عُقدت هذه الحلقة النقاشية في مقر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، يوم الخميس 10 أيار/مايو 2018. قدّم كلمة الافتتاح طلال سلمان، وأدار الحوار لونا أبو سويرح وشارك فيها (بحسب الترتيب الألفبائي):

الياس فرحات عميد متقاعد، وخبير عسكري واستراتيجي – لبنان.

جميل مطر كاتب وباحث مصري.

سركيس أبو زيد كاتب ومحلل سياسي – لبنان.

سمير السعداوي صحافي، ومسؤول قسم العلاقات الدولية في صحيفة الحياة – لبنان.

طلال سلمان كاتب وناشر صحيفة السفير اللبنانية.

عصام نعمان  محامٍ وكاتب – لبنان.

فارس أبي صعب باحث، ومدير التحرير في مركز دراسات الوحدة العربية.

قاسم عز الدين كاتب لبناني وباحث في الشؤون الدولية والإقليمية.

كابي الخوري مدير التوثيق والمعلومات في مركز دراسات الوحدة العربية.

لونا أبو سويرح المديرة العامة لمركز دراسات الوحدة العربية.

معن بشور كاتب سياسي، والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

منى سكرية صحافية لبنانية.

نصري الصايغ كاتب لبناني.

وليد نويهض صحافي لبناني.

يوسف الصواني مدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.

قدّم كلمة الافتتاح طلال سلمان

أدار الحوار لونا أبو سويرح

كلمة الافتتاح

طلال سلمان

كاتب وناشر صحيفة السفير اللبنانية.

اسمحوا لي، بداية، أن أتوجه بالتحية إلى من سعى ويسعى لحماية هذا المركز، مركز دراسات الوحدة العربية، الذي بدا، قبل حين، وكأنه مهدد في دوره، بل في وجوده ذاته.

إن هذا المركز بنتاجه المميَّز والغني هو صرح فكري وثقافي يفخر به جيلنا، الذي تجرَّع مرارات الكثير من الهزائم العسكرية والسياسية التي كادت تذهب بالفكرة-الأم: وحدة الأمة العربية، بتراثها الفكري الغني، وطموحها إلى نيل حقها المشروع في غد عربي أفضل.

ومع اعتزازي بدور السفير، ودوري شخصياً ضمنها وقبلها، في الإعلام العربي على امتداد حقبة ناهزت نصف القرن، فإنني أرى في التركيز على دور الإعلام في التطورات الإقليمية ابتساراً أو فصلاً جائراً بين السياسة والإعلام.

إن الإعلام ليس قيادة المجتمع، ويجب ألّا يكون.

قد يكون داعية، وقد يؤدي دوراً مهماً في كشف المستور والإضاءة على الوقائع الدالة في الحياة العامة، وفضح المقصِّرين والمخطئين ولصوص المال العام، وفي التبشير بالغد الأفضل عن طريق تزكية الأفكار التقدمية.. ولكنه ليس القيادة ولا يمكنه أن يكونها.

والأهم أن يكون الإعلام في موقعه الوطني – القومي الطبيعي، فينتظم في جبهة مقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين ومحاولة الإمبريالية العالمية، بقيادة أمريكية، الهيمنة على العالم، ولا سيّما على دوله الضعيفة وفقرائه، وأن يقاوم «الرشوة» التي تزكي الفساد والإفساد في الدولة، وبالتالي في المنطقة عموماً.

إن سبل رشوة الإعلام، رجالاً ومؤسسات، متعددة ومتنوعة ومثقلة بالذهب الأسود والغاز الأبيض، هذا فضلاً عن أغواء المناصب، وزارات ومنافع في الداخل الفقير والخارج الغني..

هنا نأتي إلى التطورات الإقليمية، فتصير الحملة الوحشية التي تقودها السعودية والإمارات ضد شعب اليمن الذي لا يكاد يملك قوت يومه، عملية تحرير لليمن السعيد بغارات الطيران الوحشية واحتلال جزيرة سُقُطرى وتدمير معالم العمران في دولة التاريخ العربي…

كذلك يمكن اعتبار الحرب في سورية وعليها عملية «تحرير» لسورية من دولتها؛ ويمكن اعتبار الحرب الانفصالية في كردستان العراق تحريراً للأكراد من ربقة الاستعمار العربي، وتدمير ليبيا بمدنها وقراها انتقاماً متأخراً من طغيان نظام القذافي، والتحاق مصر بالمشروع الأمريكي وتسامحها المهين مع احتفال دولة العدو الإسرائيلي بما تسميه عيد الاستقلال، وشطب فلسطين عن الخريطة، في واحد من أغلى فنادق القاهرة والواقع في قلبها، بينما هي تطارد فتية فلسطين ورجالها ونساءها بالقتل.. من دون أن ننسى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، توكيداً للإصرار على إهانة العرب جميعاً وتحقيرهم جميعاً، وليس شعب فلسطين وحده.

إن الأنظمة العربية المهزومة تحاول جر الإعلام العربي، عموماً، مع استثناءات محدودة ومعروفة، إلى الترويج للهزيمة بذريعة الموضوعية واحترام حرية القارئ في الاختيار..

ولكن هل احترمت هذه الأنظمة مواطنيها وسمحت لهم بالتعبير عن آرائهم السياسية، سواء عبر الانتخابات، رئاسية ونيابية أو حتى في الأندية الرياضية.

من الأفضل ألا نخبئ وجوهنا خلف أصابعنا: إن الأنظمة العربية، بمجملها، دكتاتورية، لا تعبر عن إرادة الشعب، وهي تريد الصحافة لسان حال لقمعها، وأحياناً لخيانتها..

وبطل هو الصحافي الذي استطاع حماية قلمه من التلوث، وأبقاه صوتاً للذين لا صوت لهم..

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. وشكراً على استماعكم إلى وجعي باسم الصحافة العربية عموماً.

 

تقديم

لونا أبو سويرح

المديرة العامة لمركز دراسات الوحدة العربية.

نعقد هذه الحلقة المصغرة لنتحاور في موضوع حيوي ملموس يؤثر فينا. المنطقة تعج بكثير من التطورات في الوطن العربي في الوقت الحاضر، الحروب مشتعلة في كل مكان، حيث لا يخلو أي بلد عربي من صراعات أو حروب محتملة أو حروب قائمة، أو من ضبابية في المستقبل السياسي وغيره، من اليمن إلى ليبيا إلى سورية والعراق وفلسطين. كما هناك ما يسمى الحرب على الإرهاب، سواء في سيناء أو غيرها من المناطق، مثل الصومال التي غالباً ما يتجاهلها الإعلام العربي. في خضم كل هذا، تتعرض القضية الفلسطينية، وهي القضية المركزية في الوطن العربي، لمحاولات تصفية في ظل انشغال الأنظمة العربية وآلاتها الإعلامية بقضاياها التي باتت أكثر إلحاحاً بالنسبة إليها، مثل محاولات خلق صراع مع دول الجوار، وغيرها من التحولات الإقليمية التي نعيشها ونشهدها. الشارع العربي أيضاً أُخذ بدوره نحو سياق آخر تحت ضغط الواقع والانشغال بلقمة العيش أو تحت ضغط الواقع الافتراضي الذي نجح الإعلام العربي في أخذنا إليه. المرحلة التي عشناها جميعاً والتي تسمى الربيع العربي أيضاً، شكلت انطلاقة مختلفة ومرحلة أخرى ذات آفاق لامتناهية يمكن اعتبارها من الاحتمالات التي يمكن أن يتشكل بها حاضر ومستقبل المنطقة العربية وجوارها الإقليمي. وفي خضم تلك التحولات تعرض الإعلام العربي أيضاً لهزات وتبدلات وتأثر على مستويات متعددة لن أدخل في تفاصيلها، فهذا ما سنتحاور في شأنه وندخل في تفاصيله المختلفة، ولكن بعض القضايا التي استجدت في المشهد الإعلامي هي وسائط التواصل الاجتماعي وتأثيرها، وقد أثبتت فاعليتها في تحريك الفعل الاحتجاجي وزيادة الوعي المجتمعي بالقضايا المحيطة بالمجتمع والدولة والإقليم وأثرت في تفعيل دور أبرز للشباب والمجتمع والنساء. أين يقف الإعلام العربي من كل هذه التطورات التي نعيشها وكيف يتعامل هذا الإعلام مع الملفات الساخنة المختلفة، مثل الاستقطاب الطائفي وصفقة القرن والمواجهات العسكرية مع العدو، والسؤال الأهم هو: «من بات العدو اليوم؟»، حسب تصنيف الأجهزة الإعلامية المختلفة التي تصنف العدو وفق رؤية المال السياسي الذي يدعم الآلة الإعلامية، ووفق رؤية وتوجهات الأنظمة ومن يؤثر في التوجهات الإعلامية.

