ترسو الأحزاب السياسية المغربية على موقع هش من جغرافية النظام السياسي، وإذا كان ذلك راجعاً في جانب أساسي إلى هيمنة المؤسسة الملكية على مفاصل الحياة السياسية المغربية ككل، فإن ما يكرسه هو ضعف الأحزاب من داخل مشهد معتل لا يؤهلها لمنافسة الفاعل الملكي. وأمام ذلك لا يتيح لها نفَسُها الحركي المنخنق سوى الانكفاء والتفرغ لمناحي السياسة الداخلية، وفي المقابل تنأى بنفسها عن المجال الحيوي للسياسة الخارجية وتغيب عنه نظراً لحجزه من طرف المؤسسة الملكية، فكيف تتعاطى الأحزاب السياسية مع الشأنين الداخلي والخارجي إذاً؟

أولاً: تشخيص واقع المشهد الحزبي المغربي

بصرف النظر عن الانغماس في الجدال الدائر بين من يعتبر الأحزاب السياسية المغربية جزءاً من النظام السياسي للمغرب وبين من يعتبرها خارجه، فإن الأكيد أنها انتهت سريعاً إلى التخبط في أزمة هيكلية جعلتها تبتعد كل البعد بلا رجعة عن فترة العصر الذهبي من النضالات السياسية؛ وبذلك غدت فاعلية المؤسسات الحزبية ضعيفة في النسق السياسي المغربي إلى جانب ضعف موقعها التاريخي في النسق الدستوري. فما هي تمظهرات أزمة الفاعل الحزبي؟ وما العوامل المفسرة لها.

1 – تمظهرات أزمة الفاعل الحزبي

قد يلاحظ المتتبع كم ابتعد الشأن الحزبي عن وظيفته الدستورية، وكيف تحولت الحياة الحزبية إلى مجال لتصفية الحسابات السياسية والشخصية إلى درجة العبث المقيت، وهذا ما كان له تأثيره الواضح في حركية النخبة المغربية وتصرفاتها ومواقفها،…‏[1]، وذلك بعد أن كانت مضرب مثل خلال فترة زهو النضال السياسي من داخل المؤسسات الحزبية وفي أحلك أيام التاريخ السياسي للمغرب. أما اليوم وإذِ انفرجت الأوضاع فقد نحت وضعية الأحزاب منحى آخر مشوباً بعوار في التنظيم والوظيفة المفترضة، إيذاناً بموت سريري لكائنات أصبحت مرثية في حكم الزمن السياسي.

فاستناداً إلى «واتربوري» فإن النخبة المغربية على اختلاف فئاتها (…، الأحزاب السياسية،…) تنمي مسلكيات شبيهة بمسلكيات القبائل المنظمة طبقاً للمبادئ التقطيعية‏[2]، فهي تعيد إنتاج آليات اشتغال المجتمع المغربي ككل من حيث ميله بطبيعته إلى الانقسام، حسب ما توصل إليه الباحث نفسه في موضع آخر.

والنزعة الانقسامية لا تفهم فقط من داخل نفس الحزب الواحد حين يتحول فيه الاختلاف في الآراء إلى توجهات ثم إلى تيارات ينتهي كل منها أخيراً إلى خلية حزب جديد بالانشقاق، بل إنها تفهم كذلك من داخل المشهد الحزبي ككل حين يتشتت ويتشرذم كنتيجة لعدم تحديد نسل الأحزاب المتكاثرة – ليس طبيعياً ولكن بالاستنساخ – فتضيع وحدة الصف خاصة حينما تجد نفس التصور المذهبي ونفس البرنامج لدى مجموعة لا يفرق بينها سوى التهافت على الأسامي.

