أن نظرية الاستخدامات والإشباعات التي راج استخدامها في البحوث الأجنبية في مجال الإعلام لم تخرج عن منطق الوظيفية‏[26]، لكنها وظيفية بالمقلوب، كما يبين ذلك بول عطالله‏[27]؛ أي أنها تنطلق من الجمهور بدلاً من وسيلة الإعلام للحديث عن الوظائف. بمعنى أنها لا تركز على الاستخدام في حد ذاته، كنشاط منتج في عملية الإعلام، بل انشغلت بالإشباعات المرتبطة بالحاجات، فقربتها من الوظائف.

لقد اتخذت هذه النظرية بعداً تبريرياً في الكثير من البحوث في المنطقة العربية واتسمت بطابع شكلي جداً؛ فبعض الباحثين في المنطقة العربية يقومون بصياغة استبانة ويوزعونها على طلبتهم. فيضعون فيها كل ما يحتاجه البحث عن الاستخدامات والإشباعات من أجل إعطاء صدقية للنظرية أكثر من الكشف عن العلاقة المعقدة القائمة بين الوسيلة والجمهور. وبهذا تشابهت النتائج التي توصلت إليها بحوثهم، إن لم تتطابق، وأسقطت الخصوصية الثقافية التي لا تملك موقعاً في أفق هذه النظرية.

إذاً، فالقول إن قصور البحث العلمي في الحقل إعلامي يعود إلى استعانته بالنظريات الغربية، يغفل الطابع التاريخي للبراديغمات التي تنطلق منها نظريات الإعلام والاتصال. فالتغيرات التي شهدتها المجتمعات المختلفة منذ نهاية الحرب العالمية إلى اليوم، والتطورات التي حدثت في قطاع الإعلام والاتصال وما تبعها من صياغات متجددة لفعل الاتصال بوسائط لم تكفّ عن التجديد والابتكار قد كشف عن الحدود المعرفية لبعض البراديغمات التي تناسلت منها بعض النظريات؛ فنظرية التأثير لم تعد، في نظرنا، قادرة على فتح الآفاق لفهم العلاقة المعقدة لوسائط الاتصال المعاصرة بمستخدميها. ونظرية «وضع جدول الأعمال» (Agenda Setting) لم تعد، هي الأخرى، قادرة على ذلك‏[28] في زمن تعددت فيه حوامل الاتصال، وغابت مركزية المتصل وأحاديته، وتراجعت هيمنة الاتصال العمودي في المجتمعات المعاصرة، وانحصرت الاستفادة منها في بعض البحوث القليلة التي تناولت بعض موقع شبكة الاجتماعية للكشف عن المواضيع التي تثيرها.

إن دراسة «الوسم» (Hashtag)، من حيث عدد التعليقات التي حظي بها ينجز بوساطة محركات البحث. لكنه يوظف ضمن أفق يختلف من ذاك الذي رسمته النظرية المذكورة للاتصال الجماهيري والممثل في دراسة اتجاهات الرأي العام. ونظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين لم تعد تصمد، هي الأخرى، أمام تدفق المعلومات في كل الاتجاهات وانفجار مصادرها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتجاه النقدي الذي مثلته مدرسة فرانكفورت والذي يركز على الرسالة ومضمونها. ويسلم أن الجمهور يستلمها محمَّلة بالمعانى ذاتها التي قصدها المرسل أو المؤسسة، ولا تشوبها شائبة ولا تتعرض للتعديل والإضافة من قبل المتلقي. ويبدو هذا الجمهور وفق هذا الاتجاه ضعيفاً أعزل لا يملك أي كفاءة أو قدرة في المقاومة أو الرفض. ويمكن اختصار تمثُل هذا الاتجاه للوسيلة الإعلامية وجمهورها في أن الأولى تقوم بدور أيديولوجي، والثاني يعاني الاغتراب عن واقعه. فهذه المدرسة لا تمثل سوى مؤشر لفهم استراتيجيات المؤسسات الإعلامية وتغفل الدور النشيط الذي أصبح طرفاً أساسياً في عملية إنتاج المعنى حتى وإن تجردنا من النظرة الشعبوية والتمجيدية للجمهور.