المناقشات

1 – طلال سلمان

أرى أنه لا يوجد إعلام عربي، إذ بات هذا التعبير خارج المنطق والواقع. هناك إعلام الأنظمة العربية، وهو كاسح ماسح ملك للأنظمة، بينما الإعلام المستقل والخاص بات يُعد على أصابع اليد، وحتى وسائل الإعلام الخاصة فهي غالباً ما تكون مملوكة من شركات أو مؤسسات تابعة للأنظمة ورموزها. بالنسبة إليّ كإعلامي عاش طوال حياته من خلال هذه المهنة، فإن الوضع محزن إلى أقصى حد. تصوروا أن نتحدث عن ثورة الإعلام في العالم كله ونحن نحس أننا بتنا غرباء وأقلية ضئيلة، ولا أدري مدى إحساس المواطن بقربه من وسائل الإعلام في الوطن العربي، سواء من صحف ومحطات وإذاعات، وبمدى تعبيرها عنه، وبالتالي عليه الاطلاع على عدة قراءات لاستخلاص جزء من الحقيقة فقط وليس الحقيقة الكاملة. مع الأسف، الإعلام العربي الآن بات ضد العرب، لأنه بأكثريته الساحقة حكومي، ومن ليس حكومياً فهو تابع لأجهزة الاستخبارات الخارجية، سواء الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية والبريطانية وغيرها… التي تخدم مصالح إسرائيل أكثر من الإعلام الإسرائيلي نفسه. وبالتالي الإعلام العربي مفهوم كبير جداً وللأسف الشديد أقر وأعترف بأني أشعر بغربة حقيقية عن معظم أجهزة الإعلام الموجودة في الوطن العربي اليوم وليس فقط في لبنان. في الماضي كان هناك صحف قومية وطنية عربية ذات خط واضح، وعلى الرغم من وجود صحف ذات أهداف أخرى، إلا أنها لم تكن تتفوَّق على نظيرتها، بل كان هناك مواجهة ومعركة مفتوحة بين الاثنتين. أما اليوم وللأسف فقد بات جميع أغنياء العرب في الموقع الآخر – كل أغنياء العرب مع إسرائيل بالمطلق ومن دون أي تحفظ، سواء دول أو أفراد. ولا أعتقد أنه لا يزال هناك لدينا إعلام عربي بالمعنى العام والمفتوح. هناك إعلام مغربي بحت ليس له علاقة بالوطن العربي، وإعلام تونسي ليس له علاقة بالإعلام العربي، ناهيك بالجزائري، أي أنه إعلام محلي جداً جداً، والإعلام مصري مصري جداً جداً، وفي العراق إعلام طائفي – ليبيا وسورية واليمن لا إعلام فيها – ويمكن اختصار الإعلام العربي اليوم في محطتين (الجزيرة والعربية) وكلاهما تابعتان لإسرائيل بكل ما في المعنى الحرفي للكلمة.

 2 – لونا أبو سويرح

شكراً جزيلاً، وجميعنا نشعر بالألم، ولكنك تشعر به بصورة مباشرة لأنك تمتهن هذا العمل وقد أمضيت كل حياتك المهنية في الصحافة والإعلام، ولكن كمواطنين عرب يتلقون الرسائل من وسائل الإعلام العربية، نحن أيضاً نتألم عندما لا نكاد نجد محطة إعلامية أو جريدة عربية تقدم خبراً موثوقاً به من دون أن يكون وراءه برنامج أو أجندة سياسية معينة، خبراً يقنعني بالواقع وليس خبراً يريده النظام أو جهات معينة مجهولة. فما يحدث في اليمن مثلاً تحوّل إلى حرب تحرير… وسورية باتت حرب تطهير… وليبيا حرب من أجل بناء دولة… أما الواقع فهو مختلف تماماً وكلياً، ولكن الآلة الإعلامية تظهر لنا ما تريد إظهاره. كما أن الوسائل الإعلامية باتت وسائل لتسويق الأجندات والمشاريع المستقبلية لأطراف عربية وإقليمية ودولية، مثل صفقة القرن وتسويق توجه معين أو تبرير مشاريع سياسية ستطرح في المستقبل ويتم تناولها وتكرارها مسبقاً عبر وسائل الإعلام كوسيلة لغسل الأدمغة. هناك 60 مليون مواطن عربي أمّيون، لا يقرؤون ولا يكتبون، ويسهل جداً أن توصل إليهم الرسائل التي تريدها من خلال الراديو والتلفاز.

3 – جميل مطر

بداية، كان غيابي طويلاً عن بيروت، وعن مركز دراسات الوحدة العربية بمعنى أدق. وفي واقع الأمر أنا ضيف على الإعلام، تاريخي المهني كان بعيداً من الإعلام إن لم يكن نقيضه، سواء من خلال عملي الدبلوماسي أو من خلال عملي في البحث العلمي والجامعة العربية، وهي كلها بعيدة من قطاع الإعلام. وقد عملت مرتين فقط بالقرب من الإعلام، مرة عند تفرغي من الدراسات العليا وعودتي إلى القاهرة، حيث نزلت ضيفاً على الأهرام وكانت مؤسسة عتيدة وعظيمة، وأظن أن ما جنيته من هناك خلال فترة عملي لم يكن يعتبر خبرة إعلامية بل كان أقرب إلى العمل كجزء من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وكانت تجربة مفيدة جداً لي، لأني اطلعت على آلية العمل الصحافي لأول مرة، حيث كانت لديّ أوهام كبيرة عن العمل الصحافي والإعلامي. وصادف أنني كنت قريباً من محمد حسنين هيكل أثناء فترة تطويره للمركز. وعند استقالته، ذهبنا سوياً وأجرينا سلسلة مقابلات مع 20 حاكماً عربياً سنة 1976، وهي تجربة لم تنشر بعد طبعاً، واطلعت على كيفية تعامل رجل إعلامي مع القمم الحاكمة في الوطن العربي وقد استفدت من هيكل بعدة دروس؛ الدرس الأول الذي أخذته منه هو أنه لكي تكون صحافياً ناجحاً عليك أن تتقن فن الإصغاء، وعليك أن تستمع وتصغي إلى الشخص الذي تقابله وتدعه يقول ما لديه أولاً؛ لأن الحديث بعد ذلك سيتطرق إلى أمور تافهة لسنا بحاجة إلى سماعها.

الأمر الآخر في تجربة هيكل هو كمية المعلومات الهائلة التي لديه. وهذا كان سر قوته عند عبد الناصر والتي تفوق جميع أجهزة المعلومات الأخرى، فهو كان يمتلك أهم المعلومات ومصادرها ليس في الأهرام فقط بل في كل الأماكن. حيث كان هيكل يستمع لجميع الإذاعات العالمية ثم يبلغ عبد الناصر في الساعة الـسادسة صباحاً ما نشرته كل دولة روسيا وأمريكا والصين، وBBC. وهكذا تعلمت مدى أهمية وقيمة المعلومات على يد هذا الرجل الذي يعَدّ نموذجاً للإعلام في ذلك الوقت.

الأمر الثالث سيطرة الإعلانات، فنحن في عصر عم فيه الفساد، وقد استفادت منه أكبر صناعة حديثة في العصر الرأسمالي التي هي صناعة الإعلام، والتي كان الإعلاميون أنفسهم أوائل ضحاياها، وهم أول من سقط، حتى قبل السياسيين، في فخ ومستنقع الإعلانات. وهناك عشرات الأمثلة على ذلك، منها فساد الإعلانات المصرية المهيمن على كل شيء، وبالتالي هناك أجهزة تسيطر على الأمن في العالم العربي كله وهم أصحاب شركات الإعلانات، حيث إن الإعلام هو مصدر القوة الجديدة في السياسة العربية، وبالتالي سيطرت هذه الجهات على جميع وسائط الإعلام وقربت من السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي كما حصل في روسيا والصين.

الأمر الرابع، وهو غير محسوس، هو تحول المواطن إلى صحافي أي (المواطن الصحافي)، حيث بات يتم تناقل كل شيء عبر الهواتف من صور وأحداث وبالتالي لم يعد المواطن مهتماً بوسائل الإعلام الكبيرة. وهذا أيضاً متاح على صعيد المؤسسات الحكومية في الدولة، حيث يقوم الموظفون بتسريب المعلومات أو تصوير الوثائق والمستندات. وبالتالي انخفضت هِمة الصحافي في متابعة الأخبار، حيث بات لا يراوح مكانه وحسب، بل يتصل بمعارفه للاستقصاء عن التفاصيل والأخبار. هنا انهار أحد أسس الإعلام وهو خروج الصحافي التقليدي لجلب المعلومات. كما أن العنصر الأمني بات مسيطراً على كل شيء، ليس في المنطقة العربية فقط بل في العالم كله. ومعظم القرارات السياسية الدولية الخطيرة التي صدرت في الأشهر الستة الأخيرة صدرت بناء على توجيهات أجهزة الاستخبارات. أي قضية حيوية رئيسية في العالم تديرها أجهزة الاستخبارات، مثل القضية المائية في مصر أو القضية الفلسطينية. واليوم أصبحت أجهزة الأمن الإسرائيلية أقوى مما كانت عليه سابقاً، حيث لها علاقات واتصالات وأذرع مع مختلف الجهات الأمنية العربية والعالمية كما أنها استحصلت على تمويل مادي أكبر.

