المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 456. وفي الأصل أوراق هذا الملف قدمت إلى ندوة «في إصلاح المجال الديني» التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية، في مدينة الحمّامات – تونس، بتاريخ 28 – 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.
(**) وجيه قانصو: أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.
البريد الإلكتروني: kansowajih@yahoo.com
[1] التمأسس هي العملية التي يسميها ماكس فيبر «روتنة الكاريزما»؛ أي تحويل تجربة النبوة التي هي فترة التأسيس القائمة على القيادة الكاريزمية إلى مؤسسة قادرة على الاستمرار والبقاء. فالدين في سياقه التاريخي العام، ليس فقط ما يحققه النبي وينجزه، بل هو أيضاً ما تقرره الجماعة الدينية بعد رحيل المؤسس، في مسعى منها لردم الهوة بين زمن الوحي وزمن اللاوحي، ووضع قواعد وآليات عمل جديدة تناسب الواقع المستجد. انظر: Max Weber, The Theory of Social and Economic Organization (New York: Oxford University Press, 1947), pp. 362‑392.
انظر أيضاً: Thomas F. O’Dea and Janet O’Dea Aviad, The Sociology of Religion (Princeton, NJ: Prentice Hall, 1983), pp. 38‑84.
[2] القرآن الكريم، «سورة الأعراف،» الآية 204.
[3] المصدر نفسه، «سورة الأحزاب،» الآية 36.
[4] يقول غادامير: «كل تأويل مرتبط بوضعية ما، وتُشكله وتُحدده المعايير النسبية تاريخياً في ثقافة محددة». فالمؤول (فقيهاً كان أم مفسراً) لا يمكنه أبداً أن يضع ذاته جانباً وهو يحاول فهم النص وتأويله، وهذه الاستحالة هي بالضبط ما يجعل المعنى نتاجاً لمشاركة المؤوّل وتدخله الخاص في عملية الفهم. انظر: هانس غادامير، «اللغة كوسط للتجربة التأويلية،» مجلة العرب والفكر العالمي، العدد 3 (صيف 1988)، ص 22. انظر أيضاً: عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة (بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، 2007)، ص 37 – 50.
[5] استند الفقهاء إلى ما أسموه «حجية الظهور»، وهو المعنى الظني الذي يظهر للمجتهد ويكون الأقرب في نظره إلى مراد النص من معانٍ محتملة أخرى. هذه القاعدة اضطر الفقهاء إلى اعتمادها في إثر وفاة النبي بعد امتناع الكشف عن معنى النص «الواقعي» أو «الموضوعي» الذي يلغي كل احتمالات المعاني الأخرى. ما يعني أن ظهور النص يحتاج إلى مُظهِر له من خارج النص، أي يحتاج إلى معالجة ونشاط فكري من جهة خارجية لإظهاره، ما يجعل الظهور نتيجة وأثراً لفعل الاجتهاد أو القراءة.
[6] من الأمثلة المهمة على حذر الصحابة وتحرُّجهم من القيام بأمر لم يفعله النبي قبلهم، اقتراح عمر بن الخطاب على الخليفة الأول بالشروع في تدوين القرآن وجمعه، مخافة ذهابه بعد موت عدد كبير من حفظة القرآن في واقعة بئر معونة، فكان جواب أبي بكر المباشر والعفوي: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ انظر: محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ج 5، ص 210.
[7] وبخاصة أن الذاكرة الإسلامية لم تحتفظ بجميع مناسبات نزول الآيات التي لم تعد تتجاوز بضع مئات مدونة في المصنفات، ما يعني أن القرآن، وبعدما كان مقترناً بظرف ومناسبة نزوله في ذاكرة الصحابة، بات بعد اكتمال مصنفات التدوين، مقتطعاً من مناسباته، ومتحرراً من خصوصية نزوله. يقول بسام الجمل في كتابه أسباب النزول: «تأكد لدينا أن تسعة أعشار آيات المصحف ليست لها أسباب نزول. ونسبة كبيرة من أخبار النزول مشكوك فيها وفي ملاءمتها لمنطوق نص المصحف ولمقاصد الرسالة المحمدية الأساسية». وهي وضعية تاريخية ألجأت الفقهاء والمفسرين إلى التكيف مع انفصال النص عن خصوصية مورده، فبات الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد. انظر: أبو الحسن محمد صادق السندي، شرح السندي على السنن الصغرى (القاهرة: مكتبة المعرفة، [د. ت.])، ص 426. انظر أيضاً: بسام الجمل، أسباب النزول (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005)، ص 378 – 380.