ولم تتمكن نظرية التأطير الإعلامي (Media Framing) من مواكبة ما يتطلبه التفكير العلمي المنظر للانتقال من عصر الإعلام إلى الاتصال. بل إن «استحضارها» العواملَ التي تشكل الإطار العام الذي يتدخل في صياغة محتويات الإعلام ينزع نحو الامتثال والتبرير، فيجرد الفعل الإعلامي من كل رهانات. ويسقط من الحساب مكانة الجمهور ومشاركته الفاعلة في إنتاج المعنى خارج التأطير المذكور.

إذاً، يبدو أن الاعتماد على البراديغمات المذكورة في البحث العلمي الإعلامي، في زمن «نهاية الجمهور»‏[29] وتشذره وتعدد منصات البث والإنتاج وهيمنة الاتصال على الإعلام، ونهاية السرديات الكبرى، وتداخل الإعلام والترفيه والتربية نتيجة التداخل بين قطاع الإعلام والاتصالات والمعلوماتية، جرد هذا البحث من كل أفق نظري. كما حرمه المعطيات العلمية التي تسمح له بفتح أفق جديدة للتفكير في الرهانات التي يطرحها الاتصال في المنطقة العربية.

قد يُستنتج مما سبق أنه مرافعة للاستغناء عن البحوث الكمية والاتجاه إلى البحوث الكيفية. وهذا استنتاج خاطئ، وذلك لأن الجدل حول الكمي والكيفي الذي عاش ردحاً من الزمن لم يؤدِ إلى الاقتناع بتناقضهما. فعلى الرغم من أن البحوث الكيفية وجدت حيويتها في دراسة الوسائط الجديدة، إلا أن البحوث الكمية ما زالت تقدم إنارة معرفية لدراسة الظواهر الإعلامية‏[30].

 

ثالثاً: تبعية أم تراجع؟

لو تتبعنا منطق تبعية الدراسات الإعلامية في المنطقة العربية، لجزمنا أن منطقة المغرب العربي تنفرد بتبعيتها لما يطرح في المنطقة الفرانكوفونية من أطروحات نظرية، بينما تمتاز البحوث الإعلامية في منطقة المشرق العربي بتأثرها بالمدارس الأنغلوسكسونية، فهذا يعني أنه من المفترض أن تكون المنطقة الأولى تعيش تحولاً كبيراً في توجهاتها البحثية في مجال الإعلام اعتماداً على مدرسة البنائية الاجتماعية التي أطرت التفكير في الاستخدامات الاجتماعية لوسيلة الاتصال، بينما من المفترض أن تكون الدراسات الإعلامية في المنطقة الثانية قد استلهمت الكثير من المدرسة التأويلية التي تبلورت في ظلها نظريات التلقى. وعلى الرغم من وجود بعض البحوث القليلة في مجال الإعلام والاتصال في المنطقة العربية التي اشتغلت بالمدرستين وشغلتهما، إلا أنها تظل استثناءً يشذ عن القاعدة.

على الرغم من الجذور الأدبية لنظرية التلقي، إلا أنها ولدت من رحم مدرسة الدراسات الثقافية التي سعت منذ بدايتها عام 1964 في برمنغام – بريطانيا – إلى تجاوز الحتمية الاقتصادية للماركسية، وتحليلها التقليدي لمختلف الفئات الاجتماعية في بريطانيا في أثناء تعاطيها مع الثقافة الجماهيرية، فاستشفّت الاستقلالية الذاتية للمنتج الثقافي من دون التركيز على سياق إنتاجه وتوزيعه أو بثه‏[31]. وركزت، في المقابل، على أشكال تلقيه وتأويله وإدغامه في الحياة اليومية. وبهذا نأت هذه المدرسة عن الحديث عن تأثيره الناجم عن محتواه بشكل آلي، وفصلت في النقاش ذي الصلة بمقدرة المواد الثقافية على إحداث التجانس الثقافي والاجتماعي بين الشعوب والأمم من دون أي وسيط نشيط ما عدا الجمهور الأعزل والمفصول من محيطه.

لقد حصر الزيري‏[32] الإضافة التي جاءت بها هذه المدرسة التي استندت إلى بحوث أمبيريقية، في مستويين أساسيين، وهما: المستوى الأول، ويبيّن مكانة الوساطة العائلية التي تنسج حول التلفزيون من جهة، وتقديم الحجج النظرية للمشاهدة النشيطة من جهة أخرى. فالنظرة إلى وسائل الاتصال الجماهيري كانت منشغلة بالمضمون الذي يوزع ويبث جماهيرياً وبمحتواه الأيديولوجي. فمنحت لهذا المضمون مقدرة «تحشيد» الجمهور، وتوحيده نظراً إلى «استهلاكه» جملة من القيم والمعايير والرموز والصور والأساطير التي تهيكل حواسه وتوجه عواطفه.