4 – الياس فرحات

بوجه عام ، يستند الإعلام إلى ركيزتين: الوسائل والعقول. الوسائل بحاجة إلى المال، من لديه المال يمكنه إنشاء وسائل إعلامية مكتوبة ومسموعة، والأهم حالياً هي المرئية، وتحديداً الفضائية التي تجذب ملايين المشاهدين. ومن لا يملك المال يفقد فرصة الوصول إلى الجمهور، ومهما ابتدع من وسائل وأفكار يبقى تأثيره محدوداً.

العقول الإعلامية ضرورة، ومن يسيِّر وجهات المحطات التلفزيونية والصحف عليه أن يكون ذَا عقل واسع الثقافة في العلاقات الإقليمية والدولية وفي العلوم الاجتماعية والتاريخ والأديان والمذاهب والاقتصاد وموارد الدول وعادات الشعوب.

تتوافر لبعض الجهات وسائل كبيرة مثل محطات تلفزيونية، وعندما تقتصر إحدى هذه الوسائل على توجّه واحد، تتحول إلى محطة تخصصية مثل المحطات الدينية التي تروج لمذهب معين وتهاجم مذهباً آخر، تكفر هنا وتمدح هناك، وتعتمد الرأي الوحيد من دون السماح بإظهار الرأي الآخر، وتتحول بذلك إلى محطات تعبئة في حرب ثقافية دينية قد تقترن في أغلب الأحيان بحرب عسكرية كما هو جارٍ حالياً. أما المحطات الفضائية السياسية فمعظمها يحرص على إبراز صوت واحد ورأي واحد وتكثيف هذا الرأي وترويجه من أجل كسب الغرائز والعقول وابتداع حجج يعتبرونها منطقية في قضايا وطنية كبيرة. نجح بعض الإعلام في تظهير بعض القضايا ومنحها مساحة واسعة في الفضاء الإعلامي، مثلاً إعطاء أولوية للصراع مع إيران على الصراع مع إسرائيل؛ وإعطاء أولوية للنزاعات المذهبية والإثنية على القضايا الوطنية؛ وإغفال مسألة الحريات والديمقراطية بحجة التصدي لخطر داهم. استفادت وسائل الإعلام الخليجية من أخطاء الأنظمة العربية السابقة بمختلف توجهاتها، التي ضربت الحريات بحجة التصدي للعدو الصهيوني وأعطت أولوية لبقائها في السلطة على القضية التي جاءت إلى السلطة بسببها، وكررت الخطأ مصحوباً بتحريض ديني ومذهبي وإثني ودعم مالي. هنا تختلط الوسائل بالعقول، فإذا كانت العقول ذكية والوسائل قوية والموارد المالية وفيرة يتحقق الهدف من الإعلام، وخصوصاً إذا ترافق مع تعبئة في المساجد والمعابد ومع دعم للدعاة وتمويل للسلاح ولأجهزة القيادة والسيطرة. نتج من ذلك صناعة الجيوش الإرهابية وهي تطوير واضح للخلايا النائمة الإرهابية التي كانت سائدة قبل الربيع العربي ودخول هذه الجيوش في حروب قوضت وحدة واستقرار عدة دول مثل سورية والعراق وليبيا واليمن والصومال ومصر ولبنان. في المقابل كانت وسائل الإعلام والعقول الإعلامية لدى الطرف المستهدف في وضع المدافع الذي يظهر رد الفعل ولا يبرز فعلاً أو يبادر إلى أفكار جديدة ولا يكاد يتصدى للهجمات الكثيفة التي يتعرض لها مِن اتجاهات متعددة منسقة بعناية وبمخططات هادفة وواضحة. إضافة إلى ضآلة القدرة المالية والإنفاق على وسائل إعلام تعبوية لم تبادر العقول في هذا الجانب المستهدف، إلى وضع خطة إعلامية مدروسة ومنسقة.

5 – منى سكرية

سأتحدث هنا عن تجربتي الشخصية في الصحافة، وبخاصة في صحيفة السفير، حيث الموضوع الفسطيني كان همي الأول، ومثله باقي المواضيع التي خضت غمارها، ومنها ذهابي إلى إريتيريا – على سبيل المثال – كون قضيتها على تخوم العرب وأن مأساة شعبها تشبه إلى حد ما مأساة شعب فلسطين، فكان ذهابي أول مرة عام 1987 إلى الجبال والثوار وقد كتبت الكثير عنهم وعن لقائي بقائدهم آسياس أفورقي، ثم ذهبت إليهم ثانية في عام 1991 في إثر تحرير بلدهم مباشرة، فكنا في أسمرة أنا وزملاء عرب قبل صياح الديك، ولكن وبعد ذهاب آسياس أفورقي إلى إسرائيل رفضت رفضاً قاطعاً تلبية دعواتهم السنوية لزيارة إريتريا.

ما أردت قوله أن فلسطين التي كانت في قلب سياسة وتوجهات الصحافة العربية لم تتغير قضيتها، ولكن الذي تغير هو واقع الإعلام العربي بفعل تغيرات جوهرية طرأت على واقع قضايا الأمة العربية؛ للأسف، لأن قضايا هذه الأمة تبدلت وتشرذمت وتقهقرت قيميّاً ومهنياً وأخلاقياً ورؤية وافتقدت البصيرة والقراءة المتأنية التي لم تعد ترى في إسرائيل العدو الأول. إن مجرد تبديل النظرة تجاه إسرائيل كعدو أدى ذلك إلى فشل الإعلام العربي في صوغ هويته وشخصيته المهنية فصار بوقاً ناطقاً لمجموعة من أبواق تحتل مواقع ومناصب عليا.

لقد وقع الإعلام العربي والعاملون فيه في مآزق قضايا الأمة العربية المأزومة والمتخبطة، لا بل المتواطئة ضد قضاياها ومصائر شعوبها، وهذا ما جعلنا نقرأ بأفواه مندهشة هذا الكم الهائل من الكتابات التحريضية والحاقدة لا الكتابات ذات الهدف التوعوي والنهضوي.

نلاحظ هذا الانجرار خلف الخبر وتبنّيه من قسم واسع ومؤثر للأسف من العاملين في المهنة خلف تعليمات تأتي من غرف سود كما سمّاها المؤرخ رشيد الخالدي في إحدى مقابلاتي معه (المنشور في صحيفة أوان الكويتية، 28/1/2010، وكنت مراسلة لها). لقد تبنى هؤلاء الاعتراف بأن الاحتلال الأمريكي للعراق ما هو إلا لنشر الديمقراطية بالرغم من كل الشواهد من وكالة أسلحة الدمار الشامل ومن اعترافات كونداليزا رايس في مذكراتها بعنوان أسمى مراتب الشرف (عن دار الكتاب اللبناني) بأن أمريكا احتلت العراق ليس لنشر الديمقراطية بل لحماية مصالح أمنها القومي (وطبعاً في مقدمه أمن إسرائيل). كما أن قضية فلسطين تراجعت في اهتمامات هؤلاء وصارت إيران الهدف الشيطاني الأول لديهم.

لقد أشارت لونا بإيجابية إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في تنوير وتثوير شعوب المنطقة في فترات ربيعه، وسؤالنا أين هي هذه الإيجابيات لهذه الوسائل حين انطفأ الربيع وغاصت شعوب المنطقة بحروبها وبتنفيذ برامج الإسرائيلي والأمريكي من حيث تدري أو لا تدري.