فالحزب لا يوجد مغربياً بالنظر إلى تاريخيته بعيداً من صيغ الزعامة والقبيلة والتقليدوية، ضداً في الامتياح من شكل الحزب الحديث الممهور بروح التحالف الأيديولوجي والعقل السياسي، لهذا تصير إمكانات التكتل مجرد إجراءات تكتيكية غير موجبة للالتزام بالضرورة، فما إن تتعارض المصالح حتى لا يصير للتكتل أي معنى، ويعود كل شيء إلى نقطة الصفر وينطلق التراشق بالتخوين والعمالة والدوغمائية، وما إلى ذلك من التهم التي تهيّأ جيداً في مطبخ الانقسامية لتبرير الانشقاق وقطع دابر الغرام السياسي‏[3].

وإذا كان تاريخ النظام السياسي المغربي هو تاريخ إضعاف المؤسسات الحزبية، فإن حالة الفرقة والشتات التي يعيشها المشهد الحزبي ليست راجعة كلية إلى أعطابه الذاتية فحسب، بل إنه قد أريد له أن يكون كذلك وفق استراتيجية للتحكم عبر التفكيك من الداخل لكنها منطلقة من الخارج، حيث أفلح النظام في إسقاط عقدة العار السياسي عنه على الأحزاب، وبدل أن يكون التدافع بينها وبينه فهي غرقت في حالة من الاحتراب الداخلي في ما بينها، وهو ما خلق وضعاً من اللاأمان المتواصل لا يمكن في ظله تصور قيام تأقطبات حزبية قوية قادرة على منافسة المؤسسة الملكية، إذ تخلق مأسسة التوترات وضعية لا يمكن للأعداء فيها أن يحطموا بعضهم بعضاً دون أن يحطموا أنفسهم بأيديهم. وتفرض هذه العلاقة سياسة «عش ودع الغير يعيش». ففي النظام المغربي للبقاء والنجاح، يتعين على الدوام تقييم فرص «التحالف» و«التحالف المضاد» بين فئات النخبة. وهكذا يكون التراجع العام إلى نقطة الوضع القائم سلوكاً أكثر أمناً وأماناً في نظر الجميع‏[4].

إن الأمراض المزمنة التي تصيب الذات الحزبية لا تتوقف عند حد المظاهر السياسية في ما يسجل من توتر العلاقة بين الدولة والفعاليات الحزبية، بل كذلك هناك تجليات نفسية اجتماعية تهم أزمة ثقة بين المواطنين والأحزاب نظراً إلى ما أصبحت عليه هذه الأخيرة من سلوكات سياسية مضطربة، أبرزها: «هيمنة الشخصية السلطوية على قيادة الأحزاب السياسية، وضعف التواصل الجيد بين القيادة والقاعدة واتساع الهوة بين الخطاب والفعل السياسي، وانتشار ظاهرة الترحال أو الانتقال من حزب لآخر والاعتماد على غرف الظل في التدبير السياسي»‏[5].

هكذا تبرز بجلاء أزمة الحزبية السياسية المغربية، فما هي العوامل المفسرة الكامنة من ورائها؟

2 – العوامل المفسرة لأزمة الفاعل الحزبي

يرجع ضعف موقع الأحزاب في المنظومة السياسية المغربية إلى وهنها الداخلي، الذي يجعلها غير قادرة على إثبات ذاتها في ملعب النسق السياسي وبالتالي لا تستطيع تحصيل دور مميز فيه خاصة بعدما أصبحت تفتقد تدريجاً السند الشعبي الذي هو المقياس الحقيقي لنهوضها بدورها التأطيري للمجتمع.

فإذا استثنينا مطلب الاستقلال الذي كان مطلباً عاماً وقادراً على تعبئة الشعب – مع التركيز على الخلاف الذي برز في ما بعد حول علاقة الاستقلال الوطني بالتحرر والديمقراطية – فإن الأحزاب المغربية اصطدمت بعنصرين أساسيين سوف يفرغانها من كل فعالية حقيقية ومن كل إمكانية للتجذر الشعبي: غياب المشروع الاجتماعي المقنع والملائم؛ واحتكار العائلة الملكية للسلطة احتكاراً تاماً‏[6].