[8] روى أبي سعيد الخدري أن النبي قال: «إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلى تَنْزِيلِهِ»، قَالَ أَبو بَكرٍ: أَنَا هَوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ عُمَرُ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ خَاصِفُ النَّعْلِ»، قَالَ: وَكَانَ أَعْطَى عَلِيًّا نَعْلَهُ يَخْصِفُهَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدِ احْتَجَّ بِمِثْلِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ. انظر: أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1993)، ص 416.
[9] انظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، [د. ت.])، ج 4، ص 48.
[10] أكد غادامير استحالة حصول قراءة من دون مسبقات تحرك عملية القراءة وتولد فهماً معيناً للنص، إذ إن فكرة المعنى الموضوعي المستقل عن القارئ، في عملية القراءة الفعلية، هي فكرة ساذجة في نظر غادامار، لأنها لا تُعير أدنى اهتمام للأفق الخاص بالمفسر أو المؤول، بل تعتقد أن من الواجب، أن نضع جانباً كامل مجموع مفاهيمنا الخاصة وأفكارنا المسبقة. فهذا المسعى، كما يقول غادامير، «ليس إلا مجرد وهم ساذج بالنسبة إلى كل قارئ مفكر»، فالسعي إلى تجنب مفاهيمنا الخاصة في التفسير، بالنسبة إلى غادامير، هو أمر مستحيل. فأن نفسر، يعني «أن نستخدم مفاهيمنا المسبقة الخاصة». انظر: Richard E. Palmer, Hermeneutics, Studies in Phenomenology and Existential Philosophy (Evanston: Northwestern University Press, 1969), pp. 180‑184.
[11] من الأمثلة على دور المؤثرات الخارجية في استنباط معنى جديد من النص الديني: قول رشيد رضا في أوائل القرن العشرين: «لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم المقيد بالشورى أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام، رغم أنها كانت موجودة دائماً بيننا». قول رشيد رضا يؤكد أن الدلالة السياسية للفظ الشورى الموجود في القرآن، ما كان المسلمون ليلحظوها بشكل مستقل، أو أن تكون من المستتبعات الذاتية للفظ القرآن، أو أن تتنبه لها المؤسسة الدينية التقليديدة. كل ذلك ما كان ليحصل أو يفصح عنه القرآن، إلّا حين وُضع القرآن داخل رهان خاص، ووفق مرجعية تفكير أجنبية عن مرجعية الفكر الإسلامي، وهي المرجعية الغربية، التي حركت في المسلمين التفكير بالمسألة السياسية وقضية الحريات والتمثيل السياسي والديمقراطية، وفق مرجعيات الفهم الغربية للمسألة السياسية. عندها أخذ لفظ «الشورى» القرآني يتخذ دلالات غير مسبوقة وجديدة، لم يكن أحد ليلتفت إليها على مدى ألف وثلاثمئة عام. نبّه رشيد رضا إلى أن النص القرآني ما كان ليفصح بنفسه عن هذا المعنى، وما كان ليثير في أذهاننا الدلالات السياسية الحديثة لفكرة الشورى. كل هذا لم يحصل إلا من «معاشرة الأوروبيين والوقوف على حال الغربيين»، أي النظر إلى القرآن برهانات معنى مختلفة منتجة داخل بيئة مختلفة وثقافة غير مسبوقة. الدلالة السياسية للشورى ما كان القرآن ليفصح عنها أو يثيرها في أذهاننا، إلا بمثير دلالي خارجي (External Stimulator) هو حال الغربيين، الذي عندما تمثله بعض المسلمين، أخذت آية الشورى دلالة جديدة، ومعنى مختلفاً عن السابق.