لا يمكننا إلا تكرار الأسف لما آلت إليه منصات بعض وسائل الإعلام العربية لأنها أكدت أنها أدوات لمشاريع لا تمت للمهنية وللموضوعية وللرفعة الأخلاقية المهنية بصلة. هل نسيتم شهادة جيفري فيلتمان في الكونغرس الأمريكي عن الـ 500 مليون دولار التي دفعها في لبنان لبعض وسائل الإعلام ووسائطه الإلكترونية بهدف تشويه صورة حزب الله وإيران؟ وهل قرأتم رداً من أحد من هؤلاء يستنكر أو يكذّب فيلتمان؟

إنه زمن أن تكون مع حق عهد التميمي بالحياة الحرة والكريمة أو أن تنغص على حياتها بالمشاركة في إدخالها السجن؟

6 – قاسم عز الدين

هناك الكثير من الأمور التي تحتاج إلى التمحيص للإفادة منها، وكثير منها يدخل ضمن المأساة التي نعيشها والتي يوجد تسرع في الحكم عليها. أريد أن أشير أولاً إلى أن القول إن ما نقوله عن الإعلام ينطبق على الإعلام العربي أكثر من الإعلام الخارجي ليس صحيحاً؛ فكل الإعلام بات هكذا. فحتى بمراكز الإعلام في أوروبا وأمريكا لم يعد هناك ما يسمى إعلام كمهنة معروفة متمثلة سواء بمحمد حسنين هيكل عندنا أو بأقطاب آخرين في الخارج. هذه المهنة انقرضت ولم يعد لها وجود. وهذا يعود إلى أسباب كثيرة، منها التواصل الاجتماعي. أنا منذ سنتين أدير موقع الميادين لكتّاب الرأي، وأقول إننا بحاجة إلى الكثير من الوقت لنجد شخصاً يدرك ما يكتبه بغض النظر عن ماهية الموضوع. مثل آخر، في فرنسا برنامج يومي على القناة الخامسة يتم إعداده مساء ثم يعرض على الهواء الساعة السادسة صباحاً، فيجمعون رؤساء تحرير الصحف الكبرى. الخلاصة أنه ليس معنى الديمقراطية هو الذي تغير فقط، بل إن الديمقراطية ذاتها هي التي تغيرت. نحن دائماً ننظر إلى التعبيرات ولكن هذه التعبيرات هي عبارة عن تحولات أعمق من التعبيرات نفسها – الديمقراطية في فرنسا وبريطانيا هي بمعنى الحقوق وهي عامل 200 سنة من النضال والكفاح لنيل هذه الحقوق – حق التعلم، السكن، الطبابة… إلخ، هذه باتت من القرون الوسطى ويتكلمون على الموضوع بتخلف. كما أن المسألة ليست مسألة مصطلحات بل مسألة ثقافة اشتُغِل عليها على مدى 20 سنة وكلفت مئات المليارات من الدولارات لتنتَج هذه المصطلحات، ولكن عملياً كل كلمة لها ارتباط بمعنى ومغزى. مثلاً «الدولة الراعية»، هل تعني أنه لم يعد هناك من لا يدرك أنها الدولة التي تروج الاستبداد والتخلف؟ وبالتالي فالسوق هي التي يجب أن تنظم الحياة. يمكن أن لا ننتبه إلى هذه الأمور والمسائل، ولكن بالنسبة إلى بعض وسائل الإعلام، فهي تحظى باهتمام رؤسائها ويتم التسويق لها، ونحن نستهلكها. مثل آخر هو مصطلح «الدولة العميقة»، ما المقصود به؟ هذه مصطلحات خطيرة. المشكلة تكمن في النخب الثقافية لا في الإعلاميين؛ الإعلامي يجلب المعلومات والأخبار، أما النخب المفكرة التي تكتب وتظهر على الإعلام وتفكر وتحلل فليس لها أي دور. في المقابل، أي شيخ في أي جامع في الجزائر أو المغرب أو مصر… تأثيره الثقافي والإعلامي أكثر كثيراً من تأثير جميع هذه النخب المفكرة. الفرق بين الطرفين هو أن الثاني يعمل مع الناس بينما الأول يعمل عبر نفسه من دون أن يكون لديه ما يوصله بل يستهلك ما هو مستهلك، ولا أحد يدري كيفية ظهور المصطلحات ولا يوجد نقاش جاد حولها وكأنها بوصلة.

7 – نصري الصايغ

قد يكون رأيي مخالفاً لبعض الآراء التي طرحت، وبخاصة عندما نعمم، لأن التعميم يأكل الأخضر واليابس بينما التخصيص يوضح. الأمر الأول ما له علاقة بالأمن، لأن الأجهزة الأمنية في العالم أصبحت ممسكة بالإعلام، نحن مدشنون لهذا الفعل منذ زمن بعيد، لأن الأجهزة الأمنية العربية هي التي كانت تمسك بكل وسائل الإعلام الخاصة والعامة. وهذا أمر قديم، وهو من الأمور التي ورثنا كوارثها في ما بعد وما زلنا نرث هذه الكوارث. ليس عندنا ما نعطيه ولكن لدينا ما نستطيع تعلمه من أنفسنا ولا نستطيع تعليمه للآخرين. الأمر الثاني لبنان، فهو بإعلامه لا يندرج ضمن الإعلام العربي، لأن لديه ميزة كبيرة جداً وهي أنه نشأ في بحبوحة من الحرية بحيث إن مجال الحريات هي من القيم الوحيدة التي نمارسها في القطاعات كافة بما فيها الإعلام. ولكن السؤال، هذا الإعلام ينتج ماذا؟ نحن لدينا في لبنان تجربة حديثة هي الانتخابات النيابية الأخيرة، التي أعادت تقريباً إنتاج الطبقة السياسة نفسها المتهمة بالفساد من خلال وسائل الإعلام كافة، والتي لم تبخل عنها بأي صفة من الصفات وأوضحت للجمهور المتحزب لوسائل الإعلام المختلفة تقريباً ثقافة واحدة في اتهام السلطة. ولكن الشعب اللبناني أعاد انتخاب هذه السلطة، ما يعني أن دور الإعلام ليس بالدور الأساسي في توجيه الرأي العام، بل هناك أشياء أخرى نسميها ما أنتجه الاستبداد العربي والتدخل الأجنبي من فورة العصبيات الدينية. فإذا كانت الحرب ضحيتها الأولى تكون الحقيقة – بالحرب لا توجد حقائق – ويقول أحد الكتاب الفرنسيين «إن حرب العراق لم تحصل» وكأن الإعلام الغربي قرر السكوت عنها. وفي أمريكا كان يمنع وضع أي صورة على الصفحة الأولى لها علاقة بالعراق. فقط مرة واحدة عوقبت إحدى الصحف لأنها وضعت صورة عن العراق في الصفحة السابعة. هناك الكثير من الضحايا لإعلامنا أولها الإعلام لأنه إذا لم يتميز الإعلامي بالصفات المطلوبة يسقط الإعلام.

قيل إن الثقافة غائبة، كلا الثقافة موجودة لكن المثقف غائب؛ دور المثقف هو الذي تراجع، بسبب وجود ثقافة أخرى استطاعت أن تهزمه، هي ثقافة الإسلام السياسي، فقد أورثتنا الأنظمة الاستبدادية ومخلفات الربيع العربي هذا الوجه البشع للإسلام، وأصبحت ثقافة الفقيه هي الثقافة الأساسية. لهذا نرى أن معظم شاشات التلفاز في الوطن العربي لها سقف الفقيه الإسلامي. والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا، إذا كان هذا هو واقعنا، هل نحن ذاهبون باتجاه أكثر مأسوية أم أن هناك مكاناً مضيئاً بحيث يصبح الإعلام جزءاً لا يتجزأ من المحوّلات لا أن تحوله المحوّلات إلى ملحق تابع لها.

8 – فارس أبي صعب

استوقفتني مسألة تحدث عنها جميل مطر، وهي أن الصحافي فقد دوره، وبالتالي إن أي مواطن يمكن أن يقوم بجزء من دوره الصحافي سواء بنقل الخبر أو بإرسال الصورة أو بأن يكون سباقاً في التكلم على حدث ما. طبعاً هذا مؤشر يمكن النظر إليه عبر صورة أشمل، وهي تجاوز أو سقوط أو انتهاء مرحلة وجود مرسِل ومتلقٍ في الإعلام، كلنا نعلم أنه حتى أواخر الثمانينيات كانت 5 أو 6 وكالات أنباء أجنبية تسيطر على الإعلام بأكمله في العالم، وهي كانت المرسل الأساسي للخبر، وكل العالم، بما فيه العالم الثالث، كان المتلقي لهذا الخبر. واليوم مع وسائل التواصل الحديثة تجاوزنا هذه الثنائية في العلاقة بين المرسِل والمتلقي، وبالتالي أصبح الكل مرسلاً بصورة أو بأخرى والكل متلقياً بصورة أو بأخرى وبنسبة أو بأخرى، ليس على مستوى الخبر فقط بل على مستوى الرأي أيضاً. أعتقد أن هذا التطور إيجابي، وقد لمسناه أثناء بعض الأحداث والتطورات التي يواجهها المجتمع الغربي نفسه. فللنظر إلى حرب الخليج الثانية في بداية التسعينيات، وإلى كل الحروب السابقة التي خاضتها الولايات المتحدة، كيف كانت تلك الحروب تخاض مسبقاً بالإعلام لخلق رأي عام مؤيد لها ومجيّش فيها قبل أن تبدأ. هذا ما بدأ يحصل منذ الحرب العالمية الأولى، حين عملت الإدارة الأمريكية على إقناع الشعب الأمريكي بدخول بلاده الحرب العالمية الأولى فاستخدمت وسائل الإعلام وأساليب مختلفة في الدعاية التجارية/السياسية للترويج لفكرة الحرب ولإقناع الرأي العام بقبول فكرة دخول الحرب، بغض النظر عن أخلاقيتها وعن مصالح الشعب الأمريكي فيها. واستمرت هذه السياسة حتى حرب الخليج الثانية، إذ كانت الولايات المتحدة كلما أرادت الدخول في حرب، تتوجه إلى الشعب بخطاب تحريضي ومضلل ومشيطن للطرف الآخر لتقنعه بخيار الحرب. في السنوات الأخيرة، هذه اللعبة بدأت تفقد تأثيرها في المجتمعات الغربية، لأن الشعب نفسه لم يعُد أسير الخطاب الإعلامي الأحادي البعد والأحادي الاتجاه؛ بل بات متلقياً ومرسلاً في الوقت نفسه، وبالتالي لم تستطع الإدارة البريطانية ولا الإدارة الأمريكية إقناع الرأي العام لديهما بشن حرب على سورية في السنوات الأخيرة. هذه نقطة مهمة يجب أن ندرك كيف نبني عليها، وكيف يمكن أن نشبك مع الرأي العام الغربي الذي كنا ننظر إليه كحالة مقفلة ليس سهلاً الوصول إليها واختراقها.