هذا العنصر الأخير يجرّنا إلى واقع إضعاف الأحزاب من الخارج بفعل الآثار الممتدة للقوة المهيمنة على النسق السياسي، «غير أن القوة الأقوى ليست هي عنف المسيطرين بل رضى المسيطر عليهم، لذلك يعمل كل حاكم على تحويل قوته إلى حق كما يذهب إلى ذلك «جان جاك روسو»، وتحويل القوة إلى حق لا يمكن أن يتم إلا عبر المشروعية»‏[7]، وبموجب ذلك تماهت الأحزاب المغربية المغلوبة مع غالبها – أي المؤسسة الملكية -، وأصبحت تقلده بحسب نظرية «ابن خلدون»، فغدت لا تتقن غير خدمة العائلة الملكية بنزاهة لكن بتملق في نفس الآن.

ومن أوجه ذلك أن أصبحت الأحزاب المغربية مدرسة لتكوين النخب التي تحتاج العائلة الملكية إليها، ذلك أن الجامعات لم تنجح في القيام بهذا الدور، لأن الشخصيات المستقلة تظل ذات نفوذ محدود، وتغرق في التقنيات بالإضافة إلى أن مسألة السلطة هي بالأساس مسألة سياسية ترتكز على الخبرة وليس العكس‏[8].

الأكيد هو أن هناك تصوراً للتراتبية المؤسسية داخل النظام السياسي المغربي لا يترك سوى هامش صغير للأحزاب السياسية وباقي التنظيمات، فالمؤسسات من هذا المنظور هي عبارة عن قنوات لتمرير الإرادة الملكية ولا يمكنها أن تصبح مراكز قرارات ومبادرات؛ «فالعرش المغربي ليس أريكة فارغة»، بل ملكية حاضرة في جميع أرجاء الجسم السياسي المغربي‏[9]، ساعده في ذلك تحكمه في الحقل السياسي، وقدرته الواسعة على خلق الأحداث، وتوجيه مسار الحركة السياسية، وأسلوبه الحذق والتدريجي في استيعاب بؤر الاعتراض، ودمج الأحزاب والنخب السياسية التي ما زالت تتردد في الإقرار بالدور التاريخي والسياسي للملكية المغربية…‏[10].

هكذا إذاً وفي ظل مقاربة سياسية مخزنية كهذه التي تتعامل مع الأحزاب السياسية لا كحقول مستقلة من المفترض أن تقوم بدورها في لفت انتباه السلطة السياسية إلى المشاكل والتحديات التي تواجهها بلادنا، بل كأحزاب سياسية رخوية بلا كرامة وبلا عزة وبلا مبادئ، وبالنتيجة كملحقات سياسية لها، تؤدي دور المسوِّق لمنتوجها السياسي‏[11].

ثانياً: الداخلي والخارجي في تحركات الفاعل الحزبي

أثبتت الممارسة السياسية للأحزاب المغربية وفاءً مطلقاً لدى هذه الأحزاب اتجاه مسلمات دينامية النسق السياسي المغربي، فما دامت السياسة الداخلية تجمع السياسات العمومية الدنيا يسمح للأحزاب بالاختلاف في التصورات حولها والتعدد في البرامج المقترحة بشأنها، لكن القضايا الاستراتيجية في إطار السياسة الخارجية لا تسمح بهذا الهامش، حيث لا خيار متاح غير الإجماع الوطني بالالتفاف حول المبادرات الملكية وتبنّيها والترافع عنها.