وقد تجاوزت الدراسات الثقافية هذه النظرة التبسيطية القائمة على العلاقة السببية، لتثبت أن تلقي المواد الإعلامية والثقافية لا يجري وفق مخطط رأسي يجمع المرسل بالمتلقي، فيمارس الأول مهاراته في الإقناع والإغراء، بل إن تلقي المواد المذكورة يتحدد عبر مجموعة من الوساطات البشرية: المحيط العائلي، وشبكة العلاقات الاجتماعية التي تتدخل، بهذا القدر أو ذاك، في عملية إدراك المضمون وابتداع تأويله. فيحل التفاوض محل الإملاء والإغراء والانصياع والانقياد لمشيئة اتجاه المضمون. وهنا، يتدخل عنصر المقاومة الذي يصد المواد غير المرغوبة أو التي تتعارض مع معتقدات الوسط الاجتماعي واقتناعاته. لقد توصل مورلي، وهو أحد أعمدة منظِّري هذه المدرسة، إلى الخلاصة التي تؤكد أن العائلة هي وحدة الاتصال القاعدية، وأن التلفزيون هو وسيط عائلي، وأن التحولات في الممارسات الإعلامية تتخذ شكلها في سياق التفاعل العائلي‏[33].

وهذا يعني أن التلفزيون أو العتاد المرتبط به، مثل شرائط الفيديو، لا يدرس لذاته في نظريات التلقي، بل كمنتج لحزمة من التفاعلات الاجتماعية ليستشف منه توزيع السلطة داخل العائلة، ونظرة أفراد العائلة، بعضهم إلى بعضهم الآخر، في أثناء المشاهدة، والتعليقات التي يدلون بها، وحكمهم على الآراء التي يصدرها بعضهم وتجاوبهم مع ما يشاهدون. فالمشاهدة هي فعل جماعي لا يتوقف على كفاءة الفرد في تفكيك الرموز، على أهميتها. ففي كتابه الموسوم عالم العائلات يشاهد التلفزيون، قام الباحث لول جيمس برصد التفاعلات مع التلفزيون في عدة مناطق من العالم، واستنتج أن الممارسات التلفزيونية امتداد ثقافي‏[34]. وبهذا ساهمت نظريات التلقي في تحرير دراسات الجمهور من هيمنة النزعة الكمية التي تكتفي بالإجابة عن الأسئلة: من يشاهد التلفزيون؟ وماذا يشاهد؟ وأين يشاهد؟ والتي تفيد مسؤولي قسم البرمجة في القنوات التلفزيونية والمعلنين وأقسام التسويق. وسعت للتعرف إلى كيفية المشاهدة التلفزيونية وتوظيفها في ممارستنا اليومية، أي نقل الثقافة التلفزيونية من التخمينات النظرية والمزايدات الأيديولوجية إلى المعترك اليومي.

إن الحدود المعرفية لنظريات التلقي لا تخفى على الدارسين والمهتمين، وقد تضمنها النقد الموجه للدراسات منذ بداية تشكلها في منتصف الستينيات إلى التسعينيات من القرن الماضي. ونخص بالذكر ذاك الذي يراها تفصل فصـلاً تاماً بين سياق إنتاج المادة التلفزيونية واستراتيجيات الاتصال التي تعتمدها، والإكراهات السياسية والاقتصادية والتنظيمية التي تخضع لها وعملية التلقي؛ أي أنها تُحدث نوعاً من التعارض بين منطق الدراسات الثقافوية ودراسات الاقتصاد السياسي للاتصال والإعلام، وذاك الذي يراها انزاحت نحو الاهتمام بما وراء الخطاب الثقافي والإعلامي أو الخطاب الواصف (Meta Discourse). وهذا النقد لا يمكن أن ينفي بتاتاً المكتسبات المعرفية التي أنجزتها هذه النظرية في دراسة الجمهور. والسؤال المطروح يتمثل بما يلي: لماذا لم تعتمد البحوث العلمية التي أجريت في المنطقة العربية على هذه النظرية في دراسة الممارسة التلفزيونية مغرباً ومشرقاً؟ إن هذا السؤال لا ينفي بتاتاً جهود بعض أساتذة الإعلام في التعريف بهذه النظرية وبالخلفية الفكرية التي تحكمت فيها، ولا يطمس بعض البحوث القليلة التي وظفت هذه النظرية في دراسة تلقي بعض البرامج التلفزيونية أو القنوات التلفزيونية أو بعض الإنتاج الثقافي: السينما، المسرح، الأدب.