[12] يقول غادامير: «فلا ينبغي أن نتناول التاريخ من الخارج أو من الأعلى في إحالة موضوعية مصطنعة، فالتاريخ شيء نعاينه دائماً من الداخل بما هو كذلك، من حيث إننا نقف فيه… وتجربة التاريخ تنطوي دائماً على تجربة أن المرء لا يستطيع أن ينتزع نفسه من هذا التاريخ لأنه تاريخه الخاص». غادامير، فن الخطابة وتأويل النص ونقد الأيديولوجيا، انظر: Anthony C. Thiselton, The Two Horizons: New Testament Hermeneutics and Philosophical Description (Exeter: Paternoster; Grand Rapids: Eerdmans, 1980), pp. 304‑310.
[13] هذا يفسر كيف يتكرر معنى آية معينة داخل مذهب خاص ذي حقل دلالي خاص، ولا يتكرر داخل فضاء مذهبي آخر ذي حقل دلالي آخر، وكيف أن المعنى الذي يراه أتباع دين لنصِّهم الديني الخاص لا يتولد لدى أشخاص آخرين لا ينتمون إلى هذا الدين، فتجد أن الأحاسيس والاختلاجات الروحية التي يولدها نص خاص لدى جماعة خاصة لا تتولد لدى أشخاص آخرين من خارج هذه الجماعة، بل يتلقونه ببرودة عقلية ولا مبالاة شعورية. كل ذلك يؤكد أن النص لا يملي معناه الخاص، لأن هذا المعنى ببساطة غير موجود وجوداً خفياً قبل عملية القراءة، بل يتشكل تدريجاً أثناء عملية القراءة، وتكتمل حقيقته التصورية مع نهاية فعل التلقي واكتمال عملية الفهم، والتي يسهم فيها النص والقارئ معاً وفق شروط تلق خاصة.
[14] آثرت هنا استعمال كلمة رهانات، للتعبير عن القيمة الراسخة للمعنى العام والأساس الذي يعي فيها الفرد نفسه، ويعي حقيقة الآخرين وعلاقته بهم، إضافة إلى وعيه لطبيعة علاقته بربه. وهي أنماط وعي لا تقوم على أساس علمي، بل أساسها خيارات تعتمدها جماعة، وتراهن على صوابيتها، من دون أن تكون بالضرورة مستمدة من مسعى جدي وصارم في البحث عن الحقيقة ومطابقة معانيها لواقع الأمر.
[15] تكرار دلالة خاصة للنص مع قطع النظر عن شخص المجتهد أو زمن فعل الاجتهاد، تشبه رمية نرد ملغوم (Weighted Dice)، الذي يستقر على رقم معين مهما كانت طبيعة الرمية أو عددها أو شخص الرامي. ما يعني أن تكرار معنى معين للنص جاء بفعل وضعية ثقافية ينتمي إليها القارئ، يمارس فرضياتها ومسبقاتها ويعيش رهاناتها، بوعي منه أو بلاوعي، تفرض عليه وجهة دلالية خاصة، تجعله دائماً يرجح معنى معيناً على معان أخرى تساويه في درجة احتمالها اللغوي أو المنطقي. انظر: وجيه قانصو، «النص الديني ورهانات المعنى السياسي،» مجلة قضايا إسلامية معاصرة (2005).
[16] يتوافق هذا الاتجاه في جانب مع فكرة غادامار حول التقاء الأفقين، ويختلف معها في جانب آخر. أما جانب التوافق فهو أن أفق النص الديني زمن صدوره هو زمن استثنائي لا يستمر بعد النبي كما بيَّنا، بحكم أنه زمن كاريزمي محاط بحضور المؤسس، ما يجعل أفق النص يختلف مع أي زمن آخر بعد النبي. أما جانب الاختلاف فيعود إلى أن الأزمنة بعد النبي قد تختلف في وضعيات الحياة العامة ولكنها قد تحتفظ برهانات معنى مماثلة، تجعل هذه الأزمنة، رغم اختلاف مظاهرها ورموزها وأنشطتها، تنتج معاني مماثلة وترجح وجهة دلالية موحدة للنص الديني، بسبب ترسُّب رهانات معنى عميقة داخل المجتمع تمارس فعلها بقوة، مهما توالت السنون وتعاقبت الأجيال.