1 – السياسة الداخلية مجال للتعدد والاختلاف بين الأحزاب

كانت الأحزاب السياسية قبل ظهور قانونها التنظيمي تتحرك وفق نص ظهير الحريات العامة الذي ظل جامداً منذ صدوره سنة 1958 حيث عرّف الفصل 15 منه الحزب السياسي وفقاً لما يلي: «يعتبر نشاطاً سياسياً كل نشاط من شأنه أن يرجع مباشرة أو غير مباشرة مبادئ الجمعية في تسيير وتدبير الشؤون العمومية، وأن يسعى ممثلوها في تطبيقهما». أي أن الحزب كان يعد في نظر المشرِّع مجرد جمعية ذات نشاط سياسي.

عرّف قانون الأحزاب السياسية (رقم 04 – 36) الحزب السياسي في مادته الأولى الحزب السياسي بأنه: «تنظيم دائم يتمتع بالشخصية المعنوية، ويؤسس بمقتضى اتفاق بين أشخاص طبيعيين يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية ويتقاسمون نفس المبادئ، قصد المشاركة في تدبير الشؤون العامة بطرق ديمقراطية ولغاية غير توزيع الأرباح». وبذلك فالمشرِّع حصر دور الأحزاب في «… مجرد المساهمة في تدبير الشؤون العامة، وهذا يبقى في جميع الأحوال أدنى من هدف الوصول إلى السلطة وتنفيذ سياسة محددة، أو هدف الوصول إلى الحكم والاحتفاظ به كما حدد ذلك «جيمس لوكمان»…»‏[12].

وهو ما لا يمكن أن يتصور في ما سطرته المادة 2 من نفس القانون كأهداف للأحزاب السياسية حيث نصت على أن هذه الأخيرة: «تسهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم، وهي بهذه الصفة تسهم في نشر الثقافة السياسية ومشاركة المواطنين في الحياة العامة وتأهيل نخب قادرة على تحمل المسؤوليات العمومية وتنشيط الحقل السياسي».

غير أن مراجعة الدستور سنة 2011 بما أدمجته من مقتضيات جديدة تهم وظيفة الأحزاب السياسية فرضت تعديل قانونها التنظيمي بعده حتى يكون مطابقاً للدستور المستحدث، حيث أضافت المادة 2 من القانون التنظيمي طبقاً للمادة 7 من الدستور الفقرة التالية: «… كما يساهم – الحزب السياسي – في التعبير عن إرادة الناخبين ويشارك في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، في نطاق المؤسسات الدستورية». ومع أهمية هذه النقلة في الوظائف المطلوبة من المؤسسة الحزبية، إلا أنه لم يعترف لهذه الأخيرة إلا بالمشاركة في ممارسة السلطة في إطار المجال المشترك بين الملك والحكومة، وليس بممارستها التي تعود إلى الملك في إطار المجال الخاص، أو بكلمة، ليست وظيفة الأحزاب الوصول إلى الحكم وتطبيق برامجها، إذ إن الطبيعة المغلقة للنسق السياسي المغربي، ووجود معطى وحدة السلطة على مستوى الملك ونأيها عن أية إمكانية للتنافس السياسي، وحضور الملك كفاعل مركزي استئثاري لسلطة التقرير والقرار، ساهمت إلى حد كبير في تكريس اللاقدرة السياسية‏[13] لدى الأحزاب السياسية التي وإن كانت تحصل على الضوء الأخضر من رأس النظام السياسي في إبداء التصورات لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الداخلية للبلاد، فهي لا يسمح لها إلا بالمرور المفضي إلى الركون خلف المبادرات الملكية ولا يمكن الاسترسال في الاتجاه إلى منطقة الفعل المحظورة والمسيَّجة لفائدة الفاعل الملكي.

بالعودة إلى القانون التنظيمي للأحزاب لسنة 2011 نجد أنه ينص في مادته 24 على أنه: «يتعين على كل حزب أن يتوفر على برنامج… يحدد برنامج الحزب، على الخصوص، الأسس والأهداف التي يتبناها الحزب في نطاق احترام الدستور وأحكام القانون…»، وهذا يعني تعدد البرامج الحزبية بتعددها هي، وهو ما يمتد إلى تسجيل اختلاف بين الأحزاب في مقارباتها لتدبير الشأن العام بمناسبة الانتخابات البرلمانية التي تفرز الأغلبية الحكومية دورياً.