هل يمكن الاقتناع بالإجابة عن هذا السؤال بالقول إن الدراسات الإعلامية والاتصالية في المغرب العربي ظلت تساير البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال في المنطقة الفرنكوفونية؟ لقد اعتبر بعض الباحثين الفرنسيين ذاتهم الدراسات الثقافية فكراً متوحشاً يجب ترويضه‏[35]. لقد وضع الفكر المتوحش بين مزدوجين مما يوحي بالحذر في اعتماد هذا الوصف، لكنه يفصح في غرابته عن الاهتمامات الفكرية والبحثية في مجال علوم الإعلام والاتصال. وهذا ما يؤكده الباحث «ميغري أريك» الذي يعتقد أن الدراسات الثقافية لم تكن محل تقدير في البيئة الفرنكوفونية؛ سواء لتعدد المواضيع الثقافية التي تهتم بها (ألعاب الفيديو، والمسلسلات التلفزيونية، والممارسة الثقافية للشذوذ جنسياً، وغيرها)، أو لطرائق تحليلها ودراستها هذه المواضيع‏[36].

إن نعت الدراسات الثقافية بالمتوحشة ينم على شكل من الترفع على الدراسات الإمبيريقية التي تنشغل بالمواضيع الجزئية. ففي الوقت الذي بدأت فيه مدرسة الدراسات الثقافية بالتشكل في بريطانيا، كانت فرنسا تعيش أحداث أيار/مايو عام 1968 التي دفعت الخطاب العلمي حول وسائل الإعلام إلى الاهتمام بتفكيك الرسائل السمعية البصرية. ولم يحظَ التلفزيون بالبحث السوسيولوجي لأنه شكل مجالاً لنقد الأيديولوجية المهيمنة والرمزية كما حددها جون ماري بيام في كتابه الموسوم التلفزيون كما نتحدث عنه‏[37]، وليس كما نشاهده. إن نقد اللغة السمعية – البصرية في ظل هيمنة المقاربة السيميائية للإنتاج الثقافي والإعلامي والأدبي في فرنسا لم تضع حداً للاهتمام بالبحث عن الدور الثقافي والتربوي للتلفزيون.

قد وجه ظهور قنوات تلفزيونية خاصة أو تجارية في المشهد السمعي – البصري الفرنسي، وما أحدثه من تنافس بين البرامج التلفزيونية، البحثَ العلميَّ في مجال التلفزيون إلى الاهتمام بأشكال قياس المشاهدة التلفزيونية ومعرفة القنوات والبرامج التي تحظى بأكبر نسبة من المشاهدة. ولم يحدث الانعطاف في دراسة جمهور التلفزيون نحو أفق نظريات التلقي إلا بدءاً بنهاية التسعينيات فقط من القرن الماضي. لكن مع الأسف فإن هذا الانعطاف لم يحدث في دول المشرق العربي، على الرغم من الانتشار النسبي للغة الإنكليزية والثقافة الأنغلوسكسونية فيها.

إن الأفق المعرفي الذي تفتحه نظريات التلقي لدراسة الاتصال والإعلام، وبخاصة التلفزيون، رحب وثري جداً ويسمح بقراءة المنتج الثقافي والإعلامي في ضوء الممارسة الاجتماعية والثقافية في هذا البلد العربي أو ذاك، ويخرج البحث العلمي الإعلامي في المنطقة العربية من تعميماته التي تطمس التقاليد الثقافية والأدبية الخاصة بكل بلد. ويمكن الاقتراب أكثر من هذا الأفق ليس بالمساءلة عن الكفاءة في التأويل التي تتباين بحسب المستويات التعليمية والاجتماعية والتقاليد الأدبية والثقافية فقط، بل عبر الوساطة التي يشكلها التلفزيون، أيضاً، والتي حصرها الباحث لول جيمس‏[38] في مستويين أساسيين، وهما: المستويان البنائي والعلائقي. فالمستوى البنائي يهيكل نمط معيشة الأشخاص (الألفة مع صوت التلفزيون الذي يوثث الفضاء ويرافق أداء المهام الروتينية في المنزل، وضبط إيقاع الحياة)‏[39]. أما المستوى العلائقي، فله صلة بالطريقة التي يسمح بها التلفزيون بإدارة العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة: (معرفة الذات أكثر، تعزيز القيم العائلية، التقارب بين أفراد الأسرة، إقامة الاتصال…).