هناك أمر خطير يحدث على مستوى الإعلام في منطقتنا، وخطورته تكمن في أنه نجح في إعادة ترتيب الأولويات بالنسبة إلى المواطن، وهذا ما كانت قد بنت عليه الثورات اللونية في أوروبا الشرقية وفي بعض الأماكن الأخرى. أي أنك كمجتمع ودولة، تعاني مشاكلك الخاصة (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية)، وبالتالي يمكن أن يأتي الإعلام ليكتم ويغيّب أو يهمّش كل هذه القضايا ويركز ويضيء على قضايا ثانوية، وبسبب التكرار تتحول هذه القضايا الثانوية إلى قضايا رئيسية، وبالتالي تغدو منظومة التحسسية التي تستجيب للإعلام والأحداث لدى أي شخص تتمثل بهذه القضايا الهامشية من دون التحسس للقضايا الأساسية. وكلنا نذكر ما حصل في لبنان بين عامي 2000 و2005، وجميعنا يدرك كيف تعاطى الإعلام مع الثورة اللونية في لبنان (ثورة الأرز) وكيف بدأ الإعلام اللبناني يركز على بعض ممارسات الوجود السوري في لبنان، بغض النظر عن البعد الاستراتيجي، ولكن التحسسية الرهابية وصلت بنسبة عالية من اللبنانيين إلى درجة اتهام السوريين بكل شيء يحدث في لبنان وبكل المشكلات التي تحدث فيه، بما فيها المشكلات العائلية والفردية، فكيف بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية ومشكلات الركود الاقتصادي والبطالة والهجرة والفساد وغيرها. بينما كانت بنية النظام والطبقة الحاكمة المسؤولة عن القضايا الاجتماعية والسياسية وقضايا الفقر والبطالة والفساد هي أساسية وتمس حياة المواطن اللبناني الذي لا يتحسس بها. هنا تكمن خطورة الإعلام حيث يبني منظومة من التحسسيات التي تُبنى على قضايا هامشية أو افتراضية أحياناً. وهذا ما نجحت السعودية في تعميمه عربياً اليوم وخلقت تحسسية رهابية تجاه إيران وحوّلت إيران إلى عدو مقابل إلغاء هذه التحسسية تجاه إسرائيل كعدو فعلي لشعوب المنطقة. وبالتالي على الإعلام المقاوم أو المعاكس لهذا الاتجاه أن يعيد بناء منظومة تحسسيات لدى الرأي العام العربي تكون القضايا المركزية فيها هي الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب القضايا السياسية والمصيرية والاستراتيجية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

9 – وليد نويهض

تحدث الزميل التاريخي طلال سلمان عن شيء اسمه الغربة – غربة الصحافة أو غربتنا عن الصحافة، هناك نقطتان مهمتان أشار إليهما: (1) الغربة التقنية، نحن كجيل قديم لا نستطيع اللحاق بتقنيات الجيل المعاصر. (2) الغربة المهنية، في المقارنة بين السبعينيات ووضعنا الحالي، كانت الصحافة هي المهنة – الحرص على المعلومة ومقاربة المعلومة والتدقيق في المعلومات والانتباه إلى أن هذه المعلومة قد تؤذي إذا ما كانت سيئة وكان هناك حرص بالحد الأدنى ومسؤولية قانونية وحقوقية، وبالتالي كان هناك محرر ورئيس القسم ورئيس الصفحة، وكانت هذه المعلومة يتم مراقبتها إلى حين صدورها في الصحيفة، الآن نحن بتنا في خضم فوضى هائلة ولا يوجد أي احترام للعادات والتقاليد ولا للدين ولا للأخلاق ولا لأي شيء آخر، هناك نوع من الفوضى الإعلامية التي نمر فيها. وما قاله جميل مطر صحيح، إذ هناك عالم جديد نحاول قدر الإمكان التكيّف معه ولكنه مؤذٍ في جوانب مهمة منه. وقد أشار فارس أبي صعب إلى الجوانب الإيجابية المتمثلة بكسر احتكار المعلومات، ولكن هذا الأمر بدوره أدى إلى نوع من الفوضى. في السبعينيات، كان هناك ما يسمى الصحافي الأيديولوجي، وكان هناك الصحافي المثقف، وكان هناك ترتيب أولويات، قد تكون وهمية، مثل الوحدة العربية وغيرها من المشاريع الطموحة، ومع أنه كان هناك اختلاف على تراتبية القضايا. إلا أنه كان يوجد نقاش أيديولوجي ذات طابع ثقافي مرتبط برؤية سياسية وبقناعة ضمنية أننا على استعداد للتغيير وكلنا أمل بتحقيقه. ماذا حصل؟ لماذا وصلنا إلى هنا؟ ما حصل هو أن هذا الترتيب العمودي للخلافات والنقاشات آنذاك أحدث اختلاطاً في الأولويات، انتقلنا من الترتيب العمودي إلى الأفقي، وجميع المسائل متساوية ولا شيء يسبق الآخر، وهذا ناتج من الانهيار الذي حصل في المنطقة. وقد كان الأمريكان بدأوا الحديث عن تقويض منطقة الشرق الأوسط منذ الثمانينيات، والآن حصل ذلك فعلاً. هذا التقويض أدى إلى تفكيك جميع هذه الأحلام، وبسبب الخوف بات هناك نوع من الانكفاء – الطائفي والمذهبي والعشائري والقبلي- وسنشهد الكثير غيره، وبالتالي هذه المظلة الجامعة ستتقلص وتنحصر بالمثقف فقط، الذي سيشعر بالغربة عن هذا الواقع الانقلابي الذي نعيشه. وقد انتقلنا من الصحافي الأيديولوجي أو المثقف إلى صحافي الفايسبوك والتويتر، وهي وسائط على الرغم من جانبها الإيجابي في كسر الاحتكار إلا أنها تتضمن جانباً سلبياً هو انعدام الأولويات. كنا في السابق حين نسمع بوقوع غارة، ننزل إلى الشارع وموقع الضربة، الآن بات الحدث أشبه بخبر عادي وموضوع بسيط. وهذا يؤكد لنا مدى بعدنا من الوقائع وكأننا في القرن التاسع عشر. فقد كان يتم تأليف لجان، وكان هناك نوع من العصب الذي يشد. الآن هذا العصب بات وكأنه تقطع إلى عصبيات.

10 – معن بشور

لدي سؤالان: (1) هل يستطيع الإعلام البديل الذي أخذ يؤدي دوراً كبيراً في عدد من دول العالم، أن يساهم في حل مشكلة الإعلام في بلادنا؟ (2) هل ما نصف به إعلامنا ومشاكل إعلامنا محصور بالوطن العربي أم أن الإعلام في الغرب يعاني مشاكل مشابهة؟ كما ألفت النظر إلى قصة بسيطة، بدأتُ العمل في المجال الإعلامي منذ أن كنت طالباً في الجامعة في مجلة الحوادث وكان رئيس تحريرها طلال سلمان، وكان مدير تحريرها ناصرياً قومياً، ولكن بعد سنة 1967 سافر إلى الولايات المتحدة بحجة متابعة الانتخابات الرئاسية في أمريكا، وأتى متغيراً، وبعد تلك الزيارة مباشرة جرى الاستغناء عن الأستاذ طلال. وبالتالي كان لبنان بصورة أو بأخرى قومي التوجّه، لكن التدخل الخارجي في الإعلام بدأ يظهر أكثر فأكثر. اليوم بتنا بحاجة إلى تدخل وطني، ولكن أعيد تكرار نقطة طرحها وليد نويهض، أعتقد أنه بإمكان الإعلام أن ينجح بقدر ما يرتبط بقضايا، وبالتالي محطة مثل الميادين نجحت لأنها أمسكت ببعض القضايا الحساسة كالقضية الفلسطينية. لكن تبقى القضية الأساسية هي هل نستطيع أن نعيد الاعتبار لإعلام يشبه أمتنا – مثلما كانت السفير. في رأيي أن الإعلام البديل شكل نواة ممكنة لذلك، مثل تجربة عبد الباري عطوان في رأي اليوم عوّض عن فقدان الجريدة الورقية بالانتقال إلى الإلكترونية، التي يصل عدد قرائها إلى مئات الآلاف. مشكلة الإعلام في بلداننا لا تنحصر بالإعلاميين والمناخ العام فقط، بل هي أيضاً مشكلة الممولين والأغنياء، وهذا ينعكس على جميع المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تحترم نفسها ومبادئها. حيث نجد مليارديراً إسرائيلياً يضع مئات الملايين من أجل مشروع في القدس بينما لا نجد متموّلاً عربياً واحداً مستعداً للدعم.