ففي صلب البرامج الحزبية ومن خلال الوثائق المرجعية للأحزاب أولاً، طبقاً لما تحدثت عنه المادة 24، هناك من الأحزاب ما تُعتبر ذات ميولات برجوازية (أحزاب اليمين مثل التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري)، ومنها ذات أصول بروليتارية (خاصة اليسار)، ومنها ما نشأ للدفاع عن البادية والفلاحين (الحركة الشعبية والأحزاب المنشقة عنها)، ثم هناك أخيراً ما نشأ للدفاع عن المرجعية والهوية الإسلامية (حزب العدالة والتنمية).

كما أنه خلال حملات الانتخابات التشريعية وفي محاولة لإقناع الناخبين بالتصويت لفائدتها، تعدّد الأحزاب من برامجها الانتخابية وتتفنن في التفارق بشأنها، حيث كل حزب يقترح نسبة نمو اقتصادي معينة، ويقترح عدداً معيناً من فرص التشغيل التي يعد بإحداثها. وبالمنطق نفسه تتحدث الأحزاب عن تقليص الفقر والبطالة ورفع نسبة النمو والاستثمار ومحاربة الفساد والتحديث وعقلنة التدبير العمومي والحكامة.

غير أن تعدد البرامج الانتخابية واختلاف تصورات الأحزاب للسياسة الداخلية لا ينتج تمايزات في ما بينها من حيث المشاريع السياسية والنماذج التنموية التي يقتضيها التنافس السياسي والانتخابي، بل إنها في الغالب متشابهة وتكاد تكون متطابقة، لأن الأحزاب تتهافت جميعاً على المبادرات الملكية وتجعل منها خطاباً عاماً ورئيسياً ولا تملك اقتراحات لتطويرها بل تكتفي بتسويقها الغرض الانتخابي المحض جاعلة في النهاية من برامجها – وإن كانت متعددة – مجرد ورقة من أجل الظفر بموقع متقدم لا غير.

فهذا ما ينطبق على دول العالم الثالث – ومنها المغرب – إلى الحد الذي تتلاقى برامج الأحزاب السياسية في هذه النظم المقيدة، في الاتجاهات العامة، وقد لا تختلف كثيراً مع شخص رئيس الدولة الذي يكاد ينفرد بالقرار في النطاق الخارجي على وجه التحديد. وذلك على عكس الأوضاع الداخلية التي تشهد صراعاً سياسياً حاداً بين الأحزاب السياسية والكتل المختلفة بشأنها باعتبار أنها تمثل أهمية كبيرة لدى المواطنين على عكس القضايا الخارجية‏[14]، التي تبقى على العموم في حكم المتفق عليه بين الأحزاب وفي توافق تام مع الاستراتيجيات الملكية.

2 – السياسة الخارجية محل إجماع وطني بين الأحزاب

السياسة الخارجية تأتي في مرتبة ثانية لدى الأحزاب، لكنها ليست ثانوية‏[15]، حيث يخفت البعد الخارجي في برامج الأحزاب السياسية مقارنة بما تقترحه بشأن السياسات العمومية الداخلية التي تظل ذات ارتباط مباشر بالمعيشي واليومي للمواطن الذي يحكم على البرامج الحزبية من خلال ما تقدمه هذه الأخيرة بذاك الصدد على الخصوص بمناسبات الحملات الانتخابية حتى يمكنه أن يقتنع بالتصويت على هذا الحزب أو ذاك. ولهذا نجد أن الأحزاب حينما وعت بطلب المواطن أكثر على السياسة الداخلية أصبحت تقايض صوته الانتخابي ببرامج مقصورة عليها فقط.