لعل الجيل الجديد من دارسي الإعلام وباحثيه لا يدرون أن مشاهدة التلفزيون ظلت إلى غاية نهاية الثمانينيات فعـلاً جماعياً في المنطقة العربية يَلُمّ الأسر الممتدة وحتى الجيران الذين لم تسمح لهم إمكاناتهم المادية باقتناء جهاز التلفزيون. وقد شكلت هذه المشاهدة فرصة ذهبية من أجل ترميم العلاقات الاجتماعية وتعضُّدها داخل الأسرة ومع الجيران، وفتحت المجال للنقاش والحوار الذي يتجاوز ظرفية المشاهدة، ويتواصل في فضاءات أخرى منفصلة عن سياق المشاهدة. لكن لم تتمكن البحوث الكمية في المنطقة العربية، من إبراز هذه الأشكال من التفاعل الرمزي التي تكشف عنها نظريات التلقي. لقد حاولت الكاتبة والصحافية جويل ستولز القبض على أطرافه في بحثها الموسوم: «الجزائريون يشاهدون دالاس»‏[40]. ولم نصادف الكثير من البحوث التي حاولت السير على خطى بحثها وقدمت فهماً لمشاهدة المسلسلات التلفزيونية التي تبثها القنوات التلفزيونية العربية، وبخاصة التركية منها‏[41]، والتي نعتقد أنها حظيت باهتمام بحثي أكثر من بقية المواد التلفزيونية، إذا استثنينا برامج تلفزيون الواقع.

يمكن أن نبرر عدم اهتمام البحث العلمي في المنطقة العربية بدراسة جمهور وسائل الإعلام، وبخاصة جمهور الإذاعة والتلفزيون، بحشد من العوامل، منها: احتكار الدولة للإذاعة والتلفزيون في أغلبية البلدان العربية. فالدولة كانت ولا تزال في هذه البلدان المالكة للمؤسسة الإعلامية. وهي ممولها وموجهها، ولا يهمها مآل خطابها الإعلامي. ولا تخضع هذه الأخيرة للمساءلة من أي جهة كانت سوى السلطة الوصية أو من عين المسؤولين عليها لأن الغاية من إنشائها والحفاظ عليها تقف عند إرضاء من يمولها بصرف النظر عن رأي الجمهور فيها. لذا تم التركيز في البحوث على الرسالة أو الخطاب لأنه هو الغاية ومنتهى العملية الإعلامية. ومن هذا المنطلق استشرى تحليل المضمون الذي يبحث عن مدى مطابقة محتوى الرسالة مع توجيهات الخطاب الرسمي أو الانحراف عنه. ولا نستبعد أن يكون للنزعة الأيديولوجية دور في هذا الاستشراء.

لقد تغير الوضع كثيراً في العقدين الأخيرين، حيث بدأ الاهتمام بدراسة الجمهور، بهذا القدر أو ذاك، لأسباب متعددة منها الارتفاع المذهل في عدد القنوات التلفزيونية المختلفة، وهيمنة الطابع التجاري على الكثير منها. لكننا لاحظنا، أن الجمهور يختزل في معظم البحوث في الطلبة، فتقدم كماً من الإحصاءات الخرساء التي تعجز عن تقديم الملامح السوسيواجتماعية لجمهور الإذاعة أو التلفزيون أو ذاك البرنامج التلفزيوني أو تلك المحطة الإذاعية. هذا لا ينفي بتاتاً وجود بعض المحاولات لدراسة الجمهور وفق مقاربات متعددة لكنها تعاني، في بعض الأحيان، سوء فهم أو قصور الأسس النظرية للبحث ومناهجه وأدواته. فبحوث تلقي المواد الثقافية والإعلامية التي تعتمد على البحوث الكمية فقط، لا تؤدي إلى النتائج المرجوة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقاربة الإثنوغرافية‏[42].