11 – قاسم عز الدين

كيف يمكن أن نحل ونغيّر؟ أنا أخشى أن يكون هذا السؤال يعني أن نعود إلى ما كنا عليه. وبالتالي يجب أن ندرك ما الذي حصل وما الذي تغير، ولا يمكننا أن نفهم بتقديري مشكلة الإعلام ولا أي مشكلة كبيرة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، أو أزمة أمة ووطن وسيادة، من دون أن ندرك ما تحوَّل وتغيَّر في الدنيا، فالدنيا متحولة ومتغيرة. فما حصل بعد الحرب العالمية الثانية الذي اعتبرناه قائماً إلى الأبد انتهى. هناك أمر جديد وهذا بحاجة إلى دراسة. صار الإعلامي وكبار الإعلاميين خدماً عند رجال الشركات الكبرى، التي تحكم والتي تملك الإعلام، وتحكم بالدرجة الأولى المسؤول السياسي عن هذا الإعلام. لم يعد هناك إعلام ودور للإعلام أو دور للدولة، فالسوق باتت تحكم، فالمسألة ليست فقط مسألة استخبارات كما أشار جميل مطر، بل هي أيضاً مسألة شركات كبرى هي الأساس التي توظف الاستخبارات والسياسيين والإعلاميين، بل تستطيع جلب رؤساء الجمهوريات.

باختصار، هناك في بلادنا ثقافتان، أنا ضد استعمال مصطلحات مثل مثقف ومفكر… إلخ، وكأنها مكانة أو وجاهة، مجمل الناس الذين يمتهنون الثقافة الإسلامية لا يعانون مشكلة، لا مع أنفسهم ولا مع جمهورهم، لديهم ثقافتهم المدروسة. المشكلة هي عند الناس الذين يمتهنون ثقافة أخرى، بالدرجة الأساس، فنحن كلنا بشكل أو بآخر نمتهن الثقافة السائدة التي ليست محلية ولا إقليمية ولا عربية ولا إسلامية ولا شرق أوسطية، أساسها ثقافة معولمة نحن نترجمها ونعيد تشكيلها بصورة أو بأخرى. ما أشار إليه معن بشور صحيح، هناك محاولات الإعلام البديل، لكنها ليست «الميادين» ولا «رأي اليوم».

الإعلام البديل هو هذا الإعلام الذي يظهر ويختفي، حركة الإعلام البديل ظهرت في بريطانيا في مواجهة الحرب، في فرنسا موجودة وفاعلة، وهي تأخذ تمويلها من القراء لا من المتمولين، ولكنها أتت بإعلاميين مختصين كانوا يعملون في Le Monde وانشقوا عنها. ما هي الخلاصة، الإعلام البديل نشأ على ثقافة مناهضة للثقافة النيوليبرالية، وهنا تشكلت نواة لإعلام بديل ولثقافة وسياسة بديلة. هذه مشكلة كبيرة تحتاج إلى دراسات في العمق وليس على مستوى صغير وضيق، بل على مستوى التحولات الكبيرة في العالم وبخاصة ما يعني منطقتنا وقضايانا. في ما يتعلق بفلسطين، الجميع يحبها ويريد القضية، ولكن ليس هناك شيء ملموس.

12 – نصري الصايغ

في ظل انحسار فلسطين عن الساحة، قرر طلال سلمان أن يصدر عدداً شهرياً اسمه فلسطين، كم فلسطينياً اتصل به أو قرأها، ومع ذلك ظل مصرّاً ولم يوقف هذا الإصدار إلا حين أغلقت السفير، المشكلة ليست بالتعميم أو بالتخصيص، اللبناني يعرف الفساد ويستطيع أن يصفه وصفاً دقيقاً وعميقاً لأنه يعيشه. ونحن نعرف تقريباً كل شيء عن النواب والوزراء ولكن عندنا أولوية قبلها، وهي الانتماء الطائفي والمذهبي.

13 – عصام نعمان

دعانا مركز دراسات الوحدة العربية إلى ندوة موضوعها «الإعلام العربي والتطورات الإقليمية». جاء في الدعوة أن عدّة تحوّلات تعرّض لها الإعلام العربي خلال ما عُرف بالربيع العربي، وكذلك لهزات وتبدّلات، كما تأثر بتنوعات وتناقضات في مُقارباتٍ ورؤى ترتبط بتطوراتٍ سياسية واقتصادية وتكنولوجية أصابت الإعلام ووسائله في المحتوى والشكل والأسلوب.

لاحظتُ أن موضوع الندوة ركّز على لون محدد من الإعلام هو الإعلام المهني، إن صحّ التعبير، أي الإعلام المتعارف عليه الذي يتوسّل في أدائه الصحيفة والإذاعة والتلفزيون وينهض به إعلاميون مهنيون، وأحياناً هواة، يأخذون وقتهم في التفكير والإعداد والصياغة والنشر والبث.

موضوع الندوة أغفل لوناً آخر من الإعلام، لا أسميه إعلاماً بديلاً بل هو إعلام مغاير. إنه الإعلام اللحظوي الذي يشارك فيه أفراد بل جمهور، وربما جماهير، من مهنيين وهواة وأفراد وجماعات أضحى الوقت بالنسبة إليهم مجرد حالة ذهنية، أو بالأحرى مورداً متاحاً، يمكن أن يغرف منه المشارك، مهنياً كان أو هاوياً، ما يشاء ومتى يشاء، وأن يصل عبره إلى أوسع الأوساط والجماعات.

إلى ذلك، لا أهمية كبيرة لعامل المال في الإعلام اللحظوي، إذ في وسع المشارك أن يتواصل مع جمهوره بوسائل التواصل الاجتماعي بتكلفة زهيدة جداً وفي ما يمكن تسميته اللاوقت، أي من دون أن يتكلّف رسماً أو بدلاً مادياً عن الوقت الذي تتطلبه الكتابة أو الإذاعة أو البث في التلفزيون.

قيل إن الإعلام يقوم غالباً بدور الداعية وليس بدور القيادة. أرى أن هذا التوصيف للإعلام والحكم عليه فيه الكثير من التسرع والإجحاف. ذلك أن ثمة إعلاميين قياديين مؤثرين إلى جانب كونهم دعاة. محمد حسنين هيكل، مثلاً، كان إعلامياً قيادياً وصاحب دور قيادي، ولا سيّما في فترة انفصال سورية عن مصر (أيام جمعتهما الجمهورية العربية المتحدة) كما في الفترة التي أعقبت سقوط نظام الانفصال سنة 1963 ومباشرة مباحثات بين حكام سورية الجدد والرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتجديد الوحدة بين القطرين.

أذكر في تلك الحقبة أنه ما إن كان هيكل يكتب مقالاً ويُنشر ويُذاع حتى تقوم تظاهرات في كل أنحاء سورية، إذ كانت له صدقية نابعة من قربه من عبد الناصر من جهة وأفكاره الوازنة ومقاربته للأحداث وتفسيرها من جهة أخرى. طلال سلمان كان له كهيكل، ولو بنسبة أدنى، دور قيادي في تطورات السياسة اللبنانية، ولا سيما في سبعينيات القرن الماضي. الصفة والدور القياديان ينطبقان أيضاً على عبد الباري عطوان لعطائه المتميز من خلال صحيفة القدس العربي كما من خلال موقعه الإلكتروني «رأي اليوم».

ثمة قياديون مؤثرون أيضاً في الإعلام اللحظوي. لاحظتُ من خلال مشاهداتي ومتابعاتي أن لبعض القياديين في الإعلام اللحظوي دوراً مؤثراً، له جانب إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. الجانب الإيجابي يتمثّل بالدعوة والتعبئة والحث على العمل من أجل نصرة القضايا الحياتية والاجتماعية أو القضايا الوطنية والسياسية. يتمثّل الجانب السلبي بإغراق الرأي العام في بحر من المعلومات – غثّها وسمينها – والآراء والتطلعات والمواقف إلى درجة تنشأ معها ظاهرة تشتت وتشتيت وحتى استحالة في تكوين رأي أو موقف جماعي موحِّد.