[17] لعل القياس أحد أهم الأدوات التي اعتمدها الفقه لتحقيق ذلك، الذي عرِّف بأنه «إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتراكهما في علة الحكم عند المثبت» (القرافي، تنقيح الفصول في عدة الأصول) وهو يعني عملياً إلحاق الموضوعات الطارئة والمستجدة بالموضوعات الأولى التي نزل لأجلها الحكم. فبدلاً من دراسة طبيعة وحقيقة الموضوعات الجديدة لإنشاء أحكام تناسبها، انصبَّ البحث على ما الشبه الذي يجمعها مع الموضوعات الأولى زمن النبي.
[18] من الأمثلة على ذلك: رفع الخوارج الشعار القرآني بوجه علي: «لا حكم إلا لله»، فرد علي بالقول: «كلمة حق يراد بها باطل». تعبير الخوارج بأن «لا حكم إلا لله»، دلالة على نمط استعمال للنص، يقوم على فصل النص عن ظرف استعماله، وفك ارتباط الآيات بعضها ببعض، لتصبح كل آية مطلقة ومستقلة عن الأفق التاريخي أو الزمني الذي تستعمل فيه. عندها يكون الصدام حتمياً، بين دلالة أولية للنص، ترسخت في وعي المؤمنين وفق سياق خاص، وواقع جديد يستدعي دلالة جديدة للنص تخالف وتتنافى في كثير من تفاصيلها مع الدلالة الأولية السابقة. كان قول الخوارج تعبيراً عن أزمة كبرى فجَّرت نفسها في الداخل الإسلامي، ليس على هيئة صراع بين القوى السياسية فحسب، بل على هيئة وعي ديني مأزوم، لم يستطع استيعاب الأوضاع الجديدة، بحكم انتمائه إلى أفق آخر أخذت موازين القوى الجديدة تحاصره وتقتلعه من جذوره وتستبدله بأفق جديد.
[19] لا أقصد هنا تاريخية الإنسان بالمعنى الأنثربولوجي، بل تاريخيته بالمعنى الفلسفي العميق الذي أثبته هايدغر ومارسه غادامير في مبناه التأويلي للنصوص والذي مفاده أن كينونية الإنسان تحققات متعاقبة بفعل خروجها التدريجي من الخفاء، هي استجابة لنداء الوجود في العالم التي تتحقق عبر عملية مساءلة تأويلية للوصول إلى كينونته الخفية والمحتجبة بفعل تحققات تاريخية. انظر: Palmer, Hermeneutics, p. 150.
انظر أيضاً: Thiselton, The Two Horizons: New Testament Hermeneutics and Philosophical Description, pp. 304‑310.
[20] محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 1996)، ص 73 – 82.
[21] يقول ألان ريتشاردسن: فالتاريخ العام في الوعي الديني، مسرحية ألفها الله ويمثلها الله، ولولا التدخل الإلهي، لأصبح التاريخ «كومة مضطربة من عصور متراكمة في عبث أو مأساة رهيبة دون بداية معقولة أو نهاية مقبولة». انظر: Alan Richardson, History Sacred and Profane (London: SCM Press LTD, 1964), pp. 64-67.
[22] الطبري، تاريخ الطبري، ج 1، ص 3.
[23] لنتذكر أن نشاط السلطة ليس فعل قمع فحسب، بل هو أيضاً فعل إنتاج للواقع، وتشكيل مستمر للفرد والمجتمع، عبر إنتاج سياسة عامة للحقيقة، تجسد رهانات السلطة السياسية والاجتماعية، وتشرف على تداولها وحمايتها، وتضع الآليات والحوافز التي تسمح بتمييز المنطوقات الصحيحة من الخاطئة، وتنشئ إجراءات لتوزيعها وترويجها، وتبتكر التقنيات والإجراءات المعترف بها للحصول عليها. فإذا كان من الوهم افتراض حقيقة خارج علائق السلطة، فمن الوهم أيضاً افتراض حقيقة لا سلطة لها. فداخل نظام الحقيقة، تتفاعل وتتصارع أهواء ورغبات وعلاقات قوى. فلا يعود مرمى السلطة الكشف عن معنى خفي، وعن تجلٍّ تدريجي لحقيقة كائنة في المستقبل أو تراجعاً نحو حقيقة كائنة في أصل منسي. هذا يعني أن العلاقة بين السلطة والمعرفة ليست علاقة خارجية توظف بموجبها السلطة المعرفة وتستعملها أداتياً، بل تؤكد أن تقنيات المعرفة واستراتيجيات السلطة تعمل كمركب، واختلافهما هو الذي يتيح نشاطها. انظر في هذا المجال: جيل دولوز، المعرفة والسلطة: مدخل إلى قراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1987). انظر أيضاً: سعيد بنسعيد، ميشال فوكو: المعرفة السلطة.