فالأحزاب السياسية المغربية إذ تأخذ مسافة من السياسة الخارجية فهي لا تملك أن تختلف إزاء الجوانب المتعلقة بها في برامجها السياسية التي أكثر ما تميل نحو الأطروحة الرسمية للدولة؛ «فالسائد في المغرب أن السياسة الخارجية بيد القصر، لأنها تدخل ضمن تدبير «المصالح العليا» للدولة التي يجب ألّا تخضع للمزايدات السياسية أو التباري الانتخابي، …»‏[16].

وتاريخياً تراوحت مساهمة الأحزاب في السياسة الخارجية المغربية بين مرحلة ثقل الأحزاب وامتدت قبيل استقلال المغرب وحتى وفاة الملك الراحل محمد الخامس، حيث شاركت أحزاب الحركة الوطنية في المفاوضات مع كل من فرنسا وإسبانيا من أجل الاستقلال، وبعده تولى حزب الاستقلال حقيبة الخارجية في شخص أحمد بلافريج ومن بعده عبد الله إبراهيم عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنشق عن حزب الاستقلال. تلتها مرحلة خبو الدور الدبلوماسي للأحزاب في المجال الخارجي مع إعلان حالة الاستثناء سنة 1965، حيث «احتكر الملك الراحل الحسن الثاني السياسة الخارجية، وأصبحت وزارة الخارجية وزارة تقع داخل دائرة المجال المحفوظ، ويتولى تسييرها، في معظم الأحيان، «تكنوقراط» من خارج الأحزاب»‏[17]، باستثناء تجربة امحمد بوستة من حزب الاستقلال بين سنتي 1977 و1983، وتجربة حكومة عبد الاله بنكيران بعد دستور 2011 التي ترجمت عودة وزارة الخارجية إلى حظيرة الأحزاب.

وانطلاقاً من مرحلة «الإجماع الوطني» سنة 1975 حيث تم إدماج المعارضة في اللعبة السياسية من خلال قضية الصحراء في إطار ما سُمِّي «المسلسل الديمقراطي»، رجعت الأحزاب إلى ساحة الفعل الخارجي لكن للقيام بدور تنفيذي ليس إلا، بالنظر إلى ما تطلبته تحديات تلك المرحلة من ملحاحية تعبئة جميع الأحزاب حول الهوية الوطنية وطرح الخلافات الداخلية مع القصر جانباً لمواجهة المخاطر الخارجية التي دعت إلى المشاركة في تحرير الصحراء ومواجهة عداء الجزائر للوحدة الترابية للمغرب من موقع الحكومة المشكلة حزبياً. وهو ما سيتيح للأحزاب استعادة اعتبارها الشكلي وإن كان في المنطلق مجرد منحة من المؤسسة الملكية، إلا أنه سيصبح في ما بعد أمراً واقعاً مفروضاً في المجال السياسي المغربي.

فمنذ منتصف التسعينيات على الأقل أصبحت المرجعية الخارجية التي يعبر عنها في اللغة السياسية المتداولة بالصيغة التالية: «التزامات المغرب الخارجية» محل استعمال تنافسي من طرف الحكومة، المؤسسة الملكية، الأحزاب السياسية…‏[18]، وقد برز ذلك خصوصاً مع صعود حكومة التناوب، لكن دون تجاوز الخطوط الحمر التي قبلت الأحزاب الاشتغال من داخلها، ودون تسلّق مجرد الدور التنفيذي المرسوم لها، والتي باتت في ضوئها مجرد مسوّق لمبادرات الملك داخلياً وخارجياً كما كان الشأن حينما اقترح مشروع الحكم الذاتي لحلحلة قضية الصحراء، فقد تلقت الأحزاب الضوء الأخضر لتكثيف تحركاتها في إطار ما ينعت بـ «الدبلوماسية الموازية الحزبية» غير الرسمية لمحاولة اكتساب التأييد الدولي لهذه المبادرة الملكية الخالصة.