أمام هذا التأخر في دراسة تلقي البرامج التلفزيونية في البلدان العربية، كما أوضحنا آنفاً، نتساءل عن مستقبلها في ظل التقدم الكبير الذي حققته فردانية المشاهدة بفضل وجود الكثير من أجهزة التلفزيون لدى الأسرة الواحدة، وعبر الأشكال الجديدة، مثل «المشاهدة وفق الطلب» (Video on Demand)، ومشاهدة التلفزيون الاستدراكية (Catch up) مما يدعو إلى مراجعة أطروحة دايفد مرلي التي ارتبطت بالمشاهدة في الوسط العائلي من جهة، وابتكار عدة بحثية نوعية لتتبع المناقشات التي تثيرها هذه البرامج في مواقع الشبكات الاجتماعية، ولدى الجماعات الافتراضية، أي خارج الوسط العائلي.

رابعاً: الاستعمال بدل الاستخدام

انتقل مفهوم الاستخدام الذي تبلور في ظل المدرسة الوظيفية، كما أشرنا إليه في ما تقدم، ليصبح مفهوماً أساسياً في نظرية البناء الاجتماعي. هذا الانتقال لم يتم بيسر. لقد ظل يعاني عائقاً معرفياً يلح على التركيز على أداء أدوات التواصل مما يعبر ضمنياً عن الفهم السائد الذي يرى أن هذا الأداء يكتفي بذاته، وليس نتاج عملية بناء اجتماعي‏[43]. وهذا لا يمكن تلمُّسه في بعض بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية فقط، بل وجد حتى في الدول ذات التقاليد البحثية العريقة في مجال علوم الإعلام والاتصال.

إن صعوبة هذا الانتقال تعود في تقديرنا إلى التأثر بما أصبح يعرف بالحتمية التكنولوجية التي تغالي في القوة المحايثة للعدة التكنولوجية، وتضخم في قدرتها على تحديد الاستخدام وتوجيهه. وبهذا يختصر الاستخدام في الإجراء التقني الذي يتلخّص في الخصائص التي تمتاز بها الميديا وتشغيلها فقط‏[44]. إن الأفق النظري لهذا الاختزال يقف عند حد تنميط الاستخدام وتوحيده وفق ما تمليه خصائص العدة التكنولوجية. لهذا نلاحظ توجهاً مؤكداً في البحث العلمي الإعلامي في البلدان العربية نحو دراسة تأثير العدة التكنولوجية، بدءاً بالإذاعة، والتلفزيون، وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. ويقرأ هذا التأثير المزعوم، في الأغلب؛ إما على أساس مضمون مادة الاتصال وإما انطلاقاً من الخصائص التقنية والاتصالية التي تتمتع بها هذه الوسيلة أو تلك.

ليست الحتمية التكنولوجية فقط هي التي عسرت هذا الانتقال بل إن للحتمية الاجتماعية دوراً في ذلك؛ إذ ترى أن القوى الاجتماعية متمثلة بمجموعة المؤسسات الاجتماعية: العائلة، المدرسة، الجامعة، الكنائس والمساجد، والنوادي، مجموعات الأصدقاء، هي التي تتحكم في هذا الاستخدام وتؤطره وتوجهه. بينما ظهرت نظريات الاستخدام في سياق خاص يمتاز برغبة الفرد في تحقيق استقلاليته. وإن كانت الوسائط التي اخترعت تباعاً، مثل:(الفيديو (Magnétoscope)‏[45]، شريط الكاسيت، الـ دي في دي، الـ سي دي، الآي بود، واللوح الإلكتروني، والهاتف المحمول…) والتي شكلت مجالاً لدراسة الاستخدامات تحقق قدراً كبيراً من استقلالية المستخدم إلا أن المؤسسات الاجتماعية التي شكلت السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي لاستخداماتها أصبحت تعاني التضعضع إن لم يكن التفكك، وبدأت تفقد، تدريجياً، مكانتها العملية والرمزية، مثل الأسرة، والمؤسسات التعليمية والصحية، وحتى الطبقات الاجتماعية بدأت تعاني الضمور‏[46] أو تعيش مخاض إعادة التَشَكُل. ناهيك بانفلات التدافع الاجتماعي من أطره الكلاسكية في ظل انطفاء وهج الصراع الأيديولوجي: الأحزاب السياسية والنقابات.

اتجهت الدراسات إلى البحث عن استخدام أدوات التواصل لدى الفئات الاجتماعية المختلفة: المراهقين، المساجين، كبار السن، النساء. لقد اعترف ميشال دي سرتو بقدرات الأشخاص في تحقيق استقلالهم الذاتي وحريتهم فكانت مقاربته تتمثل بالقبض على الآليات التي يصبح بفضلها الأشخاص فاعلين ويظهرون أشكالاً من الاستقلال الذاتي في جملة واسعة من الممارسات في الحياة اليومية: الاستهلاك والقراءة واللباس‏[47].