[24] أود هنا أن أعرض نصين معاصرين، يعبِّران عن استمرارية الجبرية السياسية بشدة في الوعي الديني المعاصر، بحكم بقاء رهانات المعنى التي تحدد وجهة النص الدلالية ثابتة وتقف فوق جبرية أصيلة وغير مستعارة، عبرت عن نفسها بتعبيرات حديثة. أولهما: قول سيد قطب: «العالم كله يعيش جاهلية تقوم على الاعتداء على سلطان الله في الأرض على أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية. إنها تستمد الحاكمية من البشر…كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، مواد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً، هو كذلك من صنع الجاهلية». ثانيهما قول محمد باقر الصدر: «غاية حزب الدعوة هي جعل كلمة الله هي العليا، وتحكيم الإسلام في جميع مرافق الحياة… فهدف حزب الدعوة تغيير واقع المجتمع البشري إلى واقع إسلامي، بتغيير المفاهيم والسلوك والأعراف والعلاقات على كل المستويات، على أساس من العقيدة والرابطة الأخلاقية الإسلامية، وإحلال الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية تحقيقاً لإرادة الله.. فالنظام الإسلامي يعرض نفسه على الصعيد الاجتماعي بوصفه ديناً عقائدياً على أساس الوحي ومعطى إلهياً لا فكراً تجريبياً منبثقاً عن قدرة الإنسان وإمكاناته».
عبارات سيد قطب وباقر الصدر، صياغة مباشرة وصريحة للرهانات الوجودية الراسخة في الوعي الديني، التي ترجمت نفسها جبرية سياسية بثوب حديث، وبنية أيديولوجية هي أيديولوجيا «الدولة الدينية»، القائمة في تفاصيلها على أساس جبري خالص، تحاصر الإنسان من جميع جهاته، وتقيم ملازمة وحتى مساواة بين الخطيئة وممارسة الإنسان لحريته، وتؤكد القصور الذاتي في أي مبادرة إنسانية، وتذكر الإنسان بنقصه الجوهري الذي يفرض عليه الانسلاك في خط هداية مفصل. إنها جبرية محكمة، تستنكر المبادرة الحرة للإنسان، وتحيل المجال العام الذي هو المجال الحقيقي لحرية الإنسان لأنه المجال الفعلي لتحقق وجوده وإمكاناته، وليس فقط إلى الضرورة الطبيعية أو التشريعية، وترى أن السياسة والحكم ساحة حصرية لإرادة الله.
[25] يرى غادامير استحالة الوصول إلى المعنى الأصلي للنص، لأن عملية الفهم أو التفسير، «سيظل ينقصها دوماً جزء من الإيقاعات المتموجة في النص الأصلي»، ولا «تجوز مقارنة ما يريد نص ما أن يقوله، بوجهة نظر نهائية يُتَمسك بها بعناد». بحكم عدم وجود منهج يضمن لنا الوصول إلى حقيقة النص. انظر: غادامير، «اللغة كوسط للتجربة التأويلية،» ص 22. انظر أيضاً: شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: دراسة تحليلية نقدية في النظريات الغربية الحديثة، ص 37 – 50.
[26] يقول غادامير: «فلا ينبغي أن نتناول التاريخ من الخارج أو من الأعلى في إحالة موضوعية مصطنعة، فالتاريخ شيء نعانيه دائماً من الداخل بما هو كذلك، من حيث إننا نقف فيه… وتجربة التاريخ تنطوي دائماً على تجربة أن المرء لا يستطيع أن ينتزع نفسه من هذا التاريخ لأنه تاريخه الخاص» انظر: غادامير، فن الخطابة وتأويل النص ونقد الأيديولوجيا، انظر: Thiselton, The Two Horizons: New Testament Hermeneutics and Philosophical Description, pp. 304‑310.