14 – سركيس أبو زيد

لدي بعض الملاحظات البسيطة، الأمر الأول هو أن العرب عرَبان والإعلام إعلامان، هناك الإعلام الرسمي (السلطوي) الذي لديه مشاكل مختلفة عن الإعلام الذي لن أطلق عليه البديل ولكن التغييري اليساري التقدمي. لهذا السبب، توقف السفير ليس نهاية جريدة بل نهاية مرحلة، صعودها كان مع صعود القومية العربية والقضية الفلسطينية والحركة الوطنية. ومن الطبيعي أنه عند سقوط هذه القضايا والحركات، فستفقد السفير جزءاً كبيراً من مبررها. ولهذا السبب، ولكي يستقيم البحث، يجب أن نميز بين عدة مسائل، الإعلام الرسمي التقليدي تختلف مشاكله عن مشاكل الإعلام المعارض. لا شيء اسمه أزمة إعلام، بل أزمة فكر بالإعلام العربي.

هل هذا يعني أن هناك مشاكل في الإعلام السعودي أو الأمريكي، طبعاً لكل منهما مشاكله الخاصة، ولكن الذي يريد أن يغيّر أو يجدد أو يطور فهو من يعاني أزمة. كما أن الإعلام ليس معلومات وكالات أنباء فقط بل يحمل مضموناً ورسالة، الآن جميع الأحزاب اليسارية والتقدمية والقومية مأزومة، نمط التفكير السائد تجاوزه الزمن. صحيح أنه لم يعد هناك أشخاص لديهم الجرأة للكتابة من دون التخلي عن مبادئهم، ولكي تقوم بإنتاج فكر جديد فأنت تحتاج إلى كتّاب ومثقفين وإعلاميين جدد لديهم الجرأة والإبداع. تتمثل أزمة الإعلام بأزمة تفكير وغياب المناهج الجديدة. أما المشكلة الثانية، بالنسبة إلى الكتاب والمفكرين والمثقفين، فهل ينسقون بين بعضهم، هل من شبكة تضامن، الإعلام البديل أو الحديث يوفر إمكانات لا تتطلب تكلفة ولكن هل من تعاون بين هؤلاء المثقفين لإنتاج شبكة فاعلة. مثلاً الإعلام اللحظوي الذي تحدث عنه عصام نعمان يقف وراءه خبراء بعلم التأثير الجماهيري واختيار الشعارات، هل يا ترى مثقفونا التغييريون لديهم مشاريع كهذه؟ نحن إذا لم نتجمّع حول مشروع جديد ونتعاون مع بعضنا البعض لا يمكننا التوصل إلى إعلام تغييري أو بديل أو وطني. ولهذا السبب جانب من المشكلة تقني يكمن في التطور ولكن مشكلة أساسية هي بالتفكير والتجمع بناء شبكة تعاون لإيصال الرسالة وغياب المشروع، والدليل على ذلك أن مركز دراسات الوحدة العربية يعاني المشاكل والسفير أقفلت بسبب غياب هذه المشاريع الآن.

15 – سمير السعداوي

إن خطورة الإعلام الحديث أو البديل ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، تكمن في إمكان تمريرها معلومات من دون مصداقية بين الناس، ولكن ليس هناك مشكلة في ما يتعلق بوسائل التواصل إذا ما كان هناك من يدرك كيف يتعامل معها مثلما يتعامل معها الغرب، ولكن المشكلة هي أن النخب المثقفة لا تدري كيف تتعامل مع التطور التكنولوجي الحاصل. وهذا إذا ما تجاوزناه يمكن أن نوصل الأفكار التي يجب التوافق عليها، وأرى أننا نحن في الوطن العربي أمام مرحلة بلورة حيث ذهب المشروع العربي القومي (تاه بأنفاق الإسلاميين وغيرهم) وهذه مواضيع مدروسة ومشغول عليها، لن نذهب إلى حد القول إن هناك مؤامرة، ولكن يجب ألّا نكون سذجاً وأن نعتبرها مصادفة. هناك عدة موضوعات أساسية لطالما تم التحذير منهما: الجهل/التخلف والفساد والدكتاتورية، وهذه الموضوعات آخذة في التفاقم، ولكن ما أريد قوله هو أنه في رأيي كما أنه لا يوجد إمكان لإخفاء الشمس، فلا يوجد إمكان لإخفاء الحقيقة، فالناس تعرف الوقائع وتدرك الحقيقة وتميز بين الصح والخطأ وبخاصة الشباب المتهم بأنه غير مطلع على التاريخ والثقافة نظراً إلى انشغاله بمعيشته. ودور النخب هو كيفية تسيير الأمور لمصلحتها وإيجاد حقائق ومفاهيم يمكن استغلالها في المجتمع لتوليد رأي عام يتضمن مفاهيم مشتركة وهنا تكمن قوة المجتمع. لقد عملت وما زلت أعمل في الإعلام، ولا أرى أن هناك تدخلات في الإعلام، ولا يأتي أحد أبداً ليملي على أحد ما يكتب وما لا يكتب، فلا يمكن التدخل بالخبر أو إخفاؤه، الحدث حصل، ومهما تم تحويره، فالمتلقي في نهاية الأمر يدرك فحواه. التدخل يكون في الرأي، أي أن هناك بعض كتاب الرأي المدسوسين في جميع وسائل الإعلام. في رأيي إذا ما أُعِدَّ الشباب في الجامعات على التمييز بين هذه الأمور فهي جميعها ستسقط في نهاية الأمر.

16 – يوسف الصواني

المشهد الآخر هو العربي الإقليمي: لنتساءل عربياً كيف كنا، وكيف أصبحنا؟ إذا ما رجعنا إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فقد كان هناك نظام إقليمي عربي، وهو توصيف لتفاعلات تحدث ضمن بيئة دولية حيث نظام دولي يتضمن نظماً فرعية لها تفاعلات وديناميات وقواعد تحكم تحركاتها الداخلية، ولكنها ليست منعزلة، بل تتأثر تماماً بما يجري حولها أيضاً. هذا النظام العربي كان لديه مركز فكري أو قيادة، بل وحتى عقيدة مهيمنة إن صح التعبير. هذه العقيدة هي التي كانت تنعكس على كل شيء. طبعاً الوضع الدولي سمح بهوامش مرونة ومناورات كثيرة لهذا النظام الإقليمي العربي ككل أو لمكوناته وفاعليه، وبالتالي صوغ قضاياه وتوجهاته. في تلك الأوضاع فإن الحديث بموضوعية أو بمهنية عن وجود إعلام يمكن التشكيك فيه بسهولة ولم يكن هناك من دور مستقل لما يمكن وصفه تجاوزاً إعلام عربي (الصحافة والراديو) في صياغة الرأي العام. لم يكن هناك قادة رأي عام، بل كانت هناك وسائط إعلامية محددة (إذاعة الشرق الأوسط – صوت العرب، إذاعة لندن BBC)، إلا أنها كانت تعكس ولا تصوغ، بل هي فقط تعبر عن هذه العقيدة المهيمنة وتلك التوجهات والقيم الناتجة منها أو العاكسة للتنافس الدولي بين المعسكرين مثلاً. وكان ذلك الإعلام يتعقب خطى الزعامة وتوجهاتها التي انتظمت وفقاً لها ولم يكن الخروج عنها من جانب الأطراف بلا تكلفة. في الوقت نفسه كان هناك صراع بدأ يتبلور مع بروز ثروة النفط، وظهور قوى مواجهة للقوى التي كانت تقود النظام العربي. هذه القوى لم تكن سابقاً تملك مؤهلات المنافسة أو المواجهة مع القوى والعقيدة المهيمنة، بل اضطرت في أحيان كثيرة إلى الاختباء وراءها، فلا عقيدتها أو توجهاتها ولا قيادتها ومواردها المعنوية والمادية كانت ملائمة للمنافسة في ذلك الوقت. أما الآن فقد تغيّرت الأحوال وتوافر لهذه القوى أكثر من عنصر قوة ومنافسة بدءاً واعتماداً على المال أو الدولارات النفطية، لكن أهم مواردها تمثل بالتماهي والاندماج بقوة ضمن المشهد المعولم والقوى التي تهيمن عليه. ذلك التماهي والاندماج عبَّرت عنه ظاهرة الإعلام السعودي في الخارج أولاً، ثم الخليجي لاحقاً، مثلما ترسخ عبر صناعة النفط والبترول التي لم تصبح فقط متماهية مع المشهد المعولم، بل أصبحت دينامية أساسية ضمن آليات الهيمنة والسيطرة، سواء عبر نموذج الدولة الريعية في الداخل وارتباط نخبها بالخارج أو عبر ترسيخ النظام الرأسمالي العالمي حيث القيم مادية وتجارية أكثر من أي شيء آخر. طبيعي أن توفر هذه المقومات عناصر قوة للقوى المتصدية للقيادة والزعامة وأن تشكل في الوقت نفسه عناصر ضعف وتراجع لموقع القوى التي كانت مهيمنة إقليمياً وعربياً. وباستثناء ما نجم عن الثورة الإيراينة، فإن القوى الصاعدة اختطفت موقع القيادة وتربعت على سدة الهيمنة ليحدث الانتقال إلى حرب باردة عربية أخرى ولينتقل النظام العربي أيضاً، بلغة محمد حسنين هيكل، من هيمنة وقيادة الثورة إلى هيمنة وقيادة الثروة. هكذا تمت إعادة توجيه النظام العربي وجهة مناسبة لتوجهات القوى الجديدة وبالتالي استطاع النظام أن يأخذ الجميع بذاك الاتجاه المتماهي مع النظام المعولم.