إذاً علاقة المستخدم بوسائط الإعلام والاتصال تتحكم فيها قوتان أساسيتان: الأولى، يحركها منطق العدة التقنية التي ليست محايدة، والثانية، يحركها الفرد/المستخدم الذي يستملكها بحسب المواءمة (Appropriation). لقد تحول هذا المفهوم إلى رئة تتنفس من خلالها بحوث الاستخدام لأنه يكشف انزياح العدة عن الوظائف التي حددت لها ساعة تصميمها، ويلقي الضوء على أشكال الاستخدام المتباينة من شخص إلى آخر، ومن فئة اجتماعية إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، بل حتى داخل الثقافة الواحدة. فاستخدام مواقع الشبكات الاجتماعية في البلدان العربية التي يطبق فيها الفصل بين الجنسين بدءاً بروضة الأطفال إلى غاية التعليم العالي وحتى في العمل، يكون موجهاً أساساً إلى إقامة علاقة مع الجنس الآخر. بينما في البلدان العربية التي لم يحدث فيها هذا الفصل لكن يعاني مواطنوها البطالة وشظف العيش، فإنهم يستخدمون هذه المواقع في البحث عن فرص لبناء مستقبلهم، بعيداً من موطنهم. ليس هذا فحسب، بل إن نظريات الاستخدام تبين أشكال إدغام العدة التكنولوجية في حياة الأشخاص اليومية وتصبح جزءاً منها.

في الحقيقة، ثمة كم من البحوث في المنطقة العربية التي اشتغلت على الاستخدام لكن ضمن أفق المدرسة الوظيفية، أي من أجل تحقيق الإشباعات. وتفكيك عيِّنة من هذه البحوث، يفصح أنها تفهم الاستخدام كمرادف للاستعمال بينما الحفر في المصطلحين يكشف عن الاختلاف في دلالتهما. فالاستعمال بحسب الباحث دومينيك كردون‏[48] هو صدى للبعد العملي والوظيفي للأدوات التكنولوجية، كما صممها المهندسون، بينما يمدد الاستخدام علاقة الأشخاص بالتكنولوجيا. ويهتم بالطريقة التي يستثمرونها بها، ويمارسونها، ويجسدون فيها رغباتهم وتخيلاتهم ومرجعياتهم الثقافية. فمفهوم الاستخدام يركز على فكرة ثنائية المهندس المصمم والمستخدم: فـ الأول يملك سلطة على منتجه التقني، والثاني يقوم بـ «تأويله» بطريقته فيجدده ويسهم في إعادة ابتكاره. فالاستخدام يؤدي إلى الابتكار‏[49]. والابتكار هنا يتعدى حرفيته التقنية ويتجاوز كفاءة المستخدم ومهاراته، بل يرتبط بتطويع العدة التكنولوجية وتوظيفها، بحسب حاجاته ومتطلباته ورغباته.

إذاً، إن الاستخدام مفهوم محوري في نظريات البناء الاجتماعي للواقع، وقد تشكل مضمونه السيوسيولوجي في الدراسات الحديثة التي اهتمت بشبكة الإنترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية. لذا من الصعب تبرير قصور البحوث التي تناولت بالدراسة هذه المواقع بتبعيتها للنظريات الغربية، لأنه يشي بعدم استيعاب فلسفة الاستخدام الاجتماعي كما يبيّن سعيها إلى تنميطه وإخضاعه للاعتيادية (La Normalité) التي ترومها الإحصاءات في البحوث الكمية. وهذا لا ينفي بتاتاً وجود بعض المحاولات الجادة لنقد بعض المفاهيم الأساسية التي تعتمد عليها نظريات الاستخدام، وحتى نفيها في الواقع اليومي، مثل مفهوم «التملك»‏[50].