[27] رأى غادامير أن فكرة المعنى الموضوعي المستقل عن القارئ، في عملية القراءة الفعلية، هي فكرة ساذجة، لأنها لا تُعير أدنى اهتمام للأفق الخاص بالمفسر أو المؤول، بل تعتقد أن من الواجب، أن نضع جانباً كامل مجموع مفاهيمنا الخاصة وأفكارنا المسبقة. فهذا المسعى، كما يقول غادامير، «ليس إلا مجرد وهم ساذج بالنسبة لكل قارئ مفكر»، فالسعي إلى تجنب مفاهيمنا الخاصة في التفسير، بالنسبة إلى غادامير، هو أمر مستحيل. فأن نفسر، يعني «أن نستخدم مفاهيمنا المسبقة الخاصة». المصدر نفسه.
[28] انظر: جان جاك شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة محمد صاصيلا (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1995)، ص 323 – 330. انظر أيضاً: Thomas Hobbes, Man and Citizen (New York: Humanities Press, 1972), pp. 5‑32.
[29] كان محمد عبده أبرز شخصيات هذا الاتجاه، الذي مارس، بوصفه فقيهاً ومتكلماً وملماً بإشكالات الحداثة الوافدة، تجاوزاً جريئاً للمقولات الدينية التقليدية، وفعـلاً تأويلياً لافتاً للنصوص الإسلامية، وعمد إلى استعادة مقولات الاعتزال التي تُنصِّبُ العقلَ مرجعاً للنقل أو الشرع. فنجح إلى حد بعيد في الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي، ونفي وجود دولة دينية في الإسلام، ونجح في فتح باب اجتهاد على أساس فقه المقاصد الذي أسسه الشاطبي، أي قيام التشريع الديني على مقتضيات المصلحة التي يمليها الظرف الزماني والمكاني.
[30] التي تظهرها الذهنيات والمسلكيات والتكوينات الاجتماعية في روابطها البدئية ومتحداتها الإكراهية والطوعية.
[31] انظر: عبد الإله بلقزيز، العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 125 – 167.
[32] انظر: عبد الله العروي، مفهوم الحرية (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1983).
[33] رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة: سلطة الايديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي (بيروت: دار جداول للنشر والتوزيع، 2015)، ص 168 – 233.
[34] انظر: وجيه قانصو، «الثورات العربية ومشاركة الإسلاميين في السلطة،» المستقبل العربي، السنة 35، العدد 407 (كانون الثاني/يناير 2013)، ص 101 – 117.
[35] يقول راشد الغنوشي في معرض تأسيسه لمبدأ مشاركة الإٍسلاميين في حكم غير إسلامي: «لئن كان إقامة الحكم الإسلامي الهدف القريب أو البعيد لكل جماعة إسلامية إنفاذاً لأمر الله وتحقيقاً لمصالح العباد فإن الشريعة تضع أمام المسلم فرداً وجماعات إذا تعذر هذا الهدف إمكانات بديلة لمعالجة الحالات الإستثنائية كالتحالف مع جماعات غير إسلامية من أجل إقامة حكم تعددي تكون السلطة فيه للحزب الفائز بالأغلبية. أو كالتحالف لأجل دفع عدو خارجي. شرط أن لا يتضمن ذلك التزاماً يضر برسالة الإٍسلام أو يغل يد الدعاة على الصدع بالحق والسعي لإقامة حكم الإسلام – ولو بعد حين – تأسيساً على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والنظر في المآلات ومبدأ الضرورة وغيرها. المهم أن يظل المؤمن أبداً إيجابياً عامـلاً على إقامة حكم الله كلياً كان أو جزئياً حسب المستطاع ومن حكم الله إقامة العدل فإنما من أجل ذلك أرسل الرسل كلهم». انظر: راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993)، ص 364.
[36] انظر: Hans-Georg Gadamer, Truth and Method, translation revised by Joel Weinsheimer and Donald G. Marshall (London; New York: Continuum Publishing Group, 1989), p. 263.
[37] يقول ابن تيمية: «ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم؛ ولهذا قال الإمام أحمد ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي، ويروى ليس لها أصل أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل». انظر: تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 13، ص 244. انظر أيضاً: ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير (دار الفتح)، فصل «الاختلاف في التفسير».
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.