وبالرغم من كل ذلك فالمتتبع للشأن السياسي المغربي في السنوات الأخيرة يلاحظ أن الفاعل السياسي الأكثر مبادرة وتحركاً أفقياً وعمودياً وفي كل مجالات الحياة العامة هو الحكم/النظام، هذا الحضور المكثف جعله مهيمناً على الحياة السياسية إلى درجة أن الكل أصبح ينتظر فعله ومبادرته كي يتحرك على إيقاعات رد الفعل الذي جعل من الأحزاب السياسية إطارات تسجيل مواقف رجع الصدى…‏[19].

ولأجله تخلص رؤى الباحثين والمحللين المغاربة إلى أن مواقف التشكيلات السياسية عادة ما تكون وراء مواقف القصر في جميع القضايا الخارجية الكبرى. وما يدلل على ذلك أنه حين افتتح مكتب الاتصال الإسرائيلي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، التزمت جميع الأحزاب السياسية الصمت، وعندما أقدم الملك محمد السادس في تشرين الأول/أكتوبر 2002 بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية على إغلاق المكتب بالرباط سارعت جميع الأحزاب إلى الترحيب بتلك الخطوة‏[20]، في الوقت الذي لم تحرك فيه ساكناً من جديد حين تم استقبال وزير الخارجية الإسرائيلي «سيلفان شالوم» بالرباط، وبخاصة أن الأحزاب المغربية تحتفظ بذكرى سيئة في ما يتعلق بتعامل الملكية مع آرائها بخصوص قضايا السياسة الخارجية وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية حينما كان مصير عبد الرحيم بوعبيد النفي والاستبعاد إلى مدينة «ميسور» عقاباً على معارضته قرار الملك الراحل الحسن الثاني بقبول إجراء الإستفتاء على الصحراء. وقد اختيرت تلك المدينة تحديداً لأنها عرفت بأنها عاصمة «الحمير»، وفي ذلك اتجاه الملك للفت الإشارة إلى القصور السياسي للمعارض المعني الذي لا يفقه شيئاً اتجاه قضية حساسة من حجم القضية الوطنية التي لا يقدر على الإحاطة بمثالبها وخباياها سوى شخص الملك بنبوغه السياسي وحنكة تجربته ونظره الثاقب المنقطع النظير.

هذه النظرة هي التي رهنت الأحزاب السياسية بالمغرب في الغالب بالافتقاد للرشد السياسي المطلوب وجردتها من القدرة والأهلية للعب مع كبير حقل السياسة الخارجية.

خاتمة

الخلاصة ليست تلخيصاً بقدر ما هي محاولة لاجتراح أعراض البرود السياسي الذي تعانيه الأحزاب السياسية المغربية في مقابل قوة وكثافة نشاط المؤسسة الملكية، حيث إن تأثير الأحزاب في السياستين الداخلية والخارجية محكوم بموقعها الذي يتذيل جسد النظام السياسي المغربي.

ففي المركز الملك هو الفاعل الوحيد الذي يتدخل بدون حدود في ما هو داخلي وخارجي على السواء، بل يجمع بينهما كمظهر آخر لعدم الفصل بين السلطات (السلطة على الداخل والسلطة الخارجية).

وفي الأطراف تنفصل السياستان الداخلية والخارجية على مستوى الفاعلين الحزبيين، حيث إذا كانوا يحظون ببعض الإسهام في الأولى من باب نافلة الفعل السياسي، فلا يمكن أن يكون ذلك سنّة تسري حتى على الثانية.

 

قد يهمكم أيضاً  مشكلة الحدود كمحدد للعلاقات الجزائرية _ المغربية

#مركز دراسات_الوحدة_العربية #المغرب #الملكية_في_المغرب #الأحزاب_السياسية_المغربية #الأحزاب_في_المغرب #المشهد_الحزبي_المغربي #السياسة_الخارجية_المغربية #الشأن_الداخلي_المغربي