يمكن أن نختتم التفكير في غياب الأفق النظري للبحث الإعلامي في المنطقة العربية بالقول إن الكثير من البحوث التي تناولت بالدراسة «الميديا الجديدة» توقفت عند المقاربة الكمية، ولم تصل إلى المقاربة النوعية التي تغوص في أعماق ممارسات الاتصال وتستنطق تفاصيلها. ليس هذا فحسب، بل وظفت المقاربة الكمية لإعادة إنتاج الخطاب الوعظي الأخلاقي الذي ينبّه الدارسين إلى ما يجب أن تكون عليه هذه الميديا، ومواقع الشبكات الاجتماعية تحديداً ولا يدرسها كما هي موجودة في الواقع، وكيف تغلغلت في مفاصل الحياة الاجتماعية لمستخدميها. فلو افترضنا، تجاوزاً، أن قصور البحث العلمي الإعلامي والاتصال في الدول العربية ناتج من تبعية للنظرية الغربية فالمطلوب تقديم البرهان والحجج الدامغة عن غياب النظرية المتجذرة (Théorie ancrée/Grounded Theory) في بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية‏[51].

أشار الباحثان ترومبلي ومياج إلى الفخ الذي يترصد الباحثين في حقل الاتصال وشخّصاه في التسليم بمعادلة ما هو اتصالي بما هو سوسيولوجي، وكأن ملاحظة وجود الاتصال في كل شيء يخول لنا القول إن كل شيء اتصال… فالحياة الاجتماعية تفترض وجود أنظمة اتصالية معقدة في أنشطتها، لكن هذه الملاحظة الأساسية لا تقودنا منطقياً إلى التفكير بإمكانية استجلاء هذا التعقد الاجتماعي انطلاقاً من الاتصال وحده. فبعض البحوث التي اهتمت بالميديا الجديدة في المنطقة العربية انطلقت من مجال الاتصال عبر الوسائط الحديثة لتفسير التغيير الحاصل في بعض الظواهر الاجتماعية والسياسية، مثل: الحياة الخاصة، والحياة العامة، والصداقة، والعلاقة الاجتماعية الافتراضية، والنضال الرقمي والفضاء العمومي، ورأس المال الاجتماعي، والهوية الفعلية والرقمية، وغيرها من الظواهر المعقدة. فكان الاتصال «الكوة» التي تنظر منها إلى التغيير الحاصل في الحياة الاجتماعية. وتالياً انزاحت عن دراسة الاتصال أو اتخذت كمطية فقط. ولم تتكبد مشقة الانطلاق من الاجتماعي لفهم الاتصال أو على الأقل لطرح الإشكاليات الكبرى التي يعانيها الاتصال. بمعنى آخر فإن البحث العلمي حول الميديا الجديدة في المنطقة العربية، لم ينطلق مما هو سيوسيولوجي لطرح أسئلة الاتصال الكبرى في المنطقة العربية، مثل: ما هي تبعات ثراء رأس المال الاجتماعي في عملية الاتصال في المنطقة العربية؟ وما هي تبعات انزياح الحدود بين ما هو عام أو خاص على الاتصال؟ هل جرده من طابعه التضميني؟ وما تأثير غياب التراتبية في شبكة الاتصال على اتصالنا القائم على تراتبية اجتماعية؟

إن الاتصال يقوم على التمثل؛ فتمثلنا للآخر تتحكم فيه جملة من المحددات، منها اعتبار السن ككل المجتمعات الشفهية. لكن السن لا يتجلى في التواصل عبر الشبكات الرقمية: فما تبعات ذلك على عملية الاتصال في السياق الحالي والمستقبلي؟ ولماذا نلاحظ أن أمهاتنا وجدّاتنا اللواتي أبدعن في ابتكار الأشكال الهندسية والألوان في الزرابي وأواني الفخار التي كن يصنعنها يقفن اليوم عاجزات عن فهم دلالة الأشكال والألوان التي تطفح بها وسائل الاتصال الجماهيري أو الميديا الجديدة؟ إن أجدادنا وآباءنا الذين سرحوا بخيالهم في رسم الأشكال المختلفة بألوان متعددة ومتباينة على المَصُوغَات الفضية يعانون اليوم العجز ذاته في فك رموز العلامات المرئية التي ترفد الخطاب السمعي – البصري في مختلف الوسائط الاتصالية. وهل شراء المؤسسات الاقتصادية والثقافية والتجارية عُدّة الاتصال المعاصر وتملُّكها، أدَّى، بشكل آلي إلى تطوير الاتصال وترقيته؟ أم أنها تحولت إلى عامل إضافي في عرقلته؟.

 

قد يهمكم أيضاً  الإعلام الرقمي والاجتماعي في النشاط المدني: فعالية أم عبء؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإعلام #علوم_الإعلام #النظريات_الإعلامية #بحوث_الإعلام #البحث_العلمي #علوم_الإعلام_والاتصال #دراسات