ماذا يعني هذا، بالنسبة إلى الشباب العربي؟ لقد غاب اهتمامه عن التلفاز تقريباً وهو لا يسمع راديو ولا يقرأ الجريدة! الشباب كما تبين المسوح والإحصاءات يتعاملون أو يستهلكون وسائل التواصل الاجتماعي. طبعاً لا يمكننا التعميم، فهناك دائماً نسبة لا يستهان بها لا تزال تبدي اهتماماً بقضاياً يمكن وصفها بأنها تنتمي إلى النظام العربي المتواري أمام هيمنة المال والعولمة والرأسمالية واشتراطاتها، وفي مقدمتها تصفية كل ما له صلة بقضايا النظام القديم وعقيدته. لذلك نجد مثلاً أن المتابعين لصفحة طلال سلمان على فيس بوك أكثر من 100 ألف متابع! كما نجد أن متابعي موقع مركز دراسات الوحدة العربية في ارتفاع متواصل وقد وصل مجموع العمليات أو كل ما يقوم به زوار موقع المركز من تصفح، نقر، تحميل أو اطلاع على محتويات الموقع للمجلات والكتب ما بين المليون والمليون ونصف مليون تقريباً خلال الأشهر الأولى من هذه السنة، بينما حازت صفحته على فيس بوك التي تم إطلاقها حديثاً على أكثر من ثلاثين ألف متابع! وحاز أحد منشورات الصفحة على أكثر من أربعة الآف تفاعل. مع ذلك فإن الاتجاه الغالب هو أن تجد أغلبية الشباب وفي منصات المناقشة والمنتديات المختلفة مشغولاً بمتابعة أو مناقشة المسائل الشخصية، وأن الاهتمام بالشأن العام لا يتجاوز عادة القضايا المحلية التي كان يُطلق عليها سابقاً «قضايا المحتوى الاجتماعي».

في تقديري، المسألة غير مرتبطة بانحسار الإعلام العربي الذي فقد مفكريه ورموزه. وليست مجرد تراجع للإعلام عن قضايا قومية أو عربية عامة، بل إن النظام العربي والمنطقة العربية، أي العرب إجمالاً، قد أصاب أسئلتهم الرئيسية والجوهرية التغييرّ، بل يمكننا القول إنه لم يكن هناك فعلاً اتفاق في أي مرحلة معاصرة في شأن ما يمكن وصفه بالقضايا العامة أو المشتركة! كانت تلك القضايا أو الأسئلة محل صراع واختلاف منذ أوائل عصر النهضة، وهذا لا يزال سارياً إلى يومنا هذا، رغم ما نشهده من تبدل في المواقع. طبعاً التأثيرات الإقليمية والعالمية كانت دائماً موجودة وتمارس تأثيرها، ولكن لأن القضايا لم يتم الاتفاق عليها بعد، فقد شهدنا، وعكس الإعلام العربي، مشهداً سيطرت فيه القومية والعروبة، وبخاصة عبر النظم التي عبرت عنها حيث أزاحت جانباً أو همّشت وقللت من دور تيارات أو قوى أخرى لا يمكن اعتبارها دخيلة. حين حدثت التحولات التي أشرت إليها أعلاه فقد هذا التيار والقوى المعبرة عنه موقع الهيمنة وتحديد القضايا والأسئلة لينتقل الدور إلى القوى التي تمت إزاحتها سابقاً وواتتها التبدلات التي حصلت في المشهد الدولي أو المعولم وتماهت معها. هكذا شهدنا تصاعد وتيرة التيار والحركات الإسلامية التي تتحالف مع تلك القوى التي نافست العروبة وسياستها في الماضي وأصبحت اليوم وكيلة للرأسمالية والسوق والغرب وبمنزلة طبقة كومبرادورية جديدة ضمن سياقات وآليات معولمة. مع ذلك فإننا أشبه بمن ينظر في قوس قزح، ألوانه كلها موجودة. سيظل هذا الأمر قائماً وتتكرر مشاهده المختلفة أو المتناقضة من وقت لآخر! لن يصل العرب إلى ما يريدون قبل أن يتفقوا على ماذا يريدون! ولكي يتحقق ذلك فإن الإعلام ليس هو الحل، بل هو النتيجة التي ستعكس ما يتم الاتفاق عليه. لكي نصل إلى ما نريده، لا بد من أن يعاد طرح القضية الأساسية، هل فعلاً العرب أمة واحدة، وبخاصة أنه لا يمكن الاستمرار في حصر مفهوم الأمة عند حدود الهوية والتاريخ؟ هل هم متفقون على هويتهم؟ هل العروبة هوية أم مشروع سياسي، أم هي حركة تحررية؟ هل من نسميهم العرب متفقون على الماضي والحاضر وعلى ماذا يريدون في المستقبل وعلى التحديات؟ وماذا عن شكل الدولة والمجتمع الذي يريدون بناءه؟ كيف يتعاملون مع جيرانهم؟ وغيرها من الأسئلة.

17 – كابي الخوري

بعيداً من وصف الواقع الإعلامي العربي، وما يوجه إلى وسائل الإعلام العربية من اتهامات بالافتقار إلى المصداقية والموضوعية والحرية، لكونها تخضع لهيمنة السلطة والتدخلات الخارجية ورأس المال، لا بد من التذكير بأن الإعلام يبقى في نهاية المطاف مرآة للمجتمع، يتأثر بأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أنواعها، ويؤثر فيها. وبذلك يمكن أن يكون وسيلة نهوض وتطور وبناء أو أداة هدم وتشويه للحقائق وبث لسموم الفتنة والانقسام، سواء من خلال وسائل الإعلام التقليدية أو عبر مواقع الاتصال الاجتماعي التي جعلت من كل ناشط «إعلامياً من دون اختصاص»، يغرد على ليلاه.

ولا يخفى أن الإعلام العربي في تعاطيه مع التطورات الراهنة والسابقة على السواء، غالباً ما عكس صورة الواقع العربي المتردي، إذ انشغل في الجوهر بالدفاع أو معارضة سياسات أنظمة الحكم العربية التي عانت ولا تزال «أزمة الشرعية»، فسعت وسائل الإعلام المؤدية لهذه الأنظمة على الدوام إلى تبرير سياساتها الداخلية المتعلقة بشؤون المواطن المعيشية وشجونه، والخارجية التي تتصل بالصراع العربي-الإسرائيلي والعلاقات العربية البينية وكذلك الإقليمية والدولية، بهدف تمريرها مع جرعة من «الجدل المشروع وغير المشروع»، بينما جهدت وسائل الإعلام المناهضة أو المعارضة لسياسات الأنظمة إلى دحضها والتشهير بها، ففاقم الإعلام العربي من انكشاف أزمة شرعية أنظمة الحكم العربية وعمّق الانقسامات والصراعات العربية-العربية مع ما رافق ذلك من حملات متضاربة راوحت بين التخوين والانحراف عن الثوابت القومية، عكسها الجدل الدائر حول الترويج للتطبيع مع المحتل الإسرائيلي وإنهاء حال العداء معه، واعتبار إيران العدو الأول، ناهيك بمطالبة عدد من الأنظمة العربية القوى الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة التدخل في بلدان عربية أخرى للتخلص من أنظمة الحكم فيها.

من هنا تنبثق ضرورة البحث عن خطة عمل إعلامية عربية من خلال الحوار الصريح الذي يشكل الإعلام قاعدة له، تأخذ في الحسبان مواقف وهواجس أطراف الصراع العربية كافة من أجل وقف الانزلاق إلى مزيد من طلب الحماية الأجنبية والتبعية والخضوع للابتزاز. فهل من الممكن صوغ مثل هذه الخطة، أم أن زراعة أوهام المحافظة على أنظمة الحكم من خلال الارتهان لأجندات القوى الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة في المنطقة، تبقى تنتظر سراب حصادها؟